دار صحفية أم سفارة أمريكية؟!

أثناء المناقشات الواسعة التي جرت في مصر خلال الأسابيع القليلة الماضية حول «تطوير الاتحاد الاشتراكي» في مصر كتب علي أمين في «أخبار اليوم» مقالًا دعا فيه الشيوعيين المصريين إلى تكوين حزب علني مُعترَف به من الدولة. وبرَّر الكاتب دعوته بقوله: إن ضجيج الشيوعيين وهم تحت الأرض أكبر من حجمهم الحقيقي إذا رأت وجوههم الشمس. وإنه لا بد من أن يعرفهم الناس حتى لا يظل غموضهم مدعاة للجاذبية، فحين يعرفهم الناس على حقيقتهم سوف ينفَضُّون من حولهم، ويسقط سحر العمل السري. واقترنت دعوة علي أمين بدعوة أخرى تردَّدَت في مجلس الشعب المصري أثناء المناقشات، تُطالب الدولة بنشر أسماء الشيوعيين على الملأ.

ولعلَّه لم يعُد سرًّا أن مصطفى أمين قد اعترف في التحقيقات التي انتهت بمحاكمته وإدانته عام ١٩٦٥م، أن «دار أخبار اليوم» تملك جهازًا للمعلومات يعتمد على مصادر موثوقة محلية وأجنبية، وأن هذا الجهاز يتبادل المعلومات مع الأجهزة الأخرى المحلية والأجنبية. وكان واضحًا من التحقيق أن التنظيمات الشيوعية المصرية هدف رئيسي لهذا الجهاز، فلديه أسماء الشيوعيين، ووظائفهم، وأحوالهم الاجتماعية وتحركاتهم.

ومن المؤكَّد أن الحقائب الأربع التي سرَّبها مصطفى أمين — باعترافه — إلى شقيقه التوءم في لندن عن طريق السفارة الأمريكية في القاهرة، لم تكُن تحتوي على رسائل غرامية … فالأرجح أنه منذ تسلم السيد خالد محيي الدين مسئولية «أخبار اليوم» بدأ الأخَوان في تنظيفها من الأسرار وتطهيرها من الوثائق. ولا شك أنه كانت بين «الأوراق الخاصة» ذلك الأرشيف السري الخطير المليء بالمعلومات عن الشيوعيين المصريين وغيرهم من المناضلين الوطنيين والديمقراطيين.

ومن ثَم فدعوة على أمين إلى تكوين حزب شيوعي علني، أو خروج هذا «الحزب» إلى السطح، وكذلك الدعوة إلى نشر أسماء الشيوعيين وغيرهم لا تتصل بفضول علي أمين أو حب استطلاع بعض أعضاء مجلس الشعب، لأن أرشيف علي أمين وملفات أجهزة الدولة لا تنقصها المعلومات. وإنما الأمر كله هو تصوير المناضلين سواء أكانوا شيوعيين أم ناصريين أم غيرهم وكأنهم «خوارج» العصر والنظام. تمامًا كالمعادلة السقيمة التي نشرها مؤخَّرًا صالح جودت في «المصور» حين قال إن الماركسيين ملحدون وإن المصريين مؤمنون، وإذَن فالماركسيون ليسوا مصريين! هكذا، فتَحْت مظلة رفع الرقابة يهدِّد دم الوطنيين في مصر إذا آمنوا بعروبة مصر والاشتراكية والمنجزات الإيجابية لعبد الناصر، فهذا كله «كفر» عند صالح جودت. أما عند علي أمين الأكثر ذكاءً، فالأمر يستحق تنظيمًا علنيًّا للشيوعيين! هل يمكن حقًّا لعلي أمين أن يكون «ديمقراطيًّا» إلى هذا الحد، أم إنها خدمة تُخفي مصيدة جديدة للمناضلين؟ لنقم إذَن بجولة في البناء الشاهق بشارع الصحافة بالقاهرة، تلك القلعة التي يسمُّونها تواضُعًا بدار أخبار اليوم.

