الفصل الرابع

محمد بن عبد الله بن أبي عامر يَمَني المولد، ينتسب إلى قبيلة بني معاذ الشهيرة،١ وأسلافه من مشاهير الأبطال ذوي الذكر العاطر في تاريخ الفتح الأندلسي.
كان شابًّا نشطًا ذكي الفؤاد، جميل الصورة، تلوح عليه أمارات العزم والإقدام،٢ ويرى المتفرِّس في أسارير وجهه رجلًا لا يعرف لليأس معنًى، لا يعزم على أمر حتى يمضي فيه غير هياب ولا وجِل، أتم دروس الجامعة ثم احترف بعدها مهنة الكتابة واتخذ لنفسه حانوتًا صغيرًا أمام القصر السلطاني لكتابة العرائض وتنميق المظالم وتحبير الشكاوى، وقد كان له بين نفوس خَدَمة القصر المترددين عليه مكانة رفيعة، واشتهر بينهم ونبَه ذِكرُه عندهم حتى كنتَ ترى حانوته على صغر حجمه غاصًّا بهم، إلا أن نفسه كانت تطمح إلى ما فوق ذلك، كان يفتش عن سعادته في ركن واحد من أركان الأمل، جعله نصب عينيه ليله ونهاره، فقد كان يسعى جهده إلى الالتحاق بإحدى الوظائف في القصر.

جلس ذات يوم في حانوته يحادث أصدقاءه ومعارفه كالمعتاد، فإذا به وقد غاص في لُجَج من الأفكار وطار محلقًا في سماء الآمال ثم انتبه فجأة لنفسه بعد حين وخاطبهم قائلًا: «سأكون يومًا ما حاكم هذه الدولة فليسرد لي كل منكم آماله وأمانيَه والوظائف التي يصبو إليها منذ الآن فإنني محقق مطالبكم عند نوال بغيتي إن شاء الله.» فتضاحك رفقاؤه وأخذوا يذكرون له — على سبيل الممازحة — الوظائف التي تطمح إليها أبصارهم.

بعد هذه الحادثة بزمن قصير طُلب ابن أبي عامر إلى قصر الخليفة كأنما الأقدار أرادتْ مداعبته، وكان الحكم راغبًا في انتخاب كاتب بارع لزوجته صبيحة، فطلبوا بضعة أشخاص ممن توسموا فيهم القدْرة على هذا العمل ليكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلة الخليفة لهذا الغرض وبينهم ابن أبي عامر، الصديق المعروف من خَدَم القصر وحاشيته.

ولقد كانت أجوبته بين يدي الخليفة من أحكم الأجوبة وأدلها على الفهم والروية، فنال قصب السبق وفاز على المتقدمين معه إلى تلك الوظيفة بدرجة فائقة لفتت إليه أنظار الأميرة نفسها، فقد كانت له حالة خاصة به تجذب أنظار المتطلع إليه لأول وهلة،٣ ومع ذلك فالخليفة التبس عليه الأمر وتردد مبدئيًّا في قبول شاب جميل كهذا لتلك الخدمة، وفي النهاية لم يرَ بُدًّا من أن يَكِل أمر الاختيار إلى الأميرة نفسها صاحبة الشأن فوقع اختيارها عليه؛ لأنها لم تجد بين المتقدمين أليق منه للوظيفة المطلوبة، وانتهى الأمر بموافقة الخليفة على تعيين ابن أبي عامر رئيسًا لكُتَّاب الأميرة.

ألا تعترف معي أيها القارئ بأن كاتب الأميرة هذا سعيد الحظ موفق الطالع، فها قد نال أول أمنية من أمانيه العذبة التي طالما قضى الساعات الطوال مفكرًا بها تحت ظلال حدائق قرطبة بسهولة ما كان يحلم بها.

قد خدمه حظه ورقي أولى الدرجات المؤدية إلى ذلك القصر البديع، قصر الآمال والتصورات فكان يرى بعين الخيال أنه سيدخل ذات يوم ذلك القصر ويمتع أنظاره بزينته وبديع رياشه وجميل أثاثه، بل إن الأمل كان يذهب به إلى أبعد من ذلك؛ فقد كان يرى أنه سيفتخر بأبهته وسلطانه ويكون صاحب الكلمة بين سكانه.

كان يحلم بمثل هذه الآمال، وكلما لجَّ به الفكر ازداد سروره واشتدت بهجته.

