الوعي التاريخي والنهضة … وصور من تجارب الأمم
الوعي التاريخي ليس مجرد ذاكرة انتقائية لأحداث متفرقة وقعت دون علاقة فيما بينها. وإنما الوعي التاريخي وعي جمعي يمثل نسقًا فكريًّا. ترتكز عليه التنشئة الاجتماعية، ويبلور الشعور بوحدة الأنا الاجتماعية، ويفرز روح الانتماء عند اقترانه بالتنمية والبناء.
ولكن إذا سألنا: من نحن؟ سوف تتباين الإجابات وقد تتعثر العبارات، وتحار الأفكار؛ وفي جميع الأحوال لن نسمع ما من شأنه أن يكشف عن قسمات مشتركة لعناصر وعي تاريخي يجمع ولا يفرق. وربما نكتشف أن الإجابات هي محاولة اجتهاد فردي ليس منطلقه وعي تاريخي يحدد رؤية استنادًا إلى نظرة تاريخية نسقية، بل منطلقه نثار من أفكار حائرة أو غامضة.
والوعي التاريخي ليس وعيًا بمن نحن فقط من حيث البعد الزماني، بل ومن نحن أيضًا بالنسبة للآخرين في الزمان والمكان. إنه صورة الذات، ولن تكتمل الصورة، ولن يتضح الدور، بل لن يتعزز دور الأنا الاجتماعي ووحدتها إلا من خلال تحديد الذات في إطار الوعي بالآخر أيضًا. ومن هنا يكون الوعي التاريخي له إحداثان؛ محلي وعالمي في إطار الزمان والمكان؛ لأن الأنا الاجتماعي امتداد أو متصل دينامي في الزمان، وهي متفاعلة بالضرورة سلبًا وإيجابًا مع الآخر.
وإذا قلنا مثلًا نحن عرب؛ فما هي صورة الوعي، وما هو محتوى هذا التعريف في الوعي التاريخي المترسب في الوجدان: حضاريًّا أو لغويًّا أو عقيديًّا أو تاريخيًّا أو ثقافيًّا أو جغرافيًّا … إلخ. وكيف تطور هذا الوعي في التاريخ محليًّا وفي علاقاته بالآخرين؟ وما هي حدود امتداده في الزمان وجذوره؟ وكيف تفاعلت روافده لتصبَّ في مجرًى رئيسي شامل؟ أم أننا نكتفي بوصف عام وكأن الوعي ظاهرة نشأت من عدم مكتملة مرة وإلى الأبد؟
(١) بؤس الوعي التاريخي الراهن
إننا نعيش حالة تمزق لا مثيل لها بين الشعوب أفضت إلى ما يمكن أن نسميه «بؤس الوعي التاريخي». نمجد التاريخ ولا نعيه على نحو عقلاني نقدي وفي تطوره الاجتماعي. نفرط في الحديث عن العراقة التاريخية وننكر الجذور. نزهو على الآخرين من منطلق انحياز أيديولوجي وبات من غرائبنا أننا نلعن بعض مراحل تاريخنا أو نطمسها عن عمد. نتحدث عن الجاهلية وكأنها صفحة سوداء أو مساحة من الفضاء. ونفاخر بحضارة السبعة آلاف سنة التي تعيش جذورها في أعماق وجداننا سلوكًا وثقافة، ولكننا نجهلها ويلعنها بعضهم عن جهل. وفي جميع الأحوال لا يُشكل التاريخ القريب أو البعيد رؤية نسَقية إلى الذات القومية في بعدها التاريخي وفي علاقتها مع الآخرين. وأسهم التعليم العام بدور في ترسيخ حالة «بؤس الوعي التاريخي» مثلما أسهمت أسباب ثقافية اجتماعية أخرى.
ولا يزال التاريخ عندنا، مثلما كان عند الأقدمين، رواية لوقائع يجري انتقاؤها وفاءً لانحياز أيديولوجي على نحو يتفق مع هوى أصحاب السلطان كلٌّ في عصره. التاريخ ذكريات وروايات عن وقائع متناثرة ننتقي منها ما نشاء دون سند من الحقيقة الموضوعية. ونسوق الرواية، والمنتزعة من سياقها التاريخي الاجتماعي، لنرويها على سبيل العبرة من موقف تفرضه المصلحة واللحظة. ثم نُسقط العبرة بزوال الظرف.