•••

عشت شهورًا قليلة في «أخبار اليوم» بين أواخر عام ١٩٥٦ وبدايات عام ١٩٥٧م. أخذني سلامة موسى ذات صباح إلى مكتب موسى صبري رئيس تحرير مجلة «الجيل» التي تُصدرها الدار أسبوعيًّا حينذاك. كانت المجلة طموحًا لأن تكون «تايم» العربية، حتى في طريقة الإخراج. وكان سلامة موسى كاتبًا لامعًا بين مختلف الكتَّاب الكبار الذين اختارهم مصطفى وعلي أمين بدهاء وبراعة، ممثلين لمختلف التيارات الفكرية قبيل ثورة يوليو ٥٢. كان سلامة موسى والعقاد وزكي عبد القادر وإبراهيم المصري وغيرهم يضفون على صحف الدار طابعًا «ليبراليًّا». ولكن الحقيقة هي أن الواحد منهم كان يكتب مقاله أكثر من مرة حتى يوافق عليه الرقيب مصطفى أو علي أمين. وكانت «أخبار اليوم» أول صحيفة مصرية ترفع أجور الكتَّاب والصحفيين، ولكنها مقابل ذلك كانت تستنزف أقلامهم استنزافًا، فهم يكتبون اليوميات في الأخبار والمقالات والمترجمات ورسائل القرَّاء في «أخبار اليوم» و«آخر ساعة» و«الجيل».

وكان لسلامة موسى صفحة أسبوعية في «الجيل» يخصِّصها عادةً للشباب. لذلك اقترح عليَّ أن أحرِّر الصفحة الثقافية. وافقت ووافق موسى صبري. وفي الأسبوع نفسه الْتَحق بالعمل معنا الزميل أحمد بهجت، وقد بزغ نجمه حين استطاع مع زميلتنا أمينة شفيق أن يُجريا تحقيقًا على الطبيعة أثناء العدوان عام ١٩٥٦ في بور سعيد.

كنت في ذلك الوقت واحدًا من مجموعة الشباب الجدد في حقل الثقافة المصرية، نجتمع في بيوتنا أو في المقاهي الشعبية أو نسيح في الشوارع، وننشر إنتاجنا في المجلات اللبنانية، حماسنا يطوي أيامنا، واندفاعنا يطوي ليالينا، وطموحنا يروي أحلامنا بشهوة تغيير العالم.

والقلة القليلة التي استطاعت منا أن تنفذ إلى جريدة «المساء» برئاسة خالد محيي الدين أو مجلة «صباح الخير» برئاسة أحمد بهاء الدين، أفلتت أحلامها من سجن الواقع المر للصحافة المصرية، أما أنا (وغيري)، فقد كان رئيس التحرير أو سكرتيره (المرحوم توفيق بحري) ينشر مقالًا ويشطب أربعة، ويسألني كل مرة، مَن هو يوسف إدريس أو عبد الرحمن الشرقاوي، أو ألفريد فرج، أو صلاح عبد الصبور؟ هل قرأت «لا أنام» لإحسان، أو «إني راحلة» ليوسف السباعي، أو «شباب امرأة» لأمين يوسف غراب؟ هؤلاء هم أعمدة الثقافة المصرية. لا تكتب عن المغمورين حتى لا تصبح مثلهم، إنهم لا يكتبون كلامًا مفهومًا.

واصطدمتُ بموسى صبري مرارًا، ولكنه تحمَّلني إكرامًا لسلامة موسى. إلى أن وقعت الواقعة بانتخابات الاتحاد القومي وقد رشَّح نفسه عن دائرة قصر النيل، وهي الدائرة ذاتها التي رُشِّح فيها مجدي حسنين. وعقد موسى اجتماعًا للمحررين بسطَ فيه مجموعة من الخرائط لإحياء الدائرة الانتخابية. وطلب منَّا — شبابًا وشابات — أن نساعده في المعركة. وسجل صوت عبد الحليم حافظ على شريط يغنِّي أمجاده، ورفع اللافتات التي تقول: «انتخبوا موسى صبري الذي لم يؤسس مديرية التحرير»، أو تقول: «انتخبوا موسى صبري … كاتب حُر لم يركع لحاكم». وأعلن لنا في سرور بالغ أن أجمل الممثلات وأشهر النجوم، سوف يقيمون المآدب احتفالًا ودعوة إلى انتخابه. وفوجئ بي أرفع إصبعي وسط الاجتماع أطلب الكلام. قلت:

إننا كمحررين في هذه المجلة يجب أن نظل بمنأًى عن المعركة الانتخابية ما دمتَ أنت بالذات مرشَّحًا.