وبينما كان الخليفة الحَكَم المنتصر بالله منعكفًا في مكتبته النادرة، كانت الأميرة صبيحة تدير دفة الأمور بمعونة حاجب الدولة عثمان بن جعفر المصحفي،٤ وكان كاتبها الخاص محمد بن أبي عامر يحرر أوامرها ويقوم بتبليغها إلى مختلف الجهات.

كان الحَكَم خليفة البلاد اسميًّا، أما السلطان الفعلي فكان بيد صبيحة؛ فزينة الأندلس ورفاهيتها والنظر في شئون الشعب واحتياجاته وتعليم أولياء العهد وتثقيف أذهانهم وتربية مداركهم كل هذه أمور كانت تقوم بها الأميرة.

وهي التي كان من رأيها جعل قرطبة محطًّا لرحال أهل العلم ورجال الفضل والأدب، وهي التي كانت تقوم بترتيب الحفلات المتعددة داخل القصر، وتدبير الخطط اللازمة للدفاع عن البلاد خارجًا، وهي هي التي كانت تعقد الجلسة تلو الجلسة بالاشتراك مع المصحفي وابن أبي عامر للمذاكرة والمداولة والمشاورة في أحوال البلاد وتدبير الخطط اللازمة لمكافحة شر الأعداء والتنكيل بهم.

كانت لسان بيت الزهراء الناطق وحياة قرطبة الزاهرة وروح الأندلس النابض، فانتشرت أنوار ذكائها في كل صوب وناحية، وقد اشتهرت بين الجميع بالكياسة وإصابة الرأي حتى لم يبقَ إنسان لم يُعجب بحسن إدارتها وقيامها بالشئون العامة.٥

كانت الأميرة صبيحة معجبة بمقدرة ابن أبي عامر لا تدري كيف تكافئ كاتبًا نشطًا مثله! أما هو فكان يلازمها بخفة روحه وطلاقة لسانه ويُظهر لها الرغبة في استخدامه ليس في الأمور الكتابية فحسب، بل في كل شأن من شئونها.

وكان إخلاصه في العمل مما يزيدها إعجابًا به إلى حد بعيد٦ المدى.

اكتسب ابن أبي عامر ثقة الجميع واستأنس به الكل حتى أصبح شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه، وفي الحقيقة كانت أهميته تزداد من يوم لآخر حتى بدأ الناس يتوددون إليه، وقد كان يتزلف إلى أصغرهم شأنًا من قبل، وما كاد حاجب الخليفة جعفر المصحفي يستشيره ويعتمد عليه في بعض أموره حتى ازدادت منزلته رفعة بين أهل القصر الذين بدءوا يعقدون عليه الآمال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الخليفة نفسه لم يتمالك من الإعجاب به وقد رأى إخلاصه في العمل وأدرك مواهبه ومزاياه.

في هذه الفترة، وقد ابتسم له الدهر، عهدت إليه الأميرة إدارة ضياعها وممتلكاتها، فأصبح مديرًا بعد أن كان كاتبًا، وبعد مضي زمن قصير احتاج الخليفة إلى شخص أمين يعهد إليه إدارة الضياع الخاصة بولي العهد، ولما كان مترددًا في انتخاب الشخص اللائق لهذه الوظيفة عرضت عليه الأميرة تعيين ابن أبي عامر لهذا الغرض، تردد الخليفة بادئ ذي بدء؛ لأنه صاحب الرأي الأول في قبول أو رفض المرشح لهذه الوظيفة، حيث ما زال له نصيب في حكم البلاد، ومع ذلك فقد كان يعلم قبل أي إنسان أن الرجل الذي يُعهد إليه أملاك ابنه يجب أن تتوفر فيه مزايا جمة، وأن كل هذه المزايا مجموعة في شخص ابن أبي عامر، وإلا فهل هناك امرؤ أقدر منه على العمل وأشد منه إخلاصًا؟٧

فكان لزامًا على الخليفة أن يقبله بلا تردد؛ ولذا انتهى الأمر بنزوله عند رأي الأميرة وإصدار الأمر بتعيينه مديرًا عامًّا على تلك الأملاك والضياع، ففي عام ٣٥٦ من الهجرة اجتمعت لابن أبي عامر ثلاث وظائف بمعونة الأميرة وحمايتها جعلته يطأ الدرجة الثانية من عرش آماله وأمانيه وهو في السادسة والعشرين من عمره.

