قصص الخيال العلمي

«ومما يُحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عظيم ذو خطر جسيم وكان له ثلاث بناتٍ مثل البدور السافرة والرياض الزاهرة وولدٌ ذكَر كأنه القمر، فبينما الملك جالس على كُرسي مملكته يومًا من الأيام إذ دخل عليه ثلاثةٌ من الحكماء مع أحدهم طاووس من ذهب ومع الثاني بوق من نحاسٍ ومع الثالث فرَس من عاجٍ وأبنوس، فقال لهم الملك: ما هذه الأشياء؟ وما مَنفعتُها؟ فقال صاحب الطاووس: إن منفعة هذا الطاووس أنه كلَّما مضت ساعة من ليلٍ أو نهار يُصفق بأجنحته ويزعق. وقال صاحب البوق: إنه إذا وُضِع هذا البوق على باب المدينة يكون كالمُحافظ عليها، فإذا دخل في تلك المدينة عدوٌّ يزعق عليه هذا البوق فيُعرَف ويُمسَك باليدِ. وقال صاحب الفرس: يا مولاي إن منفعة هذه الفرس أنه إذا ركبها إنسان تُوصِّله إلى أي بلاد أراد.»

حكاية الحكماء الثلاثة

«… بلغني أيها الملك السعيد أن الحكيم عرَّف ابن الملك لولب الصعود وقال له: افرُك هذا اللولب ففركه ابن الملك، فإذا بالفرس قد تحرَّك وطار بابن الملك إلى عنان السماء، ولم يزل طائرًا حتى غاب عن الأعيُن، فعند ذلك احتار ابن الملك .. ثم إنه جعل يتأمَّل في جميع أعضاء الفرس فبينما هو يتأمَّل فيها إذ نظر كشيءٍ مثل رأس الديك على كتِف الفرس الأيمن، وكذلك الأيسر، فقال ابن الملك: ما أرى فيه أثرًا غير هذَين الزرَّين، ففرك الزِّرَّ الذي على الكتف الأيمن فازدادت به الفرس طيرًا طالِعةً إلى الجو، فتركه ثم نظَر إلى الكتف الأيسر فرأى ذلك الزِّرَّ ففركه فتناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط ولم تزل هابطة به إلى الأرض قليلًا قليلًا وهو مُحترس على نفسه …»

حكاية الحكماء الثلاثة

«… فوجد ولدَين صغيرَين من أولاد السحرة والكهَّان وبين أيديهما قضيب من النحاس منقوش بالطلاسم، وبجانب القضيب طاقية من الأدَم بثلاثة تروك مَنقوش عليها بالبولاد أسماء وخواتم، والقضيب والطاقية مرمِيَّان على الأرض والولدان يختصِمان ويتضارَبان عليهما حتى سال الدمُ بينهما. وهذا يقول: ما يأخذ القضيبَ إلَّا أنا. والآخر يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. فدخل حسن بينهما وخلَّصهما من بعضهما وقال لهما: ما سبب هذه المخاصَمة؟ فقالا له: يا عم، احكم بيننا فإن الله تعالى ساقك إلينا لتقضيَ بيننا بالحق. فقال: قُصَّا عليَّ حكايتكما وأنا أحكُم بينكما. فقالا له: نحن الاثنان أخوان شقيقان، وكان أبونا من السَّحرة الكبار، وكان مُقيمًا في مغارةٍ في هذا الجبل، ثم مات وخلَّف لنا هذه الطاقية وهذا القضيب. وأخي يقول ما يأخذ القضيب إلا أنا، وأنا أقول ما يأخُذه إلا أنا. فاحكُم بيننا وخلِّصنا من بعضنا. فلمَّا سمع حسن كلامهما قال لهما: ما الفرق بين القضيب والطاقية؟ وما مقدارهما؟ فإن القضيب بحسب الظاهر يُساوي ستة جدد والطاقية تُساوي ثلاثة جدد. فقالا له: أنت ما تعرف فضلهما .. ففي كلٍّ منهما سِر عجيب، وهو أنَّ القضيب يُساوي خراج جزائر واق بأقطارها، والطاقية كذلك .. لأن أبانا عاش مائة وخمسة وثلاثين سنة يُعالِج تدبيرهما حتى أحكمهما غاية الإحكام وركَّب فيهما السِّرَّ المَكنون واستخدمهما الاستخدامات الغريبة ونقشَهما على مثل الفلك الداني وحلَّ بهما جميع الطلسمات. وعندما فرغ من تدبيرهما أدرَكَه الموت الذي لا بدَّ لكل أحدٍ منه. فأما الطاقية فإن سِرَّها أنَّ كلَّ من وضعها على رأسه اختفى عن أعين الناس جميعًا فلا ينظره أحدٌ ما دامت على رأسه. وأما القضيب فإن سِرَّه أن كلَّ من ملَكَه يحكُم على سبع طوائف من الجنِّ والجميع يخدمون ذلك القضيب، فكلهم تحت أمره وحُكمه، وكل من ملكَه وصار في يده إذا ضرب به الأرض خضعت له ملوكها وتكون جميعُ الجن في خدمته.»

