الفصل الخامس

العِلْم

العِلْم الذي أمر به القرآن الكريم هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق من شيء … ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة …

أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ [سورة الأعراف: ١٨٥]. أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [سورة الغاشية: ١٧–٢٠]. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة: ١٦٤].

فالعلم في الإسلام يتناول كل موجود، وكل ما يوجد فمن الواجب أن يعلم، فهم علم أعم من العلم الذي يراد لأداء الفرائض والشعائر؛ لأنه عبادة أعم من عبادة الصلاة والصيام؛ إذ كان خير عبادة لله أن يهتدي الإنسان إلى سر الله في خلقه، وأن يعرف حقائق الوجود في نفسه ومن حوله …

ولهذا قال النبي — عليه السلام — في فضل هذه العبادة: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.»

وقال: «إنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء …»

وقال: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع.»

وذُكر له عليه السلام رجلانِ عابد وعالم، فقال: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.»١

وهذا غير الأحاديث النبوية التي وردت في فضل المعرفة والحكمة وفريضة العلم على كل مسلم ومسلمة، مما اجتمعت فيه أوامر الله ونبيه على هذا المعنى المتكرر في مواضع شتى من القرآن الكريم، ومناسبات شتى من الأحاديث النبوية …

وموقف الإسلام من العلم — أو من العلوم عامة — يتبين من موقف علمائه المجتهدين في كل حقبة من تاريخه، الذي تعاقبت به الأجيال بين القوة والضعف، والتقدم والتأخر، والنشاط والجمود؛ فقد مرت بالأمم الإسلامية عصور متخلفة، جهلت فيها الإسلام نفسه، فجهلت فضل العلم كما جهلت فضل الدين.

ولكن الإسلام لم يخل قط تاريخه بين المشرق والمغرب من أئمة مجتهدين، استمدوا حرية الفكر من ينبوع تلك القوة الحيوية التي لا تستنزفها المحن والطوارق، فحفظوا رسالة هذا الدين — ولا فرق بينها وبين رسالة العلم في مقصد من مقاصده — وأوجبوا على المسلم أن يتعلم حيث وجد العلم، وأن ينظر إلى الحكمة كأنها هي ضالته يعنيه أن يبحث عنها ويجدها، «وأينما وجدها فهو أحق بها»، كما تعلم من رسول الله.

واعتقد الأئمة المجتهدون جميعًا أنهم يؤدون أمانة الكتاب في حثهم جماعة المسلمين على طلب المعرفة حيثما وجدوها، فكل معرفة صحيحة فهي معرفة قرآنية إسلامية، على اختلافهم في تفسيرها والنسبة إلى الكتاب الكريم، بين فئة ترى أنَّ المعرفة محتواة فيه إجمالًا وتفصيلًا، وفئة ترى أنَّ المعرفة مطلب من مطالب المؤمن بالكتاب لا يعوقه عائق منه أن يتحراها ويحققها، ويهتدي بها حيثما أصابها …

إنَّ موقف الإسلام من العلم — كتابًا وسنة — لا يحتاج إلى بيان بعد ما تقدمت الإشارة إليه من تلك الآيات والأحاديث …

ولكننا نعتقد أنَّ الدين روح ينبث في الأخلاق والتقاليد إلى جانب النصوص والأحكام، ومن هذا الروح يظهر عمل الدين في الواقع، ولا يحسب لدين من الأديان عمل نافع في حياة البشر ما لم يثبت له هذا العمل بين أتباعه، بما يوحيه إليهم من روح يصدرون عنه فيما تعمدوه ولم يتعمدوه من أفعال أو خلائق وآداب.

