الفصل الثالث

المنطق

المنطق علم يجمع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز، وحكم الإسلام فيه — بهذه المثابة — واضح لا يجوز فيه الخلاف؛ لأن القرآن الكريم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز، ومحاسبته على تعطيل عقله، وضلال تفكيره …

بيد أننا نحتاج إلى التفرقة بين شيئين مختلفين في هذا الموضوع قبل أن نعرض لفتاوى الفقهاء فيه بتحريم أو تحليل؛ وهما: المنطق والجدل أو الخطاب الإقناعي، فإنهما ليختلفان ويتباعدان حتى ينتهي الاختلاف والتباعد بهما إلى الطرفين النقيضين …

فالمنطق بحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم، والتمييز الصحيح، والجدل بحث عن الغلبة والإلزام بالحجة، قد يرمي إلى الكسب والدفاع عن مصلحة مطلوبة، وقد يتحرى مجرد المسابقة للفوز على الخصم وإفحامه في مجال المناقضة واللجاج.

وقد ظهر المنطق والجدل بين اليونان الأقدمين، فأكبروا المنطق، ونظروا إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار، وهو الذي سموه — بعد — بالسفسطة، أو ترفقوا فسمَّوه علم البراهين الخطابية Rhetoric، وحسبوه صناعة لازمة في معرض الإقناع والتأثير …

وكان اسم «السفسطة» في نشأته الأولى معظمًا مبجلًا بين الحكماء وتلاميذهم وجمهرة المعنيين بالحكمة والمعرفة، وكان اسم «السوفيست» أعظم شأنًا من اسم الفيلسوف؛ لأن السوفيست ينتمي إلى ربة الحكمة «صوفية»؛ فهو الحكيم الذي ألهمته تلك الربة، وفرغ من مؤنة المعرفة.

فلما ظهر الحكيم «فيثاغوراس» استكبر هذه الدعوى وتواضع فسمى نفسه فيلسوفًا؛ أي محبًّا للحكمة يطلبها، ولا يزعم أنه وصل إليها، ثم نجم بعد قرن من عصر فيثاغوراس ناجم من فتنة الحذلقة باسم الحكمة يقودها بروتاغوراس Protagoras الأبديري، فراح يتحدى من ينكر عليه العلم أن يسأله فيما يشاء، وهو كفيل بالإجابة عليه بلا وقاء، وعدل عن اسم الفيلسوف الذي يقنع بمحبة الحكمة إلى اسم «السوفيست» مرة أخرى؛ لزعمه أنه ملك الحكمة واستوفاها.

وغلبت كلمة «السفسطة» من هنا على كل من يدعي هذه الدعوى، ويتحذلق هذه الحذلقة، وكثر الاشتغال بالبرهان في المنازعات القضائية والمناقشات السياسية، فانفصلت الصناعتان باتفاق المعلمين والمتعلمين، وصرَّح أصحاب كل صناعة بما يريدونه من عملهم وتعليمهم، وأصبح من المفهوم المتفاهم عليه أنَّ المنطق بحث عن الحقيقة، وأنَّ الجدل بحث عن المصلحة أو الرغبة المتنازع عليها.

وتصدى لتعليم الجدل أو البراهين الخطابية أناس يقصدهم المتعلمون؛ ليعرفوا كيف ينتصرون على خصومهم في مجال المنازعة والملاحاة، ويضع الآباء أبناءهم في كفالتهم ليُدرِّبوهم على صناعة التقاضي والتأثير في سبيل الإقناع بالحُجَّة، أيًّا كان حظُّها من الحقيقة …

ومما يحكى عن أستاذ سفسطائي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة خلال عامين بأجر متفق عليه، فلما انتهى العامان طلب الأستاذ أجره، وقال التلميذ: بل أناقشك في هذا الأجر؛ هل تستحقه بعملك، أو تطلبه بغير حق؟ فإن أقنعتك بأنك لا تستحقه؛ فلا حق لك فيه باعترافك، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف، وإن لم أقنعك فلا حق لك فيه؛ لأنك لم تعلمني كيف أُقيم البرهان على دعواي.

وكان جواب الأستاذ — كمثال تلميذه — مثلًا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة، فقال له: إنني أقبَلُ أن أناقشك، ولكني على غير النتيجة التي خلصت إليها؛ أناقشك في حقي فتعطيه مرة إذا ثبت عليك، وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك؛ لأنني علَّمتُ تلميذًا ما يغلب به أستاذه في صناعة البرهان، مع اتفاقهما أولًا على الحق الذي يتنازعانه في النهاية …

وبلغ من التفاهم على الفصل بين البرهان والحقيقة في صناعة الجدل أنهم أصبحوا يقولون عن الحجة: إنها حجة خطابية؛ أي تقنع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة، ويقولون عن السؤال: إنه سؤال خطابي؛ أي لا يُراد منه جواب معلوم عن توجيه السؤال، كقول الخطيب للسامعين في معرض الزجر والاستثارة: هل أنتم وطنيون؟ هل أنتم سامعون؟ إلى أمثال هذه الأسئلة التي يسألها المتكلم ليُؤثِّر بها على مستمعيه لا لأنه ينتظر الجواب عليها …

وصرح أهل هذه الصناعة بأن السؤال الخطابي قد ينقض الحقيقة إذا ورد في صيغة الخطاب دون أن يزيد فيها حرفًا أو كلمة، ومن أمثلتهم على ذلك أنَّ مجرمًا قُضي عليه أن يقف في جمع حافل، ويشهد على نفسه بالسرقة؛ فينادي فيهم: أنا مجرم. ويكررها ثلاث مرات.