حكاية حسن البصري

«… وإذا ظفرنا بملكة الحيَّات نحطُّها في قفصٍ ونروح بها إلى الأعشاب التي في الجبال، وكل عشبٍ جُزْنا عليه وهي معنا ينطق ويُخبر بمنفعته بقدرة الله تعالى. فإني قد وجدتُ عندي في الكُتب أن في الأعشاب عشبًا كل من أخذَه ودقَّه وأخذ ماءه ودهن به قدمَيه ومشى على أي بحرٍ خلقه الله تعالى، لم يبتلَّ له قدَم …» «… فقالت له: اعلَم أن عفَّان وبلوقيا لمَّا فارقاني وسارا، دَهَنا أقدامهما من ماء ذلك العشب ومَشَيا على وجه البحر، وصارا يتفرَّجان على عجائب البحر. وما زالا سائرَين من بحر إلى بحر حتى عديا سبعة أبحر …»

حكاية مغامرات حاسب كريم الدين

•••

من الواضح أن الاختراعات المذكورة في قصة الحكماء الثلاثة هي مِن قبيل الحكايات المُستقبلية؛ فقد جرى بعد ذلك بقرونٍ اختراع الآلة التي تُعين الوقت كلَّ ساعةٍ بخروج التماثيل الخشبية الصغيرة ودخولها. أما الفرس الأبنوسي فهو أول ذكر لآلة تحمل الإنسان وتطير به في الجو ناقلةً إيَّاه من مكان إلى مكان، وعلى نحو يستطيع التحكم فيه. أما الفارس الذي يرصد أي عدوٍّ يدخل البلاد فهو أقدم شكلٍ بدائي للرادار الذي يرصد دخول أجسام غريبة إلى منطقة مُعينة. وفي بعض نسخ هذه القصة، يزيد الراوي بأن يجعل ذلك الفارس يُرسِل بالصواعق على الغريب العادي فيقضي عليه، ويرَون فيها أيضًا أول تصويرٍ لأشعة نووية أو أشعة الليزر في صورتها الحربية التي تمحق العدوَّ وتزيل أثره من الوجود.

وقد تناقل القرَّاء أيضًا على مرِّ العصور قصة البساط السحري الذي يطير بمن عليه من مكانٍ إلى آخر، وهو أيضًا من أحلام البشر في كل العصور، أي إمكانية الانتقال السريع من مكانٍ إلى آخر، خاصة عبر الجو، وهو ما تحقَّق بعد ذلك عن طريق الطائرات، ثم الطائرات الأسرع من الصوت. ولا يزال المُستقبل يحمل في طياته تحقيق المزيد من سرعة الانتقال والاتصال، بما يُحقِّق أحلام الفرَس الطائر والبساط السحري. وقد وردت حكايات الطيران في الجو في عدَّة مواضع من قصص ألف ليلة وليلة، يُبيِّن الاقتباس أعلاه إحداها. وقد وردَ ذكر البساط الطائر في حكاية الأمير أحمد والأميرة باري بانو، وفيها يتنافس ثلاثة من الأمراء أولاد أحد السلاطين العظام على الزواج من ابنة عمِّهم نور النهار، فيعقد أبوهم السلطان مسابقةً بينهم؛ أيُّهم يأتي بأعجبِ الأشياء فهو الفائز. ويتوجَّه أكبرهم، الأمير حسين إلى مملكة بسناجار على الساحل الهندي بحثًا عن شيءٍ عجيب يَجلبه، فيرى فيها أحد التجار يعرِض بساطًا للبيع بثمنٍ باهظ، ولمَّا يسأل عن السبب يُجيبه البائع بأن أي شخصٍ يجلس على ذلك البساط يُمكنه الانتقال في غمضة عينٍ إلى أي مكانٍ يشاء، لا يعوقه في ذلك عائق! كذلك يرِد ذكر الانتقال الجوي في قصصٍ أُخرى من حكايات ألف ليلة.