كان ابن أبي عامر سعيد الحظ فخورًا بوظائفه الثلاثة، يصرف في سبيل القيام بأعبائها كل ما لديه من وقت وجهد، كان أفق المستقبل يبدو لناظره منيرًا مشرقًا وأحلامه زاهية زاهرة، فاطمأن ولم يقلق من المستقبل، أما كان يشعر بأن الحظ سيواليه بنعم أكثر ما دام ينسج على هذا المنوال؟ وإلا فمن ينكر رقيه السريع في زمن قصير؟ ألم يتقلد سلطة واسعة لا تخطر على البال وهو في مثل هذ السن، في عامه السادس والعشرين؟ وهل لم يكتسب ثقة المصحفي وصداقته؟ ألم يكن أهل القصر بما فيهم الأميرات يعجبون بظرفه ورقة شمائله؟ وفوق هذا ألم تكن الأميرة نفسها تظهر له ضعفًا وميلًا شديدين وتبذل ما في وسعها لرعايته وحمايته؟ أجل، كانت تفعل كل ذلك لدرجة اضطرته إلى طرق أبواب الحيل ولبس ثياب المداهنة؛ لأنه كان مضطرًّا في حالته تلك إلى ملاطفة أهل القصر ومراضاتهم جميعًا، فكان يبسم لهذا ويلاطف ذاك ويعطف على تلك مراعاة للجميع حرصًا على إبقاء الظواهر على حالتها، وهذه حالة أكسبتْه رضا الجميع وجعلتْه محبوبًا منهم يتقبلون هداياه بسرور وابتهاج، وكان الخليفة يقول لأحد مقربيه: «إن كاتب صبيحة هذا رجل غريب الأطوار، قد استمال إليه جميع مَن في القصر، وإنني لأرى بعيني رأسي كيف يُجِلُّون هداياه التافهة ويفضلونها على أثمن هدية تقدَّم مني إليهم، فلست أدري هل أعده من المخلصين إلينا أم أعتبره ساحرًا محتالًا؟» ومع ذلك فإن ابن أبي عامر استمر يتقدم حتى أصبح بمساعي الأميرة ناظرًا لخزينة الدولة ثم عُيِّن بعدها المدير المطلق لإدارة «صك النقود»، وبذلك أصبح في مصاف كبار الموظفين في الأندلس، وكانت الأميرة تباركه في سرها وتهتم برقيه السريع، وكم كانت شاكرة لمحاسن الصدف التي وضعت في طريقها مثل هذا الكاتب الحائز لمزايا عديدة، فلشد ما انتفعت بمواهبه، وكثر ما اهتم هو بكل شأن من شئونها! فهو إليها الشخص الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو الركون إلى غيره، إنه ليعلم آداب المعاشرة أكثر من المتربين بين جدران القصور، ظريف لبق، تطربه النغمة الحلوة، ذو إلمام بالموسيقى قادر على مزاولة أي عمل يكلَّف به، أضف إلى ذلك علمه بحالة الأميرة الروحية وإدراكه للأشياء التي تبهجها وتقع من نفسها موقع الرضا والقبول، فلله دره من شخص رقيق الحس عالي الفكر!

كل هذه صفات كانت الأميرة تفكر فيها وتراجع نفسها عما إذا كانت متغالية في تقديرها، كلَّا كلَّا، إن ابن أبي عامر ليستحق منها هذا التقدير … هنا يتساءل القارئ هل كان ذلك مجرد تقدير فحسب، أم أنها تميل إليه دون أن تعترف حتى لنفسها بهذا الميل؟ جوابًا على ذلك نقول: إنها كانت تحبه٨ تحبه لدرجة أنها أصبحتْ تجد لذة سائغة في إعطاء الأوامر إليه وتكليفه بكتابة التحريرات المهمة وغير المهمة، إلى غير ذلك من الأسباب والمعاذير المؤدية إلى مقابلته والاحتكاك به، ولكن هل كان هو يشعر نحوها بمثل هذا الميل؟ ألم تكن في ريعان شبابها وعز جمالها ذات صوت رخيم وملاحة جاذبة؟ أليست هي الأميرة صبيحة مَلِكة قرطبة المحبوبة؟ فهل يمكن ألَّا تُحَب؟

نعم، إن ابن أبي عامر كان يطيعها لدرجة العبادة لا لجمالها أو لمحاسن نفسها، بل لوجاهتها ونفوذها، وكانت هي لا تميز فيه هذه الحالة؛ لأنها أحبتْه من أعماق نفسها حبًّا ناريًّا تغلَّب على كل ما لديها من إرادة وعقلية.

