الفصل الثاني

تاريخية القيم والتراث

الإشكالية في مصر

(١) التاريخية … المعنى

إذ نتحدث عن إشكالية نسقٍ ما، فإن هذا يعني بداية رفض الانصياع المطلق لإطارٍ فكري حتى وإن كان له الرواج، أو دفع سدنته بأنه تراث القرون العزيز على النفوس. ويعني ثانيًا أننا أمام مفترق طرقٍ ثقافيةٍ سياسيةٍ اجتماعية، على نحو يوجب مراجعةً لكل ما نملك من رصيد. وأن شهادة الواقع تساؤل واتهام. وبات لزامًا، في إطار هذا الوعي، أن نُحاول الإجابة، لا عن تمردٍ نزق، ولا عن تبعيةٍ عمياء، ولكن في ضوء ولاءٍ عقلاني نقدي للماضي والحاضر؛ الحاضر المحلي والعالمي، أن نفهم موقفنا الذي اخترناه أو وَضْعنا المفروض علينا، وأن ما نقوله لا يتجاوز حدود الفرضية المساعدة على الكشف، أو بمعنًى آخر رفضٌ مطلق لكل ما هو مطلقٌ متزمت، تحت أي دعوى من الدعاوى، وإيمان بالتاريخية؛ تاريخية ظاهرتَي نسق الفكر والقيم وكذا المجتمع. اتصال وانفصال، وجرأة على التماس مفاهيمَ جديدة من حيث المحتوى والاستخدام والإطار. هي استجابة لواقعٍ متغير، لا راكد أو جامد. وبذا تكتسب مفاهيمنا شرعيةً صادقة، وفاعليةً أداتية، وقدرة على الاستجابة والتغيير والإسهام في البناء الحضاري.

والتاريخية تعني من بين ما تعني، أن الإنسان هو صاحب الحاكمية بامتياز في فهم واقعه وتغييره، وانتفت المطلقات. إنه صاحب دور في صناعة سلاسل الأحداث والمؤسسات، أي باني الحضارة في مواجهة تحدياتٍ متغيرة؛ لأن التغير مقولةٌ وجودية، ولا بد وأن تكون فاعلية الإنسان مقولةً وجوديةً مناظرة، وبين حركة الواقع وفاعلية الإنسان إنتاجًا ووعيًا متعدد الأبعاد تكون حركة المجتمع ببنيته الفكرية الأشمل والمتغيرة.

إن التاريخية نفي للأسطورة التي هي فكر خارج الزمان والمكان، وتأكيد لتاريخية الفعل والعقل والشروط المؤثرة فيهما، وأن الأطر المعرفية والقيمية الحاكمة ظاهرة تدخل في بنائها عواملُ كثيرة، نفسية وتاريخية وسوسيولوجية وثقافية، ولكل عصر فكره ورؤيته حسب تفاوت حركة عملية التغير الاجتماعي. ومقولة التغير تعني دعوة العقل المتطور في ارتقاءٍ مطرد إلى فهم واقع في صيرورةٍ دائمة، ومن ثَمَّ لم يعد الأمر كما كان سابقًا أن تحكم الوجود والمجتمع قسرًا فكرة أو عقيدة في الذهن، بل الحكم الآن للواقع من خلال الوعي النقدي به، ومن ثم لا بد من ملاحقة الواقع المتغير وتقنينه وفق منهجٍ معترف به له شروطه، والتعبير عنه بلغة أو فكرٍ مشترك.

والتاريخية تعني تجددًا إبداعيًّا في الفكر والقيم لإنسانٍ فاعلٍ نشط، وأن الإنسان ليس مادةً قابلة جرت صياغتها مرة وإلى الأبد وتورث عبر الأجيال، وليس ملتزمًا بعهد أو ميثاقٍ مفروض عليه من خارج. إنه كمجتمع، ضد هيمنة فكرية أو انغلاقٍ عقيدي، وضد كل ما يسحقه ويُفني ذاتيته ليصبح كيانًا مكررًا. إنه كوجود وثقافة ليس شيئًا يُعاد إنتاجه باستمرار، وإلَّا أصبح أسطورة مكانه خارج التاريخ، وليس الماضي نموذجًا ولا مثلًا أعلى، بل تغيرٌ مرحليٌّ ارتقائيٌّ مطرد. والخاصية الأولى والأصيلة للإنسان هي الاستقلال والفعل العقلاني الإبداعي.

وتاريخية القيم تعني أنها نسبية وليست مطلقة. إنها نسبية قياسًا إلى تكوين الذهن وعلاقات هذا الذهن بمحتواه مع عالم الموجودات التي تُحيط بالإنسان، وتدخل إطار وعيه بتاريخها الفعَّال وواقعها المؤثر وقدرتها على تجاوز الآنية، وأن هذه النسبية هي منطلق البحث باعتبار القيم ظاهرةً اجتماعية هي المرجع، وليس المنطلق نقطة بدء خارج المجتمع.

ومن ثَمَّ حين نقول تاريخية النسق القيمي فإننا نعني أن هذا النسق نتاج فاعلية إنسانية، في إطار بُعدَي الإنتاج والوعي المتواكبَين أو المتلاحقَين في الزمان وفي المكان، وأن هذا النسق له طبيعة ما اصطلحنا على تسميته النظام الاجتماعي، وأول خصوصياته التغير، إعادة إنتاجه في امتزاج بأحداث الواقع وهدف الوعي الإنساني فكرًا وعلمًا وتعليمًا، وإمكانيات اجتماعية تيسر هذه الحركة والفعل والتغيير، وأن الثوابت، نسبية وإن طال أمدها، والتغير نسبي، وهو حصاد هذه الفاعلية الإنتاجية الإبداعية ودالة عليها.

إننا لا نريد حديثًا عن تاريخ نسق، بل نريد تأكيد تاريخية النسق القيمي، لأن التاريخية هنا تعني تغيرية النسق في اندماج مع تغيرية المجتمع استجابة لفاعلية الإنسان المنتج الواعي القادر على تحريك الأحداث، أي أن يكون نسق القيم مبدأً منظمًا لحقل العلاقات والممارسات.

(٢) التاريخية … القيمة

والتحدث عن التاريخية والتغير هو حديث عن قيمةٍ اجتماعيةٍ أخلاقية «تمامًا مثل الحديث عن التقدم»، أولًا لأن هذه القيمة تنقلنا من الوهم إلى الحقيقة. التفكير عبر الحقيقة بعيدًا عن أي فكرٍ ثباتي متعالٍ عن الواقع يدفعنا إلى التهويم في فراغ، وتجعلنا هذه القيمة في حالة يقظة للفهم القائم على التساؤل المستمر، واستيعاب الواقع، والاستجابة أو الإجابة. جدل الفكر والواقع بعيدًا عن انحصارٍ عقليٍّ ذاتي أو إسارٍ أيديولوجي، مهما كان اسمه. التغيير قيمةٌ أخلاقيةٌ ثقافية لأنه يتضمن فاعلية الإنسان وإمكاناته الروحية والمادية الفردية والمجتمعية، لإنجاز صورةٍ مستقبليةٍ هادفة تُحدد خطوات السير. وجميعها تصبُّ في قيمة عليا هي الإنسان.

وحين نتكلم عن تاريخية نسق القيم، فإننا نعني لا ما قاله الأقدمون، بل اتساقًا مع حاجة الواقع واسترشادًا بما تراه علومٌ إنسانية؛ من أن فهم فكر المجتمع يكون في ضوء تاريخ حركة الفكر وقيمه النابعة من انتصاراته أو هزائمه، عصور انحطاطه أو ازدهاره الحضاري، وظروف ومناسبات احتكاكه وتناقضاته واستجاباته، ممثلة أو مجسدة في التراث أو في رصيده الرمزي المعيش.

ونتكلم عن التاريخية والتغيير انطلاقًا من إيمان بأن الإنسان هو الكائن الأوحد الذي يتحرك مجتمعيًّا، لا بسبب وإنما من أجل، أعني لهدف ولغاية؛ للمستقبل. وحركة التاريخ دائمًا هي حركةٌ مستقبلية، حركة نحو هدف، وحين يفقد المجتمع هدفه فإنه يبقى خارج التاريخ، لن يتوقف في مكانه. فالحياة إمَّا حركة وتغيير إلى أمامٍ أو تحلل وفساد.