نعم، لسنا بدعًا فيما نعانيه من أزمة الوعي بالذات التاريخية. ولكن القضية هي أن الشعوب حين تهمُّ للنهوض؛ فإنها تلتمس رؤية صائبة مبنية على الحقيقة وتصوغ وعيها بذاتها استنادًا إلى أفضل ما تملكه من قواعد للبحث العلمي والنشاط الاجتماعي. وهنا تعود إلى تاريخها في أصالته وشموله تعيد النظر إليه في موضوعية وقد أسقطت الأوهام. ويغدو التاريخ الحقيقي، لا المتوهم، أحد ركائز النهضة.
(٢) أوروبا واليابان والوعي النقدي بالتاريخ
هذا ما فعلته أوروبا إبان نهضتها. عادت إلى تاريخها وتجاوزت الإطار المعرفي التاريخي، الذي حصرتها فيه الكنيسة، وهو إطار وليد ثقافة تؤمن بالمطلق وله دوره السياسي. وظهرت مع النهضة والإصلاح تيارات فكرية أفضت إلى ظهور معايير جديدة للكتابة التاريخية وإثبات دور العقل. ليكن تاريخ الدين شأن الكنيسة، وليكن تاريخ الدنيا شأن الإنسان يبحث عن أسباب وقائعه في تفاعلها على الأرض. وأوضح رواد النهضة أن عصر سيطرة الكنيسة مرحلة في سلسلة من مراحل سابقة، وأن هذه المراحل عانت من الإغفال الذي أضر بوحدة الذاتية التاريخية والثقافية لشعوب أوروبا، والذي يمثل الحاضر محصلة لها جميعها.
فكان لا بد من العودة إلى الذات في امتدادها وشمولها منذ الإغريق والرومان، وأن تكون عودة إبداعية نقدية تمثلت فيما عُرف باسم الحركات الإنسانية. وعبَّر عن هذه الحركات رواد من أمثال ليوناردو بروني (١٣٦٩–١٤٤٤م)، أول مؤرخ إيطالي يُطبِّق أسلوبًا نقديًّا في الحوليات المعتمدة على الرواية. وظهرت دراسات نقدية في أنحاء مختلفة من أوروبا أفضت إلى تعزيز حركة القوميات على أساس من الوعي التاريخي القومي. وقدَّم زعماء حركة الإصلاح الديني نهجًا جديدًا في دراسة تاريخ الكنيسة.
وهكذا توفر حس تاريخي لمعنى المراحل والأحقاب ومعنى عصر جديد. وتأكد هذا النهج وتطوَّر على يد «الفلاسفة» في فرنسا، وعلى يد فلاسفة السياسة والتاريخ في إنجلترا وغيرها. وربما يمثل إدوارد جيبون في كتابه «تاريخ انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية» (١٧٧٦–١٧٨٨م). علاقة تحوُّل في دراسة الأحداث التاريخية في ضوء الظروف الاجتماعية والسياسية والحضارية.
وهذا أيضًا حال بلدان عديدة في آسيا، حين عقدت العزم على النهوض. وكانت اليابان أسبق هذه البلدان؛ نظرًا لأن حركة التحديث فيها جاءت مبكرة. عرفت اليابان خلال فترة التنوير التي مهدت لعصر الإصلاح العديد من تيارات الفكر السياسي والعلمي التي تصارعت بشأن قضية استكشاف الذات بدافع تحديات خارجية وداخلية؛ ففي إطار عصر التنوير الياباني عُني الباحثون والمصلحون بإيقاظ الوعي. الوعي بحقائق العصر والواقع والتاريخ والتراث معًا. وجرى هذا في إطار العمل على الوحدة السياسية.
ومن أعلام حركة التنوير في مجال التاريخ نذكر آراي هاكوسيكي، والذي عبَّر عن اتجاهه العقلاني النقدي بقوله: «التاريخ الياباني الحقيقي لم يُكتَب بعدُ؛ إذ لا توجد كتب تقدم لنا دراسة نقدية للأحداث الواقعية، وكل ما هو موجود منها ليس إلا تفسير لأحلام روتها أحلام.» وطالب بإعادة كتابة التاريخ وفق نظرة نقدية ليكون سجلًا موثوقًا به.
وطبق من بعده توميناجا ناكاموتو (١٧١٥–١٧٤٦م). منهج النزعة النقدية التاريخية في دراسة الدين السياسي كقوة محركة للصراع على السلطة، وحاول أن يجعل من الدراسة التاريخية أساسًا لثقافة اجتماعية أخلاقية مستقلة. وأقبل علماء التاريخ على التقنيات الغربية في تجميع المعلومات التاريخية وبحثها.