أسكتني الزملاء وتجهَّم وجهُه قليلًا، ثم تمالك نفسه وسألني مازحًا: هل أنت شيوعي؟

قلت: لماذا؟

أجاب: لأن الشيوعيين فقط ضدي ويؤيدون مجدي حسنين. قلت له: أنا لست من أبناء هذه الدائرة فلن أنتخب أحدكما، ولكني أعتذر بصراحةً عن المشاركة في هذه المعركة، لا أستطيع مساعدتك.

وخرجت من الاجتماع. ولم أعُد إلى «أخبار اليوم» من ذلك الوقت!

ولكن معركة أخرى كانت تنتظرني مع «ملوك القلعة» بعد هذا التاريخ بقرابة عام. كنت قد ذهبت مرة أخرى برفقة سلامة موسى إلى «دار روز اليوسف» لمقابلة أحمد بهاء الدين للعمل في «صباح الخير». انتقل معي بالصدفة وحدها أحمد بهجت. وكان سلامة موسى مشغولًا بتأليف كتاب حول «الصحافة حرفة ورسالة» وكنت مشغولًا بكتابة دراسة نقدية لسلامة موسى وفكره. وقد أطلعني على مخطوط الكتاب فصلًا فصلًا، قبل أن يسلِّمه إلى «أخبار اليوم» لإصداره ضمن كتابها الشهري. ومات سلامة فجأة في ٤ أغسطس (آب) ١٩٥٨م. ولم يكَد يمضي أسبوع حتى ظهرت إعلانات مكثفة عن الكتاب. وقد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ في أسبوعين فقط، كان السعر رخيصًا للغاية، والمؤلف نجم لامع مات حديثًا. وتصفَّحتُ الكتاب وكاد يُغمى عليَّ! لم يكُن الكتاب عن الصحافة لا كحرفة ولا كرسالة، وإنما كتاب عن مصطفى وعلي أمين و«أخبار اليوم»! واتصلت فورًا بالدكتور رءوف الابن الأكبر لسلامة موسى، وكان يعمل حينذاك باحثًا بالمركز القومي للبحوث قبل تعيينه أستاذًا بجامعة الإسكندرية. وكتبتُ مقالًا يشتمل على كافة الحقائق بجريدة «المساء». لم يكُن المخطوط لدى أحد منا. ولكن أسرة الفقيد رفعت دعوى أمام القضاء تُطالب الناشر بتقديم المستندات. وحاول علي أمين أن يعطي الأسرة كلَّ ما تطلبه من مال مقابل التنازل عن القضية. ولكن المشكلة هي أن الكتاب المزيَّف كان عدوانًا على تاريخ سلامة موسى بأكمله. ولم يرضخ أحد للإغراء ولا للتهديد (ظلَّ التوءمان يشيعان في كل مكان أن رءوف سلامة وغالي شكري من الشيوعيين الخطِرين، وأن قضية الكتاب مدفوعة من الحزب الشيوعي المصري!) … وكسبت الأسرة قضيتها وصادرت النيابة بعض النسخ المطبوعة التي وجدت، وكذلك المخطوط الأصلي! هنا كانت المفاجأة الحقيقية. وطبع الكتاب من جديد طبعته «الأولى» الصحيحة.

