مؤامرة ١٩٦٥م نجحت في ١٩٧٥م

حين خرجت من السجن في منتصف عام ١٩٦٢م وجدتني بالطبع مفصولًا من عملي الرسمي في التعليم، أما الصحافة التي كنت قد امتهنتها قبل ذلك التاريخ بقرابة ست سنوات، فإنها تلكَّأت في استقبالي بأسلوب مهذَّب يشي بأن «جهة ما» تعترض على كتاباتي أن ترى النور. وإذا كانت أسرتي قد استطاعت أن تتحمل فترة غيابي وراء الأسوار، فإن الوضع لم يعُد قابلًا للصبر بعد الخروج.

وصرت أكتب مقالًا شهريًّا لمجلة «الآداب» فكان الدكتور سهيل إدريس كريمًا معي مقدِّرًا للظرف الخاص الذي أمرُّ فيه. وكنت قد أنهيت قبل وأثناء وغداة الاعتقال كتابين، أحدهما عن المفكر الراحل سلامة موسى، والآخَر عن «أزمة الجنس في القصة العربية» فأخذت مكتبة الخانجي الكتاب الأول، ونشرت «دار الآداب» الكتاب الثاني. ثم فوجئت بمجلة «الكاتب»، وكان يرأس تحريرها في ذلك الوقت أحمد حمروش — ولم أكُن قد تعرَّفتُ به —، تتصل بي في شخص سكرتير تحريرها رأفت الخياط — ولم أكُن تعرفت به أيضًا — لتطلب مني أن أكتب فيها بصفة منتظمة. كذلك فقد دعاني الأساتذة يحيى حقي، وأنور المعداوي، وفؤاد دوارة للإسهام في تحرير «المجلة».

وهكذا فُتحت لي بعض الأذرع الحانية والقلوب الودودة في نهاية صيف ١٩٦٢م إلى أن دعاني الدكتور لويس عوض، ولطفي الخولي لتحرير عمود نقدي بصفحة الرأي في «الأهرام» فشعرت أن أزمتي الخاصة في سبيلها للانفراج وأنني سوف أستأنف عملي الصحفي الطبيعي في القريب. ذلك أن العمل في المجلات الثقافية الشهرية المتخصِّصة لم تكُن عملًا صحفيًّا بالمعنى الحقيقي للمهنة، وإنما كانت مأوًى من البطالة ومصدرًا للحد الأدنى من الرزق وفرصة لنشر بعض الفصول من مؤلفاتي التي يصعب نشرها في الصحافة اليومية أو الأسبوعية. وظللتُ طيلة عام ١٩٦٣م أُراوِح بين العمود الأسبوعي في «الأهرام» والمقالين الشهريين في «الكاتب» و«المجلة». وقبيل عام ١٩٦٤م بقليل وكان الإفراج عن بقية المعتقلين قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ، اتصل بي الدكتور محمد أحمد خلف الله الذي عُيِّن حديثًا مديرًا عامًّا للمجلات بوزارة الثقافة.

وكان اتصاله بي حدثًا في حياتي … ذلك أنني قرأت للرجل كتابه الشجاع «الفن القصصي في القرآن الكريم»، وكان أستاذه الشيخ أمين الخولي قد حدَّثني عنه كثيرًا، خاصة حول «طرده» من الجامعة بعد الحصول على الدكتوراه، عقابًا على أفكاره الجريئة. اتصل بي خلف الله ليقول إن المطاف انتهى به إلى وزارة الثقافة، وأنهم ينوون إصدار عدة مجلات ثقافية أسبوعية وشهرية بالإضافة إلى المجلات القائمة، وأنه اختارني للتعاون معه، بل إنه يبلغني الموافقة على تعييني مديرًا لتحرير مجلة «الشعر» المُقترَح صدورها أول عام ١٩٦٤م إلى جانب عملي الاستشاري في الهيئة العامة المُشرفة على صدور المجلات.

ووقع النبأ عليَّ كالصاعقة …

فالحق أنني لا أعرف الرجل على الصعيد الشخصي، إنه في مخيلتي مفكِّر شجاع ينتمي إلى تراث «الإصلاح الديني» في مصر من الإمام محمد عبده إلى الشيخ علي عبد الرازق إلى خالد محمد خالد، وأنه إلى جانب ذلك مفكِّر قومي عربي ينتمي إلى الأجواء الأيديولوجية لحزب البعث. من هنا تمامًا بدأت دهشتي، فاختياره بالذات مفاجأة. ثم كان اختياره لي وللدكتور عبد القادر القط مَدعاة لأن تتسع دائرة المفاجأة لتصبح شيئًا كالذهول.

لماذا؟

أجبتُ بيني وبين نفسي أن على رأس وزارة الثقافة رجل ضد الثقافة يُدعى عبد القادر حاتم، فما الذي حدث حتى يفتح صدره بكل هذه الرحابة للمثقفين؟ وقلت: ربما كان ذلك كله مقترنًا بحالة الانفراج التي توشك البلاد على الدخول فيها، وليس الرجل أكثر من أداة تنفيذ لرغبة أعلى. ولكن قلبي رغم ذلك بقي متوجِّسًا شرًّا.

على أية حال فقد بدأتُ عملي قبيل عام ١٩٦٤م بقليل. كنت ألتقي يوميًّا بالدكتور عبد القادر القط الذي عُيِّن رئيسًا لتحرير مجلة «الشعر» بينما اضطلعت بمهام إدارة التحرير إلى جانب باب عن «الثقافة العالمية» كلفني بإعداده الدكتور خلف الله لمجلة «الثقافة» الأسبوعية. وكانت الخطة الجديدة هي إصدار مجلتين متخصصتين شهريتين للقصة والشعر، ومجلتين أسبوعيتين هما: «الرسالة»، و«الثقافة».

وكانت المفاجأة الأولى هي إسناد رئاسة تحرير المجلتين الأسبوعيتين إلى أحمد حسن الزيات ومحمد فريد أبو حديد؛ لأنهما كانا يملكان المجلتين قبل الثورة. وكانت المفاجأة الثانية هي إسناد رئاسة تحرير مجلة «القصة» إلى ثروت أباظة. وبقيت «المجلة» على حالها بأيدي يحيى حقي، وأنور المعداوي، وفؤاد دوارة. كذلك كان الإعداد على قدم وساق لإصدار «الطليعة» عن مؤسسة «الأهرام» ولتغيير مجلة «الكاتب» إلى منبر سياسي برئاسة أحمد عباس صالح. وكانت أبواب السجون والمعتقلات تستعد للإفراج عن اليساريين والديمقراطيين.

هكذا بدا الأمر «انفتاحًا» على مختلف التيارات و«توازنًا» بين أشكال التعبير عنها … فالمحافظون لهم منابرهم، والتقدميون لهم منابرهم، وحرية الفكر والتعبير تصونها وتكفلها روح الانفراج الجديد.

وسألني الدكتور عبد القادر القط: ماذا سيكون معيارنا في نشر الشعر والأبحاث النقدية؟ وقلت: جودة المستوى بغض النظر عن الاتجاه، أليست هذه هي الديمقراطية بمعناها الليبرالي؟ وعلَّق الرجل: نعم. وصمت قليلًا كمَن يفكر ثم قال: ولكن هذا لا يمنع التوازن بين ما ننشره من القديم والجديد. وصمت مرة أخرى ثم أردف: إنهم أرسلوا لنا الأستاذ طاهر الجبلاوي ليساعدنا في أعمال السكرتارية والتصحيح. ولم يكُن الخبر جديدًا، فقد أنبأني الدكتور خلف الله به قائلًا إن الأستاذ العقاد يوصي بالرجل، ولم أجِد له عملًا إلا في مجلة «الشعر» … فقلت له: وماذا في ذلك؟ إنه رجل طيب كالدراويش، وهو عضو بلجنة الشعر في المجلس الأعلى، ويستحق المساعدة، وهو متمكن من تصحيح العروض، وفي جميع الأحوال هو مفيد، فإذا لم يكُن، فإنه ليس ضارًّا.