ومن هنا يغدو نسق القيم بنيةً وجوديةً مندمجة في الوجود الإنساني الأشمل، والحديث عن تاريخيته حديث عن تاريخية المجتمع الإنساني، ولذا فإن أول مظاهر أزمة هذا النسق تتمثل في جمود حركة التغير الحضاري، وتعطل إنجازات العلوم والفنون أو سقوطها كقيم اجتماعية: علوم إنسانية وطبيعية باعتبار العلم رصيدًا أو ثروة متجددة متغيرة، وأداة تطوير، وقيمة مضافة لإمكانات المجتمع، وتعني فاعلية تجديدية للفكر الإنساني.

(٣) صورة المجتمع ونسق القيم

إن المجتمع يكون ممكنًا في نهاية الأمر، لأن أبناءه يحملون في رءوسهم صورةً مشتركة عن ذلك المجتمع؛ صورةً مجملة عن ماضيه تعزز الحاضر، وصورة عن قضايا الحاضر تدعم حشد الطاقات وصولًا إلى صورة المجتمع المنشودة مستقبلًا، ومع اختفاء الإحساس بواقعٍ مشترك تهتز الصورة وتتلون بألوانٍ ذاتية، ويفقد الناس أداتهم الوسيطة للتعبير وتواصل الخبرات، فتواصل الخبرات في إطارٍ مجتمعيٍّ معرفيٍّ قيميٍّ مشتركٍ مواكب لمقتضيات العصر هو شرط البقاء، وبدون ذلك يتشرذم المجتمع إلى شظايا من الأفراد والجماعات وإن تجاورت الأجساد وتوحَّد المكان، وتمزُّق شمول الخبرة يتطابق مع تحلُّل الثقافة وتفكُّك التضامن الجمعي.

وعندما تبدأ قواعد العمل الجمعي في الضعف والوهن، فإن البنية الاجتماعية تبدأ في التكسر والتحلل، وينشأ وضع وصفه كارل مانهايم بحالة الأنوميا anomie، والتي تعني خواءً اجتماعيًّا. ويقول إن في مثل هذه الأحوال يُصبح الانتحار والجريمة والفوضى ظواهر متوقعة؛ ذلك لأن الوجود الفردي لم يعد راسخ الجذور في وسطٍ اجتماعيٍّ ثابت ومتكامل وموحد، ويفقد الشطر الأكبر من نشاط الحياة معناه ودلالته واتجاهه، حتى وإن ظلَّت هناك قوة تحمل اسم الدولة وتبطش بالمستضعفين حفاظًا على هيكل، ولكن بنية المجتمع باتت بنيةً عقيمًا مصابة بحالة من فقدان المناعة.

وصورة المجتمع وليدة إطارٍ معرفيٍّ قيميٍّ مترسخ في الأذهان بفعل التنشئة والمواجهة لقضايا المجتمع نتيجة احتكاكه ومواقفه إزاء تحدياته، ولهذا فإن نظام القيم كنسقٍ مجتمعي يكون له حضوره وفاعليته في حالة المواجهة فقط، على اختلاف درجاتها؛ مواجهة مع الطبيعة، ومع المجتمعات الأخرى، ومع عوامل الانحلال والفوضى، ومواجهة مع النفس. وفي جميع مجالات المواجهة هذه وعيٌ عقلانيٌّ نقديٌّ قادر بمنهجه العلمي على تحليل الوضع، ومعرفة درجات الصراع والتناقض وأولوياته، والوسائل الضرورية لتجاوز ذلك أو لحسم الصراع لصالح صورة المجتمع المنشودة. فالوجود الاجتماعي الحي مواجهةٌ مطردة، وهي شرط الاستمرار والبقاء حفاظًا على بنية المجتمع وتماسكه. ولهذا فإن حضارة أي مجتمع هي حصاد فاعلية واستمرار عنصر المواجهة الشاملة، تجنبًا للفوضى التي تعود بالناس إلى ما كانوا عليه قبل نشوء المجتمعات. وإذا انحلَّ رباط القيم انهارت العزائم، وانفسخ عقد الاجتماع، واتجهت الطاقات إلى مساربَ فردية بعيدًا عن مصبِّها المجتمعي الصحيح، وتبدَّدت معالم الحضارة إلَّا ما اندثر منها يحكي أزمانًا غابرة. ولهذا يُقال إن الحضارات تنتحر ولا تموت، لأن الحضارة في ازدهارها تعبير عن ازدهار الفعل الإنساني المبدع.

لنسأل أنفسنا ما هي صورة المجتمع المنشود؟ أو صورة البطل في هذا المجتمع؟ السؤالان يفضيان إلى إجابةٍ واحدة عن طبيعة القيم ذات الغلبة والسيادة؛ ذلك لأن القيم هي عقدٌ اجتماعي غير مسطور بين أبناء المجتمع، عقدٌ حاكم للسلوك والفكر وفق مقتضيات عصر، واتساقًا مع بنيةٍ فكريةٍ أشمل وفاءً لصورة المجتمع والبطل، أو قل وفاءً لتصورٍ حضاري يرى فيه الناس مقومات حياتهم.

الإجابة عن هذين السؤالَين تتباين بتباين الظروف التاريخية للمجتمع المصري، ولعل المعايشة لإفرازات المجتمع وسلوكيات أبنائه وآرائهم المعلنة وغير المعلنة تكشف عن حقيقة حالنا ومدى التناقض الصارخ بين ما نحن فيه وبين ما يقتضيه العصر للنهوض. إن نظرةً سريعة إلى عناوين الكتب واسعة الانتشار، أو نظرةً مقارنة بين كتب تحدثنا عن الحياة بعد الموت — وما أكثرها! — وبين كتب المواجهة؛ أعني كتب الحياة قبل الموت، وما أقلها! هذه المقارنة تكشف، كمثال، عن حقيقة موقفنا من الحياة. لن أفيض في مظاهر وشواهد تحلل منظومة القيم الإيجابية وانحسارها، التي تدعم بنية المجتمع وتعزز حركةً مشتركة وصولًا إلى صورةٍ مستقبليةٍ متكاملة هي من أسفٍ مفتقَدة، وإنما أكتفي بالقول: نحن الآن مجتمعٌ مهدد في حقائقه المطلقة وقِيَمِهِ المحورية ومبررات وجوده. أو بمعنًى آخر، نحن مجتمع لا يزال ومنذ قرون يلتزم ثقافة حضارة مضى أوانها أو جُمِّد مع إطارٍ معرفيٍّ قيميٍّ موروث له الحاكمية والسطوة ويتناقض مع روح العصر.

وإذ نقول إن نظام القيم يُعاني أزمة، فليس معنى هذا — كما يظن بعضهم — أنها أزمة أخلاق بالمعنى الدارج، فالقيم ليست — فقط — قيمًا أخلاقية، بل تعني «الإبستيم» أو البنية المعرفية الأشمل عن العالم الأكبر والعالم الأصغر؛ الإنسان والطبيعة والكون. ومن مظاهر هذه الأزمة الجمود القيمي؛ جمود منظومة الفكر والقيم التي تشمل المسلَّمات والفرضيات الضمنية التي تتحكم في ممارسة الفكر والسلوك. وأخطأ كثيرون إذ تصوَّروا أن النهضة ممكنة، أو أن التغيير ممكن من واقع الثبات، أو الجمود الثقافي، وظنُّوا أن الثقافة الاجتماعية والتراث شيء، وقضية التغيير والنهضة شيء آخر، وأن النهضة حيازة للتكنولوجيا دون امتلاك ناصية الفكر العلمي من موقع السيادة. وبذا ازدادت الهوة اتساعًا بين الإطار الفكري القيمي الحاكم، وبين مشروعات التغيير على نحوٍ أفضى بها إلى الإخفاق والاختناق، ولعل هذا هو مكمن الخطأ والخطر عند جميع من تصدَّوا للإصلاح أو الثورة؛ فعمدوا إلى التغيير صادقي النية، ولكن في إطارٍ مرجعيٍّ تقليدي، إيمانًا منهم بأن نظام القيم مستقل عن نسق الفكر وثابت أبدًا. والحقيقة أن الإطار المعرفي القيمي ليس ثابتًا، بل متغير مع حركة المجتمع، وتصل بينهما — أخذًا وعطاءً — فاعلية المجتمع الإبداعية، التي إذا ما توقفت تعطَّلت طاقة الحركة الارتقائية لذلك الإطار، ومن ثم ليس المقصود بتغير الإطار تبادل مراكز السيادة في المجتمع بين قيمٍ إيجابية وأخرى سلبية، قد يطول عهدها، وإنما أعني حيوية المواجهة الاجتماعية، وأعني كذلك أن القيم هي قيمٌ حضارية، أو لنقل إن الإطار المعرفي القيمي «الإبستيم» رهن بحضارةٍ ما. وإذا كانت المواجهة هي دائمًا حركة المجتمع في ارتقاءٍ حضاريٍّ مطرد، فإن لكل حقبة إطارها الفكري القيمي النابع من آليات المجتمع لا مفروضًا من خارج، ومع كل مرحلة، وإيذانًا بكل تغيير، تسود أزمة أو مخاض ميلادٍ جديد في صراع سلطة مع قديم، عليه أن يغيب.