فلما وقف في الجمع الحافل نادى كما أمروه ولكن بصيغة الخطاب، فطفق يقول كأنه يستفهم ويستنكر: أيها الناس، أنا مجرم؟! أنا مجرم أيها الناس؟! فكان في صيغة السؤال الخطابية إنكار للاعتراف الذي أرادوه عليه، دون أن يزيد حرفًا أو كلمة في عبارة الاعتراف …

هذه الصناعة — صناعة الجدل — ليست في شيء من المنطق القويم المطلوب للبحث عن الحقيقة، ولكنها صناعة يتعلمها طالبها وهو عالم أنه ينشد الغلبة على خصومه في المناقشة بالحق أو بالباطل؛ فإن لم يتعلمها عامدًا هذا العمد، فقد ينساق إليها بطبيعة الجدل وشهوة المغالبة، فيؤثر المغالطة على المصارحة، ويصر على المكابرة مجهلةً بالحقيقة، أو مكابرةً فيها …

وما من أمة فتح فيها باب الجدل وغلبت فيها شهواته ثم سلمت من جرائرها، سواء كانت هذه الآفة مما ينجم عن تعليم الصناعة، أو كانت مما تخلقه اللجاجة والتمادي في الملاحاة والبغضاء …

وقد ضرب المثل بالجدل «البيزنطي» في طول اللجاجة وسوء العاقبة، وقلة الجدوى لطلاب الحقيقة والصلاح، ولكن البيزنطيين لم يكونوا بدعًا في هذه الآفة، ولم ينفردوا بالجدل على غير طائل كلما فتحت أبوابه على مصطلحات المنطق، أو على غير مصطلح مفهوم غير اللدد والعناد؛ فإن بني إسرائيل قد سبقوا البيزنطيين إلى أمثال هذه المجادلات الخاوية إلا من الباطل والشحناء، وجاء السيد المسيح إليهم فوجد فيهم طائفة الكتبة والفريسيين لا عمل لها غير اختلاق الحيل والشراك؛ لاقتناص الناس بمغالطات الألفاظ وألاعيب الحذلقة والتمويه.

وكان لتلك الآفة صرعاها بين البيزنطيين كما كان لها صرعاها قبلهم بين بني إسرائيل، فكانت آفة الجدل على أبناء القرون الوسطى من المشتغلين بالفلسفة والمنطق، أو بالتفسيرات الدينية والمهاترات المذهبية أشد عليهم من آفة الجهل والجمود على التقاليد …

ويؤخذ من أخبار الأمم التي امتحنت بالمنازعات الجدلية أنَّ هذه الآفة مرض اجتماعي تتشابه أعراضه في الأمم، ولا تنحصر في اليونان أو بني إسرائيل، فلا يزال الجدل حيث كان مقترنًا بأعراضه الوبيلة، وأشهرها وأوبلها ثلاثة؛ وهي: إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون الجوهر واللباب من حقائق الأمور، وإثارة البغضاء والشحناء على غير طائل ولعًا بالغلبة والاستعلاء؛ بدعوى العلم والصواب، وإشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة إلى غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف. فتنقسم الأمة إلى شيع، وتنقسم الشيعة إلى فرق، وتنقسم الفرقة إلى شعب وفروع حتى لا تبقى فئة واحدة على رأي واحد وإن قلت في العدد، وصغرت في منزلة التفكير.

ولما انتقلت هذه الآفة إلى الأمم الإسلامية فشت فيها هذه الأعراض جميعًا، ولمس الخاصة والعامة أضرارها في بيئات العلم والدين، وتشاءم بها المسلمون أشد من تشاؤم اليونان بالسفسطائيين والمسيحيين الأولين بالكتبة والفريسيين؛ لأن مجادلات السفسطة والتأويل نجمت في اليونان وبني إسرائيل من بين أنفسهم، ولم تنتقل إليهم من الأجانب الغرباء عنهم.

أما فتنة الجدل ومصطلحاته الكلامية فقد انتقلت إلى المسلمين من أمم غريبة على أيدي التراجمة الدخلاء، فتسربت إلى الأذهان شبهات كثيرة من أمرها، ووهم بعض الخاصة — فضلًا عن العامة — أنها مكيدة مبيتة للأمة الإسلامية تواطأ عليها أعداؤها من خارجها وداخلها، وتداولت الألسنة قصصًا عن نقل هذه العلوم الدخيلة تشبه الأساطير ونوادر الرواة والمتخيلين.