وصدر العدد الأول من مجلة «الشعر» وبقية المجلات القديمة الجديدة في يناير (كانون الثاني) ١٩٦٤م.

ولم يتحقَّق للعدد الأول من «الشعر» المستوى الذي كنا نحلم به … لأن الشعر العمودي كان بالغ الرداءة، والشعر الجديد كان دون المتوسط. والأبحاث وحدها كانت على درجة من الجودة. ولم يكُن ثمة بد من دعم الجيد وطرد الرديء، فأصبح الشعر الحديث ونقده يحتلان الجانب الأكبر من الحيز، واختل التوازن الشكلي بين المدرستين.

ثم …

خرج اليساريون من السجون في أبريل ومايو (نيسان وأيار) عام ١٩٦٤م وبدأ الكتَّاب منهم يعودون إلى صحفهم أو يحاولون ذلك، ومن لم يكُن منهم مقيدًا في إحدى الصحف راح يبحث عن عمل … وكان الدكتور حاتم يستقبل بعضهم بناءً على التعليمات بالترحاب الشديد، ويفتح لهم مكتبته مشيرًا إلى مؤلفات ماركس وإنجلز ولينين قائلًا: انظروا … هذا أنا، وتلك ثقافتي. إنهم في الاتحاد السوفييتي يتهمونني بالتطرف اليساري حين أناقشهم وأستشهد قبلهم بلينين. وصدقوني، المباحث هنا قدمت للرئيس تقريرًا تتهمني فيه بالشيوعية. على أية حال، إنها ليست تهمة. أهلًا بكم.

كان بعضهم يضحك في سره، والبعض الآخَر لم يكتم الضحك، والبعض الثالث كان مشدوهًا لما يسمع. هكذا «الجو» إذَن! فقد كانت الأسطوانة الحاتمية تُدار بمجرد دخول يساري إلى مكتبه، حتى إن أحدهم راح يمزح معه قائلًا إنه يشاهد في المكتبة بعض الكتب الماركسية النادرة ويريد استعارتها. وحين خرج قال لأصدقائه: إنها الكتب نفسها التي صادرتها المباحث من منزلي!

المهم أن جو الانفتاح بدأ يشيع في المؤسسات الصحفية والثقافية، وكان لا بد أن ينتقل بالعدوى إلى إدارة المجلات بوزارة الثقافة … هكذا قلت للسيد المدير العام — الدكتور خلف الله — وأنا أسرد عليه الأسماء التي أرغب في التعاون معها في مجلة «الشعر» وغيرها من المجلات.

وعادت الغالبية العظمى من الأقلام اليسارية إلى الصحافة المصرية. وبدأت في مجلات وزارة الثقافة تظهر بعض الأسماء التي غابت عن النشر سنوات طويلة … ويتصادف أو لا يتصادف أن المواهب اليسارية في الترجمة والنقد والبحث كانت أكثر من غيرها كفاءة … وقد اتضح ذلك على الفور على صفحات مجلة «الشعر»، أحيانًا «القصة»، وأحيانًا «الثقافة» ومعظم الأحيان في «المجلة». ويتصادف أو لا يتصادف أن المواهب السلفية كانت فقيرة وقليلة وعقيمة، حتى إن مجلتَي «الرسالة» و«الثقافة» استعانتا بالموظفين الإداريين في ديوان الوزارة ليسوِّدوا الصفحات على أي نحو كان.

وظلَّ الموقف هكذا تسعة أشهر كاملة … كانت المخازن خلالها تتكدَّس بأعداد «الرسالة»، بينما «الشعر» تنفد من الأسواق حال ظهورها …

وجاءني الدكتور القط ذات يوم بأدب جم ومحبة غامرة إذ تربطني بالرجل صداقة قوية بالإضافة إلى علاقة التلميذ بأستاذه فقد علمني الكثير وقال لي: ألا يمكن التقليل من الأسماء اليسارية، وكذلك من الشعراء الجدد؟

و«لعب الفار في عبي» كما يقولون. ماذا حدث؟ لقد كان الأستاذ طاهر الجبلاوي يهمس لي بين الحين والآخَر بهذا المعنى ملفوفًا في ورق السلفان وبكثير من اللف والدوران. ذلك أن الرجل — بالفعل — درويش طيِّب وقد نمَت بيننا علاقة الإلف والصداقة، وهو يريد أن يصارحني دون أن يصدمني بما يدور في كواليس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى. وكنت أظن الأمر ثرثرة مقاهي وغيرة الماضي من المستقبل. ولكن لهجة الدكتور القط تحمل في نغماتها حزنًا دفينًا كشبح النذير.

وفجأة، وفي وقت واحد، وقعت حادثتان خطيرتان.

بدأت الحادثة الأولى باجتماع طارئ للجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، أصدرت على أثره بيانًا يقول:
  • إن البلاد عرفت في الآونة الأخيرة موجة من الإلحاد والوثنية في الشعر، ذلك أن الذين يسمون أنفسهم بالشعراء «الجدد» ليسوا إلا حرابًا مسمومة موجَّهة إلى صدر الإسلام، فهم يسمحون لأنفسهم باستخدام إشارات ورموز مستوحاة من ديانات غير موحدة بالله.

  • إن هذه الموجة ليست معادية للإسلام فحسب، بل هي ضد العروبة أيضًا؛ لأنها تهدم قواعد اللغة والعروض التي ورثناها عن الآباء والأجداد وأجداد الأجداد، وهم يجمحون في العودة بالمخيلة إلى أمجاد إقليمية فهم شعوبيون جدد، لا يأنفون من استخدام العامية أحيانًا وكسر عنق البلاغة العربية في أغلب الأحيان. إن اللغة هي تراث الأمة وأخطر مقوماتها. وهؤلاء الذين ينتحلون صفة «الشعراء» قسرًا هم أعدى أعداء لغتنا وأمتنا.

  • إنهم «قرامزة» لا علاقة لهم بالتراب المقدس لهذا الوطن، لأنهم يمجدون بطولات حمراء في بلاد غيرنا، ولأنهم يحضُّون على الحرب بين الطبقات ويحرِّضون سائر الناس على البغي والمنكر وانعدام الأخلاق السوية التي ورثناها عن الأقدمين.

  • إن لجنة الشعر بالمجلس الأعلى وقد تأسست لصون تراث هذه الأمة ولغتها وشعرها من حقها أن تشرف على وسائل النشر كافة، والإذاعة التي تصل عبرها هذه «السموم» إلى المواطنين، وهي الأولى بالإشراف على مجلة «الشعر» بالذات، لأنها تصدر عن دولة لها تقاليدها وقيمها لا عن بضعة أفراد لهم مطلق الحرية في التعبير عن أنفسهم بوسائلهم الخاصة.

هذا — على وجه التقريب — موجَز البيان الذي هبط كالصاعقة على رءوس الجميع. على رءوس المواطنين أولًا، ثم على رءوس الشعراء، ثم رءوس المشرفين على المجلات الثقافية.

وكما تصورت بادئ الأمر أن ثرثرة الأستاذ الجبلاوي لا تعدو كونها غيرة الماضي من المستقبل وأن تحذير الدكتور القط من قبيل المبالغة والحساسية المُرهَفة التي يتمتع بها لدرجة التشاؤم، فإنني — رغم المفاجأة — قدرت الأمر على أنه مجرد تحدٍّ من جانب عزيز أباظة، وصالح جودت، ومحمود غنيم، والعوضي الوكيل.