وروح الإسلام الذي بثه بين أتباعه يتراءى في تاريخه المتشعب الطويل سماحةً تعصمهم من تلك النقمة التي انصبت على ألوف من الخلق؛ لاستباحتهم من المعارف والدراسات ما تحرمه عليهم معتقداتهم الدينية، أو كُهَّانهم الذين يستأثرون دونهم بتفسير تلك المعتقدات، وربما كانت سماحة الروح الإسلامي في عصور الجمود والجهالة أدل على فضل الإسلام من سماحة أتباعه في عصور القوة والحضارة؛ لأن الدين الذي يعمل عمله في الأخلاق والآداب وقومه جامدون محجوبون عن العلم أقمن بالهداية من دين يعمل وله سند من القوة والحضارة، ولو كان هذا السند قائمًا عليه …

وروح الإسلام في العصور الأخيرة ظاهر في موقف المسلمين من العلوم الحديثة كظهوره في موقف الأئمة المجتهدين، الذين حفزوا قواهم إلى الإقبال على تلك العلوم والتبسط فيها، واعتبار العمل بها أمرًا من أوامر القرآن الكريم؛ فإن العلوم العصرية عرفت باسم العلوم الأوروبية يوم كانت أوروبا كلها حربًا على العالم الإسلامي تغير على بلاده، وتستذل شعوبه، وتقوض ما قام فيهم من دولة وسلطان، وتعفي على البقية الباقية حيث تخلفت للدولة والسلطان بقية تمانع في التسليم والاستسلام.

فكان خليقًا بهذا العداء أن يتمثل في نفوس المسلمين عداء لكل وارد من القارة الباغية، وكل منسوب إلى الأوروبيين المعتدين، ولكن علوم الحضارة الأوروبية لم تجد من المسلمين بعد المقاومة الطبيعية، التي تخلقها المفاجأة أو المصادمة الأولى، إلا كل ترحيب وتقدير، ولعلهم — بعد تلك المصادمة — كانوا بحاجة إلى التحذير من الإفراط، ولم يكونوا يومًا بحاجة جدية إلى التحذير من الإعراض والانقباض والتفريط في تحصيل ما استطاعوه من معارف القوم، كأنها ضالة مرتقبة هم أحق بها ممن يعتدي بها عليهم، ويسومهم من أجلها التسليم والاستسلام.

والإفراط إنما يحذر من محاولة التوفيق بين القرآن الكريم وبين تلك العلوم في كل جليل ودقيق مما ثبت ثبوت اليقين، ومما يعرضه أصحابه عرضًا يحتمل المراجعة، بل يحتمل النقض والإلغاء …

فمن الحق أن نعلم أنَّ كتابنا يأمرنا بالبحث والنظر والتعلم والإحاطة بكل معلوم يصدر عن العقول، ولكن ليس من الحق أن نزعم أنَّ كل ما تستنبطه العقول مطابق للكتاب، مندرج في ألفاظه ومعانيه؛ فإن كثيرًا من آراء العلماء التي يستنبطونها أول الأمر لا يعدو أن يحسب من النظريات التي يصح منها ما يصح، ويبطل منها ما يبطل، ولا تستغني على الدوام عن التعديل وإعادة النظر من حين إلى حين …

وقليل من الأمثلة يغني عن الإفاضة في شرح المنهج السديد الذي يتوخى في الرجوع بنظريات العلم الحديث إلى الآيات القرآنية، وأنفع هذه الأمثلة ما يقتبس من أحدث الآراء في التأويل والتوفيق بين النظريات وآيات الكتاب …

فمن أصحاب التأويل في العصر الحديث من خطر له أنَّ السيارات السبع في المنظومة الشمسية هي المقصودة بالسماوات السبع في القرآن الكريم. وخطأ هذا التأويل ظاهر؛ لأن الفلكيين الذين ذكروا السيارات السبع أدخلوا الكرة الأرضية بينها، ولم يجعلوا الأرض مقابلة للسماء.