ومن أمثلة هذه الشوائع المترددة ما رواه جلال الدين السيوطي عن الشيخ نصر المقدسي من كتابه «الحجة في تارك المحجة»؛ حيث يقول: «إنَّ بني العباس قامت دولتهم على الفرس، وكانت الرياسة فيهم وفي قلوب أكثر الرؤساء منهم الكفر والبغض للعرب ودولة الإسلام، فأحدثوا في الإسلام الحوادث التي تؤذن بهلاك الإسلام، ولولا أنَّ الله تبارك وتعالى وعد نبيه أنَّ ملته وأهلها هم الظاهرون ليوم القيامة لأبطلوا الإسلام، ولكنهم قد ثلموه وعوروا أركانه، والله ينجز وعده إن شاء الله …»

ثم يقول: «فأول الحوادث التي أحدثوها إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام، فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين، وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام يحيى بن خالد بن برمك، وذلك أنَّ كتب اليونانية كانت ببلد الروم، وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية، ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم، وتتفرق جماعتهم، فجمع الكتب في موضع، وبنى عليها بناء مُطَمْئنًا بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها.

فلما أفضت رياسة بني العباس إلى يحيى بن خالد، وكان زنديقًا، بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم، فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة، فلما أكثر عليه جمع الملكُ بطارقتَه وقال لهم: إنَّ هذا الرجل خادم العربي أكثر عليَّ من هداياه ولا يطلب مني حاجة، وما أراه إلا يلتمس حاجة، وأخاف أن تكون حاجته تشقُّ عليَّ.

فلما جاءه رسول يحيى قال له: قُلْ لصاحبك: إن كانت له حاجة فليذكرها. فلما أخبر الرسولُ يحيى ردَّه إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء يرسلها إليَّ، أَخرِجْ منها بعض ما أحتاج إليه، وأردها إليه. فلما قرأ الرومي كتابه استطار فرحًا، وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو عن حاجة، وقد أفصح بحاجته، وهي أخف الحوائج عليَّ، وقد رأيت رأيًا فاسمعوه؛ فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا، فقالوا: وما هو؟ قال: حاجتُه الكتبُ اليونانية يستخرج منها ما يحب ويردُّها، فقالوا: فما رأيك؟

قال: قد علمت أنه ما بنى عليها من كان قبلنا إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرءوها كانت سببًا لهلاك دينهم، وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألا يردَّها؛ يُبتلون بها ونسلَمُ نحن من شرها، فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس، فيقعوا فيما خِيف عليهم، فقالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك؛ فأمضه …»

•••

وهذه قصة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجدل باسم المنطق المزيف، فإنها أشبه شيء بالنقمة التي يصبُّها العدو على عدوه، أو بالمكيدة التي يدسُّها عليه؛ ليشغله بالشقاق والشتات عن مهام دنياه، ومطالب دينه.

وهذه المحنة هي التي أرادها من أرادها بالحظر والتحريم من علماء المسلمين، فمنعوا الاشتغال بالجدل سدًّا للذرائع، واتقاءً للفرقة التي تبلبل الأذهان، وتفسد القلوب، وتجر إلى هذه المشكلات أهل الفضول والبطالة، فيوبقون معهم طوائف الأبرياء من أهل الجد والاستقامة الذين لا طاقة لهم بالمنطق ولا بالجدال.

وكان دخول مصطلحات اليونان على أيدي أناس يجهلون العربية، ويعجزون عن فهم ألفاظ القرآن ومعانيه بابًا آخر من أبواب الخلط والغلط في تطبيق البرهان والقياس …

فمن كان من أصحاب المنطق أهلًا لفهمه ومعرفة وجوهه لم يكن أهلًا لتطبيقها على معاني القرآن وعباراته؛ لجهله بذوق اللغة وأسرار بلاغتها، ومن كان يعرف اللغة لم يكن من ذوي المعرفة بالبرهان والقياس. وشر من هؤلاء من يجهلون اللغة كما يجهلون المنطق، ثم يهرفون بما لا يعرفون في شئون ترتبط بها سلامة المجتمع، وطمأنينة الخواطر، وشر من هؤلاء أجمعين من يعرفون اللغة والمنطق، ويسيئون النية عمدًا لإزعاج الخواطر المطمئنة، وتقويض المجتمع السليم …