هذا ما فعلوه مع سلامة موسى في حياته وموته. مع العقاد فعلوا العكس للوصول إلى النتيجة ذاتها. كان الرجل معاديًا لثورة يوليو دون لف أو دوران، عن قناعات فكرية خالصة، فهو بتكوينه الخاص وقف ضد الإجراءات كافة التي اتخذتها قيادة الثورة، والأشكال السياسية كافة التي خلقتها. ولكن أصحاب «أخبار اليوم» هم الذين فتحوا له أبواب مؤسسة فرانكلين ومكتب الاستعلامات الأمريكي وسلسلة «الناقوس» التي كانت تصدرها مكتبة الأنجلو المصرية للهجوم على الشيوعية والشيوعيين والاشتراكية والاشتراكيين، ولتزيين الوجه القبيح لأمريكا وترجمة المؤلفات المعادية للاتحاد السوفييتي والصين. كان العقاد طاقة ضخمة، وكان مؤمنًا بما يقول، ليس مأجورًا في معتقداته. ولكن هذه «المعتقدات» وجدت هوًى لدى التوءمين فأسَّسا «المختار» لزكي عبد القادر، وأصبحا همزة الوصل بين العقاد والأجهزة الأمريكية. لقد الْتَقت موضوعيًّا الأهداف والوسائل وإن اختلفت الأصول والقناعات، فالمصادر واحدة لضرب الاشتراكية ودعاتها، العروبة وأنصارها، ثورة يوليو وإنجازاتها.

و «جمع النقائض» على طبق واحد لتظهر الدار كما لو كانت قلعة الليبرالية في مصر، هو منهج «أخبار اليوم» في توزيع الأدوار والمواد. إنها كما تنشر «الثقافة الثقيلة الدم» التي يكتبها العقاد وسلامة موسى، فإنها تنشر الصحافة الخفيفة الظل، والتي لخَّصها آل أمين في المثل الشائع «ليس خبرًا أن يعض الكلبُ رجلًا، وإنما الخبر أن يعض الرجلُ كلبًا»، هكذا اخترعوا «ليلة القدر» كل سنة، حيث تصلهم عشرات الألوف من رسائل القرَّاء الذين يطلبون من السماء شيئًا في ليلة القدر، فيستجيب ملائكة الرحمة مصطفى وعلي أمين طبعًا، وينتشلون واحدًا من المعذَّبين في الأرض، ويرسلون إليه بالهدية التي طلبها. أو هم يعمدون إلى اختيار مريض على عتبة القبر يحيطون بكافة مظاهر الرعاية والحب والسعادة، وكأنهم يرجونه أن يطلب ما يشتهي قبل الموت. هكذا فعلوا بمريضة شهيرة اسمها ليلى أُصيبَت بالسرطان. أعطوا عريسها — وكان قد عرف بنهايتها — مبلغًا كبيرًا ليُزَف إليها، وأقاموا لها «فرحًا» خرافيًّا كليالي ألف ليلة وليلة، غنَّت فيه أشهر المطربات ورقصت أشهر الراقصات، وهبطت على العروس أغلى الهدايا. وبعد أيام ماتت ليلى، كما مات غيرها، ويموت المئات من مرضى السرطان.

وكانت ضربتهم ذات يوم، حين علموا بأن الأديب «صبحي الجيار» أقعده المرض عن الحركة منذ الصبا، ولا أمل في شفائه. احتفلوا به احتفالًا أسطوريًّا مماثلًا لفرح ليلى، وعيَّنوه محرِّرًا — من فراش المرض — ﺑ «آخر ساعة». وسافر إلى لندن بغية العلاج ولكن دون جدوى!

لماذا إذَن؟

إنهم على صعيد الفكر يشيعون فكرة «الحظ والقدر والمصادفة» وهم سادة الدعوة إلى الحداثة والعصرية والحضارة الغربية! وهم على صعيد المجتمع يختارون «الفرد» الذي تنفتح له طاقة السماء ليلة القدر، والذي يُؤخَذ من فراش المرض ليعرف السعادة قبل أن يموت، أو ليشم رائحة الأمل قبل أن يستقر في قاع اليأس. الفرد أولًا وأخيرًا، فالملايين لا تنفتح لهم سماء آل أمين ليلة القدر، وهناك ألوف «ليلى» و«صبحي الجيار» لن تزفهم صباح ولا شادية ولا نجوى فؤاد. الحظ والفرد ثم «نموذج الصحافة الناجحة»، ففي غمرة انحطاط الوعي العام يجذب الفضول عيون الناس إلى هؤلاء الفرسان المنقذين، ما دام الخلاص ﺑ «أخبار اليوم».