وهذا على أنَّ الفلكيين المتأخرين قد كشفوا عن سيارات أخرى لم تكن معروفة للأقدمين، وهي فلك النجيمات وأرانوس ونبتون وبلوطس، وكان الكشف عن هذا السيار متأخرًا، فلم يظهر قبل شهر مارس عام ١٩٣٠، ولا تزال في هذا الفلك الشمسي أجرام سماوية — كالمذنبات والشهب — تدخل في عداد السيارات، ويدور بعضها حول الشمس في مدة أقصر من مدة الدورات التي حسبت لأرانوس ونبتون وبلوطس …

وقد تنبه لهذا الاعتراض الأستاذ هبة الله الشهرستاني صاحب كتاب الهيئة والإسلام، فبدا له أنَّ السيارات الشمسية مشار إليها في القرآن الكريم بالأحد عشر كوكبًا التي ذكرت في سورة يوسف، ولكنه — لمعرفته بعلم الهيئة — يعلم أنَّ السيارات بعد الكشوف الأخيرة عشر وليست بإحدى عشرة: وهي: بلوطس ونبتون وأرانوس وزحل والمشتري والنجيمات والمريخ والأرض والزهرة وعطارد، فقال مستدركًا بعد الإشارة إلى النجيمات: «فإن قلت: إنَّ سيارات شمسنا ليست أكثر من تسع، فلماذا تعد إحدى عشرة؟ قلت: لسنا على يقين من هذا التعليق، ولكن التسعة بعد زيادة السيارات المنفلقة إلى النجيمات تكون عشرة لا يضرنا عدم اندراجها الآن في عداد السيارات؛ لأنها كانت في عدادها سابقًا، وهو كافٍ في مقام إذا نظر إلى ما كان لشمسنا من السيارات بقيت أو عدمت، عرفت أو جهلت.»

وكان من المشجعات حقًّا للفاضل الشهرستاني على اتخاذ هذا الرأي أنه ذهب إليه بعد أن قرأ في تفسير النيسابوري والزمخشري «أنَّ يهوديًّا سأل النبي الأمي عن النجوم التي شاهدها يوسف في المنام، فقال : «جريان وطارق وذبال وقابس وعمودان وفليق ومصبح وضروح وفرع ووثاب وذو الكتفين.» فأسلم اليهودي.»٢

«وهذه الرواية رواها ابن بابويه الصدوق في الخصال عن جابر بطريقين بينهما اختلاف يسير، ورواها الحافظ القمي عن جابر في تفسير قوله تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ثم سمى تلك النجوم بتغيير يسير.»

قال الأستاذ الشهرستاني: «إنَّ اختصاص النجوم من بين نجوم السماء لا بد من أن يكون بصفة مختصة بهذا العدد اليسير لا يشترك فيها سائر النجوم … ويؤيده أيضًا انطباق كثير من هذه الأسامي على سيارات شمسنا … فالجريان أرضنا، وقد ورد إطلاق الجارية على أرضنا في غير هذا الخبر، كما مرَّ تفصيله في المقالة الثالثة عشرة من مسألة تعدد الأرضين … والطارق الزهرة؛ فإن الطارق كوكب الصبح على ما في القاموس، والعرب لا يقصدون في كوكب الصبح غير الزهرة قديمًا وحديثًا.

والذبال على وزن قَطام يطلق في اللغة على النحيف الفاقد للطراوة، وعطارد أيضًا كثير الجفاف فاقد الطراوة من شدة قربه من الشمس، والقابس يطلق في اللغة على ما يكتسب الحر الشديد من نار عظيمة، ونجمة فلكان أيضًا تكتسب الحرارة الشديدة من نار لا نرى أعظم منها لهبًا؛ أعني الشمس، فإن قربها مُفرط من فلكان؛ ولذلك سميت نجمة فلكان بهذا الاسم، فإن فلكان، كما مرَّ، اسم جبل يثير النار، ومُعرَّبه بركان.

والعمودان يحتمل انطباقه على مريخ؛ فإنه لا ينفك عن قمرين تقوم أشعتهما عليه كالعمودين، والفيلق بمعنى المنفلق ينطبق على السيارة العظيمة التي حسبوا كونها بعد مريخ، وتفسخت إلى قطع صغار دوَّارة؛ أعني بها نجيمات المشتري، ويؤخذ شرحها من غرة هذه المسألة. والحاصل أنها قابلة للانطباق على سيارات شمسنا على النظام السابق المبدوء من أرضنا، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم فلكان، ثم المريخ … إلخ … إلخ.»