كانت تحبه محبة غير محدودة، كحب شجرة الدر لعز الدين بن أيبك، كلتاهما، صبيحة وشجرة الدر وقعتا بين براثن محبة قاسية، قوضت أركان شخصيتهما الممتازة وتركتْهما تعانيان مرائر السلوى وآلام الهجران، كلتاهما بذلتا ما في وسعيهما لإرضاء حبيبيهما إلى حد أن أسقط ما لهما من كرامة وهوى بهما من سماء الرفعة والعز إلى حضيض الذل ليمتزجا بالشخصين العزيزين لديهما، فكل رغبة لهما أو كل أمل كان مقيدًا بهواهما، كلتاهما كانتا شمسًا تتألق في سماء دولتها تحيط بها نجوم وسيارات، ثم انعكست الآية بعد أن تجرعتا كأس الحب فتبدَّل الحال بغير الحال، وانحطتا إلى دركة السيارات بعد أن كانتا في دائرة الشموس والأقمار، وارتفع تبعًا لذلك شأن حبيبيهما؛ محمد بن أبي عامر وعز الدين بن أيبك حتى أصبح كل منهما الشمس الساطعة في دولته، أجل، استفاد كل منهما من حالة حبيبته الروحية وجعلها ساعدًا لأغراضه ومراميه، وتم لهما ما أرادا بخاتمة مؤلمة تكتنفها الدموع وتحيط بها الآلام.

تولى ابن أبي عامر منصبه الجديد وأظهر امتنانه وشكره لأميرته وولية نعمته بهدية ذات قيمة سارت بذكرها الركبان، كانت هديته نموذجًا صغيرًا لإحدى قصور الأندلس الجميلة مصنوعًا من الفضة ومنقوشًا بغاية الدقة والإحكام، وقد كان يوم نقلها من بيته إلى القصر الملكي يومًا مشهودًا اجتمعت فيه آلاف الجماهير لمشاهدة هذه التحفة اليتيمة،٩ وقد سُرت الأميرة من هذه الهدية الثمينة التي كلفت ابن أبي عامر مبالغ طائلة وكان لها أثر بليغ في نفسها، من ذلك الحين بدأ يقدم لها الهدية تلو الهدية مراعيًا في ذلك أن تكون هديته الثانية أثمن وأرفع قدرًا من الأولى، كل هذه أمور زادت سرور الأميرة وضاعفت من شكرها وامتنانها له، إلا أن تكرار هذه الهدايا على وجه من الإسراف لا يطابق حالة أبي عامر، فك ألسنة الجمهور من عقال السكون وأخذوا يتساءلون ويتهامسون في المجامع عن مصدر تلك الأموال الباهظة التي أُنفقت في سبيل مجاملة الأميرة، فكانوا يقولون في أنفسهم: إن هي إلا من مال الأمة ومتوفرات بيت المال، وإلا فمن أين له كل هذه الأموال؟ وقد اتسعت دائرة تلك الإشاعات وتماوجت حتى اتصلت بمسامع الخليفة نفسه فأرسل يطلب ابن أبي عامر إلى بيت الزهراء.

أرسل الخليفة بطلب أبي عامر إلى بيت الزهراء لتقديم الحساب عن أموال الحكومة المودعة تحت تصرفه.

هذه صدمة لم تكن في الحسبان ارتعدت لها فرائص أبي عامر؛ لأن الخزائن كان بها عجز ظاهر لا يعوِّضه إلا مال وفير، ففكر في الأمر وقدح زناد الفكر فلم يجد أمامه سوى الالتجاء إلى صديقه العزيز ابن خضير، وقد التجأ إليه وطلب منه يد المعونة فكان عند حسن ظنه به؛ لأن ابن خضير أعانه على أمره وأقرضه المال الناقص، وبذا أتم ابن أبي عامر شئونه وأكمل حسابه ويمم نحو بيت الزهراء آمنًا مطمئنًا، وهناك أمام مولاه قدم حسابًا دقيقًا برهن به على أمانته وأظهر إخلاصه وقطع ألسنة المخرصين والعداة؛ كانت دفاتره مرتبة منسقة وخزائن الدولة ملأى بالأموال ودار الضرب تتوهج بسبائك الذهب والفضة، فخجل الخليفة من نفسه ولم يسعه إلا تقديم عبارات الشكر والإعجاب بناظر ماليته القدير، ودفعًا للشبهة وسوء الظن عهد إليه بوظيفة جديدة هي وظيفة التفتيش العام.