ومن هنا أقول إن أزمة نسق القيم في مجتمعنا — وفي ضوء مقتضيات عصرنا — هي أزمة مركَّبة وشاملة؛ أزمة مجتمع لا يلد جديدًا، ولا يملك صورة تحفزه إلى المستقبل، وبذا لم تتوافر له آليات التغيير البنيوي في هيكل المجتمع ومؤسساته والعلاقات بين أفراده وأدوار البشر، بحيث يعبر عن هذا كله «إبستيم» أو إطارٌ معرفيٌّ قيميٌّ جديد، وليست أزمتنا هي أزمة مخاض ميلادٍ جديد؛ ذلك لأننا مجتمع لا يعمل ولا يعيش عن وعي تناقضًا بين حاله وحال العصر، وهي أزمة لها تاريخٌ طويل.

(٤) عن نسق القيم والحقبة الراهنة

ينصبُّ الحديث دائمًا عن أزمة القيم على حقبة ما بعد ١٩٥٢م، والمقارنة بين عهدَين؛ ناصر وما بعده. ويسود اتهامٌ شامل لكل الحقبة، وإن تنوَّع المحتوى، وتباينت الشواهد، وينطوي الحديث أو الاتهام على معنًى ضمني، وهو أن حقبة ما بعد ١٩٥٢م، أفرزت سلبياتٍ غريبة على المجتمع المصري، وخلقت أزمة قيم، وهو ما يفيد ضمنًا المقارنة بما قبل ١٩٥٢م، باعتبارها حقبة قيمٍ إيجابية، هي مصرية بالأصالة، ومتجسدة رؤية وسلوكًا بين المصريين جميعًا في الريف والمدينة.

بداية أقول إن الحديث هنا ينحرف إلى معنًى مُحدد للقيم، هو المعنى الأخلاقي الدارج، ولهذا تسود مقارنة بين ظاهر سلوكياتٍ أخلاقيةٍ عامة في المجتمع بين عهدَين، دون اعتبار للعلاقة بين القيم والتغيير الاجتماعي والخلفية التاريخية، والأمر رهن بعدد أصوات المنتفعين أو المتضررين ذاتيًّا، ولا ينصرف الحديث إلى نظرةٍ تحليليةٍ تاريخية لنسق القيم بوصفه تلخيصًا لحركة الفكر المجتمعي تاريخيًّا، ويحدد صورة المجتمع الآنية والمستقبلية وصورة الذات لنفسها ولموقعها في المجتمع وفي الكون، والوظيفة الوجودية للفرد والمجتمع معًا في اتساق، ومن ثَمَّ يحدد طبيعة التنظيم الاجتماعي على نحو يتفق مع خطواتٍ مرسومة وصولًا إلى الهدف، أعني نظرةً تحليليةً نقدية استجابة لاستراتيجية تنميةٍ قومية. وإذا ما نظرنا إلى منظومة الفكر والقيم بهذا المعنى فسوف يتغير النهج والمنهج، وتتغير النتائج التي نصل إليها وتتضح معالم التحديات أو المعوقات الموروثة والطارئة وسُبل حشد الطاقات.

الشائع، والذي قيل، إن حقبة ما بعد ١٩٥٢م، حقبة قهرٍ متصل، وهزائم متتالية، استبداد رأي، وسلطة فردية مطلقة، وتصفية جسدية أو معنوية للخصوم، وتدخل فاضح في شئون المؤسسات الدستورية، وواكب هذا انسحاب واغتراب ولا مبالاة، ثم تسيُّب وانحراف، الأمر كله رهن بإرادة زعيمٍ كاريزمي أو غير كاريزمي، وإنما هو السلطان له المشيئة، وفي كل هذه الظروف ساد الجانب العشوائي الطليق غير المنظم، وهو جانبٌ فردي غير عقلاني وطبعي. إنه مع كل هزيمة أو انتكاسة تكون ردة الناس أيسر وأسرع إلى التقليد؛ إلى الرصيد الذهني غير العقلاني الذي لم يحلَّ محله بديل من خلال تنشئة «ثورية».

وفي العهد التالي، أو المرحلة التالية من حقبة ١٩٥٢م، اقترن الثراء النفطي بموجة ثراء الانفتاح؛ ثراءٍ سفيه، وبات شعار محاربة الفساد أو الدعوة إلى العيش الشريف مثار استهجان أو غذاء دعاية للفقراء، وفي ظل هذه الظروف — حيث سقطت قيم، وسادت سياسة النهب وغياب العقل — أضحى الكفر بالدنيا هو الملاذ الوحيد للعاجزين المستضعفين، وساد قولٌ مأثور: إن مصر يحكم سلوكها شارعان: شارع الهرم وشارع الأزهر، ولا طريق للخلاص، ولم يبقَ أمام الناس غير ردةٍ أو تمردٍ عشوائيٍّ عنيف.

وحين يُمنى شعب بكل هذه الأمراض الفتَّاكة، فإنه يفقد بالتالي كل مكونات ومقومات الإرادة الجماعية وأسس قيام رأيٍ عام أو وعيٍ جماهيريٍّ شاملٍ هادف، ناهيك عن وصفه بالاستنارة، وإذا كان البناء الاجتماعي لا يسمح للدوافع النفسية الكامنة والرؤى والطموحات بالتعبير عن نفسها في صورة عملٍ جماعي، يأخذ صورةً استراتيجيةً قومية للبناء الحضاري، وفق رؤيةٍ مستقبليةٍ أساسها الاقتناع الطوعي لفكرٍ حرٍّ متعدد. فإن هذه الدوافع والطموحات تفرض نفسها في صورةٍ أخرى قد تكون عدوانًا أو تدميرًا. أو تكون انتحارًا حضاريًّا يتمثل في ردة ثقافيةٍ هلاسية، وفرار من الواقع، وغلبة مظاهر التحلل الاجتماعي وانحلال الشخصية القومية، وهذا ما نراه سائدًا متمثلًا في:
  • (١)

    فقدان الإحساس بالأمان على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والفكري، في ظل سطوة الحكام المحليين والأجانب وتأكيد مشاعر الاغتراب.

  • (٢)

    الانفصال عن الرابطة التاريخية، وانقطاع صلة الحاضر بالماضي، أو تهاوي الجذور وفقدان الحس التاريخي الصادق والمستنير، الذي هو وليد فاعليةٍ حرةٍ نشطة مع الحاضر من أجل البناء. واقترنت هذه القطيعة بغلبة مشاعر اليأس وسيادة رؤيةٍ أسطورية لا عقلانيةٍ ومبتورة عن الماضي وتراثه، وسقط الإحساس بالمستقبل الواحد نحن صناعه بعقولنا وأيدينا.

  • (٣)

    ضعف وجدان التضامن الاجتماعي أو تهافت الشعور باﻟ «نحن».

  • (٤)

    فقدان رأيٍ عامٍّ متماسكٍ واضح، وسيادة الأنانية على أساس المصلحة الفردية.

  • (٥)

    فقدان التوافق بين إعداد الفرد اجتماعيًّا وإمكاناته وبين مقتضيات تطور المجتمع أو التحديث.

  • (٦)

    سقوط القيم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية وشيوع مناخ يؤكد هذا الفشل ويغرس اليأس والإحباط.

  • (٧)

    سيادة النزعات اللاعقلانية وسيطرة أحلام اليقظة والتشرذم والقلق والاستسلام لتهويماتٍ وجدانية.

  • (٨)

    فقدان الهدف والافتقار إلى الوسيلة؛ أي مجتمع بلا غاية ولا وسيلةٍ اجتماعية.

قيل كل هذا عن مسئولية حقبة ما بعد ١٩٥٢م عن انهيار «القيم». وتجاوز الحديث عند بعضهم إلى حد إنكار كل إنجازاتٍ إيجابية في الفترة الناصرية، والتي تمثَّلت في إحداث تغيراتٍ جذرية في هياكل الإنتاج والبنية الاقتصادية، ومجانية التعليم، وتغيير العلاقات الاجتماعية في الريف عن طريق الإصلاح الزراعي والانحياز اقتصاديًّا للفقراء، وإحياء أدبيات الشعب، والنهوض بالثقافة بمعناها الضيق المحدود، لا بمعناها الاجتماعي، وإن كان هذا جاء بتوجيهاتٍ علوية وجهودٍ نخبوية وليس من خلال آليات تطور المجتمع التي كانت تقتضي ثورةً ثقافيةً اجتماعيةً شاملة.