ويمضي صاحب كتاب الهيئة على هذا النحو في تأويله للعدد الذي جاء في الآية القرآنية، مما يصح أن يحاط به عند التوسع في التفسير، كما ينبغي في تفصيل الشروح الوافية، ولكنه يذكر على سبيل الرواية ولا يذكر على سبيل الجزم بحكم القرآن في مسألة من المسائل، وبخاصة ما كان منها عرضة للمراجعة والمناقشة وتعدد الآراء، ولا نحرص على روايته إلا لأن الصواب والخطأ في هذه التأويلات يدلان معًا على موقف القرآن الكريم في العلم عند المسلمين، فلا حرج عندهم في دراسة النظريات العلمية، ولا مانع في دينهم يمنعهم أن يتقبلوها كأنها مطابقة لآيات التنزيل …

•••

وشبيه بهذا التأويل رجوع بعض المفسرين بالنظرية السديمية إلى آية الدخان في سورة فصلت: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [سورة فصلت: ١١، ١٢].

والنظرية السديمية فكرة قال بها سويد نبرج Swedenborg، ثم فصلها لابلاس Laplace، خلاصتها أنَّ المنظومة الشمسية نشأت من السديم — أي من مادة غازية ملتهبة — بردت وتجمدت وأفلتت من جرمها الكبير أجزاء كثيرة تفرقت، فدارت حول نفسها وحول الجرم الكبير بفعل الجاذبية والحركة المركزية، وأنَّ نشأة النجوم في السماء مماثلة لهذه النشأة، وإن لم تكن من قبيل المنظومات التي تشبه منظوماتنا الشمسية …

وهذه الفكرة شائعة وليست بقاطعة؛ لأن الغازات المنطلقة لا تكون أشد حرارة من الأجرام المتجمعة؛ إذ هي كلما انطلقت تسربت منها الحرارة في فضاء أوسع من حيز الكرة المتجمعة، وليست حركة الغازات بعد تجمعها موافقة للحركة التي تصورها أصحاب هذه النظرية، فضلًا عما ظهر عن حقيقة السحب التي كانت تسمى سديمًا، ثم تحقق أنها جماعات من النجوم تعد بمئات الملايين.

ولا يستطاع البت بقول جازم في النظرية السديمية قبل البت بقول جازم في أصل الأشعة الكونية، وفي النجوم التي تنفجر لابترادها وتكاثفها وتعاظم الضغط على داخلها، واندفاع باطنها إلى خارجها. فربما كانت السدم من مادة النجوم المتفجرة، أو كانت من تجمع الأشعة الكونية، أو كان الفضاء هو مصدر هذه الحركات في أصولها عند الذين يرون أنَّ الفضاء والأثير شيء واحد.

وأيًّا كان مقطع القول في هذه الفروض، فلا ينبغي أن نعدو بها فروضًا يتعاورها٣ الثبوت والنقض على حسب الكشوف والمشاهدات التي تتيسر أدواتها مع الزمن، ولا تزال اليوم في أوائلها …

ويتساوى الحكم على الماضي وعلى المستقبل في هذه الفروض التي يتباعد بها الزمن كما يتباعد بها المكان؛ فلا يقين فيها على الحالين، ولا حسم فيها بين رأيين ما اتسعت للخلاف بين فرضين …

ولا حرج على قائل أن يقول في تقديره، كما قال العالم المجتهد الشيخ طنطاوي جوهري وهو يفسر الآية: «وقد شاهدوا من تلف العوالم اليوم ستين ألف عالم تبرز للوجود من جديد ولا تزال على الحالة السديمية، كما نقلته لك من الكتب الفرنجية في غير هذا المكان، ورأوا أنَّ من تلك العوالم ما هو في أول تكونه، ومنها ما قطع مراحل في تكوينه، ومنها ما قارب التمام، وهي عوالم كعالمنا الشمسي الذي نحن فيه، وستبرز للوجود كما برزت شمسنا وسياراتها وأرضها، وكانت في الأصل دخانًا وستستمر في التكوين، ومدتها نوبتان.