وكل ما ورد عن علماء الإسلام الذين حرموا الجدل، فإنما ينصرف إلى منع هذه اللجاجة التي لمسوا شرورها، وتحققوا من جريرتها، ولم يلمسوا معها منفعة تتحقق بالجدل ولا تتحقق بغيره. فما يغير قومًا من الأقوام خطب أفدح عليهم من اشتغالهم بالجدل، وتركهم العمل، كما قال الإمام الأوزاعي. وأسلم المواقف عند ذوي البصر بالدين إذا احتدم الخصام، وشاع المراء والاتهام، أن يصاب المرء ولا يصيب، وأن يتجنب الخصومة، أو يتجنب فيها كل قول مريب. وجماع ذلك شِعرٌ حسنٌ يتناقلونه عن مصعب بن عبد الله الزبيري، المتوفى قبيل منتصف القرن الثالث، يقول فيه:

أأقعد بعد ما رجفت عظامي
وكان الموت أقرب ما يليني
أخاصم كل معترض خصيم
وأجعل دينه غرضًا لديني
فأترك ما علمت لرأي غيري
وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي لبس
تصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام
يلحن بكل فج أو دجين
وكان الحق ليس به خفاء
أغر كغرة الفلق المبين
وما عوض لنا منهاج «جهم»
بمنهاج ابن آمنة الأمين
فأما ما علمت فقد كفاني
وأما ما جهلت فجنبوني
فلست بمكفر أحدًا يصلي
ولم أجرمكم أن تكفروني
وكنا إخوة نرمي جميعًا
فنرمي كل مرتاب ظنين
فأوشك أن يخر عماد بيت
وينقطع القرين عن القرين
وعلى كثرة الفقهاء الذين عرضوا لهذا الموضوع لا تجد واحدًا منهم قصد بالمنع أو التحريم شيئًا غير هذا الجدل العقام الذي يمزق وحدة الجماعة، ويصرف العقل عن الفهم، ويأتي إلى المعنى الواضح فيغمضه، ولا يتفق له يومًا أن يأتي إلى الغامض فيجلوه ويقربه لمن خفي عليه. فهم في الواقع إنما ينقذون العقل من ضلالة تغشاه فتحجب عنه الحقيقة، ويعيذونه أن يخبط في النهار المبين خبط عشواء.١

وأكبر الفقهاء الذين أفاضوا في بحث هذه المسألة ثلاثة من الأئمة المجتهدين؛ هم: الغزالي، وابن تيمية، وجلال الدين السيوطي، وآخرهم جلال الدين يتابع الإمامين السابقين، ويقتدي بهما في علوم الرياضة والفلسفة، ويقول عن نفسه: إنه ليس من أهل هذه العلوم، كما قال في كتابه حسن المحاضرة: «… وأما علم الحساب فهو أعسر شيء عليَّ، وأبعد عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما جبلًا أحمله.»

وإذا أحيل البحث إلى الإمامين الغزالي وابن تيمية، فنحن بين يدي حجتين من حجج المنطق لا يسبقهما فيه سابق من المتقدمين أو المتأخرين، ومناقشتهما للمنطق مناقشة تصحيح وتنقيح، وليست مناقشة هدم للأسس التي يقوم عليها، أو تفنيد للأصول التي يرجع إليها؛ فهما يريدان إثبات الخطأ على من يسيئون تطبيق القياس والبرهان، ولا يريدان محو القياس والبرهان في علم من علوم الدين أو الدنيا التي جاءت من اليونان، أو نشأت بين المسلمين …

فالغزالي في مفتتح الجزء الأول من كتابه «المستصفى» يذكر من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر، ويحسن إيراد البرهان وإجراء القياس، وكان ينعى على العلماء أنهم لا يشتغلون بتحصيل هذا العلم، فقال من كلامه على أحاصيل الفلسفة في كتابه المنقذ من الضلال: «إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلعه على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا.

ولم أَرَ أحدًا من علماء الإسلام صرف همته وعنايته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم؛ حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يُظن الاغترار بها بغافل عاميٍّ فضلًا عمن يدعي حقائق العلوم، فعلمت أنَّ رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية.٢ فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ومعلم، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التدريس.»

وبعد دراسة المنطق رأى الغزالي أنَّ خطأ المناطقة إنما يعتريهم من ناحية التطبيق، ولا عيب في أصول النظر على استقامة فهمها، وصدق الرغبة في المعرفة الصحيحة، ومن ذلك قوله في كتاب مقاصد الفلاسفة: «أما المنطقيات فأكثرها على منهج الصواب، والخطأ نادر فيها، وإنما يخالفون أهل الحق فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد.»

ومن كلامه في فاتحة كتاب محك النظر: «إنك إن التمست شرط القياس الصحيح، والحد الصحيح، والتنبيه على منارات الغلط فيها وُفِّقْتَ للجمع بين الأمرين؛ فإنها رباط العلوم كلها.»

ويقول في ختام كتابه الميزان: «لو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للقلب، وناهيك به نفعًا؛ إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. نعوذ بالله من ذلك.»

وهو في جميع كتبه يحرم التقليد على من يستطيع الدرس والاهتداء بالتفكير السليم إلى حقائق الدين وسيرته، كما روى عن نفسه مثل لما ينبغي لطالب المعرفة أن يتحراه من البحث عن الحقيقة أينما وجدها، أو قاده السعي إليها، قال في مقدمة المنقذ من الضلال: «ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن — وقد أنافت السن على الخمسين — أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن٣ ومبتدع، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرًا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدًا إلا وأرصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا متعطلًا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله تعالى.»