وأسهم النفط العربي بدورٍ سلبيٍّ كبير، دفع المصري إلى بالوعة الاستهلاك الترفي، وإلى ترسيخ قيم النزوع الفردي للخلاص وأحلام الثراء وتجاوز الماضي الاقتصادي الذي ذاق معه طعم الذل والهوان، وأقول مرةً أخرى الماضي الاقتصادي، وليس أبدًا الإفادة بذلك لتعويض هوة التخلف الفكري أو الثقافي أو الحضاري بعامة. وقامت نظم حكم نفطية بدورٍ واعٍ في هذا السبيل لتحقيق أغراضٍ سياسية لها بالاشتراك أو التوافق مع قوًى كبرى ذات هيمنة، وعانت مصر غزوًا ثقافيًّا حقيقيًّا من بعض هذه القوى التي سعت في طريق الغواية والإغراء إلى فرض قيمها هي على بلادنا، وليس خافيًا أن دولة مثل السعودية وجدت في ثروتها النفطية عونًا لها لتحقيق حلمٍ وهمي، تجاوز إمكاناتها البشرية والحضارية على مدى تاريخٍ طويل، وظنَّت أنها بثروات النفط أو الإسلام-دولار قادرة على أن تتحول إلى ما يُشبه فاتيكان العالم الإسلامي، وتكون مكة هي — بلغة الراحل عبد الرحمن الكواكبي — أم القرى ومركز استقطاب رجال العلم والفكر والدعوة، وتحديد توجههم ووجهة نشاطهم. واحتدم الصراع والسباق على هذا الهدف بين الرياض وطهران، عقب سقوط شاه إيران واعتلاء جماعة الخوميني للسلطة؛ لمن السلطة الروحية على المسلمين؟ وسارع ملك السعودية بتلقيب نفسه خادم الحرمين، وشهدت السنوات صراعًا دمويًّا، واستنفد هذا الصراع بأشكاله المختلفة طاقة التحوُّل الاستراتيجي الوطني والتنموي للشعوب في ظل غيبة رؤيةٍ مستقبلية وغيبوبة عن مقومات النهضة العلمية والتكنولوجية، وترسيخ السلفية أو الأصولية، واقتلاع جذور الحس التاريخي القومي الصادق، على نحو ما نشهد أثر ذلك في مصر، باسم تأكيد التراث الروحي الذي هو في الحقيقة تسلط نسقٍ فكري وقيميٍّ سلفي دفع بالشعوب العربية جميعها إلى متاهة وضياع، وباتت فريسةً سهلة لقوى التسلط السياسي والاقتصادي في الداخل، وقوى الهيمنة في الخارج، وانحصر هدف الكافة، كأفراد لا كمجتمع، بعد أن تهرأت رابطة التضامن الاجتماعي، في إنجاز قيمةٍ أساسية غير حضارية هي انتفاخ الجيوب، وامتلاء البطون، وفراغ العقول، ثم أنا وبعدي الطوفان، ولي الآخرة! وانتشرت أدبيات عالم الآخرة على حساب أدبيات الدنيا.

يُضاف إلى هذا الدور السلبي للثقافة العالمية المهيمنة التي تقتحم علينا حياتنا الوجدانية والفكرية، وتؤثر في نظرتنا إلى الحياة وفي القيم السائدة. وإن تعرض مصر لمؤثراتٍ ثقافية وحضاريةٍ خارجية ليس بالأمر الجديد؛ فهي بحكم موقعها وموضعها في مهب رياح القارات المختلفة، ولكن المحصلة تختلف حين يُعزز الموقعَ والموضعَ دورٌ نشطٌ، فيكون هبوب هذه الرياح فرصة تلاقحٍ ثقافي وتخصيبٍ مثمر تعيده مصر إلى بلاد الجوار ثمارًا حضاريةً جديدة ومتجددة، أعني أن المحصلة تختلف باختلاف حال مصر، حين تكون في قوة عافيتها حضاريًّا ذات منعة وحصانة؛ فإنها هنا تتفاعل من موقع القوة، أخذًا وعطاءً، أو على النقيض من ذلك.

والآن في عصر التطور العلمي والتكنولوجي وانهيار الحدود، يعيش الإنسان المصري حالة من غسيل المخ، علاوة على ما يُمكن أن نُسميه ثقافة التجهيل الآتية من الشرق غازية من بلاد النفط باسم الدين، إذ هو أيضًا عرضة لمهب رياح ثقافةٍ عالميةٍ مهيمنة، لها خططها ومشروعاتها وبريقها، وهذا خطر تواجهه أمم العالم، والأمر رهن بقدر ما يتمتع كيان الأمة من مناعة ليس ركيزته انغلاقًا باسم الحفاظ على الهوية، ركيزته فاعليةٌ إنتاجيةٌ نشطة تتسق مع روح العصر.

وأريد أن أمايز هنا بين ثقافة الكوكاكولا والهامبورجر؛ أعني الثقافة الأمريكية المعبرة عن نظرةٍ أمريكيةٍ سياسيةٍ اقتصادية إلى العالم لتحقيق حلمٍ أمريكي في الهيمنة من خلال التحكم في سلوك الأفراد، وبين ثقافة وقيم عصر الصناعة وما بعد التصنيع، التي هي ثقافة وقيم حقبةٍ حضاريةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ متطورة؛ الأولى تُعيد صياغة الإنسان ليكون سلس القياد والانقياد لصالح أمةٍ أخرى، وتنزعه من انتمائه، وتعمق لديه الشعور بالدونية والنهج الاستهلاكي؛ والثانية ثقافةٌ تؤكد نظرةً كونية، وإطارًا معرفيًّا وقيميًّا جديدًا يتجاوز إطارًا حضاريًّا سابقًا، ومحورها تمجيد قيمة العقل والإنسان، وركيزتها أرض الوطن، في إطار من التضافر العالمي.

(٥) البحث عن الجذور

في محاولة للوصول إلى الجذور والتاريخ نسأل: لماذا رد الفعل السلوكي من جانبنا هو التلقي السلبي وليس التحدي؟ لماذا لا نشعر بالحافز إلى تعبئة طاقاتنا في سباق الماراثون الحضاري لنكون سبَّاقين أو مساهمين في اعتزازٍ تاريخي ووعيٍ عقلاني بمظاهر وأسباب طفراتنا وكبواتنا الحضارية على مدى آلاف السنين ودون اجتزاء، ولكنَّنا نتلقى في لا مبالاة أي طعن فينا وفي تاريخنا؟ فما قبل دخول العرب غازين إلى مصر، حقبةٌ فرعونيةٌ منبوذة، وتاريخنا يبدأ من على أرضٍ غير أرضنا، هي شبه الجزيرة، وما قبل الإسلام جاهليةٌ مطموسة، رؤيةٌ تاريخيةٌ زائفة تأسيسًا على نسقٍ معرفيٍّ قيمي لا يتفق وقواعد المنهج العلمي، بينما من أولى القيم الانتماء والمواطنة والاعتزاز بالتاريخ وموضوعية البحث والنظر. لماذا هذا السلوك والخوف يستبد بنا مذعورين؟ ونقنع بالاستهلاك في مذلةٍ فكرية وضحالةٍ عقلية، والقيمة كل القيمة في المال والترف والاستهلاك والمتع الحسية، وليس في الفعل المنتج أو العقل المفكر الناقد المبدع، وعلى الرغم من هذا، ودون إدراك لجوهر التناقض، نلعن عالم الدنيا وعيوننا على عالم آخر.

نعم، العالم الأول يضع سياسته، كل دولة بطريقتها على أساس استغلالنا، ويسعى هذا العالم إلى ترسيخ قيم الاستهلاك والتبعية، وغرس مشاعر الدونية وفاءً لمصالحه. وهذا منطق الصراع، ولكن لماذا لا يستفزنا هذا حضاريًّا لنملك أسباب المنعة والقوة كأسبابٍ ماديةٍ دنيوية؟ لماذا نقنع بحياة الريع أو حياة المنحة والقرض، الذي لا نملك إمكانية سداده، ولا تحفزنا حمية حياة الأنداد؟ ثم نبتهج ونقول إن الله سخر لنا الغرب ننعم بإبداعاته التكنولوجية، دون أن ننزع إلى المباراة.