ونحن لا نقدر أن نعرف كيف تكون النوبتان، غاية الأمر أن نقول نوبة للبداية ونوبة للنهاية، ويكون هذا القول من الجمل العامة، وفائدته أنَّ التكوين لم يكن في لحظة واحدة …»

نقول: لا حرج في هذه الفروض والتقديرات على قائل يقول بها، وعليه عهدتها في سبيل البحث عن الحقيقة، ولكن الحرج كل الحرج أن نلزم أحدًا بفروض النظرية السديمية كأنها من دعائم الإيمان بآيات التنزيل …

•••

ونكتفي من هذه الأمثلة بمثل آخر له صبغة تاريخية جغرافية جرى فيها التأويل نحو هذا الجري، وإن لم يرتق الأمر فيه إلى منزلة النظم الفلكية أو أصول التكوين؛ كتعداد السيارات أو النظرية السديمية. وذلك تأويل فاضل من معلمي الرياضة لقوله تعالى في سورة الكهف من قصة ذي القرنين: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف: ٨٦].

فإن المعلم الفاضل يذكر التوندرا Toundras ويقول: «إنها مياه موحلة تشغل صيفًا الأجزاء السفلى من أحواض الأنهار أوبي Obi، وأينسي Ienissi، ولينا Lena بسيبريا، تستحيل شتاء إلى سهل واسع المدى من الجليد.»

ثم يقول في تفسير الآية: «أي في عين ماؤها موحل، أو به طين أسود، أو به طين كريه الرائحة، وليس يعرف في الأقاليم ما شأن الماء فيها هكذا إلا منطقة التوندرا صيفًا، ولا ما شأن الاتساع فيها إلى حد انطباق الأفق على نهايتها حتى يلوح للنظر اختفاء الشمس عندها إلا هي. إذن ما الذي يمنع عن إرادة القرآن لها؟ …

إذا تقرر الأخذ بذلك كان ذو القرنين يرتاد سيبريا، وكان في الشرق من مجرى لينا الأسفل، وسيتأيد ذلك أيضًا مما يأتي في القصص نفسه؛ إذ تقول الجغرافيا الرياضية بطول نهار الصيف في نصف الكرة الشمالي، فيكون زمنه بين ١٢ ساعة و٢٤ ساعة في العروض المختلفة من خط الاستواء إلى الدائرة القطبية الشمالية، وأطول البقاع نهارًا أقربها إلى القطب.

وتقول الجغرافيا الرياضية أيضًا: إنَّ النهار يزيد على أربع وعشرين ساعة في الأماكن التي عروضها شمالي الدائرة القطبية الشمالية؛ إذ يكون النهار شهرًا واحدًا في عرض ٢٣ َ ٦٧°، وشهرين في عرض ٥١ َ ٦٩°، وثلاثة أشهر في عرض ٤٠ َ ٧٣° درجة، وستة أشهر في القطب، وتقول الجغرافيا السياسية: إنَّ هناك مدنًا مأهولة في شمال الدائرة القطبية الشمالية، وفي الشرق من منطقة التوندرا في سيبريا، مثل فركوينسك Verko Yansk عرض ٦٨ درجة شمالًا، فيكون النهار فيها فوق الشهر.
ومثل أوستيانسك Ust-Yonsk عرض ٥٦ َ ٧٠° درجة، فيكون النهار فيها فوق الشهرين، وأقل من الثلاثة، ويقول القرآن الكريم: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا بمعنى بلغ مكانًا تشرق الشمس عليه، فوجدها تظهر على قوم ليس لهم من ورائها ليل. والذي يجعلني أفهم احتمال الآية لهذا المعنى ما يأتي من النقط؛ أولًا: التعبير بكلمة «وجد» الذي يشعر بما يفيد حكاية الحال، أو وصف ما شاهده في ذلك المكان، ثانيًا: أنَّ من معاني دون: وراء وبعد، ثالثًا: أنَّ القرآن عبَّر عن الليل بأنه لباس في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وعبر عنه بأنه يلتصق بالنهار التصاق الجلد باللحم في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ وعبر عنه بأنه يغطي ويستر ضوء النهار بقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وبأنه يغطي ويستر ضوء الشمس بقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وعبَّر بأنه يتبع النهار بقوله تعالى: يَطْلُبُهُ حَثِيثًا، وبأنه يلتف على النهار بقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ.
هذه المعاني المجتمعة وجهت نفسي إلى الاعتقاد بإرادة القرآن الكريم لهذه الحقيقة، ولولا العلم لما تجمعت عناصر هذا المعنى، وبالعلم تحققت آيات القرآن العظيم، وبه يتحقق أيضًا ما خفي من معانيه …»٤