وفي اليوم الثاني لهذه الحادثة أعاد ابن أبي عامر ما اقترضه إلى صديقه الحميم، وكان عمله هذا معجزة ألجمتْ ألسنة أعدائه وأوقعتْهم في مهاوي الدهشة والحيرة، إن حسن الطالع ما زال يناصره ويشد أزره وينجده أكثر من ذي قبل، فها هو قد أظهر إخلاصه لخليفته وخرج من تهمته نقي اليد عالي الرأس، وازدادت مكانته في نفس الأميرة، وعلت كلمته في طول البلاد وعرضها حتى أصبح أوسع رجال الدولة نفوذًا وأعلاهم كلمة.

إن انتصاره على أعدائه بتلك الكيفية زاد من محاباة الأميرة له فتمكنت من تقريبه إلى الخليفة أكثر من ذي قبل، وأخذت تنشر محاسنه بين الناس جهارًا ولا ترى بأسًا من المضي معه في تيار الهوى، فصار ما بينهما حديث القوم في سمرهم ومجالس أنسهم ولهوهم،١٠ حتى أصبح يُخشى من وصول ذلك إلى مسامع الخليفة؛ ولذلك ارتأى المصحفي بعد موافقة الأميرة أن يذهب ابن أبي عامر إلى إشبيلية١١ كحاكم مطلق، فتم ذلك في شهر ذي الحجة سنة ثلاثمائة وثمان وخمسين هجرية، وبعد أن أقام بها مدة عبر إلى مراكش عن طريق جبل طارق.

فرح أعداؤه بهذا الإبعاد واختلقوا عليه أكاذيب شتى كادت أن تمحو ما له من شهرة وبُعْد صيت، إلا أن صبيحة كانت ترمقه بعين رعايتها وتظلله بجناح حمايتها وهو بعيد عنها، فقد كانت تذيع سرًّا أن الخليفة أرسله لمراكش لمراقبة دفاتر بيت المال وكشف أحوال القائد الأكبر غالب، كان المصحفي يحقد على غالب؛ ولذا اغتبط بمهمة أبي عامر لعلمه بأن هذا الأمر يضايقه ويحرج مركزه إلَّا أن غالبًا كان قائدًا جسورًا مقتدرًا، وما كاد يجتمع بأبي عامر حتى تفاهما وتآلفا وقد ذكره ابن أبي عامر بخير وأثنى عليه في حضرة الخليفة وبيَّن ما له من المآثر في قمع الثورات وتسكين الاضطرابات في ربوع مراكش؛ مما سبَّب رجوعه مكرمًا محترمًا إلى قرطبة رغم اعتراض المصحفي وإصراره في ذلك.

ظهرت لأبي عامر في هذه المرحلة خدمات جليلة دلت على إخلاصه لأمته وحببته من نفوس مواطنيه الذين عرفوا له فضل هذه الخدمات والمساعي، وقد ظل يراسل الأميرة طول غيابه في مراكش ويخلد ذكراه في نفسها بالهدايا النفيسة١٢ والذكريات المعنوية الجميلة؛ مما جعلها تظن في أنها تشغل مكانًا ساميًا من مخيلته، فلم تُطِقْ صبرًا على بعاده، وكان أهل القصر يواصلون سعيهم ويكررون أمنيتهم في عودة محبوبهم الظريف.

وحدث إذ ذاك أنَّ وليَّ عهدِ السلطنة توفي وخلفه هشام في ولاية العهد واحتاج الأمر إلى مَن يدير حركة ضياعه وتدبير شئون أمواله، فأشارت الأميرة باستدعاء أبي عامر لإلقاء إدارتها إلى عهدته، وفي سنة ثلاثمائة وتسع وخمسين هجرية عاد ابن أبي عامر إلى قرطبة بعد أن لهجت الألسنة بأفول شمسه وسقوط شأنه، ودخلها ظافرًا شامخ الرأس، حيث عُهد إليه بإدارة ضياع ولي العهد وبتولي إدارة الشرطة والدرك.

١  دوزي.
٢  تاريخ مسلمي الأندلس لدوزي.
٣  دوزي.
٤  لان بول.
٥  كتاب مشاهير النساء.
٦  ابن الزهاري.
٧  دوزي.
٨  لان بول.
٩  دوزي.
١٠  الأطهاري.
١١  المقري.
١٢  دوزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