(٣) الهند واستكشاف التاريخ من الداخل
وفي الهند كان التاريخ يعتمد على الرواية. ولكن مع تطور الحركة السياسية من أجل الاستقلال، بدأت حركة نهضة علمية شملت علم التاريخ الذي عني بدراسة جميع مراحل الماضي. وحدد علماء التاريخ دورهم في العمل على استكشاف المجتمع الهندي من الداخل؛ أي من خلال العمليات الداخلية التي عاشها المجتمع في الماضي. وبدلًا من اتخاذ أحداث خارجية ركيزة لتقسيم مراحل التاريخ: غزو خارجي، أو مفاهيم وافدة، أو أحداث عرقية أو دينية للحكام، بدأ الاهتمام بتاريخ تطور الأشكال الاجتماعية الهندية، والكشف عن التحولات الاجتماعية التي تشكل أساسًا لما أصاب الهند من تدهور وخضوعها لحكام أجانب. وتركز جهد المؤرخين على استكشاف الإرث القديم للوحدة الثقافية والدينية والكبرياء المشترك القائم على الميراث الحضاري لكل أبناء الشعب الهندي. وعُني الباحثون بتحرير هذا الإرث من التشوهات التي لحقت به على أيدي الكُتَّاب الغربيين. وإذا كانت الحقبة الاستعمارية ونمو حركات التحرر الوطني يمثِّلان أحد قطبي الكتابة التاريخية؛ فإن القطب الثاني هو الماضي القديم وإنجازاته، وهكذا غرست الهند هذا الاهتمام بالنسبة للماضي القديم الذي بعث روح تعاليم الفيدا وحضارة الفيدا وقارنت بين إنجازاتها العظيمة وبين إنجازات أوروبا.
-
هل المجتمع الهندي في ظل المغول كانت لديه إمكانات التحول إلى مجتمع رأسمالي وأجهضه البريطانيون؟
-
ما دور الأقليات والحركات الدينية المعارضة قبل الاحتلال البريطاني؟
-
هل هناك عوامل اجتماعية ذاتية تُفسر — تحلل — البرجوازية في ظل المغول؟
-
الانتقال من التركيز على العوامل الخارجية في التحوُّل التاريخي إلى الاهتمام بدلًا من ذلك بالديناميات الداخلية للمجتمع.
وحققت الصين أيضًا قدرًا من التقدم في الدراسات التاريخية في مواكبة لحركة التنمية والتطوير. واعتمد في هذا على مناهج البحث العلمي وصولًا إلى رؤية علمية نقدية للتاريخ. ويقول وانج جونجوو: «أضحت المفاهيم التاريخية الأساسية مقبولة تمامًا الآن من المؤرخين الآسيويين، بمعنى ضرورة دقة الزمان والمكان، وضرورة أن تكون المعارف عن ماضي الإنسان علمانية وإنسانية، ولا بد من اختيار الواقع التاريخي والتأويل في ضوء المناهج العلمية.»
(٤) أفريقيا … البعث والبحث عن الذات
وفي أفريقيا السوداء حفلت الأدبيات الأفريقية منذ الستينيات، وهو عقد انتصار حركات الاستقلال، بعديد من الدراسات التاريخية التي أضحت مجالًا لصراع أيديولوجي بين توجهات الباحثين السياسية. وكان الدافع الأساسي لدى الباحثين في جميع الأحوال هو أن الجيل الجديد يريد، خلال مواكبة معارك البناء والتنمية، أن يعرف تاريخ بلاده لصياغة رؤية المواطن الجديد من خلال التعليم والإعلام.
وبدت المهمة صعبة عسيرة بالقياس إلى البلدان ذات الحضارات العريقة أو التي لها سبق في مجال الدراسة والتوثيق والتسجيل؛ إذ كان لا بد من محاولة البحث عن الماضي حيث لا وثائق مكتوبة، ولا شيء غير التراث الشفاهي. ومن مشكلات التراث الشفاهي استخلاص التتابع الزمني واكتشاف الأسباب. وهذه المهمة تحتاج إلى الاستعانة بتقنيات علوم أخرى مثل الآثار واللغة والأثنولوجيا والأنثروبولوجيا كمصادر للمعلومات. ويتعين كذلك استكشاف الحقيقة وراء ركام هائل من معلومات مكذوبة روَّج لها الاستعمار واصطنعها خيال يؤمن بأن العقل الأوروبي هو الأفضل والأرقى، وأوروبا هي المحور.