ولكني كنت على درجة هائلة من حسن النية والسذاجة. ذلك أن لجنة الشعر تضم بين صفوفها السيدة ملك عبد العزيز، والأستاذ صلاح عبد الصبور. ولجنة الشعر تعرف أحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبو سنة في مصر وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي في العراق، ومحمد الفيتوري وتاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن في السودان، ونزار قباني وعلي الجندي وشوقي بغدادي وعلي كنعان ومحمد عمران وممدوح عدوان في سوريا، وغيرهم من الشعراء الحديثين — روَّادًا وشبابًا — في جميع أنحاء الوطن العربي. ويعلم الناس قبل لجنة الشعر أن هؤلاء الشعراء من الطلائع المتقدِّمة المناضلة العربية، وأنهم — جميعًا — مسلمون، وأنهم — جميعًا — ضد الاستعمار. وأن قضية الشعر الجديد — على صعيد الشكل والمضمون — هي قضية فكرية واجتماعية تختلف بها هذه الطلائع عن الأكثرية الساحقة من التقليديين، لأسباب يتصل بعضها بروح العصر وصراع الأجيال وتبايُن التجربة والثقافة ويتصل بعضها الآخر بطبيعة المرحلة الوطنية والاجتماعية التي يمرُّ فيها الوطن.

ولكني كنت ساذجًا. ولم أكُن وحدي، بل إن غالبية المثقفين الوطنيين الذين ذهبوا إلى الدكتور حاتم محتجين، والذين راحوا يكتبون في الصحف والمجلات مدافعين، لا يقلون عني سذاجة. ذلك أن حوارًا حادًّا أو هادئًا حول الشعر القديم والجديد لا يثير أحدًا، فالصراع دائر حول القضية منذ بداية الخمسينيات. ولكن لهجة البيان وصياغته — التي قام بها الدكتور زكي نجيب محمود — كان يجب أن تنبهنا إلى أن شيئًا خطيرًا، لا علاقة له بالشعر — وإن اتخذه مشجبًا — على وشك الحدوث.

وفي غمرة الصراع الفكري حول الشعر الذي قدم فيه عبد القادر القط وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي مساجلات بارزة، ناداني الدكتور خلف الله بوجه متجهم على غير العادة وقال لي في إيجاز: إنني آسف لأن أبلغك قرارًا مؤلمًا هو أن الوزارة قد استغنت عن التعاون معك في مجلة «الشعر» وبقية المجلات. ولأنك موظف بالمكافأة الثابتة، ولست موظفًا على درجة مالية، فقد رتَّبنا لك الأمور المادية بما يرضيك.

وكان هذا الترتيب هو إعطائي مرتَّبَ شهر إضافيًّا. وقد استغربت لأن المدير العام ظلَّ مستغرقًا في الجانب البيروقراطي من الموضوع، بينما ظللتُ أنا ساهمًا فيما يجري حولي بعين جديدة … كمَن يُفيق من نوم عميق، رحت أفكر وأرقب بعين مفتوحة … فبعد هذا اللقاء مباشرةً توجَّه لتسلم مكاني في مجلة «الشعر» الأستاذان محمود حسن إسماعيل، وعبده بدوي. وتم استبعاد الأسماء ذات الرنين التقدمي في بقية المجلات، وانقلبت مجلة «الشعر» كالبهلوان وأصبحت بوقًا لشلة لجنة الشعر.

وبعد أسبوع واحد من إقالتي كان الدكتور خلف الله نفسه يترك موقعه في إدارة المجلات ليذهب — بلا عمل — إلى ما يسمى مجازًا بإدارة التخطيط.

ولم أمُت جوعًا، فقد سارع يحيى حقي وأنور المعداوي إلى لجنة التفرُّغ، وحصلت منها على عام كامل بمرتب شهري كافٍ. ولم يكُن العام قد انتهى حين عُيِّنتُ في مؤسسة «الأهرام» ناقدًا أدبيًّا لمجلة «الطليعة».

وليس ذلك كله مهمًّا. وإنما كان المهم حقًّا هو ما جرى وما يجري.

ورحت بذاكرتي أرصد «علامات» الشهور القليلة الماضية. لم يكُن الإفراج عن زملائي عملًا سهلًا. كان صراعًا ضاريًا في قمة السلطة. وتأكد لي ذلك بما لا يدع مجالًا للشك حين صارحنا عبد الناصر عام ١٩٦٩م عند اجتماعه بأسرة «الطليعة» — وقد حضر الاجتماع أنور السادات ومحمد حسنين هيكل — أنه لولاه لكنا لا نزال في الصحراء. لم يكُن إفراج عام ١٩٦٤م إجماعًا إذَن، وإنما كان صراعًا عنيفًا تكلَّل بالدم على باب الخروج … فقد افتعلت إدارة السجن معركة مع المعتقلين قبيل ذهابهم راح ضحيتها المناضل الشهيد لويس إسحاق، غير مَن جُرحوا. هكذا إلى اللحظة الأخيرة كان الصراع ملتهبًا، ولم يكُن قد انتهى بالطبع بالخروج. مئات من العمال لم يعودوا إلى أعمالهم، ومئات من الموظفين الصغار تلكَّأَت إجراءات إعادتهم، والقلائل من ذوي الكفاءات العالية بقوا شهورًا في بيوتهم، ورجال الإعلام عادوا محاصرين ماديًّا ومعنويًّا.

كان قرار الانفتاح على اليسار قرارًا علويًّا. أما قنوات التنفيذ فكانت مسدودة بعشرات المتناقضات. كان اليمين — بإجراءات ٦٢ — قد تقلص نفوذه على الصعيد الاقتصادي، ولكن غياب الاشتراكيين في السجون أضاف إلى نفوذه رصيدًا في مراكز الإدارة والإعلام. وكان بقاء حاتم على قمة الإعلام والثقافة إبقاءً لذات الأجهزة المعادية لليسار حتى وإن رحَّبَت به مَلقًا لصاحب الأمر. إن الدكتور حاتم هو رئيس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وبيان لجنة الشعر وما يُنفَّذ من إجراءات في إدارة المجلات الثقافية، ليس بعيدًا عن إشرافه المباشر.

وهنا استدرت ممعنًا النظر في الحادثة الثانية التي وقعَت في الوقت نفسه. كانت مجلة «الرسالة» قد بدأت سلسلة من المقالات بتوقيع المحقِّق اللغوي المعروف محمود شاكر يرد بها على سلسلة من المقالات كتبها الدكتور لويس عوض في «الأهرام». كان لويس عوض راح يقارن صور «العالم الآخر» في الآداب المختلفة، وركز البحث في خاتمة الرحلة على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الإلهية لدانتي. وقد أفاض الرجل في إبراز الخيال المبدع والإضافات الخلَّاقة التي تميَّز بها عمل المعري، وإن لم يستبعد التأثير والتأثر المتبادلين في الثقافات القديمة. ويستحيل على أي قارئ منصف لأطروحة الدكتور لويس عوض أن يستخلص ترجيحه لأن يكون المعري قد سرق من الآداب اليونانية واللاتينية القديمة. ومع ذلك فأي عمل علمي، خاصة في مجالات العلوم الإنسانية وبصفة أخص في ميدان الأدب المقارن، معرَّض للنقد والاختلاف والحوار.

وقد بدَت مقالات محمود شاكر في الرسالة لأول وهلة وكأنها رد علمي يَحترم الرأي الآخَر. ولكنها سرعان ما تحوَّلَت عن هذا المنطلق إلى منزلقات طائفية ذميمة، استخدم فيها صاحبها كافة معاجم استعداء السلطة والاتهام بالشعوبية ومعاداة الإسلام إلى آخِر القائمة. وقد انتقل بمقالاته من الرد على أطروحة «الغفران» إلى التعليق على كل ما كتبه لويس عوض في حياته.

تحوَّل الرد إلى حملة أسبوعية استهلكت مئات الصفحات، تدخل فيها إلى جانب محمود شاكر مجموعة من الموظفين الصغار، كما أنها لم تعُد وقفًا على لويس عوض وإنما على «تيار قبطي في الثقافة المصرية»! وكان التوقيت مذهلًا، فالحملة على لويس عوض والحملة على مجلة «الشعر»، أقبلتا معا وكأنهما بتنسيق خفي!