ونقول: إنَّ هذا التفسير اجتهاد حسن من المؤلف لا مانع من نظره، والوقوف به دون الجزم باليقين؛ فإنما يتقرر هذا التفسير يقينًا إذا عرف ذو القرنين وعرفت رحلاته في هذه الوجهة أو في غيرها. والكاتب الباحث يذكر أنَّ ذا القرنين مختلف فيه بين أن يكون الإسكندر المقدوني، أو ملكًا من ملوك حمير.

وعندنا أنه أقرب إلى أن يكون ملكًا له سلطان على اليمن وعلى وادي النهرين، فهو من الذوين كملوك اليمن، ومن لابسي التاج ذي القرنين؛ أحدهما إلى الأمام، والآخر إلى الخلف كبعض ملوك العراق الأقدمين، ولكنه فرض قد تنقضه فروض أخرى تأتي بها الكشوف الأثرية مع الزمن، فلا يجوز القطع به وإلزام المسلمين أن يتقبلوه كما يتقبلون حقائق التنزيل.

وإنه لمن أجمل آداب القرآن العلمية أن يذكر المجتهد أمثال هذا التفسير ويتبعه بتفويض العلم إلى الله: «والله أعلم، وفوق كل ذي علم عليم» … إنَّ القرآن الكريم يقول إنَّ الكتاب لم يفرط في شيء، كما جاء في سورة الأنعام: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام: ٣٨].

وأكثر المفسرين على أنَّ الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ كما جاء في تفسير ابن كثير: أي الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريًّا أو بحريًّا؛ كقوله: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة هود: ٦].

ولكن بعض المفسرين — ومنهم الرازي — يفسر الكتاب هنا بالقرآن الكريم. ولا نزاع بين القولين في تأويل المقصود باشتمال الكتاب على كل شيء؛ فإنهم يعنون أنه يهدي الإنسان إلى كل شيء يحتاج إليه في دينه ودنياه، ومنه طلب العلم والقوة والفضيلة، ولا يقول أحد: إنَّ الكتاب يشتمل على كل شيء تفصيلًا؛ بل إجمالًا في علم الله، لا يعلمه الناس إلا بمقدار. فمَن فهم من ذلك الإجمال معنًى فهو مسئول عنه لا يسأل عنه أحد غيره إلا بحجته وبرهانه. ويتفق الإجماع الذي لا نزاع فيه على الأمر بالعلم، والمؤاخذة على التفريط فيه.

وأيًّا كان الوجه في هذه المسألة؛ فالقسطاس المستقيم فيها بينٌ، والاجتهاد فيها ينتهي إلى حد قائم لا شبهة عليه، فإن الإسلام يأبى كل علم يختلط بأسرار الكهانة والكهان، فكل علم يؤمر به المسلم فهو علم صراح بغير حجاب ولا تنجيم، يهتدي إليه كل مأمور بالنظر قادر عليه.

١  يراجع الجزء الثالث من تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لعبد الرحمن بن علي.
٢  ص٢٣٢ من كتاب الهيئة والإسلام لهبة الله الشهرستاني.
٣  يتعاورها أي يتداولها مرة إلى هذا، ومرة إلى ذاك.
٤  بحث في إشارة آيتين كريمتين. رسالة لطيفة للأستاذ محمد أمين الديك معلم الرياضة، والآيات هي: سورة النبأ: ١٠، سورة يس: ٣٧، سورة الشمس: ٤، سورة الأعراف: ٥٤، سورة الزمر: ٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