فالعقل عند الإمام الغزالي هو العقل في شرعة الإسلام، كلاهما عقل يبتغي الحقيقة حيث كانت، ولا يحجم عن المعرفة حيث أصابها، ولا يقيم فوقه أو بين يديه بابًا مغلقًا دون قبس من النور يريه ما لم يكن رآه، أو يزيده بصيرة بما رآه.

وإنما تناول بالتحريم عملًا ليس من أعمال العقل، ولا هو مما تسيغه العقول الرشيدة، وهو تعريض العامي المقلد للمشكلات التي لا يدركها، ولا يتوفر على درسها وإدراكها، وكل ما يجنيه من يعرضه لها أن يسلبه طمأنينة التقليد، ولا يعوضه منها غير القلق والاضطراب وسوء الطوية، وليس في ابتلاء العامي المقلد بهذه المحنة شيء من العقل، ولا في تجنيبه مضرتها ووبال عُقباها مخالفة للعقل، أو حجر عليه.

ويخشى الغزالي فتنة الجدل على الثراثرة المتحذلقين كما يخشاها على العامة المقلدين؛ فهم كالعامة المقلدين أو شر منهم في مصابهم بمضار الجدل، وعجزهم عن الاستفادة من خوض مزالقه وغواياته، قال في الجزء الأول من الإحياء: «وأما المبتدع بعد أن تعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا؛ فقلَّما ينفع معه الكلام؛ فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه، وقدَّر أن عند غيره جوابًا ما هو عاجز عنه، وإنما أنت مُلَبِّسٌ عليه بقوة المجادلة.

وأما العامي إذا صُرف عن الحق بنوع جدل، فيمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم …»

•••

وموقف الإمام ابن تيمية من المنطق والجدل شبيه بموقف الإمام الغزالي، ولكنه يرى أنَّ المنطق سليقة في العقل الإنساني يستغني عنه الذكي، ولا ينتفع به البليد إذا جاء على غير سليقة واستعداد. ومن كان هذا رأيه في المنطق فمحال أن يقال عنه: إنه يلغيه ويحرمه؛ لأنه لا يلغي الفطرة، ولا يحرم تركيبًا أودعه الله نفوس خلقه.

ومن نظر في كتب ابن تيمية التي ناقض بها أدعياء المنطق وعشاق الجدل علم أنه كان بصدد إنشاء منطق صحيح، وهداية إلى تطبيق أصول المنطق القويم، ولم يكن متصديًا لهدم المنطق من أساسه على جميع وجوهه، وفي جميع تطبيقاته؛ فهو يستخدم قضايا المنطق ليبطل دعوى المناطقة الذين يضعون الحدود في غير مواضعها، ويقيسون الأشباه والنقائض بغير قياسها، ويهدرون الحقائق في سبيل المصطلحات والألفاظ بغير دراية لمعناها.

ومن تخطئته لهم في فهم «الحد» نتبين أنه لا يبطل الحد، ولكنه يبطل قول القائلين أنَّ التصور موقوف عليه، وكلامه عن الحد مثل لكلامه في القياس والقضية وسائر المصطلحات المنطقية، وفيه يقول كما لخصه السيوطي من كتاب «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان»: «قولهم: إنَّ التصور لا ينال إلا بالحد، الكلامُ عليه من وجوه …»

  • الأول: لا ريب أنَّ النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لا بد لها من دليل. وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم، فقولهم: لا تحصل التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية. فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولًا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسًا لميزان العلم، ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره …
  • الثاني: أن يقال: الحد يراد به نفس المحدود، وليس مرادهم هنا، ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا. وهو تفصيل على الاسم بالإجمال، فيقال: إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول، وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني بطل سلبهم، وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد …
  • الثالث: أنَّ الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات، وأهل الأعمال والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحدٍّ، ولا نجد أحدًا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود، لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات، مع أنهم يتصورون مفردات علمهم، فعُلِم استغناء التصور عن هذه الحدود …
  • الرابع: إلى الساعة لا يعلم الناس حدًّا مستقيمًا على أصلهم، بل أظهر الأشياء — وحدُّه بالحيوان الناطق — فيه الاعتراضات المشهورة، وكذا حدُّ الشمس وأمثاله، حتى إنَّ النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدًّا، وكلها معترضة على أصلهم، والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدًّا، وكلها أيضًا معترضة.

    وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل. فلو كان تصور الأشياء موقوفًا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئًا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور، فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق؛ فلا يكون عند بني آدم علم من عامة علومهم. وهذا من أعظم السفسطة …

  • الخامس: أنَّ تصور الحاجة إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة، وهو المركب من الجنس والفصل. وهذا الحد إما متعذر أو متعسر، كما قد أقروا بذلك، وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائمًا أو غالبًا، وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصور عن الحد …
  • السادس: أنَّ الحدود عندهم إنما تكون للحقائق المركبة، وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما ما لا تركيب فيه، وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس — كما مثله بعضهم بالعقل — فليس له حد، وقد عرفوه، وهو من التصورات المطلوبة عندهم. فعلم استغناء التصور عن الحد. بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى؛ لأنها أقرب إلى الجنس، وأشخاصها مشهورة.

    وهم يقولون: إنَّ التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي؛ بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة، وتصور العقل من هذا الباب. وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي …

  • السابع: أنَّ سامع الحد إن لم يكن عارفًا قبل ذلك بمفردات ألفاظه ودلالاتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى الموضوع له مسبوق بتصور المعنى، وإن كان متصورًا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه امتنع أن يقال: إنما تصوره بسماعه …
  • الثامن: إذا كان الحد قول الحاد، فمعلوم أنَّ تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد تصور ما يقوله بدون لفظ، والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية، فكيف يقال: لا تتصور المفردات إلا بالحد …
  • التاسع: إنَّ الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات، أو الباطنة كالجوع والحب والبغض، والفرح والحزن، واللذة والألم، والإرادة والكراهة وأمثال ذلك، وكلها غنية عن الحد …
  • العاشر: أنهم يقولون: للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع، وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة، وبالمعارضة تارة أخرى — ومعلوم أنَّ كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود — علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد، وهو المطلوب …
  • الحادي عشر: أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيًّا لا يحتاج إلى حد، وحينئذ يقال: كون العلم بديهيًّا أو نظريًّا من الأمور النسبية الإضافية، فقد يكون النظري عند رجل بديهيًّا عند غيره؛ لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن، والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتًا لا ينضبط؛ فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيًّا كذلك أيضًا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا، ولا يحتاج إلى حد …

ثم ينتقل الإمام إلى تعريف الحد فيقول: «المحققون من النظار على أنَّ الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، فالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته، وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم — تقليدًا لهم — من الإسلاميين وغيرهم.

فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني، وأما سائر النظار — من جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم — فعندهم: إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر، وأبي إسحق، وابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وإمام الحرمين، والنسفي، وأبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار، والطوشي، ومحمد بن الهيثم وغيرهم.

ثم إنَّ ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعًا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم، وهم إذا تدبروا وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية …»

•••

فهذا وما جرى مجراه من كلام الإمام ابن تيمية تصحيح للمنطق، وتحرير للعقل من قيود المصطلحات التي تعوقه عن النظر السليم، ولا تطلقه على سوائه، ووجهته أنَّ المنطق مقيد بالعقل، وليس العقل مقيدًا بالمنطق كما جعله المقلدون من عباد الألفاظ، وأصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة.

ومن إحاطة هذا الإمام الثبت بفنون البحث أن يستقصيه إثباتًا ونفيًا في كل باب من أبوابه، وعلى كل منهج من مناهجه، سواء منها ما شاع في عصره، وما ندر في ذلك العصر وشاع في الزمن الأخير حتى حسبه بعضهم من مخترعات العصر الحديث؛ كالاستقراء الذي يشبه الإحصاء، والمقارنة بالأرقام والمقادير.

فمن حججه على أدعياء المنطق وأصحاب الجدل مشاهدات الواقع وإحصاءاته المحسوسة التي أثبتت له قلة جدوى المصطلحات المنطقية في الفهم والتفاهم، والتوفيق بين الآراء وتقريب العقول من الإقناع والاقتناع، قال في كتابه نقض المنطق: «إنك تجدهم أعظم الناس شكًّا واضطرابًا، وأضعف الناس علمًا ويقينًا. وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا، وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل.

ومن المعلوم أنَّ الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال؛ ولهذا تجد غالب حججهم تتكفأ؛ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر، وقد قيل: إنَّ الأشعري — مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك — صنف في آخر عمره كتابًا في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام؛ فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها.

وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: «أكثر الناس شكًّا عند الموت أهل الكلام». وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب — باب الحيرة والشك والاضطراب — لكن هو مسرف في هذا الباب، بحيث إنه يتهم في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئًا ويثبت على نوع من الحق، لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض؛ بل لا بد فيه من نوع من الحق.

وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي، كان يقول: أستلقي على قفاي، وأضع الملحفة على نصف وجهي، ثم أذكر المقالات، وحجج هؤلاء وهؤلاء، واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى مطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء؛ ولهذا أنشد الخطابي:

حجج تهافت كالزجاج تخالها
حقًّا وكل كاسر مكسور

فإذا كانت هذه حال حججهم، فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا؟!»

ثم استطرد من هذا قائلًا ما فحواه: إنَّ الخلاف يقل كلما قل المنطق، ويكثر ويشتد كلما كثرت مناقشاته، واشتدت منازعاته. وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقَّاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل أبي الحسن البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله.