•••

وفي القضايا العامة هم «جاهزون» دائمًا، فما أن تسرب إليهم شعاع الضوء الأخضر عام ١٩٥٩م بالهجوم على الشيوعية حتى تحولت دار أخبار اليوم إلى سفارة أمريكية أكثر مَلَكية من الملِك. وكانت «الكراسة الرمادية» التي زيَّفوها كدأبهم على مرِّ التاريخ الصحفي المعاصر هي رسالتهم إلى المصريين التي يهدرون فيها دماء الشيوعيين «الملاحدة». وأصدروا النشرات والمنشورات كأي مكتب استعلام نشيط، عن «جهنم الحمراء» في الصين وكوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي وألبانيا! الصور الملوَّنة الزاهية على ورق الكوشيه بملاليم وأحيانًا مجانًا، وقد رسمت بالأحمر القاني «مذابح الذئاب الملاحدة». هكذا — جنبًا إلى جنب — مع مقالات أنيس منصور في ذلك الوقت عن الوجودية وأهميتها العظمى في التخلي عن «حائط نسميه الله» لنواجه الحياة بشجاعة وحدنا بلا سند. أما الحياة كما صورها أنيس منصور فهي تلك التي يعيشونها في الحي اللاتيني عرايا أو أشباه عرايا والجنس مجانًا لمَن يريد ويستطيع، في الطرقات والحدائق، الرجال والنساء يضاجعون بعضهم بعضًا بلا ضابط من «القيم القديمة».

هكذا حاربوا الإلحاد «الشيوعي» ودعوا إلى الإلحاد «الوجودي» في الوقت نفسه. وكانوا مزيفين للشيوعية والوجودية كلتيهما، فالكراسة الرمادية من صنعهم وجهنم الحمراء رسموها بريشة المخابرات الأمريكية، والوجودية — كما يعرف مدرس الفلسفة السابق أنيس منصور — لم تكُن غانية تعرض جسدها للبيع!

وإنما استغلال انخفاض مستوى الوعي في مصر هو الذي أتاح لهم الانتشار الجماهيري الساحق، فقد أدركوا مبكِّرًا قيمة الإعلام كوسيلة مواصلات عصرية: بالصورة، والجملة القصيرة، وصناعة النجم، والصِّلات المشبوهة التي تمدهم بالمعلومات والأخبار وشركات الإعلان … تمكنوا من الوصول إلى كل بيت.

ويُعد أنيس منصور من أهم النماذج التي جسَّدَت براعتهم في صناعة النجوم. مدرس الفلسفة الشاب يجيء ليترجم قصصًا من الأدب العالمي، ويلخِّص كبرى المدارس الفكرية فيكتشفون «موهبته» ككاتب، وطاقته على العمل. ثم يُجْرون له غسيل المخ اللازم، بالمرتب الكبير والمكتب الفاخر والشهرة اليومية. ويلتقي الاستعداد الخاص مع قانون العرض والطلب، وشيئًا فشيئًا ينسى الشاب المثقف الفلسفة والعلم وتصبح الصحافة هي «الدون جوانية» والسياحة وترجمة أغلفة الكتب إلى لغة باهرة ومثيرة توهم القراء بأنهم أصبحوا مثقفين.

ولم تذهب صناعة «أنيس منصور»، عبثًا، فقد حمل على كتفَيه الميراث الأيديولوجي لآل أمين في غيابهم المؤقت. حمل الجوهر وتخلَّى عن المظاهر الخارجية، أو هو وضع هذا الجوهر في إطار ذاته «المبدعة» وخصائصها المستقلة. كانت «ليلة القدر» و«ليلى» و«صبحي الجيار» هي المظاهر الخارجية لأيديولوجية «أخبار اليوم» القائمة على تقديس الحظ والمصادفة وتأليه الفرد، جوهرها الحقيقي محاربة الحد الأدنى من الاشتراكية والتحرر الوطني والدعوة المباشرة إلى التبعية للغرب.

وكان من الطبيعي أن يتقلَّص دور التوءمين بعد قرارات «تنظيم الصحافة» التي تُشبه التأميم. خاصة وقد توالى على الدار رؤساء مجالس إدارة من أمثال: كمال رفعت، وخالد محيي الدين، ولكن تقلُّص الدور الشخصي للتوءمين لم يتسبب في غيابهما أيديولوجيًّا، وكان موسى صبري، وأنيس منصور — على وجه التحديد — هما أكثر التعبيرات أصالة عن فكر «أخبار اليوم».

