الفصل السابع

اضمحل نفوذ زبيدة وتلاشى شأنها بعد خلافة المأمون ولم يبقَ لعظمتها مجال ومتسع، ولقد اضطرت أن تعيش في دائرة محدودة تحت ظلال السكون والاستكانة والنسيان على غير ما تعودت وبخلاف ما نشأت عليه؛ لأن طاهر بن الحسين قائد المأمون ذلك الذي تغلَّب على ابنها الأمين وقهر جيوشه وكسر شوكته لم ينسَ ما لحق المأمون من الإهانة وما ناله من الأذى وما تجشمه من المشقة في سبيل الأمين، فاضطهد زبيدة وعمل على تعذيبها وإذاقتها ألوان التحقير والإهانات، ولقد صبرت زبيدة على الأذى وتحملت كل ذلك بصبر وثبات جأش، وإنها لجديرة بالتقدير لثباتها هذا؛ لأن زبيدة العظيمة «امرأة الرشيد» تلك التي عاشت مكرمة معززة مرفهة طول حياتها دون أن يصيبها مكروه أو يعكر صفو حياتها أذًى أو تسمع أو ترى ما يشعر بهوانها ومذلَّتها لم تذق طعم الهوان قبل ذلك اليوم.

لم يرضَ طاهر أن يسمح لنفسه بالنسيان عن أحوال زبيدة وحركاتها التي بدرت منها أيام ابنها الأمين؛ فحكم عليها على امرأة الرشيد الأصيلة النجيبة بأن تعيش في ضيق وشدة، إنه الانتقام ليس من الشرف في شيء بل هو ضرب من ضروب النذالة، ولقد تألمت زبيدة من تلك المعاملة ولم تدرِ ما تفعله إزاءها لأن يد الأقدار التي ضربتْها تلك الضربة القاسية جعلتْها في حيرة من أمرها لا تهتدي إلى سواء السبيل؛ ولأنها ما كان يخطر على بالها أن تظل كذلك متروكة منسية في بغداد، وعندما فاض إناء صبرها وضاق ذرعها تجلدت فأمسكت القلم بيمينها وسطرت تستعطف المأمون وتقول: «كل ذنب يا أمير المؤمنين وإن عظم صغير في جانب عفوك، وكل إساءة وإن جلت يسيرة لدى حلمك، وذلك الذي عوَّدكه الله، أطال مدتك، وتمم نعمتك، وأدام بك الخير، ودفع عنك الشر والضير، وبعد، فهذه رقعة الوَلْهَى، التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر، وفي الممات لجميل الذكر، فإن رأيتَ أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلَّةَ حيلتي وتصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالبًا وفيه راغبًا فافعل، وتذكَّر مَن لو كان حيًّا لكان شفيعي لديك.» ثم أضافت إلى ذلك أقوالًا شرحت فيها معاملة طاهر واضطهاده لها وقالت: «فإن كان ما يفعله صادرًا عن رضاك رضيت بنصيبي من الأقدار، وإن كان يعتسف بغير رأيك فإنك قادر على تغيير الحال.»

وقد أرسلت الرقعة مع جارية لها تُدعى خالصة وأوصتْها أن تسلمها إلى المأمون يدًا بيد.

وما كاد المأمون يقرأها حتى بكى، وقال لمن حوله قول علي — عليه السلام — عندما وصل إليه خبر استشهاد عثمان — رضي الله عنه: «والله ما كان ذلك برأيي ولا علمي.» ثم أجاب زبيدة بكتاب لطيف وردَّ إليها أموالها وضياعها وعمل على رفع قدرها وإصلاح شأنها ليمحو من نفسها أثر الأحزان التي انتابتها، كما وبَّخ طاهرًا على ما فعله.

بعد ذلك نرى زبيدة في عيش رضيٍّ ونعمة تامة، تستعيد بهجتها السابقة وعظمتها السالفة، وتعمل على نسيان الإساءة التي لحقتها على يد طاهر بن الحسين، تحت ظلال وارفة من نعم المأمون وإحساناته المتوالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