وأيضًا تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أنَّ الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان، وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقًا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب؛ كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.

فالمعتزلة أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات؛ بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال. وقد ذكر في جميع مقالات الأوائل؛ مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب الدقائق من مقالاتهم ما يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما أضعافًا مضاعفة …

وأهل الإثبات من المتكلمين، مثل الكلابية والكرامية والأشعرية، أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة؛ فإن في المعتزلة من الاختلاف وتكفير بعضهم بعضًا حتى ليكفر التلميذ أستاذه من جنس ما بين الخوارج. وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه؛ فلست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند مَن ترك ذلك وقدَّم غيره عليه …

وقد سلك ابن تيمية هذا المسلك في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه التي أدارها على مناقضة الجدليين والمناطقة المتشبثين بالمصطلحات والتعريفات اللفظية، فلا يسع منصفًا أن يظن به أنه يحرم الحجة والبرهان. وهذه حججه وبراهينه تعتمد على الدليل والقرينة والاستقراء والمشاهدة، وكل ما تنتظم به قضايا المنطق ودعاواه.

وغاية ما يقوله المنصف: إنَّ التحريم عنده مقصود به اللغو والجدل والولع بالسفسطة على غير جدوى، وإنه تحكيم للعقل في المنطق إنقاذًا له من تحكيم المنطق فيه، ولا يكون المنطق متحكمًا في العقل صارفًا له عن النظر القويم إلا إذا غلبت فيه أشكال اللفظ والصيغة على حقائق المعنى وجواهره. فهو بهذه المثابة ربقة للعقول ينبغي للمفكرين أن يطلقوها من شباكها؛ ليستقيموا بها على سوائها …

وما كان ابن تيمية بالذي يظن به أن يعادي المنطق لأنه يجهله ويستخف به مداراة لعجزه عنه؛ فإن معرفته به ظاهرة في معارض قوله كأنه من زمرة المتخصصين له، والمتفرغين لدراسته وحذق أساليبه، ومثل هذا لا يتصدى للمنطق إلا أن يكون فيه ما يخشى ضرره على الناس، ولا سيما المشتغلين به من غير أهله …

ولقد تصدى للمناطقة الجدليين هذان الإمامان الجليلان — أبو حامد الغزالي وابن تيمية — وكلاهما يلقب بحجة الإسلام، ويدل تلقيبه بهذا اللقب على المكانة التي استحقاها بين المسلمين بالقدرة على الاحتجاج وإقامة الدليل؛ فليس من شأن علماء الإسلام ولا من شأن المسلمين الذين يجلونهم، ويقتدون بهم، ويستمعون إليهم، أن تسقط عندهم الحجة، ويبطل بينهم الإقناع، وما خسر من المنطق شيئًا من خلصت له الحجة القائمة؛ فإن إقامة الحجة هي المنطق السليم في جوهره الصحيح منطلقًا من عوائق الأشكال والعناوين …

ولا يخفى أنَّ للمسلمين عقيدة واحدة فيما يرجع إلى أوامر القرآن ونواهيه، وإلى الصريح من نصوص التحليل والتحريم فيه. فلا مذاهب هنا ولا شيع ولا تأويلات، ومتى صرح الكتاب المبين بوجوب التعويل على العقل، أو فوض للإنسان حق التعويل على عقله، فليس لمسلم أن ينازع في هذا الحق أو في ذلك الواجب، ولكن الإسلام — كما هو معلوم — قد دانت به شعوب متفرقة الأصول والأجناس واللغات، جاءته بتراث في عاداتها وأفكارها، فسرى هذا الاختلاف إلى تفسيراتها لبعض الآيات، وتأويلاتها لبعض الأقوال والعبارات.

ويجوز أن يقع هذا الاختلاف فيما يتعلق بمواضع النظر، وأساليب الفهم والتفكير، وهكذا خطر لبعض المستشرقين وكتاب الغرب الذين بحثوا في علاقة اختلاف الشعوب باختلاف مذاهب النظر والاجتهاد، فظن بعضهم أنَّ طوائف الشيعة آمنت بالإمام لأنها ورثت تقديس الرؤساء والأحبار، وقيدت من حق العقل في البحث والفهم بمقدار ما أطلقت من سلطان الإمام، ووكلت إليه من حق القيادة والإرشاد …

وفي هذا الظن من المستشرقين وهمٌ لا شك فيه؛ لأن هذه المسألة بذاتها — مسألة الدراسة العقلية — قد كانت في طليعة المسائل التي اشتغل بها الشيعة الإماميون، ومن أفواه الشيعة الإماميين تلقى أساطين الفلسفة الإسلامية كلامهم في العقل والنفس، وفي مذهب الأفلاطونية الحديثة ومذهب أفلوطين منها على التخصيص.