ومن ثَم بات ضروريًّا على الباحث الإفريقي، في باكورة النهضة، أن ينأى عن نظرة المحورية الأوروبية التي رأت شعوب أفريقيا أدنى حضارة وبلا تاريخ وأحطَّ عقلًا وفكرًا. وهي نظرة ثبت بطلانها عند الأوروبيين أنفسهم، مما حدا بهم، هم أيضًا، إلى مراجعة آرائهم ودراساتهم السابقة. وأدرك الباحث الأفريقي أن هذا النقد لا يتأتى من منطلق أيديولوجي وعاطفي خالص، بل يتعين نقد نهج البحث القديم، وكشف تهافته وتناقضه مع قواعد النهج العلمي، وتقديم نهج بديل له ركائزه ومقوماته العلمية.
والجدير بالذكر أن هذه المهمة النقدية العقلانية لا تتحقق على نحو غوغائي، كما يحلو للبعض أن يفعل، بمعنى أن يرفض كل دراسات الأوروبيين جملة وتفصيلًا دون بحث أو نظر، والاكتفاء بإلقاء تهمة أنها دراسات استعمارية مغرضة، وندير لها ظهورنا، ونصرف عنها فكرنا وعقولنا، بل اقتضت هذه المهمة موقفًا آخر متميزًا؛ إذ بات السؤال المطروح أكاديميًّا: هناك كمٌّ هائل من المعارف والدراسات على أيدي علماء من الغرب والشرق لها خلفيات متعارضة فماذا يفعل بها الأفارقة؟ وما الموقف من دراسات العالم الغربي أو الشرقي عن تاريخ أفريقيا وكيف السبيل إلى نقدها في ضوء مناهج البحث والخلفيات الأيديولوجية لها؟
اقتضى هذا بداية جمع هذه الدراسات من مصادرها المختلفة في الشرق وفي الغرب. وعكفوا على دراستها ونقدها وكشف الجيد والخبيث منها في ضوء رؤية أفريقية؛ أي رؤية وقائع التاريخ من زاوية الوعي الأفريقي الساعي إلى النهضة. ورأوا ألَّا يقتصر الأمر عند هذا الحد بل يتعين أولًا مواكبة هذه الدراسات ومتابعة الجديد منها واكتساب مناهج البحث الجديدة، وثانيًا إضافة الجديد ثمرة الجهد الأفريقي لوضع صورة موحَّدة وجديدة عن تاريخ القارة ومجموعات بلدانها وشعوبها، والإبانة عن الجذور التاريخية التي تيسر الوحدة، وتحدد معالم صورة الذات والوعي التاريخي.
(٥) قضايا أفريقية … الأصالة المعاصرة
وبرزت أمام المؤرخين الأفارقة قضايا عديدة ترتبط بالتاريخ، ومن هذه القضايا التي تصدرت جداول أعمال مراكز البحوث وعكف عليها المتخصصون وترتبط ارتباطًا وثيقًا بتشكيل الوعي التاريخي في إطار حركة النهضة القضايا التالية: التخلف في مجالات الحياة وأسباب التخلف تاريخيًّا وفي سياقه الاجتماعي – الحضارة الأفريقية – تجارة العبيد – تاريخ القهر الاستعماري وتشويه صورة الماضي – معنى الأمة والتاريخ ووحدة التاريخ واللغة، وصورة ذلك في الماضي – تاريخ النضال ضد الغرب من أجل التحرر وهل حقًّا كانت شعوب أفريقيا بلهاء ومطية سهلة؟ هل الصواب دراسة كل قبيلة أو دولة وحدها أم ثمة روابط عرقية وإثنوجرافية وأنثروبولوجية تجمع بين شعوب القارة السوداء مما يعني ضرورة دراسة إشكاليات القارة في ضوء خلفية تاريخية واسعة وارتباط ذلك بمناحي النشاط الاجتماعي المختلفة: ثقافة واقتصاد ولغات … إلخ. وهل يُمكن تقسيم التاريخ إلى أحقاب وكيف؟ العلاقة بين حضارة وادي النيل وأفريقيا الاستوائية – الهجرات إلى قلب أفريقيا من الشرق – حركات الاستيطان في أفريقيا – محاولة سد الثغرات وصولًا إلى وحدة التاريخ – العلاقات القبيلية في الماضي وآثارها، وصولًا إلى صورة كاملة عن التطور الاجتماعي لشعوب أفريقيا في المرحلة الراهنة – الإسهامات الثقافية والحضارية لشعوب أفريقيا – تاريخ الفكر الاجتماعي في أفريقيا – تاريخ النهب الاستعماري – النتائج الاجتماعية لتجارة العبيد والسياسات الاستعمارية – تاريخ نشأة وتطور فكرة الاستقلال السياسي – تاريخ القطاعات الاجتماعية المختلفة وتنظيماتها السياسية خلال معارك الاستقلال – مصادر التاريخ الأفريقي.