وإذا كنَّا نلوم النفط، نسأل لماذا اندفع المصري فردًا لا خبيرًا ممثلًا لأمةٍ عريقة الحضارة، وانحلَّت عنه كل روابط الانتماء الاجتماعي نحو هذا النمط السلوكي الاستهلاكي؟ ترى ما هو مخزونه الذهني من قيم وفكر حدَّد نمط سلوكه حين اندفع إلى بلدان النفط وحين عاد ثريًّا؟ وما هو تاريخ هذا المخزون الثقافي؟ هل يرجع إلى ما بعد الخمسينيات؟ كيف ينفق ماله، وأوجه الإنفاق تعبير عن قيم وتاريخ حالة؟ وهل اتجه المصري، بل والعربي بعامة، بعد ثراء إلى إشباع عقله ووجدانه بفكرٍ جديد وجمالياتٍ راقيةٍ عصرية تنهض به عقلًا ووجدانًا وأمة؟

وفي ضوء هذه الأسئلة، والاتهام المنصبِّ حصرًا على ما بعد ١٩٥٢م، ألسنا نتعسف إذا قلنا إن البنية الثقافية الاجتماعية، ومن ثم الإنسان فكرًا وقيمًا وسلوكًا ونظرة إلى الكون والحياة، يُمكن أن يتغير كل هذا من النقيض إلى النقيض خلال عقدين دون مقاومة؟ بضعة عقود تُغير ثوابت القيم أو الرؤية الحضارية التي امتدَّت عشرات القرون، وهي ثوابت بحكم ثبات الظروف والأوضاع رغم تخلفها.

يتخذ تفكيري سبيلًا شططًا، إذ أقول إن الأمر على غير ما هو شائع، إن النسق الفكري القيمي، وهو إطارٌ حضاري، بمعنى أنه رهن بحقبةٍ حضارية، لم يشهد تغيرًا على مدى عشرات القرون، وأعود لأحدد أن ما أعنيه بنسق القيم هنا التلخيص المجمل لحركة الفكر المجتمعي تاريخيًّا، أي نشاط المجتمع بوصفه مصدر القيم والمعارف، وليس أي مصدرٍ مفارق، ومن ثم يكون النسق تجسيدًا لرؤية المجتمع إلى الكون الأصغر والأكبر. ونعبر عن هذا بقولنا البنية الفكرية التي تشمل المسلَّمات والفرضيات الضمنية التي تتحكم في ممارسة الفكر والسلوك، وبذا يكون الفكر والسلوك موقفًا أيضًا له خصوصياته، ويُمثل هذا النسق رصيدًا رمزيًّا مرجعيًّا يصوغ نهج استجابات المجتمع ممثلًا في أفراده إزاء المثيرات المختلفة خارجية وداخلية، وبهذا يعبر عمَّا يوصف بالشخصية القومية، ويملك هذا النسق حق الفيتو أو الاعتراض على العقل وإنجازاته المعرفية أو مجال النشاط الفكري، بل وصياغة أبنية اللغة الأم، ومن هنا فإن الظواهر والأحداث، التي تجري في الطبيعة والمجتمع وفي حياة الفرد، لا ندركها فقط من خلال المعرفة المنطقية، ولكنَّها أيضًا تمرُّ عبر موقف الإنسان من العالم الذي يعد لها ويغيرها، بل وقد يحجب المعرفة المنطقية لعدم تلاؤمها مع نسق القيم صاحب السيادة، وتظل له السيادة في تزمُّتٍ ما لم يتغير في استجابة لمقتضيات النشاط الإبداعي للمجتمع والوعي العقلاني والتأويل النقدي.

لهذا فإن نسق القيم هو دائمًا، وفي حالة المجتمع الفعال المتغير، في علاقة جدلية مع الواقع المتغير، وتتمثل هذه العلاقة الجدلية في صورة تناقضٍ حافز إلى الحركة، وقد يصل التناقض إلى حد التطاحن، إن هذا النسق إذ يُشكل الرصيد الرمزي يغدو في تفاعل مع الرصيد المادي المتمثل في فاعلية الإنسان مع واقعه المحيط، متجسدًا في صورة إنجازاتٍ إنتاجيةٍ مادية أو علوم وتكنولوجيا، وتكون الحاكمية لهذا التفاعل العقل النقدي، ولهذا يكون نسق القيم نسقًا حضاريًّا، أعني معبرًا عن مستوًى حضاري، وعن حالة المجتمع ما بين ركود وجمود، أو فاعلية وتغير وإبداع. وحين تصل العلاقة بين نسق الفكر والقيم، وبين متطلبات الواقع إلى مرحلة التطاحن، يتعذر على المجتمع المنتج المبدع أن يستمر في إنتاجه وإبداعه بدون تحوُّلٍ جذري في هذا النسق، وما يلزم عن هذا من تحوُّلات في العلاقات الاجتماعية والمؤسسات والرؤى، وبذا يكون التحوُّل إيذانًا بميلاد حقبةٍ حضارية تجاوزت الواقع القديم أو التقليد، ولهذا تمثل دائمًا فترة التحوُّل مخاضًا أليمًا بين التراث المعيش في صيغته التي استقرت زمنًا، وبين تأويلٍ جديد لهذا التراث، ورؤية جديدة للعالم والإنسان في نسقٍ جديد للقيم والفكر. وإن تغير نسق القيم والفكر يعني تحوُّلًا حضاريًّا: الانتقال من حقبةٍ حضارية إلى أخرى، بفعل آليات التغيير الاجتماعي والاستجابة لها؛ ومن هنا أزعم أن نسق القيم والفكر في مصر، من حيث المنظور التاريخي لم يتغير. وإن كان هذا الزعم لا ينفي تبادل المواقع بين قيمٍ أخلاقيةٍ سالبة وموجبة كلاهما موجود كامن، يطفو أيهما على السطح وفقًا للظروف، وأهمها طبيعة السلطة ومدى سطوة اليد الحاكمة وتوجهاتها، ولكنَّه يظل تحولًا على السطح، وليس تحولًا ثوريًّا شاملًا لبنية المجتمع والفكر.

وإذ أقول تحولًا حضاريًّا فإنما أعني بالحضارة جماع إنجازاتٍ مادية وروحية يحققها المجتمع وترتقي به إلى مرحلةٍ أخرى، إثر انتصاره على تحديات عاقت حركته وهدَّدت بنيته وتجاوزت إمكانات إطاره المعرفي القيمي السابق إثر تغير في آليات يوجب هذا التحوُّل، وتتجسَّد هذه الإنجازات في الإنسان؛ إذ هو دائمًا الهدف وإن اختلف أو تدرج مستوى التحول، أعني أن الإنسان ينتقل من مرحلة إلى أخرى من حيث العلاقات والدور الاجتماعيان، ويجد هذا التحول تعبيرًا له في الرصيد الرمزي والمادي للمجتمع؛ العلوم والتكنولوجيا واللغة والفنون والاقتصاد والتعليم وعلاقة الإنسان بالطبيعة. ومن ثم يتغير «الإبستيم» أو المنظومة المعرفية القيمية إلى منظومة أو نسقٍ جديد يفي بمقتضيات التحول من عصر إلى عصر يُميز تاريخ المجتمع في تطوره الحضاري، ويكسبه خصوصيته. والمعيار هنا التحولات الداخلية في المجتمع، وليس ما يحدث فرضًا وقسرًا من سلطةٍ علوية، وهذا هو ما لم يتحقق في مصر في أي عصر من العصور بعد سقوط الحضارة المصرية، أي منذ الغزو الفارسي، وما تلاه من غزوات حتى العصر الحديث.

(٦) أيَّ مصر تعني وأي مصريين؟

واستطرادًا أقول إن ثمة سؤالًا يلحُّ عليَّ كثيرًا عند الحديث عن تغير نسق الفكر والقيم بمعناه الحضاري في مصر من منظورٍ تاريخي: أيَّ مصر نعني وأي مصريين؟ خاصة حين نقرأ كتبًا مثل المقريزي وابن إياس والجبرتي وغيرهم، ويأتي ذكر المصرلية والزعر والحرافيش.

ويأتي هذا التساؤل ضرورة لأن الحديث عن نسق القيم في التاريخ يوجب مع النظرة التحليلية لهذا النسق تناول المصادر والمؤثرات ومنها التراث على امتداده وتنوعه منذ مصر القديمة: الاجتماعي والسياسي والروحي بمعناه العام، والظروف التي تعاقبت على المصريين وأثرت في ثقافتهم؛ الفكر والقيم والوجدان، ومن ثَمَّ السلوك وميكانيزم التعامل فيما بين الأفراد ومع السلطة ومع الوافد الغازي.