وكثيرًا ما يقترن الطيران والطائرة في ذهن الكتَّاب بقصة البساط السحري كما وردت في ألف ليلة. فالكاتب ﻫ. ج. ويلز، في سِيرته الذاتية يحكي عن رحلته الجوية إلى موسكو قائلًا: «… حتى عام ١٩٠٠م، لم تكن تُشكِّل رحلة مثل هذه إلا أعجوبةً كأعجوبة بساط الأمير حسين.»

وتجدُر الإشارة إلى أن القصة السابق ذكرها، «حكاية الأمير أحمد والأميرة باري بانو» تضمُّ ذكر اختراعاتٍ عجيبة أخرى، كالتي عثر عليها الأمير الثاني علي الذي توجَّه إلى مدينة شيراز ببلاد فارس وجلب من هناك منظارًا سحريًّا يرى الناظرُ في أي طرفٍ منه أيَّ شيءٍ يودُّ أن يراه! أما الأمير الأصغر أحمد، فهو يجلب من سمرقند تفَّاحةً سحرية يُمكنها أن تَشفي أي مريضٍ من أي علةٍ كانت! وقد توصَّل علم اليوم إلى بعضٍ من هذه الخواص، مُتمثلًا في التليسكوب، والأدوية الناجعة التي توصَّلت إليها الأبحاث الطبية الآن، ولكن ما نزال نفتقد الخواص الأخرى لتلك الأشياء العجيبة.

أما حكاية طاقية الإخفاء فهي تتحدَّث عن نفسها، ويرى القارئ في تكملة القصة كيف استغلَّ حسن البصري تلك الطاقية في هزيمة أعدائه والتوصُّل إلى زوجته التي كان يبحث عنها وتحقيق كل أحلامه. ورغم أنَّ العِلم الحديث لم يتوصَّل — بعد — إلى اختراع مثل هذا الشيء الذي يجعل الإنسان مُختفيًا عن أعين الآخرين، فما يزال الذهن البشرى يتطلَّع إلى تحقيق مثل هذا الاختراع العجيب. كذلك لم يتوصَّل العلم الحديث إلى اختراع شيءٍ يُمكِّن الإنسان من السير على المياه، وإن كان يمكن الآن الجري عليها كما يفعل رياضيو الانزلاق على الماء، وإن كان ذلك يتمُّ بمعونة أشياء خارجية، كالقوارب أو الزحافات الآلية، أو التي يسحبها الشراع.

وقد حفلت ألف ليلة وليلة بقصص الخوارق والعجائب والسحر والجن، وقد ذكرناها في مواضعها؛ إذ إن ذلك يختلف عن عناصر قصص الخيال العلمي، التي يتعين أن تكون نابعةً من اختراعاتٍ بشرية لا تدخُل فيها عناصر ما فوق الطبيعة أو خوارق المرَدة والشياطين. ولهذا لم نتعرَّض هنا لحكاية القضيب المسحور الذي وجدَه حسن البصري مع طاقية الإخفاء؛ إذ إنه يتَّصِل بالجن وليس من قبيل الصنعة البشرية. وينطبق مثل هذا القول على قصة علاء الدين والمصباح السحري، والصيَّاد والعفريت، وغيرهما. أما قصة علي بابا والأربعين حرامي، فإن فيها شيئًا يُماثل استخدام العِلم للصوت الإنساني لتحريك الجماد وتفعيله، وإن كان ذلك على نحوٍ بدائي طبعًا. ومن المؤسِف أن حكواتي القصص لم يتطرَّق خيالُه إلى اختراع بصمة الصوت، إذن لكان أراح العصابة من الدُّخلاء على الكنز، فلم تكن المغارة تنفتح إلا بصوت أناسٍ مُعينين، كما تنفتح خزانة البنوك السويسرية الآن لبصمة صوت صاحبها وحدَه فحسب!