ومن الطبيعي بعد أن «تطهرت» إدارة المجلات من الأقلام اليسارية، أن ينفسح المجال واسعًا أمام هذه النغمة الغريبة على التقاليد الوطنية المصرية … عزفت لجنة الشعر على الوتر الفني في الشعر الحديث وقالت إن رموز الصليب والتثليث والمسيح وبروميثيوس وسيزيف وأوزوريس، هي رموز مسيحية وثنية تعادي العروبة والإسلام، وأن الانقلاب الموسيقي على الخليل بن أحمد الفراهيدي هو ثورة مضادة للعروبة والإسلام. كذلك عزفت مجلة «الرسالة» على الوتر الفكري في أعمال سلامة موسى ولويس عوض وغيرهما، وقالت إن التراث هو الإسلام وحده وغيره كفر، بل قال محمود شاكر وجلال كشك وغيرهما إن القومية العربية ذاتها مؤامرة استعمارية ضد الوحدة الإسلامية وإن الدولة العثمانية كانت السلطة القريبة من الله وكتابه الكريم.

وتحولت «الرسالة» إلى ما يشبه جريدة «الدعوة» التي كان يصدرها الإخوان المسلمون، إلى ما يشبه المنشورات الداعية إلى قلب نظام الحكم. وانهالت البرقيات على رئاسة الجمهورية وجريدة «الأهرام» تطالب بإقصاء لويس عوض وتطهير الصحافة كلها من «الكفار الملحدين الحمر» جنبًا إلى جنب مع المناداة بالاشتراكية الإسلامية. وراح الشيخ محمد الغزالي يخطب في المساجد ضد رسام الكاريكاتير صلاح جاهين الذي كان متحمِّسًا لعلمنة الأزهر وتطوير قانون الأحوال الشخصية. وخطب شيخ آخَر أثناء زيارة خروشوف داعيًا إلى «الجهاد» و«الشهادة» ما دامت الأمور قد وصلت إلى هذا الحد.

ولأن الصراع كان حادًّا على المستويات كافة حتى قمة السلطة فقد حدث شيء غريب في الوقت الذي بدَت فيه بوادر الانفراج، إذ استطاع حلمي سلام — رئيس تحرير «الجمهورية» حينذاك — بوحي من المشير عامر أن ينقل قرابة أربعين صحفيًّا إلى مؤسسات الأخشاب والأسماك والحلوى والأحذية، كان من بينهم كتَّاب مرموقون كعبد الرحمن الشرقاوي، والخميسي، وأحمد عباس صالح … وغيرهم.

وفي هذا المناخ بالضبط عام ١٩٦٥م قامت المنظمات الشيوعية بحلِّ نفسها. كان الأمر يبدو فوق السطح مزيدًا من الالتفاف حول قيادة عبد الناصر لتوحيد الجهد والإسراع في طريق التحول السلمي نحو الاشتراكية. ولكنه تحت السطح كان يشكِّل مفارقة تاريخية مؤسية … إذ كان اليمين المتطرف يجمع صفوفه تحت الأرض وينظِّم تشكيلاته ويستعد لوثبة مسلَّحة ضد اليسار والنظام.

وهكذا فجأة، بدت البيانات الرجعية ومقالات الفتنة الطائفية وكأن لا علاقة لها بلويس عوض ولا بالشعراء الجدد ولا بمجلة الشعر … كانت تمهيدًا سافرًا لمؤامرة صيف ٦٥ التي استهدفت الإطاحة بجمال عبد الناصر. وكانت ضمن المضبوطات في حيازة الإخوان المسلمين قوائم بأسماء الكتَّاب الوطنيين والتقدميين المطلوب اغتيالهم.

والمفارقة التي عنيتها هي أن الإجراءات الوطنية التي اتخذها عبد الناصر كانت تحتاج إلى دعم اليسار بتوحيد صفوفه ومنظماته، لا بحلِّها … في مواجهة اليمين القوي المنظَّم. ذلك أن انصهار بعض المناضلين في الاتحاد الاشتراكي أدَّى إلى ذوبانهم في بحر مضطرِم الأمواج لا علاقة له بالنضال من أجل الاشتراكية.

بينما أصبح الشارع الشعبي مفتوحًا على مصراعَيه لتنظيمات اليمين. بالإضافة إلى أن حل التنظيمات الشيوعية لم يساعد الحكم الناصري على حل التناقض الفاجع داخله بين المضمون الوطني والأسلوب السياسي غير الديمقراطي. لقد أقبل حل المنظمات اليسارية ليكرِّس رغم أنف النوايا هذا التناقض وليمنحه شرعية.

المهم أن اليسار الذي لم يتصور قط أن معركة الشعر الجديد ومعركة شاكر – عوض، تتجاوز الثقافة والأفراد، لم تسمح له الأجهزة بالرد على الأطروحة الطائفية المتفجرة في مجلات وزارة الثقافة.

وحين أسفرت الفتنة عن وجهها المسلَّح تصدَّت لها أجهزة الأمن بالسجون والمعتقلات والمشانق. أما «الفكر» فقد ظلَّ خبيء الصدور وحبيس القلوب والعقول. وأما الصراع، فقد ظلَّ مستورًا بأغلفة برَّاقة من الشعارات.

واكتفى الرئيس عبد الناصر بإهداء «وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى» إلى الدكتور لويس عوض.

واكتفى شعراوي جمعة — عام ١٩٦٦م — بأن يكون أول عمل له في وزارة الداخلية، هو القبض على جيلين من مثقفي اليسار.

وحين دخلت معتقل طرة في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) عام ١٩٦٦م كان المشهد أمامي يدعو إلى الجنون: يقيم معي في عنبر واحد فوزي جرجس ورءوف نظمي وإبراهيم فتحي وعادل أمين وعلي الشوباشي ومحمود عزمي وأحمد فرج ومنصور زكي وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وسيد خميس وصبري حافظ ومحمود حشمت وجمال الغيطاني، وغيرهم عشرات من الشيوخ والكهول والشباب اليساري (وكانوا قد أفرجوا عن لطفي الخولي ومحمد الخفيف وإبراهيم سعد الدين وأمين عز الدين بعد يوم أو يومين من اعتقالهم). وفي العنبر المقابل أرى حافظ شيحا وياسين سراج الدين وسيف الغزالي من الوفديين الذين أمسكوهم في جنازة مصطفى النحاس. وفي العنابر المجاورة أرى الشيخ محمود شاكر ومئات من الإخوان المسلمين.

بقي بعضنا سبعين يومًا بين طرة والقلعة، وبقي البعض الآخَر حتى وقعت هزيمة حزيران عام ١٩٦٧م.

•••

على الرغم من الهزيمة «البوليسية» لليمين، فإن القوى الرجعية في الداخل والقوى الاستعمارية في الخارج استطاعت أن توقع بالنظام هزيمة عسكرية وأخرى سياسية. ولم تكُن «القوى الرجعية في الداخل» تعني الإخوان المسلمين وحدهم أو بقايا الطبقات القديمة وحدها، وإنما كان العمود الفقري لسلطة النظام قد استضاف من صلبه ومن نخاعه الجاري في العظام عدة «فقرات» سُمِّيت تجاوزًا بالطبقة الجديدة. إنها الطبقة التي تَنبَّه عبد الناصر إلى خطورتها وأخذ يضرب بعض أجنحتها العسكرية والأمنية فيما يُسمَّى بسقوط دولة المخابرات. لذلك، فإن وقف مجلات وزارة الثقافة وإقالة الدكتور حاتم وحبس الإخوان المسلمين كل ذلك عام ١٩٦٥م لم يمنع الهزيمة من الحدوث. ذلك أن التناقض المأساوي كان فادحًا، بين مجموع التشريعات والإجراءات والقرارات التي يُصدرها عبد الناصر من جانب، والتركيب الاجتماعي للسلطة وصيغة الاتحاد الاشتراكي من جانب آخَر. وقد ظلَّ هذا التناقض قائمًا بعد ١٩٦٥م وبعد ١٩٦٧م، بل إن الهزيمة هيَّأَت له — عمليًّا — مناخًا صالحًا للازدهار باسم المراجعة والوحدة الوطنية.

