الفصل الخامس

وفاة الزهراء

عاشت سيدة النساء بعد أبيها فخر الكائنات ستة أشهر، وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة هجرية بالغة من العمر عشرين سنة.

وقد كانت بجانبها ساعة أن حضرتها الوفاة أم سَلَمة، فقالت لها: اسكبي لي غسلًا يا أماه.

فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم لبست ثيابًا لها جُددًا ثم قالت: «اجعلي فراشي وسط البيت.» فاضطجعتْ عليه واستقبلت القبلة ثم قالت: «إني مقبوضة الساعة وقد اغتسلتُ فلا يكشفن لي أحد كتفًا.» ثم دُفنتْ ليلًا في البقيع وصلى عليها أبو بكر والصحابة والأنصار ونزل قبرها الإمام علي والفضل بن عباس — رضي الله عنهما.

وبعد أن دفن الإمام علي زوجته المحبوبة جاء إلى قبر الرسول وناجاه بهذه الكلمات:

السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ، فلقد وسدتُك في ملحودة قبرك وفاضتْ بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد استُرجعتِ الوديعة وأُخذتِ الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنتَ بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فأحقها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطُل العهد، ولم يخلَق منك الذِّكْر، والسلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا سَئِمٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

بلى إن الله مع الصابرين، إن الله الذي يبتلي عبده بالمصيبة، يهبه صبرًا يعادل مصيبته ويوازي نكبته، يرفع تلك القلوب الحزينة التي أحرقها بنار الألم ويجليها، وشدة النكبة وعظم قدرها تكون بنسبة ما في القلوب من حس؛ فلذلك نرى القلوب الحساسة تزيدها صدمات الحزن جلاء وقدرًا واعتبارًا، الأكدار سُلَّم يرقاه المرء ليصل الكمال، أما السعادة فتسوقه إلى مهواة الأنانية، القلوب السعيدة محرومة من مظاهر الرحمة والتسامح، أما القلوب الطافحة بأنواع الهموم ففيها منافذ شتى للأنس، فسرعان ما تأتلف بأحزان الآخرين وتختلط بآلامهم وتفهم حاجاتهم.

ينظر المتألمون إلى الحياة بنظرات ملؤها الشفقة وآيات الحنان، وكذلك كان الإمام علي — كرم الله وجهه — أثَّر عليه الخطْب وكان وقعه شديدًا على قلبه الحساس، كان يبكي دون أن تطفئ الدموع نيران قلبه، كيف لا يحزن وقد اشتد يُتْمُه بعد فراق زوجته عقب فراق الرسول .

فراق هذين الحبيبين؛ حرمان مُمِضٌّ وجرح في القلب لا يندمل، وكلما فكر في الأيام اللذيذة التي قضاها بصحبة سيدة النساء وتذكَّر خطر وقعها في قلبه الطاهر، وكيف كانت أيام عمره التي عاشها والتي مات بموتها، ازدادت لوعته واشتدت كآبته فلا يجد السلوى إلا في أحضان قبرها، فيترك روحه تطير سابحة فوق التربة، تعانق روح حبيبته وتناجيها وتكشف لها عن مكنون مضضها وجواها، كان يسائل الترب والأحجار١ ينتظر منها رد السؤال، ولكن أين لها أن تجيب؟

•••

ألطف الزهور وأقربها إلى الحس وآخذها باللب، تلك التي تنشر أريجها وقت غروب الشمس ثم تنام في مقتبل الليل، أجمل الورود أقصرها عمرًا.

حمرة الشفق وبهاء الفجر لا يدوم جمالهما طويلًا، بل لمدة محدودة، فالنغمات والشعر والسرور كل ذلك معنويات سريعة الفناء، كذلك الابتسامات والغمزات ومعاني الحب ذكريات للروح محدودة مدتها ونجوم تبدو في سماء الحياة قصيرة أمدها.

الربيع بهجة الحياة، وخير مواسم الربيع أقربها زوالًا وأسرعها ذبولًا، كذلك نفائس الحياة، الورود والزهور والنغمات وساعات الفجر وذكريات الشباب والمواسم، أبهجها وألطفها وأملكها للنفس أقصرها أعمارًا.

لأن يُحِب المرء ويُحَب فيعيش محترمًا معززًا مدللًا زمنًا ما، ثم يأفل بعد ذلك كما تأفل ساعات الغروب، تاركًا وراءه ذكرى خالدة وألمًا ممضًّا وأسفًا دائمًا مرتفعًا نحو النور والسرور والسعادة، لأن يكون محبوبًا على الدوام … فينثر حوله البسمات والنغمات ليعيش في جو من الأنس والطرب والشعر ثم يترك ذلك وراءه، فتبقى في القلوب ذكراه الممزوجة بالحزن واللوعة والأسى، تلكم تاريخ القلوب المحبوبة كثيرًا الآفلة سراعًا.

من بين هذه القلوب، قلب سيدة النساء فاطمة الزهراء، وتاريخ حياتها مستمد من تلك العناصر المعنوية، وكما كانت الرحمة والشفقة من لوازم تلك الحياة ومن ألصق الشئون، كذلك المحبة والظرف من أدوات زينتها وكمالها.

كانت قرة عين والدها والزوجة المحبوبة للإمام علي والأم الحنون للحسن والحسين — رضي الله عنهم، وقد امتازت في صفاتها الثلاثة كابنة وزوجة وأم بمزايا قلَّ أن تجتمع في سواها وبفضائل مزدانة بالجلال والكمال.

كانت حياتها الزوجية مع الإمام علي — كرم الله وجهه — قصيرة جميلة، وكذلك أعمار الورود الجميلة والزهور النضرة، فمضتْ في ربيع العمر كما تمضي ألوان الغروب وحمرة الشفق بعد أن تترك وراءها ذكريات من الحسن والجاذبية، فتبدَّل بموتها جمال الربيع وانقلب إلى خريف ممضٍّ، لو عاشتْ سيدة النساء، لما ذكرها المسلمون إلى يومنا هذا باللوعة تتملك أفئدتهم، ولما كنا نتحدث عن أحزان الإمام علي بمثل هذه الشدة.

مثل الشخصيات الماضية نذكرها بالاحترام والإعظام، ونبحث عن أحوالها الخاصة بوضوح وجلاء؛ أملًا في تجديد العهد ورغبة في إحياء الاسم، كمثل الصور الشمسية التي نحتفظ بها لرجال نعرف أسماءهم ولا نتذكر أشخاصهم، وكلما تجسمتْ أشكالهم وأنظارهم وأشباحهم أمام أعيننا ازددنا حبًّا لهم وإشفاقًا عليهم، وكما نعيد في الأذهان ذكريات الأيام الحلوة التي نقضيها في مقتبل العمر كذلك نرى جمالها ماثلًا في الذهن، أما الذين نحفظ في الذاكرة أيام حياتهم بالتفصيل ونستعرض في المخيلة ابتساماتهم ودموعهم وآلام نفسهم، فإننا نذكرهم دائمًا بشيء من الأسف والحزن يتملك أنفسنا:

ألَا إنما الدنيا كأحلام نائم
وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمَّلْ إذا ما نلتَ بالأمر لذة
فأفنيتَها هل أنت إلا كحالم

فما قيمة المنازعات والمجادلات وأنواع المنافسات؟ ما قيمة كل ذلك ما دامتْ دنيانا أحلام نائم وما دامت سعادتنا فيها سعادة الحالم.

١  الدر المنثور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