وأنشأت الجامعات في مختلف بلدان أفريقيا معاهدَ ومراکز للبحوث والدراسات التاريخية للوفاء بهذه المهمة، مثال ذلك مركز البحوث والدراسات التاريخية في جامعة داكار، والمعهد الأساسي لأفريقيا السوداء في السنغال، وجامعة الدولة في زائير، وجامعة أديس أبابا في إثيوبيا، وجامعة بادان في نيجيريا، وجامعة ليجون في غانا، وأكاديمية العلوم في مالاجاش، وغيرها.
علاوة على هذا؛ فإن تيارًا من الباحثين الأفارقة أكَّد أن الصورة التاريخية عن أفريقيا لا تكتمل عناصرها من خلال دراسة انعزالية تغفل صلات إفريقيا بالعالم في الماضي والحاضر. وإنما يتعين عدم فصل تاريخ أفريقيا عن تاريخ البشرية، في مجموعه، ومن ثم دراسة التاريخ الأفريقي بوصفه بعض نسيج التاريخ العالمي في حالة فعل ورد فعل أو تفاعل.
•••
إن العالم الثالث كله، وكما تشير التجارب المذكورة، ألحَّ عليه سؤال عقب الاستقلال وهو في غمرة مواجهة تحدياته: ما هي قيمة معارفنا التاريخية الاجتماعية؟ وحاولت كل أمة، في ضوء همومها ومشكلاتها، أن تجيب عن هذا السؤال لتعيد بناء صورة الذات، وتعزز الوعي التاريخي بها، وترسخ معنى الانتماء في محاولة لتعبئة قوى المجتمع على طريق التنمية والتطوير. ونجحت أمم وتعثرت أخرى.
وتشهد التجارب الناجحة أن السبيل إلى وعي تاريخي صادق هو الفهم العقلاني للتاريخ، القائم على المنهج العلمي للبحوث المتداخلة؛ حيث يكون علم التاريخ طرفًا متكاملًا مع علوم الإنسان الأخرى في سبيل تحليل الواقع الاجتماعي التاريخي، وتحديد التغيرات الرئيسية، وفهم جذورها، وإلقاء ضوء کاشف على الممنوع من الفكر والتاريخ، والتعرف على الاتجاه العام للتحولات الواسعة والبنى الفكرية التي تظاهرها لتحديد من نحن، وكيف نرتبط بنسيجنا، وماهية هذا النسيج.
وإن إنقاذ ذاتيتنا القومية رهن برؤية تاريخية علمية نقدية للماضي. وهذه الرؤية هي ضمان الوحدة القومية وفاعلية المجتمع على الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت قضيتنا هي إثبات وجودنا والدفاع عن هذا الوجود والقدرة على التصدي للغزوات الفكرية؛ فإن ذلك لا يكون بالتقوقع داخل شرنقة الماضي الذي لا نعيه، ولا الاحتماء تحت عباءة سلف عاشوا عصرهم، بل الوعي بحقيقة وجودنا في جذوره وامتداده التاريخي، وفي تنوعه وتناقضه. وأن يكون هذا الوعي العلمي العقلاني لبنة محورية في كل أنشطة الحياة.
ولعل الأمم التي نجحت إنما نجحت أيضًا، علاوة على ما أسلفناه؛ لأن التاريخ كانت له وظيفة تستلزمه حين حسمت قضية التقديم، واجتمعت إرادتها على التنمية والتطوير. أما نحن فلا يزال الغموض يكتنف الإطار العام لحركة المستقبل التي تحفز البعث التاريخي، ولهذا يظل التاريخ في كنف الماضي منهجًا ونهجًا ونظرية ريثما نهتدي إلى طريقنا نحو المستقبل.