فبدلًا من إبراز التناقض الفادح الثمن في جسم النظام وحله ثوريًّا بالانحياز إلى جانب التقدم، عَلَت الأصوات المتعفِّنة صائحة بأن الاشتراكية (التي لم تولد قط) هي السبب، وأن البُعد عن الدين (الذي لم يحدث قط) هو السبب، وأن السلاح الروسي (الذي لم يكن قد استُخدم بعد) هو السبب في كارثة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م.

ورحل عبد الناصر عام ١٩٧٠م.

وكان المد الرجعي على الصعيدين المحلي والعربي قد بلغ ذروته في مجزرة أيلول الأردنية.

وانحل — شكلًا — صراع السلطة في مصر بأحداث ١٤ و١٥ مايو (أيار) ۱۹۷۱م.

وتدعمت الطبقة الجديدة بفئات قادمة من الريف، ومن ذكريات البورصة.

واشتعلت حركة الطلاب المصريين عام ١٩٧٢م. لم تكُن قد هدأت منذ فبراير (شباط) ١٩٦٨م، ولكنها بعد أن كانت رد فعل لمحاكمة قادة الطيران أضحت فعلًا ثوريًّا ناقمًا على تحولات النظام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ناحية اليمين.

ووقف المثقفون والمهنيون والعمال والفلاحون إلى جانب الطلاب. وبدَت البلاد وكأنها على أبواب «إضراب قومي شامل».

وعادت نغمة «الدين» تحتل موقع الصدارة بأقلام غير متديِّنة كأنيس منصور ومصطفى محمود. ثم بدأت رياح الفتنة الطائفية تتحرك. ووقف أحد المحافظين — محمد عثمان إسماعيل — ليقول بالحرف الواحد: أعداؤنا ثلاثة هم المسيحيون والشيوعيون واليهود حسب هذا الترتيب. ووقف آخَر في ندوة علنية بقاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ليقول: نريد عقيدتنا ولا نريد سيناء. وبدأ الشيخ عبد الحليم محمود يكتب في «الأهرام» أن أرسطو هو السبب في اندحار الدولة الإسلامية.

واحتدم الصراع …

وهرعتُ إلى توفيق الحكيم، وكان قد أُتيح لي طيلة السنوات العشر الماضية أن أتعرف عليه معرفة شخصية حميمة، ولكني لم أرَه قط على هذه الدرجة من الانزعاج وعنف التعبير عن هذا الانزعاج كما رأيته في هذه الأيام الأخيرة، بل الشهور الأخيرة وأصبح مكتبه في الطابق السادس؛ حيث أقيم بالقرب منه في «الطليعة» منتدًى سياسيًّا صغيرًا يؤمه الشباب والكهول والشيوخ ممَّن تؤرقهم قضية الوطن ليل نهار.

حين خلوت به ذات يوم من تلك الأيام العصيبة (۸–۱–۱۹۷۳م) وأغلقت الباب ورفعنا سماعة التليفون، قال لي هذا الرجل الذي تجاوز السبعين في حدة شاب لم يبلغ العشرين: هناك ناس في بلادنا يريدون الرجوع بنا إلى مائتي سنة إلى الوراء … ليس هذا تدينا ما نشاهده في التلفزيون ونسمعه في الإذاعة ويمتد أثره إلى رحاب الجامعة وملابس الطالبات. إنه «هوس» و«دروشة» و«جنون» تعبيره السياسي المؤكد أن نتحول إلى مجتمع ضد المدنية والحضارة، مجتمع ينتمي إلى أكثر العصور ظلامًا.

كانت الكلمات تغلي على لسان توفيق الحكيم، وانفعالات وجهه تتبدل خطوطها وألوانها بسرعة الضوء، حتى أنني اضطربت على «قلب» الرجل من فرط الحماس المتوهج بالغضب … ولكنه راح يزجرني بعنف: قل لي، ماذا تفعلون أنتم يا شباب هذا الجيل؟

أنت تعلم ماذا يصنع شباب مصر؟

قاطعني بقسوة: هذا لا يكفي … العبء كله على طلبة الجامعات، وحتى هؤلاء بدأت تتسرب بينهم التيارات الخبيثة التي تتلفع بثياب الدين وتخفي أظافرها المتعطشة للدم بقفازات حريرية من السلف الصالح. البنات في كليات علمية كالطب والهندسة بدأن يرتدين «الطرحة» التي يلبسنها النساء في الحج. هذا غير معقول بمصر التي يمتد تاريخها الحضاري إلى سبعة آلاف سنة … سأدعو بأعلى صوت إلى تكوين جمعية لحماية الحضارة في بلادي ضد أعداء الحضارة، أولئك الذين يتهدجون بالصلوات والعبارات نهارًا، وفي ظلام الليل تجدهم في شارع الهرم والأحياء الراقية و«الشقق المفروشة» … ليس هذا «تيارًا دينيًّا» بالمعنى الذي كنا نعرفه ضمن تيارات عديدة في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن … ذلك أن «الدين» كتيار فكري له حق الوجود كغيره من التيارات الفكرية … إن ما أراه الآن ليس كذلك، أنه تيار مدمِّر لكل قيمة حضارية، بل هو مدمر للأخلاق نفسها، حتى بمعناها الديني. ذلك أن الشواهد كلها تقول إن التحلل والتفسخ والعفن هو الوجه الآخَر لعملة «الدولة الدينية» التي يُنادي بها البعض الآن. الدين كان وسيظل علاقة شخصية بين الفرد وربه، أما الدولة فشيء آخَر، والبشر وحدهم هم المسئولون عنها.

كان توفيق الحكيم يتدفَّق كسيل منهمر، حاولت أن أهدئ من «معدل سرعة التيار» قائلًا: ما تفسيرك لهذه الظاهرة حتى نضع أيدينا على الجذور، قبل أن نحاول البحث عن العلاج … إن جمعية ثقافية لحماية الحضارة فكرة طيبة، ولكنها فكرة جزئية وعلوية فيما أرى … أي إنها وثيقة الارتباط بنشاط الصفوة العقلية والفكرية إنْ جاز التعبير. لا بد من البحث عن أشكال أخرى تتصل بالأسباب العميقة، بالجذور.

في هدوء طارئ أجابني توفيق الحكيم: بالطبع، هناك تراكم سلبيات العشرين عامًا الماضية، رغم الإيجابيات التي لا ينكرها أحد، ولكن الهزيمة في ٦٧ فجَّرَت ما كان يغلي في الباطن ودفعت به إلى السطح، هكذا دفعة واحدة.

ولكن الهزيمة في حياة شعوب كثيرة كانت نقطة تحوُّل إلى الأمام والبناء، وبالتالي فالتيار الفكري والسياسي المرشَّح بعد الهزيمة للتقدم بإنساننا هو عكس ما نراه الآن. الإنسان المهزوم قد يتشبَّث بالقوى الغيبية أمام الصدمة، أما أن تتحول هذه القوى إلى مشجب نعلِّق عليه خطايانا، فهو امتهان للعقل البشري من ناحية، وتجاهل للأسباب الحقيقية التي أدَّت بنا إلى الهزيمة من ناحية أخرى … وصحيح أن مجموع الشعب مسئول عن الهزيمة، ولكن هذا تجريد وتبسيط يبتذل القضية المطروحة … فنحن جميعًا مسئولون حسب موقع كلٍّ منا ودوره. ولا شك أن النظام السابق على ٢٣ يوليو كان آيلًا للسقوط، وقد ورث النظام الجديد أعباءً ثقيلة من الماضي … ولكن الصحيح أيضًا هو أن النظام الجديد رغم إنجازه الكثير قد ضلَّ السبيل في معالجة الكثير من القضايا وفي مقدمتها قضية الديمقراطية وقضية العدل الاجتماعي. إن حرية الفكر والتعبير جنبًا إلى جنب مع حرية الإنسان الاجتماعية لم تلقَ من الضمانات السياسية والتنظيمية ما يَحُول دونهما والعثرات التي تعاظمت قبل الهزيمة، وبعدها للأسف.