أعني بمصر والمصريين الأرض السوداء والفلاح الذي اعتاد منذ قديم أن يطبع على فوديه صورة طائر، هو حورس حامي حمى المستضعفين، وإن غاب عنه المدلول، ونعته الغزاة بأسوأ وأحطٍّ النعوت، فهذا الفلاح هو الكتلة الأساسية الممثلة لمصر، وهو الذي ملأ سلة الرومان وأطعم جيوش العرب وخيلهم، واقتات على جهده المماليك والأتراك من بعدهم، هو القوة العاملة المنتجة، وأي تغيير لا يطوله لا يغير من مصر شيئًا.

ومن هنا أزعم أن مصر والمصريين، بهذا المعنى، عاشوا منذ سقوط الحضارة المصرية القديمة على أيدي الفرس في معزلٍ عنصري «أبارتهيد». لم يعد للمصريين منذ ذلك التاريخ تحت سطوة الغزاة شأن في إدارة شئون بلادهم أو فاعلية في بناء مجتمعهم، أو اختيار لصورة مستقبل حياتهم، أو قضية قومية تجمع بينهم، يشحذون لها طاقتهم يدافعون عنها، أو وسيلة لتجميع خبراتهم الاجتماعية في اتجاه البلورة والتطوير في ضوء مصالح مشتركة مشروعة. تعاقب الغزاة الطامعون في خير مصر موقعًا وإنتاجًا، لهم الإدارة والسلطة وعلى المصريين الطاعة والفلاحة، جحافل تتابعت تحمل في وجدانها ثقافتها، ليس وجدانًا مصريًّا عن يقين وإن تمصَّر بعد ذلك، الجميع يسخرون من الفلاح ويُسَخِّرونه، هو الأدنى، وهو رب الفأس وعماد الإنتاج، وعرف الذل والمذلة تحت نير الاستبداد والطغيان والغربة على أرضه ومحاولات طمس ذاتيته في معزله العنصري.

نحن بحاجة إلى أن نستكشف، ومن زاوية تاريخية وسوسيولوجية ونفسية وأخلاقية ومعرفية، حقيقة العلاقة الجدلية بين صورة الذات، نشأةً وتطورًا، وبين تصور الآخر، أعني صورة الذات لدى صاحبها (المصري) وصورته لدى الآخر، وهو صاحب السلطان، وما هي الآثار العملية المترتبة على ذلك، وكلتا الصورتين بهما خطابٌ سياسي وثقافيٌّ متبادل بين طرفَين غير متكافئَين، تُرى ما الذي وعاه المصري في معزله العنصري، وحدد من خلاله هويته الذاتية، وقد غابت عنه، وغُيِّب عنها أيضًا، في جميع الأحوال، صورة المجتمع في وحدةٍ متكاملة تاريخًا ومكانًا؟

ويُمكن القول: كان هناك بالفعل، في الممارسة العملية، نوعٌ من المحورية العرقية تحكم سلوك وتوجهات أصحاب السلطان الذين عاشوا في قطائعهم أو مدنهم: مصريٌّ فلاح في ناحية على الدوام، وروماني أو عربي أو تركي أو مملوكي في ناحيةٍ أخرى، إلَّا إذا سقط عن السلطة تحت سنابك خيل خصم له واضطر إلى الفرار. وكان المصري على الدوام، ومن منطق المذلة، إذ ما شاء التقرب زلفى فإن ضريبة الاقتراب أن يتنكر للعرق المصري، ويشارك في السخرية منه ولعنة الشعب. إنه لا يستطيع أن يحتمي بتاريخه ولا أرومته ولا بنفسه ولا ببني شعبه ولا بحضارته السابقة؛ فإمَّا أن يُشارك التنكر لها والنكير بها وينسلخ عن ذاته التاريخية ليبدأ طريق الصعود الفردي متوحدًا مع الخصم، وإمَّا أن يلزم الصمت الذليل ليبقى حيث هو.

امتلأ القلب بالخوف من السلطان الأجنبي ورموزه، وشاعت ثقافة الخوف يغتذي عليها المصري منذ طفولته، وبات الخوف أكبر خصم وأخطر عدو حالٍّ فينا يُقوِّض كل محاولات النهوض، واستنهاض الهمم لبناء أمة، أول شرط له اكتشاف أسباب هذا الخوف واستئصاله، وامتد غرس الخوف وضرب بجذوره؛ أصبحنا نخاف الحقيقة، نخاف من ذكر تاريخنا، ناهيك عن الاعتزاز به، نخاف تأكيد الرابطة المشتركة، نخاف الإفصاح عمَّا في ضمائرنا، الخوف دائمًا ومن كل شيء، والأمان في التوحد مع الغاصب الغالب المتسلط، بينما معرفة الحقيقة، والجرأة من أجلها أو قيم الخلاص.

الخوف أداة الغاصب لاستمرار الهيمنة، والخوف أداة المصري للسلامة، مفارقةٌ قاتلة للنفس، ومن ثَمَّ فإن تحدي الخوف أول شروط التحرر، وأول شروط المعرفة الصحيحة، وأول شروط حب الحقيقة والبحث عنها، وأول شروط الوعي الصادق بالذات، وأول شروط النهضة. النهضة المستنيرة القائمة على المواجهة، مواجهة للنفس والتاريخ والتقليد الزائف والواقع؛ إذ لا سبيل إلى ذلك مع الخوف.

وابتدع المصري في سبيل بقائه حيلة تعبر عن قيمةٍ أساسية ألا وهي التوحد مع السلطة أو الخصم، حياة ذات وجهَين، وتزخر أدبيات الشعب بالحكم والأمثال المعبرة عن قيمة هذا النهج حماية ووقاية، والتوحد مع الخصم دون إيمان به هو جذر الفهلوة أو الشخصية الفهلوية في مصر. حيلة أو آلية لتحقيق المآرب؛ تغير في الظاهر دون الجوهر، والمصري في هذا هو المنفيُّ الفعال، المكبوت قهرًا، يتحيَّن فرصة لينطلق يعوض الحرمان، والمعوَّل هنا على نوع ونطاق الثورة الثقافية الاجتماعية الشاملة التي تحدد له السلوك والمسالك.

(٧) مصر في معزلٍ عنصري

ظلَّ المصريون في هذا المعزل العنصري قسرًا، وهو معزلٌ حضاري يفرز السلبيات من القيم الحضارية الموروثة، وتفضي إلى تحلل عوامل التضامن. مصر بغير جيش منذ أن انحلَّ جيشها على أيدي الفرس، أي من غير قضيةٍ قومية تذود عنها، أي بغير إرادة. وظلَّت كذلك مع تعاقب الغزاة، هي في ذمتهم أو تحت حمايتهم، تطعمهم ولهم عليها حق الدفاع ضد غزاةٍ آخرين طامعين في الفريسة. شعب مصر منتج، نعم، ولكن إنتاج أفراد لا مجتمع؛ أفرادٌ أسرى عليهم سداد التزامات الجباة، كلٌّ يعمل وهمُّه الأول والأخير أن يدفع عن نفسه غائلة حاميه، وأطماع مَنْ هو في ذمته. الرجال والخيل وقبائلُ وافدةٌ طامعة أو جائعة، ثم جزية إلى روما أو لغيرها من بعدها من بلدان الميتروبوليتان مقر السيادة، وإن عجزت طاقته عن الوفاء فرَّ هاربًا إلى الصحراء. إنتاج هو على أحسن الفروض حق الغير وللإشباع البيولوجي عند أدنى حدود الكفاف. وليس الإنتاج هنا نشاطًا اجتماعيًّا ينطوي على قدر من حرية الفعل والأداء والمشاركة ليصبَّ في تيار خبرةٍ عامة تطرح المشكلات وتحفز إلى التطوير والارتقاء.

وإذا كان الإنتاج كنشاطٍ مجتمعي هو مصدر القيم والمعارف، فإن الإنتاج آليةٌ ذات محتوًى وشكل وعلاقات داخل النسق وعلاقات بأبنيةٍ خارجه، وهذه جميعها تتضافر لتضفي على المنتج الثقافي طابعًا مميزًا لهذه الخصوصية. ولنا أن نتخيل نوع الإطار الثقافي الذي يفرزه مثل هذا الوضع العبودي للإنتاج، المجتمع شظايا، نثار من أفرادٍ غرباء على أرض — قيل إنها بلدهم — وهو على يقين من أن لا ناقة فيها ولا جمل، الوعي بالمكان لا يتجاوز حدود المعيش، والوعي بالزمان ليس تاريخًا، بل نهار الكدح إلى أن يلفَّه الظلام، ويكون له مع الظلام غناء أشبه بالأنين كأنما يبثه في وجل سرًّا لا يريد أن يفضح ستره. كل فرد همه الخلاص، لا خلاص أمته التي غاب تاريخها وغابت حدودها عن وعيه، بل خلاصه هو كفرد قبل أهله وبنيه، فماذا نتوقع أن تكون ثقافته التي تصوغ صورة العالم من حوله وصورة الإنسان؛ الإنسان الموقف والإرادة والأمل. خير الثقافات أسطورة تمنحه العزاء والخلاص المرجأ إلى حين، وآليات مؤقتة، تهيئ فرص الإفلات من شرور القادمين والحاكمين.

