الفصل الثاني

جاء جبرائيل الروح الأمين، فأخبر النبي بقصد المشركين، وبلغه أمر الهجرة واصطحاب أبي بكر الصديق معه، فقال النبي لعلي بن أبي طالب — كرم الله وجهه: «نَمْ على فراشي وتسجَّ ببردي هذا الحضري الأخضر فنَمْ فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه.»

ولما قعدوا على بابه لذلك، خرج عليهم — صلى الله تعالى عليه وآله وسلم — وبيده حفنة من التراب، فجعل ينثره على رءوسهم وهو يتلو صدر سورة يس وبينما هم ينظرون إلى بعض بعيونهم وقد آذاها التراب أتاهم آتٍ فقال لهم: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدًا، قال لهم: خيبَّكم الله! قد خرج — والله — عليكم محمد، ثم ما ترك رجلًا منكم إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، فتفقدوا ذلك فوجدوه كما قال، ثم دخلوا منزل الرسول ونظروا إلى الفراش فوجدوا عليًّا — عليه السلام — مسجًّى بالبرد، فظنوه النبي فبقُوا حينئذٍ متحيرين حتى أصبحوا، فقام عليٌّ — عليه السلام — فحين رأَوْه قالوا: أين محمد؟ فأجابهم بقوله: لا أدري، فاشتدت حيرتهم وأُسقِط في يدهم.١

وقد أثَّر اختفاء الرسول على هذا الوجه في نفوس المشركين وحنق لذلك وجوه قريش، فأخذوا عليه بالرَّصَد والطلب وأطمعوا مَن يجده ويأتيهم به بمائة ناقة، وبذلك خرج الأشرار والسوقة في اقتفاء أثره .

أما الرسول — صلوات الله عليه وعلى آله وسلم — فقد اختفى في مكان بعد خروجه من منزله، وفي اليوم التالي أقبل نحو دار أبي بكر الصديق نحر الظهيرة متقنِّعًا فاستأذن صاحب الدار كما تقتضيه الآداب الإسلامية، فقام إليه أبو بكر — رضي الله عنه — يقول: وإنما هم أهلك. قال: قد أُذِن لي في الخروج. فسأله أبو بكر: وهل أنا معك؟ قال: نعم.

فبكى أبو بكر حينئذٍ فرحًا وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فخذْ إحدى راحلتيَّ هاتين، فأبى الرسول إلا بالثمن، واستأجر أبو بكر دليلًا ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه مكانًا يبعد نحو ساعة عن مكة، وفي ساعة معينة من ساعات المساء خرج الرسول فخر الكائنات ومعه أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — واعتصما بغار في جبل ثور على مسافة ساعة من مكة، وما كادا يَلِجَان الغارَ، حتى أوحى الله إلى عنكبوتة فنسجتْ خيوطها على بابه، وأعقب ذلك يمامتان بَنَتَا عشًّا فوق خيوط العنكبوت وباضَتَا فيه.

وقد وصل القوم في بحثهم عنهما إلى جبل ثور، وقاربوا الغار ووصل جماعة منهم، بينهم رجل يُدعَى أميه بن خلف باب الغار، فقالوا لبعضهم: لندخل هنا يا قوم، فأجابه أمية: ما أسخف عقولكم! إن العناكب قد نسجتْ خيوطها هنا، قبل أن يولد محمد، وانظر إلى اليمامتين لو كانا هنا لما أفرختِ اليمامتان.

فرجع القوم على أثر ذلك إلا أن الرسول والصديق كانا قد أبصرا بأقدام القوم فاغتمَّ أبو بكر لذلك وقال: لو أصابني بأس يا رسول الله لَمَا همَّني ذلك، أما لو لحقك ضُرٌّ — لا سمح الله — فتهلك جميع أمتك.

فقال له الرسول يريد تسليته: لا تحزن إن الله معنا.

وعندما قفل القوم راجعين وابتعدوا عن الغار قال له الصديق: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. فقال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

مكث النبي وصديقه في الغار ثلاثًا يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثَقِفٌ يدلج من عندهما وقت السَّحَر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، ثم يأتيهما حين يختلط الظلام ليخبرهما بأحوال قريش وحركاتهم، وكان على مقربة من جبل ثور أحد موالي أبي بكر — رضي الله عنه — يرعى قطيعًا من الغنم فيأتيهما بحليبها يتغذيان به.

وبعد الثلاث، جاءهم الدليل بالراحلتين فارتحلوا وأخذ بهم من طريق السواحل، وما زالوا كذلك حتى جاءوا موقعًا يسمى «قُدَيْد» ومرُّوا على خيمة رجل يسمى أبو مَعْبَد، ولم يكن بها سوى زوجه وأمه فسألوا زادًا عند «أم معبد» فلم يصيبوا عندها شيئًا فنظر رسول الله إلى شاة في خيمتهم وسألها: هل بها من لبن؟ قالتْ: هي أجهد من ذلك إنما خلَّفها عن الغنم الجَهْدُ.

فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضَرْعها وسمَّى الله ودعا لها في شاتها، فتفاجَّتْ عليه ودرَّتْ ودعا بإناء يربط الرهط فحلب وسقاها وسقى أصحابه وشرب آخرهم ثم ملأه وغادره عندها.

ولما عاد أبو معبد إلى خيمته ورأى الرهط سألها: ما هذا، فقالت: لا أدري إنما حضر هنا رجل مبارك مسح بيده ضرع الشاة وهو يقرأ بعض الأدعية فدرَّتْ لبنًا كما ترى، فأجابها: لا بد وأن يكون في الأمر بعض الحكمة، صِفِي لي شكلَ هذا الرجل.

فوصفتْ له النبي وما رأتْه عليه من المهابة والجلال فقال: هو النبي الذي ظهر من قريش ليتَني كنتُ هنا فأبايعه على الإيمان.

•••

وبعد متاعبَ جمَّةٍ ومصاعبَ شتَّى ومعجزات باهرات، وصل الرسول قرية «قباء»٢ القريبة من المدينة المنورة، فلبث فيها بضعة أيام يستريح من وعثاء السفر وأَسَّس مسجد قباء وهو أول مسجد في الإسلام، ووفد عليه وهو مقيم بهذه القرية الأنصار الكرام، يتشرفون بنور طلعته ويهنئونه بسلامة الوصول إليهم، وكان بينهم حسان بن ثابت شاعر المدينة المفلق فمدحه بقصيدة بليغة، ووصل سيدنا عليٌّ إلى زمرة الرَّكْب في قباء بعد أن سلَّم ما كان في عُهْدَته من الأمانات إلى أربابها كما أوصاه الرسول، وتحرك الرسول منها في يوم الجمعة ومعه مائة نفر من أهل الإسلام فأدركتْه الصلاة فصلاها في بطن وادي «رانوناء»، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة٣ وختمها بخطبة بليغة قال فيها بعد أن حمدَ اللهَ وأثنى عليه:

أيها الناس، إن لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين؛ بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مُستَعْتَب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.

وبعد أن قرأ خطبة أخرى ركب يريد المدينة، وكان كلما حاذى أو مرَّ على دار من دُور الأنصار اعترضوه ولزموا بزمام ناقته يقولون: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة. فيقول لهم: خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة.

وقد أَرخَى لها زمامَها وما يُحرِّكها وهي تنظر يمينًا وشمالًا والناس حولها حتى بركتْ حيث بركتْ على باب مسجده، ثم ثارتْ وهو عليها، فسارتْ حتى بركتْ على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم التفتتْ يمينًا وشمالًا ثم ثارتْ وبركتْ في مبركها الأول وألقتْ جِرانَها بالأرض وأَرْزَمتْ، فنزل عنها وقال: هذا المنزل إن شاء الله تعالى.

فاحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، وعلى هذا الوجه الجميل أرضى الرسول جميعهم ولم يصدع خاطر أحدهم.

ولم يفرح أهل المدينة بشيء مقدار فرحهم برسول الله حيث صعد الرجال والنساء يوم قدومه فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: جاء محمد، جاء رسول الله .

وكان قرب المنزل الذي نزل فيه رسول الكائنات قطعة أرض فضاء فشيَّد عليها مسجدًا وابتنى فيه لنفسه المقدسة غرفًا، وكان أهل المدينة إذ ذاك في طوفان من السرور لا يَدَعون سبيلًا من السبل التي فيها مرضاته إلا سلكوه، فآخى بينهم وبين المهاجرين، فآوَوْهم في منازلهم وقاسموهم في أموالهم وآثروهم بأقواتهم وتلقَّوا المكارهَ دونهم، وصار أحدهم أرأف بنزيله وأخيه في الدين من أخيه في النسب، واتخذوا ذلك الإخاء والولاء لُحمةً وسببًا أعلى من كل سبب.

بهذه النتيجة العظيمة، وبهذه العاقبة الحميدة انتهت تلك الحادثة الخطيرة في الإسلام؛ الهجرة.

١  نزل في ذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
٢  قباء: بالضم هي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وقيل لبث الرسول فيهم أربع عشر ليلة، وقيل ثلاثًا، وقيل خمسًا، وأهل قباء يقولون إن مسجدهم هو الذي أُسِّس على التقوى.
٣  ورد في كتب السير أن الرسول اتخذ موضع مصلَّاه مسجدًا وسُمِّي مسجد الجمعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