قاطعته في اللحظة التي بدأت فيها نبرة صوته ترتعش: يظلُّ سؤالك المهم قائمًا، وهو لماذا لم تكُن الهزيمة نقطة انطلاق نحو بداية جديدة تستوعب إيجابيات الماضي وتلفظ سلبياته وتبني حياة جديدة؟

التفت في مرارة نضحت على وجهه ابتسامة قصيرة ومتعجلة، وراح يقول بعينين زائغتين بين الباب والنافذة الواسعة المطلَّة على الشارع المضطرب بشتى التناقضات: إن جوهر الأخطاء ظلَّ قائمًا، فرفع الشعارات وتغيير الأشخاص لا يجدي شيئًا إذا ظلَّت الأمور على ما هي عليه، بل إن ذلك هو الذي يفاقم المشكلات، فحركات الشباب المتوالية منذ ٦٨ هي أحد التعبيرات عن هذا التفاقم، وحياتنا الثقافية الخالية من المنابر الجادة هي التي تدفع كتابنا إلى نشر إنتاجهم في عواصم عربية أخرى، وهي كذلك تعبير آخَر عن هذا التفاقم، والأحداث الطائفية الغريبة على مصر وشعبها وحضارتها تعبير ثالث، وهكذا … ذلك أن أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير إلى أمام ليسوا ممثلين تمثيلًا حقيقًا في الأجهزة والمؤسسات القادرة على إحداث التغيير … لذلك فنحن نستغني باللافتات عن المضمون وبالوجوه عن الظهور وبالقمم عن القواعد. إن حماية نظامنا — كمجموعة من التشريعات الاقتصادية والاجتماعية — تتطلب عملًا ديمقراطيًّا متواصلًا، يدعم هذا النظام بتطويره، لأن الوجود لا يعرف التوقف ولا يكفُّ عن الحركة، فهي إما إلى الإمام وإما إلى الخلف … حتى «محلك سر» هي حركة، وليست جمودًا. وأعداؤنا كثيرون: الاستعمار الأمريكي والصهيونية العالمية ودولة إسرائيل وبعض الأنظمة العربية، وبعض الطبقات الاجتماعية داخل حدودنا تستفيد من تقهقر الوضع، وهي التي تغذي التيارات المتخلفة التي ترتدي ثياب الدين.

وصمت توفيق الحكيم لحظات طويلة وحدَقَتا عينيه تتحركان في محجريهما بسرعة مذهلة، ولكنها متسقة مع حركة يديه اللتين تتشاجران مع أصابع بعضهما البعض تشاجُرًا عنيفًا، ثم قال: إنني أفكر جديًّا في التوقف عن الكتابة.

فاجأتني العبارة فرُحت أنا الآخَر في صمت مماثل، ووضعت رأسي على مرفقي … كنت أسترجع أشياء كثيرة وأفكر، ولكن اختلاط الألوان والخطوط كاد يبعدني عن توفيق الحكيم ويقربني منه أكثر في وقت واحد. سألته: كيف؟

وأجاب: لست وحدي … يجب أن يقف الكتاب رغم تباين اتجاهاتهم الفكرية صفًّا واحدًا، ونكتب بيانًا للدكتور حاتم عمَّا آلت إليه أوضاع حياتنا الثقافية والفكرية والفنية … ولن ننشر هذا البيان إلا إذا تُجُوهل ووُضع في سلة المهملات … حينذاك لن ننشره فحسب، بل نتوقف عن الكتابة التي تكاد — في ظل هذا المناخ — تصبح بلا معنًى.

رفعت وجهي إليه لأطالع سطور الزمن، وهي تعود بهذا «الشيخ» إلى زهرة العمر … لم يكُن في ذلك الوقت البعيد إلا عصفورًا من الشرق، أما الآن فهو يعيش شبابه الحقيقي، يعيش عصره وآلام وطنه أكثر كثيرًا مما كان يعيشها في تلك الأيام التي كان يعمل فيها نائبًا بالأرياف، وحاولت أن أستأنف الحديث من زاوية أخرى: الديمقراطية والعدل الاجتماعي، هي الأخرى كلمات عامة … إن الاحتلال الإسرائيلي لجزء من أراضينا هو الصورة المباشرة لجرحنا القومي، والخلاص من هذا الجرح الدامي يستوجب عملًا ديمقراطيًّا وعدلًا اجتماعيًّا، ولكن كيف؟ إن التوقف عن الكتابة قد يكون احتجاجًا لفترة من الوقت، وقد يصل إلى حدود العمل الفردي، لأن الكثيرين سيرفضون الفكرة من مواقع مختلفة، فوق أنها فكرة تجسد موقف الأدباء وحدهم … ما الحل القومي الشامل؟ يجب أن نعرف حدودنا كأدباء وكتَّاب، إننا لا نكتب برامج لأحزاب سياسية، إننا ضمير الأمة فحسب، ولسنا أجهزة تنظيمية. معنى هذا الكلام بوضوح أنه ليس مطلوبًا منَّا ما قد يكون مطلوبًا من طوائف أخرى، ممارسة العمل السياسي المباشر وظيفتها. أما نحن فيكفينا التنبيه والتحذير والتوجيه والإيقاظ. الحل القومي الشامل بالنسبة إليَّ يعني في المقام الأول أن تقف هذه الأمة وقفة رجل واحد مهما كانت التناقضات الاجتماعية في وجه العدوان الهمجي على حضارتنا. ليس معنى ذلك أن نفتعل وحدة الصفوف، هذا أبعَد ما يكون عن خاطري، ولكني أقول بالحد الأدنى من الاتفاق حول أهداف أخطر بكثير من المصالح الموقوتة لبعضنا. والزمن يجري، وسواء شعرنا بذلك أو لم نشعر فهو يجري … حتى إن طبيعة القضايا تتغيَّر من وقت إلى آخَر. إن «المسألة المصرية» في وقت مضى كانت تعني جلاء الاحتلال البريطاني، وكانت أيامها الأمور واضحة فالملك والإنجليز وأشباه الإقطاعيين في جانب، والشعب كله في الجانب الآخَر. في وقتنا لم تعُد «المسألة المصرية» هي مجرد المناداة بتحرير سيناء، فتحرير الإنسان المصري الراهن هو الطريق الطويل المُرهِق إلى تحرير سيناء، وليس العكس. تحرير الإنسان المصري من الخوف والوهم والفقر هو دعامتنا الأساسية لتحرير سيناء. وأعتقد أن هذه المحاور الثلاثة هي الغالبة على كتاباتي الأخيرة كلها.

قال هذه الكلمات وتنهَّد بعدها تنهيدة عميقة كزفرة أسى، ولاحظته يحملق في الفراغ ويمسك كتفَي المقعد بكلتا يدَيه، ثم يصوِّب بصره إليَّ في خط مستقيم، وهو يتمتم بما يشبه الهمس: لقد لاحظت ترددك في قبول فكرة التوقف عن الكتابة، أو كتابة بيان لوزير الثقافة والإعلام في شأن حياتنا الفكرية … وقاطعته: لم أتردَّد ولكن أفكر معك.

— وأنا الآخَر أفكر معك … إن بيانًا عن أوضاع حياتنا الفكرية لا يكفي … فالدنيا تهدر من حولنا وشبابنا — خصوصًا طلبة الجامعات — يعاني أزمة عميقة … وليست الأفلام الهابطة والمسارح الفارغة والمسلسلات الإذاعية المنحطة واختفاء المنابر الجادة إلا صورة جزئية لما نجتازه من مشكلات حادة، علينا أن نواجهها بشجاعة.

