الفصل الثالث
هنالك صفحة مشرقة في تاريخ أيام الخنساء، تنحني لها الرءوس إجلالًا، هي خير وأبقى من كل قولة قالتْها أو قصيدة نظمتْها في أيام الصبا.
فلقد خبا بريق عينيها وانطفأ نور جمالها وتقوَّس ظهرها وانتابتْها عوامل الضعف والشيخوخة، ولكنها لم تزل فتية القلب، جريئة الجنان، تجول في عروقها المنكمشة دماء الشهامة والجلادة.
عرفنا الشيء الكثير عن تاريخ المرأة الرومانية وأعجبنا بجلادتها وشجاعتها في مواقف الشهامة وما كانت عليه الخنساء لم يكن بأقل من ذلك.
لقد بلغت أبعد مدًى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان، ما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها واضطرام حشاها على أخويها صخر ومعاوية، كل ذلك استحال إلى صبر أساغه إيمان الإسلام وجمَّله التقى، فلم تأسَ على فائت من متاع الدنيا.
كانت أمًّا لأربعة أولاد من أشجع الأولاد، هم أشطار كبدها ونياط قلبها دفعتْهم جميعًا إلى الحرب وعدَّتْ موتهم في سبيل الإسلام شرفًا ليس وراءه شرف، ثم بكتْهم وهي تفخر بضياعهم إذ لم يبقَ لها إنسان بعدهم.
يا بَنِيَّ إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنو رجل واحد، ما خنتُ أباكم ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب شمَّرتْ عن ساقها، واضطرمت لظى مساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما أصبح الصباح وقد أثرت فيهم نصيحتها تقدَّم كل واحد منهم إلى الحرب وقاتلوا واحدًا بعد واحد حتى قُتلوا، وكل منهم أنشد قبل أن يستشهد رجزًا فأنشد الأول:
وأنشد الثاني:
وأنشد الثالث:
وأنشد الرابع:
اشتد أوار الحرب، وانتهت بقتل كبير الفرس وتشتت شملهم وانتصار المؤمنين، فعقدت للإسلام ألوية الظفر.
وعند نهاية الحرب الضروس التي لقي منها المسلمون صنوف الشدة، قام نفر من رجال الجيش إلى الخنساء وأخبروها باستشهاد أولادها الأربعة بعد أن أبلوا بلاء حسنًا، وما كادوا يلقون عليها الخبر حتى اهتز كيانها ونالتها رعشة سرت في جميع أطرافها ثم سكتت والتفتت إليهم تقول: «الحمد لله الذي شرَّفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.»
وعندما عادت الجيوش الإسلامية إلى المدينة المنورة تخفق على رءوس أفرادها ألوية الظفر، كانت الخنساء معهم تجر نفسها على عصاها، تسيل عبراتها ويتهلل وجهها إشراقًا وبهاءً، فكان الناظر إليها لا يدري أيغبطها على حالها أم يتوجع لآلامها، وقد أجرى عليها رجل العدل عمر بن الخطاب أرزاق بنيها، مائتي درهم عن كل واحد.