وفي «حكاية جودر الصياد وأخويه» ذِكرٌ لعددٍ من الطلاسم السحرية تُلقِي ظلالًا على المخترعات الحديثة أيضًا. ففي تلك القصة من قصص ألف ليلة وليلة، يجري ذِكر كنزٍ يُسمَّى «كنز الشمردل» ويحتوي على خاتمٍ وسيف ودائرة فلك ومكحلة، وكلها أدوات سحرية تكون في خدمةِ من يملِكها. والطريف منها هو دائرة الفلك، وهي تُذكَر في الحكاية على النحو التالي: «وأما دائرة الفلك فإن من يملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد مِن المشرق إلى المغرب فإنه ينظُرها ويتفرَّج عليها وهو جالس، فأي جهةٍ أرادها يوجِّه الدائرة إليها وينظر في الدائرة فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأنَّ الجميع بين يدَيه؛ وإذا غضب على مدينةٍ ووجَّه الدائرة إلى قُرص الشمس وأراد احتراق تلك المدينة فإنها تحترق.» ويمكن للقارئ أن يُفسِّر عمل تلك الدائرة على المستوى المُعاصر كما يحلو له، فهي تقوم مقام التلفزيون الحديث، الذي يُمكِّن المشاهد — عن طريق الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية و«الكابل» و«الدش» مِن توجيه محطته إلى أي بلدٍ يشاء ويرى فيه برامج تلك البلد أو الجهة؛ كما يمكن تفسيرها أيضًا بالرادار الذي يستطلع تحركات الجيوش والطيران، ويُمكِّن القادة من تدمير وإحراق أي طائراتٍ مُغيرة، كما تذكُر الحكاية عن توجيه قرص الشمس إلى أي مدينةٍ مغضوبٍ عليها فتحترق!

وقَصَص الخيال العلمي هو — كما تُعرِّفه الموسوعة البريطانية في آخِر طبعاتها المُختصرة — «شكل قصصي ظهر في القرن العشرين ويتناول أساسًا أثر العِلم المُتخيَّل على المجتمع أو الأفراد. ويُستخدَم المصطلح على نحوٍ أعمَّ للإشارة إلى أي فانتازيا أدبية تتضمَّن عاملًا علميًّا.»

وقد انتشر هذا النوع من القصص والروايات عشيةَ وغداةَ الوثبة العلمية الكبرى التي حقَّقها الغرب بعد امتصاصه واستيعابه النهضة العلمية التي حققتها الحضارات السابقة عليه وأهمُّها الحضارة العربية الإسلامية. وقد بدأت الاختراعات العلمية في الظهور في القرن التاسع عشر، بما أصبح يُدعى الانقلاب الصناعي. ثم توالت الاختراعات التي لم تخطُر على بال الإنسان إلَّا في كتابات المُستقبليين وعلى رأسهم ماري شيللي وجول فيرن وه. ج. ويلز وستيفنسون. أما كتابات وقصص الخيال العلمي المُعاصرة فهي تصدُر بغزارةٍ فائقة وتَلقى رواجًا كبيرًا بين القراء، ومن أبرز من اشتُهروا بها في أواخر القرن العشرين الكاتب الأمريكي — الروسي المولد — إسحاق عظيموف (١٩٢٠–١٩٩٢م).

وأول رواة الخيال العلمي على نحوٍ دءوب هو الفرنسي جول فيرن (١٨٢٨–١٩٠٥م)، فهو قد خصَّص مُعظم أعماله لأدب الخيال العلمي. وقد انطلق من شعاره الذي يقول: «إن كلَّ ما بوسع الإنسان أن يتخيَّلَه، سيقوم أناسٌ آخرون بتحقيقه.» فتخيل طيران الإنسان في المناطيد، والرحلة إلى القمر، والوصول إلى باطن الأرض، والدوران حول العالَم في أدنى مدة: وهذه كلها «خيالات» حقَّقها العِلم بعد ذلك بل وتعدَّاها. ويُذكَر لجول فيرن أنه أول من بشَّر — في العصور الحديثة — باختراع الغوَّاصة والطائرة والتليفزيون، وغزو الفضاء. وروايته «من الأرض إلى القمر» نموذجية في كيفية اتِّحاد الخيال مع الدرس العلمي في تحقيق عملٍ مُستقبلي بديع. ونقتبِس هنا ما كتبه مُحرِّر شهرية «كتاب» المعروفة عن تلك القصة ومؤلفها: «وفي قصته المشهورة هذه: «من الأرض إلى القمر»، كانت حساباته وتقديراته كلها صحيحة ودقيقة، لأنه اعتمد على قوانين الطبيعة وطبَّقها في تصوُّراته وتخيُّلاته، واعتمد كذلك على النظريات الفلكية القديمة .. بل لقد أمدَّت التكنولوجيا الحديثة سفينة الفضاء «أبوللو ١١» بالقوة اللازمة للهروب من جاذبية الأرض تمامًا كما تخيَّلها «فيرن» عندما فرَّت كبسولته من الجاذبية الأرضية وهي مندفعة من الأرض بقوةٍ عظيمة .. ولعل الأغرب أن «فيرن» صوَّب كبسولته نحو القمر بنفس الطريقة التي صَوَّبت بها هيئة «ناسا NASA» مركبة أبوللو ١١ نحو النقطة التي حُدِّدت لها على القمر …» وقد احتفلت مدينة إميان التي استقرَّ فيها جول فيرن بشمال فرنسا، برحلة أبوللو إلى القمر بأن منحت ملَّاحي الفضاء الثلاثة «أرمسترونج» و«ولنز» و«ألدرين» حقَّ المواطنة فيها، تكريمًا لهم ولجول فيرن في الوقت ذاته!

كذلك كتبت فيكي حبيب في جريدة الحياة بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة فيرن عن مقالٍ كتبه «جاك لون دوان» في مقالٍ في الملحق الذي أصدرته جريدة لي موند عن جول فيرن: «وإذ يسأل دوان في بداية مقاله عما إذا كان مخترع الغوَّاصات والأسلحة والفاكس استشعر سُلطة الصالات السينمائية المُذهلة قبل الأخوَين لوميير فإنه يجيب: «في كل الأحوال نحن مَدينون لجول فيرن بتخيُّله جهازًا افتراضيًّا تُبَثُّ عبره صورة ثابتة لامرأةٍ كانت اختفت باستخدامه شعاعًا ضوئيًّا شديد القوة، ومرآة وألواحًا زجاجية مُنحنية، ما أدَّى إلى تصوير انبعاث المرأة من جديد إلى الحياة.» وكان هذا قبل ولادة فن السينما بسنواتٍ طويلة، مما يعني مواربةً أن جول فيرن ساهم، أيضًا، وحتى من دون أن يدري، في اكتشاف فن السينما.»

أما أوجه الموازنة بين فيرن وألف ليلة فتتبدَّى في مجال عوالم البحار. ورغم أن ألف ليلة تزخَر بقصص البحار وعوالم البحار، فإن القصة التي تُصوِّر تصويرًا كاملًا حياةً مستقلةً تحت البحر هي «حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري». وفي تلك القصة، نرى صيادًا فقيرًا يُدعى عبد الله يعول أسرةً من سبعة أولاد وأُمِّهم، ولا يكاد يجد ما يُقيم أودَهم. ويمضي عليه عدة أيام بلا صيدٍ حتى أنه يستدين خبزه بالأجل، إلى أن كان يومٌ وجَدَ شبكته ثقيلةً جدًّا، ولكن بدلًا من السمك الوفير، يجد فيها رجلًا آدمِيًّا. ويفزع الصياد منه، ويظنُّه من جن الملك سليمان، ولكن الرجل يُطمئنه ويذكر له أنه آدمي مِثله، ولكنه من «أولاد البحر»، وأن الشبكة قد أحاطت به وقيَّدَته، ولولا أنه يخاف الله لقطع الشبكة وحرَّر نفسه، ولكنه لم يُرِد أن يُضيع الوسيلة التي يسترزق منها الصياد. ويتصادق رجل البرِّ ورجل البحر، ويتعاهدان على الالتقاء من حينٍ لآخر، ليتبادلا الأشياء التي يفتقر إليها كلٌّ منهما، فيحمل عبد الله البري إلى صاحبه عبد الله البحري أصناف الفاكهة المُتوفِّرة بكثرة على الأرض ولكنها لا تُوجَد في البحر، كالعنب والبطيخ والرمان والخوخ والتين، بينما يُحضر عبد الله البحري لصاحبه أصناف الجواهر العديدة التي يزخَر بها البحر ولا يهتم بها الناس هناك، من مرجانٍ وياقوت وزمرُّدٍ ولؤلؤٍ وزبرجد. وفي يوم، يدعو عبد الله البحري عبد الله البري لزيارته في البحر، كي يصحبه في جولةٍ يُريه فيها الحياة والناس هناك؛ ويُقدِّم له دهانا يدهن به جسمَه كلَّه فيُصبح قادرًا على الحياة بسهولةٍ في قاع البحار. ويرى هناك عالمًا كاملًا داخل جوف البحر، ويزور مدائن مُتعدِّدة، يُفرِّجه زميله البحري على ثمانين منها، ويرى في كل مدينةٍ أُناسًا لا يُشبهون الناس التي في غيرها من المدن. ويذكر له عبد الله البحري أنه «لو أراه ألف مدينةٍ كل يومٍ لمدة ألف عامٍ لما رأى قيراطًا من أربعة وعشرين قيراطًا من مدائن البحر وعجائبه!» ولكن ما يلفت نظر عبد الله البري في حياة البحر هو أن كلَّ شيء فيها قائم على السمك، وجميع أهل البحر لا يتعاملون مع بعضهم البعض إلا بالسمك، وليس هناك من طعامٍ إلا الأسماك.

وهذه الحياة الكاملة في قاع البحار هي نفس موضوع رواية جول فيرن المُعنوَنة «٢٠ ألف فرسخ تحت الماء»، وإن كانت أكثر تطورًا وحبكةً بطبيعة الحال. وفيها نرى الراوي، بيير أروناكس، ويعمل أستاذًا في المتحف الطبيعي بباريس، يذهب في مُهمَّةٍ علمية على ظهر السفينة الأمريكية إبراهام لنكولن، المُجهَّزة تجهيزًا خاصًّا لاستكشاف «الوحش البحري» الذي يتسبَّب في كوارث بحرية في أعالي البحار، ولم يستطع أحد تحديد هويته.

وتمضي السفينة لتبلُغ بحر الصين، وبعد أن يئِس الجميع من العثور على الوحش هناك، يظهر لهم فجأةً ويصطدم بالسفينة الأمريكية، ويجد الباحث الفرنسي نفسه مع تابِعه «كونس» وبحَّارٍ كندي آخر أنفسهم في وسط البحر. ويَصِلون آخر الأمر إلى جسم الوحش، فيُفاجئون بأنه جسم من الصُّلب وليس مخلوقًا بحريًّا. ويظهر رجال مُلثَّمون منه ويَحملونهم إلى جوف ذلك «الغول الحديدي». ويكتشفون أنهم في جوف غوَّاصة هائلة، يمتلكها الكابتن «نيمو» الذي اعتزل الدنيا وما فيها وشيَّد لنفسه عالمًا مُستقلًّا في تلك الغواصة، زوَّدَه بكل ما يحتاج إليه، وأصبحت حياته كلها من البحر وإليه، ويتَّفق عالَمه مع ما جاء في حكاية ألف ليلة وليلة من أن جميع طعام وشراب أهل الغواصة هو من البحر وكائناته. ويقول الكابتن نيمو عن البحر: «أجل، إني أُحِبُّه. البحر هو كلُّ شيء. إنه يُغطي سبعة أعشار الكرة الأرضية. ونسمتُه نقية وصحِّية. إنه صحراء لا حدود لها، حيث الإنسان لا يبقى وحيدًا أبدًا، فهو يشعر بالحركة في كلِّ شيء. البحر هو تجسيد لوجودٍ فوق الطبيعة رائع؛ وما هو إلَّا حُب وعاطفة.» وطبعًا تمضي رواية «فيرن» في أحداثٍ عجيبة كثيفة بعد ذلك، وتدخل إلى عالَمٍ من التنبؤات العلمية التي تَميَّز ذلك الكاتب الفرنسي بها.

وجدير بالذِّكر أن ذِكر حياة البِحار في ألف ليلة وليلة لم يقتصر على حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري، ففي حكاية «جلنار البحرية وبدر باسم» قصةٌ أخرى لقَوم يَحيَون داخل البحار. ففيها يتزوَّج ملك ساسان من جاريةٍ يتَّضح أنها ابنة أحد ملوك البحار ممَّن يعيشون داخلها. وفيها أيضًا وصف تفصيلي لكيفية عيشِهم داخل البحر وحياتهم فيه.

أمَّا ﻫ. ج. ويلز فقد اكتسب عن حقٍّ لقب «رسول المستقبل» بما كتب من قصصٍ وروايات من الخيال العلمي. وكانت أولى رواياته في هذا الخصوص «آلة الزمن» التي ذكرناها في فصلٍ آخر من هذا الكتاب، وقد أتبعها برواية «جزيرة الدكتور مورو» عام ١٨٩٦م، ثم «الرجل الخفي» في ١٨٩٧م، التي كانت محاولةً حديثة لابتعاث طاقية الإخفاء التي وردت في ألف ليلة. بيد أن مُعظم روايات ويلز العلمية تعلَّقت بغزو الفضاء والحرب بين الكواكب، وهو ما نراه الآن من تطويرٍ لأسلحة الدمار من كل لونٍ وصنف. بيد أن تأثر ويلز بألف ليلة وليلة يتبدَّى في موضوعاتٍ أخرى ذكرنا طرفًا منها فيما سبق من فصول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