وأسهم هذا الوضع في شيوع السلبية واللامبالاة، ومع سطوة البيروقراطية خادمة السلطة شاعت الرشوة والمحسوبية والفساد ومشاعر اللاانتماء. ولنا أن نتأمل تجربة نعرفها جميعًا في مجال علم نفس سلوك الحيوان؛ جرذان جائعة كلما أقدمت على الطعام الموجود أمامها أصابتها صدمةٌ كهربائية تتراجع على إثرها، ومع تكرار التجربة وشدة وطأة الجوع انتحت الكثرة الغالبة جانبًا في استكانةٍ ذليلة ترى الطعام ولا تقربه، إلَّا قلة اهتاجت واندفعت وكأنها تؤثر الطعام أو الموت. وهذه صورةٌ مجازية ومأساوية يُمكن أن تنطبق مع التأويل على المجتمعات التي تُعاني الإذلال والاستبداد والغربة على أرض الوطن، فإمَّا أن تهرب إلى تخييلاتٍ وهمية تقيها مآل الانتحار، أو تنتظر الفرج وانتقام القدر، أو تسعى إلى حيلة التوحد مع العدو ومسايرة حياة الزيف.

(٨) أسطورة المستبد العادل

ولا أزعم أن بداية مصر الحديثة، أي التحوُّل الحضاري، ومن ثم نسق القيم والفكر، ترجع إلى محمد علي، وإنما الفائدة التي عادت على مصر جاءت بالتبعية أو نتيجةً ثانوية في البدء لم يقصد إليها محمد علي، أعني أنه لم يكن محط أطماعه إيقاظ مصر والنهوض بإنسانها وتاريخها وإنما حرَّكته مآربُ أخرى، ولكن أطماعه وخصومته مع كل القوى الأخرى، اضطرته إلى أن يعبئ جيشه من الفلاحين. وهكذا انكسر جدار المعزل العنصري لأول مرة في التاريخ، ومن هذا الجيش خرج أحمد عرابي، أول ضابطٍ مصري منذ احتلال الفرس يُعلن أن قضيته هي مصر الفلاح، وبرزت بفضل الجهود المبذولة للجيش قياداتٌ مصريةٌ ثقافيةٌ مدنية كانت بداية التيار الوطني الذي بشَّر بتحولاتٍ حضاريةٍ جديدةٍ واعية استهدفت تغيير منظومة القيم بمعناها الواسع في الثقافة والتعليم والمواطنة والعقل والإنسان العام والمرأة … إلخ، وهو تيار ليس للسلطة فيه فضل المبادأة أو التطوير.

وحسب هذا التصور، نقول إن بداية التغيير جسَّدها هذا التيار الذي مُني بالنكسات، ثم كان التغيير من السلطة مع ١٩٥٢م، وهذه السلطة والقوى الوطنية المدنية جميعهم ثمرة آلام المخاض لحركة النهوض المصرية. وهكذا كان الإصلاح الزراعي تحولًا ثوريًّا بامتياز أُطلق الفلاح من إساره، وأطلق معه غرائزه المكبوتة، وإن ظلَّ عاطلًا دون تثقيفٍ ثوري. وكانت جهود التصنيع تحولًا ثوريًّا بامتياز في محاولة لإعادة تشكيل الهيكل الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية، وأضحى التعليم مجانًا وإن ضلَّ المسئولون النهج السديد، فلم يكن المحتوى ليحقق الإنسان المنشود، لحقبةٍ حضاريةٍ جديدة، ووعيٍ تاريخيٍّ نهضوي، وقيمٍ ثورية للتغيير، وجاءت هذه الإنجازات، وإن كانت مبتورة من حيث المحتوى الثوري الثقافي، وسط مناخٍ محلي وإقليمي وعالميٍّ معاكس.

وصحيح أيضًا أن قائد هذه الإنجازات جمع في شخصه طموحاتٍ إيجابية وقيمًا سلبية هي بعض تراث الأمة نشاركه فيه جميعًا، وإن شددنا عليه النكير ورفضناه عقلًا، وما أحوج هذا الإرث الثقافي إلى دراسة نقدية تحليلية! وأول هذه العيوب التسلط الاستبدادي والفردية، وصحيح كذلك أن التغيير لم يكن شعبيًّا، أي لم يرتكز على قاعدةٍ شعبيةٍ منظمةٍ تحميه، وربما عدم ثقة في قدرات الشعب، وإنما إرادة فرد، وإن أخطأنا القياس هنا، إذ نقارن جميعًا، المثقفين النظريين وحدهم وهم دعاة نظام نخبة، بين ما استقر في الغرب بعد صراعات امتدت بضعة قرون، وبين ما كان ينبغي حسب تصورٍ نظريٍّ خالص، إنجازه في مصر على مدى عقدَين اثنين دون اعتبار لأثقال التاريخ، وعامل الزمن اللازم لاكتمال آليات تغيير واقع الحياة، ومن ثم اللازم لنضج كل تجربة تستهدف التحوُّل الثوري في فكر وقيم وعلاقات وهيكل المجتمع، ولكنِّي أقول أيضًا إن الاستبداد الفردي للحاكم آنذاك هو امتداد لتراثٍ ثقافي ولإطارٍ فكريٍّ قيمي يسود أذهاننا، حيث نؤمن بأن العاجز من لا يستبد، وحيث الأمة اعتادت أن توكل الأمر للسلطان يدبره كيف يشاء، بل وصل الأمر بنا إلى أن بعضًا من دعاة الصحوة والنهضة الحديثة، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده، تصوَّر أن المثل الأعلى للحاكم الذي تنشده مصر لخلاصها هو المستبد العادل، وكأن العدل والاستبداد يُمكن أن يجتمعا معًا.

نعم، كان المطلوب والمأمول ثورةً شاملة تتجاوز حدود الرصيد المادي إلى رصيدنا الرمزي، أعني إلى ثقافتنا وتراثنا وتغير من الإطار الفكري للإنسان، وتسمو بمكانة الإنسان، وفقًا لمقتضيات ثورة الحضارة الصناعية. ولكن محاولة التغيير فصلت عن خطأ، ما بين التغيير المادي وبين التغيير الثوري الثقافي أو الروحي، وهذا خطأ شارك فيه غالبية — وربما جميع — دعاة النهضة في العصر الحديث في العالم العربي؛ إذ التمسوا النهضة في إطارٍ مرجعيٍّ ثقافي راكد أو جامد، واقتصرت الدعوة إلى تغيير هياكل المجتمع دون تغيير ثقافته، ثم إن كل القيم السلبية التي تفجرت فجأة طاغية تملأ الساحة هي قيم فرضتها ظروف وعصور انهيارٍ حضاريٍّ طويل الأمد، وقسرٍ استبدادي، وسخرة وإذلال طال عهدها، وظلَّت كامنة لا خاملة بفعل قبضة السلطة تتحين الفرصة، وما أخطر المكبوت حين ينطلق من عقاله دون لجامٍ ثقافيٍّ عقلانيٍّ طوعي يُحدد قنواته لإشباع حاجة الفرد والمجتمع في تلاحم! وما أحوجنا أيضًا إلى دراسة سوسيولوجيا وسيكولوجيا عصور الانحطاط وآثارها على الإنسان! ذلك لأن الإنسان لا يرى الأحداث من حوله ولا يتعامل معها بوحي من عقل أو منطق، بل بتوجيه من نسق القيم والمعارف، التي رسخته في ذهنه ووجدانه التنشئة الاجتماعية.