ويقول الشيخ الرئيس ابن سينا فيما رواه عنه تلميذه الجوزجاني: «كان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمعت منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي» …

والفارابي أستاذ ابن سينا بالاطلاع والقدوة نشأ فيما وراء النهر، ووعى أقوال الشيعة الإمامية في شروط الإمامة، ومزج بينها وبين شروط أفلاطون في كتاب الجمهورية، فجعل الإمام صفوة الخلق في كمال الصفات، واجتماع الفضائل العقلية والنفسية؛ بل فضائل الجسد التي تنزهت عن شوائب الضعف والمرض. وكان إخوان الصفاء يدينون بمذهب في الإمامة كهذا المذهب، ويؤلفون الرسائل مع هذا في المنطق، وفي علوم الرياضة والفلك وما إليها من علومهم العقلية …

فالدراسات المنطقية — وسائر الدراسات العقلية — كانت من شواغل الشيعة الإماميين، ولم يكن إيمانهم بالإمامة مما يصرف العقل عن التوسع في علم من العلوم، وربما أخذت عليهم طوائف المسلمين إفراطًا في هذا الباب، ولم تأخذ عليهم تفريطًا فيه يتعمدونه أو يساقون إليه على غير عمد.

وإنما كان الإمام عندهم مرجع المختلفين حين ينقطع بهم القياس، ويئول الرأي إلى هداية المعلم فيما جاوز طاقة المتعلمين، وحجتهم في ذلك أنَّ المعرفة لا تتحقق كلها بالقياس، وأنَّ شيئًا وراء القياس ينبغي أن يصار إليه في حال من الأحوال، وهم يلجئون إلى القياس حتى في إثبات هذه الحقيقة، كما يؤخذ من المناقشة المشهورة بين الإمامين جعفر الصادق وأبي حنيفة؛ قال الإمام جعفر: أيهما أكبر يا نعمان؛ القتل أو الزنى؟ قال الإمام أبو حنيفة: القتل، فقال الإمام جعفر: فلم جعل الله في القتل شاهدين، وفي الزنى أربعة؟ أينقاس لك هذا؟ ثم قال: فأيما أكبر؛ البول أو المني؟ قال: البول، قال: فلم أمر الله في البول بالوضوء، وفي المني بالغسل؟ أينقاس لك هذا؟٤ إلى آخر الأمثلة التي ساقها الإمام جعفر … وهي في الواقع قياس للدلالة على أنَّ القياس لا يغني في جميع الأحوال عن الرجوع إلى الإمام المتبوع، فليس هو إنكارًا للقياس، ولكنه إنكار لدعوى من يدعي أنَّ القياس يصلح لكل قضية، ويفض كل خلاف …

ولسنا نقول: إنَّ الأمثلة قاطعة بالحجة؛ لأن الواقع أنَّ إثبات القتل أيسر من إثبات الزنى، وأنَّ تأويل الاختلاف بين طهارة الوضوء وطهارة الغسل لا يمتنع بالدليل المعقول؛ فإن المسألة هنا ليست مسألة مادة تخرج من الجسم وكفى، ولكنها مسألة الاختلاف بين حالة يضطرب لها الجسم كله، وحالة لا اضطراب فيها، كذلك الاضطراب، وهو اختلاف يكفي لتفسير التطهير في إحداهما بالوضوء، والتطهر في الأخرى بالغُسل الذي يعم جميع الأعضاء …

إلا أنَّ المثل الذي ساقه الإمام كان في بيان لزوم القياس حتى في مناقشة القياس على إطلاقه، ولم يخطئ التوفيق جماعة المستشرقين في شيء كما أخطأهم في ظنهم أنَّ تحكيم العقل محظور على طائفة المسلمين؛ لأنها ترى في الإمامة رأيًا يخالف جملة الآراء في هذا الباب.

ولعل الروايات التي يتناقلها المستشرقون أنفسهم عن الإسماعيلية والإمامية والفرق التي يسمونها بالباطنية خليقة أن تكون شاهدًا صالحًا عندهم؛ لإفراط هذه الطائفة في الاشتغال بالمنطق لو أرادوا أن يصفوها بالإفراط فيه … أما إنها تنكر المنطق، أو تنكر النظر والقياس، فلا شبهة له مما تناقلوه عنهم من تلك الروايات …

ولا غرابة — بعد — في قيام فرقة بين المسلمين تخالف سائر الفرق في موضوع العقل والمنطق؛ فإن الديانات لم تخلُ قط من أمثال هذا الخلاف على وجه من الوجوه، ولكن الواقع المقرر في هذه المسألة بذاتها أنَّ حرية العقل لا يقيدها في الإسلام حكم مأثور على مذهب راجح أو على مذهب مرجوح …

١  العشواء: مؤنث الأعشى، وهو الذي لا يرى بوضوح لضعف شديد في نظره.
٢  أي في ظلام.
٣  المتسنن الذي يمضي على سنة من كان قبله، وعكسه المبتدع.
٤  مسند الإمام جعفر الصادق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