وصمتَ طويلًا حتى كدت أتصوَّر أنه أتمَّ فكرته، ولكنه مزق تخيلاتي حين قال فجأة: لماذا يقتصر البيان على حال الثقافة، ليكن بيانًا للمسئولين، ولكن عن الوضع السياسي والاجتماعي بأكمله، من خلال أحداث الطلبة الأخيرة.

وراح يهز رأسه كمن اكتشف شيئًا كان طول الوقت بالقرب منه … واستمرَّ يهز الرأس على إيقاع الأفكار التي تتنازعه، حتى استقرَّت أخيرًا على ذراعَيه وقد تشابكا فوق مكتبه.

ربما كانت تلك لحظة الحسم في حياة فكره وفنه … ولكنه على أية حال لم يكُن «يمثِّل»، كان يغلي. ربما كانت أكوام من الذكريات قد تكدَّسَت مرة واحدة، وربما كان ركامًا مختزنًا من التأملات قد سطا على وعيه دفعة واحدة … وربما … وربما … ولكن ما لا شك فيه أن توفيق الحكيم لم يكُن وهو يفعل ذلك كله من سكان البرج العاجي رغم إقامته في هذا الجناح الذي ندعوه في الأهرام بالبرج.

وإنما كان قلب توفيق الحكيم نابضًا بأحر الدماء السارية في شرايين شعبه، وكان عقله يدق الدقات الثلاث السابقة على فتح الستار.

كان هذا الحديث بيني وبين توفيق الحكيم يوم ٨–١–١٩٧٣م بعدها بثلاثة أيام فحسب أصدر بيانه الشهير الذي لم يوقِّع عليه سوى المثقفين الوطنيين والديمقراطيين واليساريين. كان هؤلاء قد اكتفوا بالبيانات التي أصدرها في نقابة الصحفيين أو تجمُّعات الأدباء، يناشدون فيها الرئيس أن يَحُول دون الطوفان القادم.

ولكننا صباح ٤ فبراير (شباط) ۱۹۷۳م فوجئنا بصدر الصفحة الأولى من جميع الصحف المصرية وقد ازدانت بأسماء مجموعة لامعة من الوجوه الثقافية الوطنية والتقدمية مع ديباجة قصيرة تعني أنهم فُصلوا من عضوية الاتحاد الاشتراكي، وبالتالي من أعمالهم الصحفية. وكان لافتًا للنظر أن الأسماء نُشرت «ثلاثية» ورباعية هكذا: لويس حنا خليل عوض أو أمير إسكندر بولص. كان الأمر لافتًا للنظر من عدة زوايا … فقد وردت هذه الأسماء ضمن القوائم المضبوطة مع جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٦٥م. ومن ناحية أخرى كان بعض الأسماء لا يمكن معرفته كاملًا إلا من ملفات المباحث العامة.

كان الدكتور حاتم قد عاد إلى السلطة معزَّزًا مكرَّمًا عام ١٩٧١م وكان يوسف السباعي قد أصبح سكرتير عموم الثقافة المصرية في مختلف المجلات إلى جانب رئاسة مجلس إدارة دار الهلال محل أحمد بهاء الدين، وأصبح صالح جودت رئيسًا لتحرير «المصور».

وتشكَّلَت لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي من بعض كبار المتهمين في جنايات القتل والاختلاس والعمل المشبوه مع جهات عربية وأجنبية.

وهكذا راحت القوائم تصدر الواحدة بعد الأخرى بتنسيق مكتمل الأركان الثقافية والأمنية والسياسية حتى وصل عدد المعزولين ۱۱۱ كاتبًا وصحفيًّا يشكلون أعلى الكفاءات المهنية بغض النظر عن اتجاهاتهم الناصرية والماركسية في الصحافة المصرية. يكفي أن نذكر لطفي الخولي ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين ورجاء النقاش وصلاح حافظ وعادل حسين وفيليب جلاب ونبيل زكي وحسين عبد الرازق وألفريد فرج وأحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم منصور وأمل دنقل وإبراهيم عامر وأمينة شفيق وخيري عزيز وميشيل كامل وعشرات غيرهم حتى ندرك حجم المذبحة التي قامت بها أجهزة الثورة الثقافية المضادة.

وقد تنصَّل حاتم والسباعي وممدوح سالم وسيد مرعي ومن بعده حافظ غانم، كلٌّ على انفراد، من ارتكاب الجريمة، بل وبدا بعضهم كما لو كان ضد المجزرة ويعمل على إيقافها.

ولكن الأيام كشفت الأصابع الملوَّثة سريعًا … فقد أصدر السباعي بيانًا يُدين فيه حركة الطلاب ويؤيِّد إجراءات الدولة، وقَّع عليه إبراهيم الورداني وصالح جودت وعبد العزيز الدسوقي وبعض الموظفين في دار الهلال والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وجمعية الأدباء. كذلك أصدر موسى صبري بيانًا مشابها.

وأدهشني، وغيري، لحد الفزع أن بعض الأسماء التي كانت بالغة الحماس للبيانات، قد غابت عن القوائم.

وتذكرتُ أن توفيق الحكيم كان قد أعطاني همسًا مقالًا مطوَّلًا بخط يده لأقرأه وأعيده له مشفوعًا برأيي. كان عنوان المقال «عودة الوعي» وهو مجموعة من الانطباعات الذاتية حول العشرين عامًا الأخيرة من حياة مصر والمصريين.

وقد أعدتُ المقال إلى صاحبه مع رسالة قصيرة قلت فيها ما معناه: أنت يا أستاذي لست مؤرِّخًا ولن تكون، فلو أنك كتبت هذه المعاني في مسرحية لما اعترض عليك أحد من حيث الشكل، إذ إن المقال لا علاقة له بالبحث العلمي فهو ليس أكثر من نتف متناثرة لا يعوزها الشتات. أما من ناحية الموضوع، فإن أعمالك المسرحية تكذِّب أفكارك، فقد كانت «السلطان الحائر» ومن قبلها «إيزيس» ومن بعدها «الصفقة» و«الأيدي الناعمة» و«شمس النهار» و«الطعام لكل فم» من الأعمال الدرامية التي واكبت التجربة الناصرية على نحوٍ يختلف تمامًا عمَّا تقوله في «عودة الوعي». بل إن مقالك في «الأهرام» عند انتخاب عبد الناصر للرئاسة الثانية، يشكِّل نقيضًا متطرِّفًا لما تقوله في مقالك الجديد. ولست أذكِّرك بما كتبتَ حين مات! ولكني سأذكِّرك بموقف عبد الناصر منك عام ١٩٥٧م حين راح أحمد رشدي صالح في «الجمهورية» ينال من أدبك بأقصى ما يمكن أن يُتهم به أديب وهو السرقة من غيره … فما كان من الرئيس إلا أن قلَّدَك أرفع وسام في الدولة، ثم قال في تصريح شهير «لقد تأثَّرتُ برواية عودة الروح تأثرًا بالغًا». هكذا لست أراك قد التزمت جانب الصواب فيما كتبت، ولست أرى داعيًا لنشره، وخاصة في الوقت الراهن؛ حيث تحاول أطراف عديدة أن تغتال ما تبقى من إيجابيات المرحلة الناصرية.

ثم دعاني توفيق الحكيم لمناقشتي فلم أزد شيئًا على ما جاء في رسالتي الموجزة. واحتدمت حركة الطلاب والمثقفين بعدئذٍ، وفوجئنا جميعًا باقتحام الحكيم للساحة، وفرحنا بحماسه المتوقد لما نادينا به آنذاك. وكان هو — إحقاقًا للحق وإنصافًا للتاريخ — الذي بادر بكتابة بيان المثقفين المصريين الذين أُبعدوا عن منابرهم لهذا السبب، فيما عداه هو ونجيب محفوظ.

