الفصل الرابع

حادثة الفدك

ما دامت الدنيا فالمنازعات باقية لا تزول، وما دام الملوان فقانون تنازع البقاء سرمد خالد، يعمل الناس به ويزعجون أنفسهم في سبيل تنفيذه.

اعترضتْ حادثة الفدك أيام الأحزان والأكدار التي قضتْها السيدة فاطمة الزهراء عقب وفاة أبيها فخر الكائنات، فكانت ضغثًا على إبَّالة، وفدك هذه عزبة نخل كانت للرسول — صلى الله عليه وآله وسلم — يصرف منها على أهل بيته وينفق الباقي في مصالح المسلمين، وبعد أن توفي — صلوات الله وسلامه عليه — طلبت السيدة فاطمة فدك من سيدنا أبي بكر، ويروي المؤرخون الحادثة على الوجه الآتي:١ حضرت السيدة فاطمة ذات يوم إلى خليفة رسول الله وقالت له: إن رسول الله أعطاني فدك وشاهداي عليٌّ وأم أيمن.

فأجابها أبو بكر: لا أرتاب فيما تقولين وقد أعطيتُك فدك.

ثم حرر لها حجة بذلك على قطعة من الجلد وسلمها إياها، وفيما هي عائدة إلى دارها قابلها عمر وسألها من أين هي آتية؟ فأخبرتْه بما تمَّ، فلم يرُق ذلك في نظره وأخذ الحجة من يدها ورجع بها إلى أبي بكر وسأله عن الحقيقة فصدقه الخبر، فقال: إن عليًّا يريد أن يملك فدك وأم أيمن امرأة، ومحا ما على الحجة من كتابة ومزقها في الحال، وقد اغبرت فاطمة من ذلك وراجعتْ أبا بكر وهي تعلم قول أبيها: «إننا معشر الأنبياء لا نورث.» وعندما بلغها إجماع أبي بكر على منعها لاثتْ خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء، ثم أنَّت أنَّة أجهش لها القوم بالبكاء ثم أُمهلت طويلًا حتى سكتوا من فورهم، ثم قالت: «أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطَّوْل والمجد، الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم.» وذكرتْ خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها:

فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثه أنبيائه أنا فاطمة ابنة محمد أقول عَوْدًا على بدء، وما أقول ذلك سرفًا ولا شططًا فاسمعوا بأسماع واعية وقلوب راعية، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون، إيهًا معاشر المسلمين أُبتَزُّ إرثَ أبي! أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي، لقد جئتَ شيئًا فريًّا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله والزعيم محمد والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.

ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت:

يا معشر البقية وأعضاد الملة وحَضَنة الإسلام ما هذه الفتْرة عن نصرتي والونيَّة عن معونتي والغمزة في حقي والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله يقول: «المرء يُحفَظ في ولده»، سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم! إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه واستبْهم فتقه، وفُقد راتقه وأظلمتِ الأرض له، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، أُضيع بعده الحريم، وهُتكت الحرمة، وأُزيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل وفاة رسول الله، إيهًا بني قَيْلة، اهتُضم تراث أبي وأنتم بمرأًى ومسمع، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجفن وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار، ألا وقد أرى أن الجلد تم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم، ألا وقد قلتُ لكم ما قلتُ على معرفة مني بالخذلة التي خامرتْكم وخور القناة وضَعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية المعار موسومة الشعار موصولة بنار الله الموقدة التي تطَّلِع على الأفئدة، فبعين الله ما تعملون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فأجابها أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «يا ابنة رسول الله، والله ما خلق الله خلقًا أحب إلي من رسول الله، ولوددتُ أن السماء وقعتْ على الأرض يوم مات أبوك، والله لأن تفتقر عائشة أحب إليَّ من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر والأبيض حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله ؟! لقد كان رسول الله يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما خلفناه صدقة»، ولستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به.» ثم تعهَّد لها بعد ذلك أن يدفع إليها ما يخصها من نصيبها وينفق باقيها في شئون المسلمين، فقامتْ من مكانها وتوجهتْ نحو قبر أبيها تستشهد بأبيات ملؤها الشكوى وإشهاد أبيها على ما كان من هضْم حقها، ثم نهج عمر في خلافته على منوال أبي بكر في صدقة فدك، وكذلك كان شأن عثمان وعلي — رضي الله عنهم — وعندما توفي الحسن بن علي في خلافة معاوية بن أبي سفيان قسمها بين مروان بن الحكم ويزيد بن معاوية وعمر بن عثمان بن عفان، وأما في خلافة مروان بن الحكم، فقد انتقلتْ جميعها إليه من طريق الميراث إلى ابنه عبد العزيز، وعندما ولي الأمرَ عمرُ بن عبد العزيز أعادها جميعها إلى أولاد فاطمة.

ثم انتقلت إلى العباسيين عندما آل إليهم الحكم، وبأفول دولتهم انتقلت إلى الفاطميين وكانوا يوزعون تمرها على الحُجَّاج إلى أن قطعت أشجارها فانتهتْ بقطعها حادثة فدك التي امتدت عصرين متواليين.

figure
الحرم المدني.
١  شرح ابن أبي الحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