الفصل الخامس

في العام السادس والثمانين بعد المائة من الهجرة، حج الرشيد مع امرأته زبيدة،١ وكان في رفاقته خلق كثير من الأعوان والأمراء، من بينهم ولداه الأمين والمأمون ووزيره جعفر بن يحيى البرمكي.

وقد أظهرت الأميرة أثناء حجها هذا من المبرات والحسنات ما لا يدع لقائل قولًا ولا لمفتخر سبيلًا، مما ابتنته في طريق مكة من مساجد ومكاتب وملاجئ ومنازل ومشارب، فكل ذلك ألسنة تنطق بخيرها العميم أبد الدهر ومدى العمر، وما كان ذلك كله إذا قيس بمفخرتها الخالدة «عين زبيدة» شيئًا مذكورًا، قد احتملت هذه العين ماء الحياة سائغة، هنية إلى أم القرى، إلى متجه أبصار المسلمين ومعقد آمال الموحدين، وبتلك العين التي احتفرتها في صحاري الحجاز الجرداء وفرت العناء واحتمال ضروب المشقات عن مئات الألوف من حُجَّاج بيت الله الحرام الذين كانوا يحتملون من قِرَب الماء ما يَئُودُهم ويوقر ظهورهم، فلو فَنِي ذكرها من جميع الأمصار وتناسى الناس صيتها في جميع الأقطار فسوف يبقى اسمها خالدًا خافق اللواء إلى ما شاء الله في ذلك الوادي المقدس، مناط وحدة المسلمين.

وقد كلف حفر اثني عشر كيلو مترًا من هذه العين الجارية التي يعد مشروعها نفحة من نفحات السماء، مليونًا وسبعمائة ألف دينار.٢

ومن غرائب آثارها في مكة قصر من البللور أنشأته في نفس مكة المكرمة يعد آية الآيات في بابه.

هذه الرحلة الحجازية من أهم الوقائع خطرًا في حوادث عام ١٨٦ هجرية؛ لأنها كانت مبدأ سقوط جعفر من عز إقباله وأوج سعوده إلى حضيض الإدبار.

كان جعفر البرمكي، صاحب المكانة السامية في نفس الرشيد إذ ذاك، وكان لا يفارق مولاه لحظة واحدة أثناء تلك الرحلة، وكان الخليفة يعتمد كثيرًا على وزيره الصادق الأمين ولا يبرم أمرًا دون استشارته، وكل هذه الحالات كانت زبيدة تنظر إليها نظرة الحقد والاشمئزاز.

كان جعفر يحب المأمون كثيرًا؛ إذ كان صبيًّا محبوبًا نشأ في حجر البرامكة وتأدب بإرشاد جعفر وتعاليمه، فغدا أميرًا فاضلًا مهذبًا نافذ اللب واسع الفهم،٣ وكان محبوبًا من عامة الشعب؛ لاتصافه بهذه المزايا التي يتصف الأمين بعكسها، فكان أخوه ينفس عليه ذلك، أما زبيدة فكانت لا تحتمل هذا التفوق ولا تظهر ما يدل على اغبرارها مع أنها لا تفتأ تبحث عن الوسائل التي تقضي على هذه الحالة التي تضرم في نفسها نيران الغيظ والحقد، أجل، كانت تجتهد في إخفاء ما يساورها من عوامل الكيد إكرامًا لزوجها الرشيد، ولكن جعفرًا لا يتمالك من إظهار تقديره وإعجابه بربيبه المأمون علنًا أثناء هذه الرحلة، ففاض إناء حقدها الكامن في نفسها وبدأت تفكر في الوسائل المؤدية إلى القضاء على جعفر، كان الرشيد وهو في مكة المكرمة قد كتب وصيته وبايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بعده، وكتب الكتب بذلك وأشهد فيها الشهود وأرسل نسخها إلى الأمصار، وعُلقت نسخة من تلك النسخ على الكعبة توكيدًا لها وقبل تعليقها جمع من في معيته من العلماء والفضلاء والوزراء، وعقد منهم مجلسًا كبيرًا للشورى وأحضر فيه زبيدة والأمين والمأمون وجعفرًا، وقرأ عليهم وصيته تأكيدًا لها، وعندما حلف الأمين والمأمون يمين الطاعة أمام أبيهما، قال جعفر للأمين عقب يمينه قل معي: «إذا خنتُ الأمانة فليقهرني الله.» فكررها الأمين ثلاث مرات، وكانت زبيدة تنظر إلى جعفر بعين الحقد وتحدجه بنظرات ملؤها الغيظ والغضب.٤

هذه المعاملة المعنوية التي استعملها جعفر مع الأمين جرأة كبيرة تدعو إلى غضب زبيدة وحقدها، ولكن جعفرًا ذلك الوزير الأمين كان يفكر في سلامة المملكة ويضع نصب عينيه المصلحة العامة، فلم يرَ بدًّا من المضي مع وحي الوجدان وإلهام الضمير، لم يخش من قولة الحق ولم يلتمس سبيلًا إلى إنقاذ حياته من الاستهداف لغضب رقيب عتيد كزبيدة.

تملك الغضب زبيدة وارتعشت من الحدة أمام ذلك المنظر، وقررت منذ ذلك الوقت أن تقضي على جعفر، ولقد تمكنت من أن تبر بقسمها الذي أقسمته أمام هيكل نفسها بعد مرور عام واحد على تلك الحادثة؛ ففي عام ١٨٧ للهجرة قُتل جعفر بن يحيى، ذلك الوزير الفذ على يد مسرور الجلاد،٥ وذهب ضحية عاطفة الأمومة التي جاشت في نفس زبيدة وفريسة غرور الأمين واعتسافه.
فتِّش عن المرأة في كل حادثة: قُتل جعفر فتعين الفضل ربيب نعمتها ومحبوب ولدها بدله، وقد كان لها أكبر يد في هذا التعيين، وبعد ذلك بستة أعوام مات الرشيد بطوس٦ ودفن فيه، وملَك بعده ابنه الأمين عام ١٩٣ هجرية.
١  الأمير علي.
٢  كل التواريخ متفقة في هذا التقدير.
٣  الأمير علي.
٤  الفخري.
٥  زيدان.
٦  الأمير علي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