وحدث أن وقف اتحاد الكتاب اللبنانيين وقفة شجاعة في مؤتمر تونس ضد القهر واضطهاد الرأي، فما كان من السيد يوسف السباعي — رئيس الوفد المصري ولم يكُن قد عُيِّن وزيرًا للثقافة — إلا أن طمأن أعضاء المؤتمر بأن الأمور تمضي في طريق الحل. وفي اليوم التالي وصلت جريدة «الأهرام» وفي صدر صفحتها الأولى صورة كبيرة للرئيس السادات وهو يصافح توفيق الحكيم … وتحت الصورة بضعة أسطر فُهم منها أن الأمور تسير فعلًا في طريق الحل. ولكن توفيق الحكيم لم يذكر لأحد أنه في هذا اللقاء قال للرئيس: لقد كتبت شيئًا عنوانه «عودة الوعي» فأجابه الرئيس أنه يعرف وبدرج مكتبه نسخة! ولم تكُن بالطبع مفاجأة، فقد عمد الحكيم بعد مناقشتي وغيري حول هذا المقال، إلى نسخة بالاستنسل وتوزيعه في السر بغير توقيع. وكان صديقه ثروت أباظة من أكبر المتحمسين لتوزيع المقال.

ليس هذا مهمًّا.

وإنما المهم أن أشرف العقول المصرية بقيت مهدَّدة طيلة الأشهر السابقة على حرب أكتوبر في حياتها واستقرارها وأمانها حتى أعلن الرئيس السادات عشية الحرب «العفو العام» عن الصحفيين والطلاب، بإعادتهم إلى أعمالهم وجامعاتهم.

ولم يكُن ذلك ينهي الصراع، وإنما كان يعني تأجيله … ولكن ظاهرة خطيرة لم تحدث قط في تاريخ مصر المعاصر، كانت قد حدثت خلال الأشهر الثمانية، وهي أن مجموعات متتالية من ألمَع الوجوه الثقافية غابت عن أرض الوطن كلويس عوض ومحمود أمين العالم وعلي الراعي وأمير إسكندر ونبيل زكي وأحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم عامر وسمير كرم وميشيل كامل ومحمود عزمي وأحمد حجي وحلمي التوني وطاهر عبد الحكيم ومحيي اللباد وسعد التايه وسعد زغلول فؤاد وإبراهيم سعد الدين وأمين عز الدين ومحمد أنيس ومحمد عجلان وألفريد فرج وعبد الرحمن الخميسي وجلال السيد … وغيرهم عشرات من الأدباء والفنانين والصحفيين ممَّن دفعتهم ظروف العزل والقهر وانعدام الفرصة لخدمة الوطن بالرأي الحر وتولِّي «الخصيان والقردة والحواة»١ مقاليد الأمور الصحفية والإعلامية، دفعتهم هذه الظروف مجتمعة لهذا «الاختبار» الجديد تمامًا على الساحة الثقافية المصرية. وقد كان اختيار الغالبية العظمى من هذه الأسماء هو «العمل» في بقية عواصم الوطن العربي كبيروت وبغداد والكويت والجزائر. والقلة القليلة هي التي اختارت الهجرة إلى أوروبا وأمريكا.

ولم يكُن ذلك أيضًا وأدَّا للصراع، فقد تمسكت الأكثرية من الكتَّاب الوطنيين والتقدميين بمواقعها النضالية داخل مصر. كان يوسف السباعي قد أصبح وزيرًا للثقافة، وبالتالي تقدمت الحاشية المصطفاة من الجثث والرمم المتعفنة، إلى مواقع المسئولية المباشرة في مؤسسات وزارة الثقافة والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ودار الأدباء، بالإضافة إلى الأوضاع الجديدة التي طرأت على الصحافة المصرية منذ مذبحة لجنة النظام الشهيرة.

وأقبلت حرب أكتوبر المجيدة، ومعها أقبلت النتائج السياسية المعروفة. وكما أن هزيمة ٦٧ كانت فرصة اليمين للنيل من ثورة يوليو ومن الفكر الاشتراكي ومن المثقفين اليساريين ومن الصداقة العربية السوفييتية، فإن انتصار ١٩٧٣م كان أيضًا فرصة الرجعية لتسديد الضربة القاضية لقوى التقدُّم.

وكان إقصاء محمد حسنين هيكل عن «الأهرام» إشارة مبكِّرة إلى ما يُسمى بالعهد الجديد، فقد تم هذا الإقصاء وهيكل يحذِّر من الارتماء بين أحضان الولايات المتحدة الأمريكية. وكان مجيء علي أمين بالذات إلى المقعد الشاغر في «الأهرام» — ولو لبضعة شهور — إشارة حاسمة إلى هوية البديل.

بعدئذٍ أقبلت التفاصيل من قبيل استكمال الديكور وإعادة ترتيب البيت: عاد الأخوان أمين إلى قلعة شارع الصحافة الأمريكية والمسماة ﺑ «دار أخبار اليوم»، واستولى صالح جودت على «دار الهلال»، أما إبراهيم الورداني فقد «ارتفع» إلى أحد مراكز المسئولية في «الجمهورية»، وتوجَّه إحسان عبد القدوس إلى «الأهرام».

وبقيت قلعتان للفكر الوطني والاشتراكي هما «الكاتب» و«الطليعة».

واستخدم يوسف السباعي حقه «الشرعي» كوزير للثقافة وأقال أسرة «الكاتب» واستعدى السلطة على محرِّريها متهمًا أحدهم — صلاح عيسى — بالخيانة العظمى!٢ وانفردت العصبة التي كانت في الأمس القريب المتهم الأول في مذبحة «الرسالة» و«الشعر» والفتنة الطائفية، انفردت بالمنابر الثقافية كلها: «الجديد» لرشاد رشدي، و«الثقافة» لعبد العزيز الدسوقي، و«الكاتب» لصلاح عبد الصبور الواجهة الرخوة، و«الهلال» لصالح جودت.

أما «الطليعة» فقد أصبحت لها «ميزانيتها المستقلة» التي تضمن لها الموت البطيء.

ومنذ أوائل ١٩٧٥م حتى الآن تفرَّغ رجال الأمن في القبض على الكتَّاب الوطنيين والتقدميين الذين اختاروا «الداخل» ميدانًا للنضال.

ويبدو المشهد الثقافي المصري الراهن، وكأن مؤامرة ٦٥ قد أثمرت عام ١٩٧٥م فالمثقفون موزَّعون بين العواصم العربية والمعتقلات، أو هم في بيوتهم أو على أسِرَّة المستشفيات «مرتاحون» من العمل!

وهو مشهد مأساوي بحق، تبدو معه الأمور كما لو أنها آلَت إلى انتهاء، وأن الصراع قد حُسم لمصلحة اليمين والتخلف والغزوة الاستعمارية.

ولكنها — على وجه اليقين — نتيجة خاطئة! فالصراع ما زال محتدمًا، بل هو في أوج الذروة يدخل رحاب مرحلة جديدة، فما يظهر لنا من فوق السطح لا يدلنا على ما يضطرم به العمق.

إن الماء يجري تحت العشب.

١  إشارة إلى قصيدة صلاح عبد الصبور الشهيرة.
٢  وقد اعتقلت قوات الأمن صلاح عيسى وبعض أفراد أسرة «الكاتب» بناءً على توجيهات السباعي التي أثمرت مساعيها الحميدة في حادث بورسعيد حين أراد بعض الأدباء الشباب عرض مسرحية لهم فقبض عليهم، وكذلك حين ذهبت المباحث للقبض على الكاتب سعد كامل ولما لم تجده علَّق الضابط المكلَّف قائلًا «غريبة، لقد أخبرنا يوسف بك السباعي أنه هنا»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