(٩) القيم وعصور الانحطاط

إن القيم الروحية والفكرية والثقافية والمادية التي تراكمت عبر قرون الانحطاط لا تزال باقيةً حيَّة، تفرض نفسها على كل جهدٍ للتحديث، وتؤثِّر بالسلب على جميع جوانب حياة المجتمع وتعوق مسيرته. وإذا كان بحثُنا عن تاريخية نسق القِيم، والفكر هدفه الحقيقي هو التغيير واكتشاف بيت الداء فينا على مدى القرون، فإنني أقول من الخطر على النهضة، وهو أمر نشترك فيه مع بلدان العالم الثالث، أن نصبَّ اهتمامنا وانتقادنا على بحث آثار الاستعمار الغربيِّ في العصر الحديث وحدَه، أو أن نحصُر دراستنا في إطار ظواهر معاصرة نعانيها، ولا ننظر نظرًا تاريخيًّا نقديًّا محققًا إلى العوامل التاريخية والاجتماعية والفكرية التي تنتمي إلى تُراثنا السَّابق على الاستعمار الغربي، وهي عوامل فرضت هي الأخرى، عراقيل داخليَّة على حياتنا الثقافية ووجداننا القومي؛ عراقيل معرفية وروحية أو قيمية جعلَتْنا مقيَّدين، والمعول هنا على الإنسان المصري كيف كان يعيش؟ وماذا ولماذا ينتج؟ وفي أي سياقٍ، والتزام بأي نسق فكري قيمي؟ وطبيعة نظام الحكم ومصريته، وليس مناط الأمر عنوانًا أو قناعًا أيديولوجيًّا مَهْما تخفى وراء مبررات وجدانية، ولكن المهم فعاليته؛ هل كان قوة تحرير وتوحيد وتطوير للإنسان المصري تحديدًا، أم ابتغى دعاته وجهًا آخر؟ وكل نظام غازٍ ادَّعى أنه قوة تحرير هو ادعاء باطل؛ إذ لا يأتي التحرير والبعث القومي من خارج.١ ولعل هذا هو السبب في أن زعماء الإصلاح والنهضة عمدوا دائمًا بدافعٍ من الخوف إلى الفصل بين الجانب المادي والجانب الروحي في عملية النهوض بالأمة بهدف مواكبة العصر، وأفضى هذا الجمود والتجميد للتراث الروحي إلى تعثُّر النهضة وتيسير الردة.

لذا فإنه إلى جانب تاريخ مصر السياسي الاجتماعي الاقتصادي يتعين الإشارة إلى التراث الروحي، أعني الثقافي، بمعناه العام الحاكم للسلوك، والذي يمثل غِذاء لعملية التنشئة الاجتماعية، إلى أي حدٍّ تتلاءم قيم هذا التراث مع مقتضيات روح العصر. مثال ذلك ما هو العنصر الإبداعي الحي الديمقراطي النقدي في التراث الثقافي والذي يكفل الاتصال والاستمرارية؛ حتى لا نواجه خيارًا مرًّا بين الانكفاء أو القطيعة؟ إلى أي حدٍّ نجد في تراثنا الروحي على امتدادِه ما يدعم التطبيق الديمقراطي من حيث هو قيمة سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية، هل يدعم تراثنا الروحي التمرُّد والإبداع والتغيير، أم يدعم التماثل والطاعة والخضوع؟

ولسنا في تساؤلاتنا هذه بدعًا بين الشعوب التي سبقتنا إلى النهضة، وتجربة الأمم في أوروبا وفي اليابان وفي الهند وفي الصين وغيرها، شاهد على صدق بذل الجهد لإعادة تأويل التراث على هَدْي عقل ناقد لإبراز أو تأويل الموروث الإيجابي وإعادة صياغته، وفق صورة المجتمع المستقبلية، وتكون لهذه الصورة دورها المحدد، بل المعيار المنقذ من الإغراق في حوارات نظرية لا طائل تحتها.

ثمة قيم كثيرة جدَّت، وأخرى تغير مدلولها واتسع نطاقها، هي المعبر عن روح العصر، ولكنَّها لا تأتي اقتباسًا، بل لا بد وأن تكون نابعة من داخل آليات التطور الحضاري الذاتي للمجتمع مع جهد تأويلي إبداعي للملاءمة بينها وبين المأثور من التراث في صيغته الجديدة؛ ففي عالمنا المعاصر العمل قيمة، ولكن لا نزال نجد في تراثنا المعيش ما من شأنه أن يحقر العمل والعامل، والمعرفة قيمة مصدرها العقل الحر، وهو ما يتناقض مع قيمة شائعة، حيث تخضع المعرفة للإيمان، سواء كانت هذه المعرفة عن كروية الأرض أم عن العبادات، والحقيقة قيمة لا نرِثُها عن طريق التلقين، وإنما مرجعها علم نقدي، والإنسان قيمة، ليس أمره بيد السلطان، ولا مواطنته رهنًا بانتماء عقيدي، وإنما أمره رهن بفعاليته الإيجابية ومشاركته في صُنع مصيره وصنع القرار. والشعب قيمة بغير وصاية، والزمن قيمة، والمرأة أو الطفل قيمة، والتعددية قيمة، والإبداع قيمة، والإنسانية قيمة، وإن تباينت الحضارات دون تفضيل أمة أو حضارة على غيرها.

ولكنَّنا لا نزال نعيش مجتمعًا تقليديًّا على نقيض مجتمع الحداثة الذي نأمل في اللحاق به. ويمثل هذا التحوُّل الثوري في نسق القيم والفكر شرطًا لذلك. ولهذا ليس غريبًا، وهذه هي قيمنا الحضارية الموروثة من عصور الانحطاط ممتدَّة، أن تعودنا ثقافتنا على التلقي والتلقين والتقبُّل والتسليم دون عقلية نقدية. ولهذا السبب أيضًا نلتقي ونتقبل قيم الآخرين، ونقف أمامها عاجزين، وإذا أعيَتْنا القدرة على الحوار والتغيير؛ فإننا باسم الدفاع عن الهوية نسد آذاننا، ونغمض أبصارنا ونلوذ بالماضي خائفِين.

التأويل الإبداعي لتراثنا هو الشرط قرين التحوُّل المادي، أو الفاعلية الإنتاجية للمجتمع. نحن بحاجة أيضًا إلى أن ننتقل من النص إلى القيمة، عبر التأويل الإبداعي، فننأى عن الاستظهار، وننتقل إلى الفهم النقدي والاستيعاب. ونحن بحاجة إلى إعادة صياغة تراثنا الأدبي الشعبي، الذي تسُوده اللاعقلانية والأسطورة، ليكون تجسيدًا للعقل الحر، وتعبيرًا عن تمجيد الإنسان وحرية الإرادة والتغيير الإبداعي، والتسامح والانفتاح الفكري؛ ذلك لأن التراث اللاعقلاني الذي تراكم عبر القرون يُشكل سدًّا منيعًا، وتركه معوقة، أمام كل محاولة لاستنهاض الهمم. وهذه هي مهمة التنوير، وكم هي عسيرة شاقة، ولكنَّها المقدمة اللازمة للتطوير الحضاري وشحذ الطاقات، وصولًا إلى مجتمع المستقبل، أي مشروع النهضة الذي يُعيد للمجتمع هويته في صورةٍ موحَّدة تاريخًا وجهدًا للبناء، وأملًا في القدرة على المشاركة في الإسهام الحضاري العالمي المعاصر.

١  يدعونا هذا إلى نفصِّل ونمايز بين رسالة، أي رسالة، يحملها غازٍ يبرر بها غزوه، وبين الغازي نفسه، من حيث هو إنسان، أعني من حيث هو أداة وحامل ثقافة وتاريخ وصاحب مصلحة أو أطماع، وله انحيازاته وولاؤه إلى خارج، وليس نبتًا مصريًّا — قبل استيطانه — ثم إنه ليس فردًا، بل جحافل جيوش متعاقبة وحشود بشرية متوالية، أتوا لهم السيادة والسطوة استوطنوا في استعلاء، واستخدموا المصريين في إطار العزلة أو التمييز.
هنا ينقلب الميزان وتتغير الرؤية وينعكس الحكم، ليس ضد الرسالة من حيث هي نص مجمل لتعاليم، بل ضد حامليها من حيث هم قوة متمايزة، وشواهد التاريخ في هذا كثيرة، ويكفي أن نسأل، على سبيل التوضيح، لكي نُدرك الفارق، وحتى لا يظن أحد أننا نهدف إلى الطعن في محتوى رسالةٍ وافدة باسم الدين أو التحرير والتنوير، فمصر ملتقى القارات والثقافات دائمًا. أقول لنسأل ماذا لو أن الرسالة جاءت على يدِ رسولٍ فردٍ داعية، ومعه صحابته وليس على أيدي جيوش زاحفة تتبعها حشود وقبائل ظامئة مستوطنة. سوف تجد الرسالة الاستجابة الملائمة، ولكن دون مضاعفات تستهدف هزَّ الكيان المَهيض أكثر وأكثر، بل ربما أسهمت في إحياء أو بعث حضاري جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