وفي غمرة معاناة الوطن من معاركه السياسية والفكرية ضد الاستعمار والرجعية المحلية، عاد أنيس منصور من رحلته إلى الهند ليكتب (عام ١٩٥٨م) عن كيفية تحضير الأرواح في السلة. وانتشر الوباء في مصر طولًا وعرضًا. كانت قراءة الكف والفنجان من العادات الشائعة ولو من قبيل التسلية. وكان تحضير الأرواح، كالتنويم المغناطيسي، يهمس به الناس ولا يكادون يصدِّقون. أما أن تحضر الروح في السلة فقد أصبحت «لعبة شعبية» يمارسها الصغار والكبار في البيت والشارع والمدرسة. وكانت صناعة النجم قد كفلت لأنيس منصور أن يخترق مختلف وسائل الإعلام، حتى حين كان الأمر يدعوه إلى الوقوف أمام محل البن البرازيلي في شارع سليمان باشا يشرب القهوة صباحًا ويوقِّع على أتوجرافات المراهقين والمراهقات. هكذا كانت الجاذبية الدون جوانية، وافتعال الفضائح أحيانًا، وسحر النجوم، عاملًا خطيرًا في تصديق شائعة «تحضير الأرواح بالسلة، فضلًا عن الميراث الغيبي المصري والشقاء الاجتماعي الذي يهيِّئ الناس لالتماس العزاء بعيدًا عن الواقع الكثيف على سطح الأرض.

وانتهت البدعة وأقبلت هزيمة ١٩٦٧م، فاستولت المشاعر العنصرية فجأة على «الأخ» أنيس منصور وراح يهاجم التوراة واليهود من منطلق ديني بحت. لم يكُن قبلها قد ناقش الصراع العربي الإسرائيلي بحرف. حتى حين تعرَّض الوطن لعدوان ١٩٥٦م كان مشغولًا بعرايا الحي اللاتيني. لكنه فجأة أصبح شيخًا وفقيهًا (برفقة صاحب الفضيلة مصطفى محمود الذي بدأ حياته بداية مشابهة وأنهاها بخاتمة مشابهة. حين أصدر أنيس منصور كتابه الرصين نوعًا حول الوجودية أصدر مصطفى محمود كتابه الرصين نوعًا حول الله والإنسان … بعدئذٍ انخرطَا في صفوف المجاذيب والدراويش، ولكنهما يمسكان بمسبحة العلم حبة حبة). ومَن يقرأ اجتهادات الشيخ أنيس عن اليهود واجتهادات الشيخ مصطفى في كتابه «التوراة» يشعر كما لو أن هناك مؤامرة — فيما لو ترجمت هذه الكتابات إلى لغة أجنبية، وإسرائيل قادرة على ذلك — تهدف إلى تصويرنا هتلريين نازيين وفاشست. وقد أصاب كلاهما بحسن نية أو سوئها، لا يهم ما دامت النتيجة واحدة، عصفورين بحجر واحد. أولهما: تقديم عزاء «ديني» لفاجعة ٦٧ يحمل تبريرًا لها وحلًّا لمشكلتها. والآخَر إمداد العدو وأنصاره — بوعي أو دونه لا يهم، فالنتيجة أيضا واحدة — بسلاح دعائي ضدنا.

وحين وصل الإنسان إلى القمر، تمكن أنيس منصور من استغلال هذا الحدث العلمي العظيم لخدمة أهداف مُعادية للعلم تمامًا … إذ راح تحت عنوان «الذين هبطوا من السماء» يزعم أن أهرامات الجيزة قد بنَتْها بعض الكائنات التي زارت بلادنا في القديم من كواكب أخرى.

ثم كانت أحداث البدع المنصورية حين تحدَّث في الإذاعة عن «واقعة يحار المرء في تعليلها!» موجزها أن أحدهم كان يقود سيارته في طريق صلاح سالم بالقرب من المقابر، وإذا به يشاهد امرأة ترتعد من البرد وقد بلَّلها المطر، فيوقف السيارة وتركب من خلفه لا إلى جانبه، ويناولها معطفه، وفجأةً ينظر إلى الخلف بعد فترة من الزمن فلا يجد المرأة ولا المعطف. يوقف السيارة ويبحث عن المرأة بين المقابر فيرى معطفه معلَّقًا على إحداها. وقد كُتب على المقبرة اسم سيدة متوفاة في ربيع العمر … تمامًا كما هي مواصفات المرأة التي كانت في سيارته منذ لحظات! ويطلب الكاتب الهمام — طبعًا — من علماء الدين والنفس والفلاسفة استقراء هذه الظاهرة وتعليلها. وبدأ الناس يخشون طريق صلاح سالم، ويتحدثون في البيوت والمقاهي ومكاتب العمل عن الشابة الجميلة الميتة التي تظهر ليلًا. وبعد أسبوعين كاملين ظهر إنسان شجاع توجه إلى الإذاعة، وطلب من صاحب البرنامج أن يقرأ ما بين يديه. وإذا بها قصة لكاتب لبناني، محض قصة فنية نقلها أنيس منصور إلى الناس كواقعة حدثت بالأمس في مصر. وكان صاحب البرنامج هو الآخَر شجاعًا فأذاع القصة، وكانت فضيحة مدوية!

•••

ولكن أنيس منصور لن يتوقف، فهذا الفكر التخديري، والذي لا علاقة له بالدين مطلقًا، إنما هو امتداد لمنهج «ليلة القدر». لقد تواتر على «دار أخبار اليوم» رجال وطنيون كخالد محيي الدين، وكمال رفعت، ومحمود أمين العالم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصنعوا شيئًا في «القلعة». بل لعلَّ بعضهم أخطأ حين كان يتصور أنه من الممكن اجتذاب العناصر الموالية لفكر «أخبار اليوم» إلى دائرة الفكر الوطني بمزيد من المكافآت والامتيازات، أو بعكسها، أي بالتحرشات والتشنجات! لقد أُدين مصطفى أمين في قضية التجسس للمخابرات الأمريكية، وظلَّ علي أمين هاربًا تسع سنوات، ولكن «أخبار اليوم» في غيابهما لم تتغير. ظلَّت كما هي. حتى أنهما حين عادا إليها كأن شيئًا لم يحدث والزمن لم يمضِ.

ولكن أشياء كثيرة في الواقع حدثت والزمن في الحقيقة اختلف. لذلك كتب موسى صبري كتابه الشهير «شيوعيون في كل مكان» مادحًا الدول الاشتراكية. وهو الكتاب الوثيقة التي يقدمها لليسار في انتخابات نقابة الصحفيين كأوراق اعتماد. ولكن اليسار يعرف اللعبة فيرفضه. ثم يذهب إلى الصحفيين المسيحيين في السر ويقول لهم: هل أصبح محرَّمًا على المسيحي أن يكون نقيبًا للصحفيين؟ ولكنهم أيضًا يعرفون اللعبة فلا يجيبون على السؤال، وإنما ينتخبون المرشَّح الآخر!

تغيَّر الزمن حتى أن علي أمين لم يستطِع البقاء في «الأهرام» شهورًا قليلة، وحين أراد أن يهاجم الشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين، لم يتهمهم بالإلحاد ولا بالانحلال ولا بالدموية ولا بالدكتاتورية … وإنما راح يهاجم عبد الناصر والتأميم والإصلاح الزراعي والسد العالي والسوفيات فقط لا غير، وراح يبعث من القبور باشوات العهد الملكي!

وكانت آخِر نكتة أنه يطالب للشيوعيين بحزب علني حتى يعرفهم الناس!

اطمئن يا علي بك، فالناس تعرفهم وتعرفك. وتذكر حين رأيتك آخر مرة في بيروت منذ عام ونصف بادَرْتني قائلًا: لم تتغير. وأجبتك: وأنت أيضًا!

تُرى … هل فهمت؟! إياك فحسب أن تتوهم، وأنت في مكتبك القديم بالدور التاسع، أن الزمن لا يتحرك … إنه في حركته السريعة أحيانًا يبدو ساكنًا. ولكنك حين تفيق من الحلم — ويكون الوقت قد فات — سوف تدرك أن كل شيء يتغير، كل شيء … إلا التغير ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