الأحلام

«… فاتفق أنه كان نائمًا في ليلةٍ من الليالي فرأى في نومِه أنه في روضةٍ من أحسن الرياض وفيها أربعة طيور من جُملتها حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية، فأعجبته تلك الحمامة وصار في قلبِه منها وجدٌ عظيم، وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يدِه فعظم ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبَهَ من نومِه فلم يجِدِ الحمامة فصار يُعالج أشواقَه إلى الصباح فقال في نفسه لا بدَّ أن أروح اليوم إلى مَن يُفسِّر لي هذا المنام …»

حكاية مسرور التاجر مع معشوقته زين المواصف

«… ومما يُحكى أنَّ رجلًا من بغداد كان صاحِب نعمةٍ وافرة ومالٍ كثير، فنفد ماله وتغيَّر حاله وصار لا يملك شيئًا ولا ينال قُوتَه إلا بجهدٍ جهيد. فنام ذات ليلةٍ وهو مغمور مقهور فرأى في منامه قائلًا يقول له: إن رزقك بمصر فاتبَعه وتوجَّه إليه. فسافر إلى مصر، فلمَّا وصل إليها وأدركه المساء نام في مسجد. وكان بجوار المسجد بيت، فقدَّر الله تعالى أنَّ جماعةً من اللصوص دخلوا المسجد وتوصَّلوا منه إلى ذلك البيت، فانتبه أهل البيت على حركة اللصوص وقاموا بالصياح. فأغاثهم الوالي بأتباعه فهرَب اللصوص. ودخل الوالي المسجد فوجدَ الرجل البغدادي نائمًا في المسجد فقبض عليه وضربَه بالمقارع ضربًا مُؤلمًا حتى أشرف على الهلاك وسجنَه. فمكث ثلاثة أيامٍ في السجن ثُم أحضره الوالي وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال: مِن بغداد. قال له: وما حاجتك التي هي سببٌ في مجيئك إلى مصر؟ قال: إني رأيتُ في منامي قائلًا يقول لي إنَّ رزقك بمصر فتوجَّه إليه، فلمَّا جئتُ إلى مصر وجدتُ الرزق الذي أخبرَني به، تلك المقارع التي نلتُها منك. فضحك الوالي حتى بدت نواجذه وقال له: يا قليل العقل، أنا رأيتُ ثلاث مراتٍ في منامي قائلًا يقول لى: إن بيتًا في بغداد بخطِّ كذا وصفة كذا بِحوشه جنينة تحتها فسقيَّة بها مال له جُرم عظيم فتوجَّه إليه وخُذه، فلم أتوجَّه. وأنت من قلَّةِ عقلك سافرتَ من بلدة إلى بلدة من أجل رؤيا رأيتَها وهي أضغاث أحلام. ثم أعطاه دراهم وقال له: استعِن بها على عودتك إلى بلدك .. فأخذها وعاد إلى بغداد. وكان البيت الذي وصفه الوالي في بغداد هو بيت ذلك الرجل. فلمَّا وصل إلى منزله حفر تحت الفسقية فرأى مالًا كثيرًا ووسَّع الله عليه ورزقه. وهذا اتفاق عجيب.»

حكاية إفلاس رجل من بغداد

«… فجاءه ذلك الأعرابي بالقصيدة على عادته، فلمَّا جاء وجد جعفر مصلوبًا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوبٌ به وأناخ راحِلته وبكى بكاءً شديدًا وحزن حزنًا عظيمًا وأنشد القصيدة ونام. فرأى جعفر البرمكي في المنام يقول له: إنك أتعبتَ نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن توجَّه إلى البصرة واسأل عن رجل اسمُه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفر البرمكي يُقرئك السلام ويقول لك اعطني ألف دينارٍ بأمارة الفولة. فلمَّا انتبه الأعرابي من نومه توجَّه إلى البصرة فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به وبلَّغه ما قال جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاءً شديدًا حتى كاد أن يفارق الدنيا، ثم إنه كرَّم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه ومكث عنده ثلاثة أيامٍ مُكرمًا. ولمَّا أراد الانصراف أعطاه ألفًا وخمسمائة دينار وقال له: الألف هي المأمور لك بها والخمسمائة إكرام مني إليك، ولك في كل سنة ألف دينار …»

حكاية جعفر البرمكي والفوَّال

«… وقالوا لي: أتعرف منزل أبي حسان الزيادي؟ فقلتُ لهم: هو أنا. قالوا: أجب أمير المؤمنين. فسِرتُ معهم حتى دخلتُ على المأمون فقال لي: من أنت؟ قلت: رجل من أصحاب القاضي أبي يوسف، من الفقهاء وأصحاب الحديث. فقال: بأي شيءٍ تُكنَّى؟ قلت: بأبي حسان الزيادي. قال اشرح لي قصَّتك. فشرحتُ له خبري، فبكى بكاءً شديدًا وقال: ويحَكَ، ما تركني رسول الله أنام في هذه الليلة بسببك. فإني لمَّا نمتُ أول الليل قال لي: ويحك، أغِث أبا حسان الزيادي. فانتبهتُ ولم أعرفك. ثم نمتُ فأتاني وقال لي: ويحكَ، أغِث أبا حسان الزيادي. فانتبهتُ ولم أعرفك. ثم نمتُ فأتاني وقال لي: ويحك، أغِث أبا حسان الزيادي. فما تجاسَرْتُ على النوم بعد ذلك وسهرتُ الليل كلَّه وقد أيقظتُ الناس وأرسلتُهم في طلبك من كل جانب …»

حكاية أبي حسان الزيادي والخراساني

«… فلمَّا سمِع المُتوكِّل كلامها، تعجَّب من هذه الأبيات ومن هذا الاتفاق الغريب حيث رأت محبوبة منامًا موافقًا لمنامِه فدخل عليها في الحجرة. فلمَّا دخل حُجرتها وأحسَّت به بادرت بالقيام إليه وانكبَّتْ على أقدامه وقبَّلتْها وقالت: والله يا سيدي، لقد رأيتُ هذه الواقعة في منامي ليلةَ البارحة، فلمَّا انتبهتُ من النوم نظمتُ هذه الأبيات. فقال لها المتوكل: والله إني رأيتُ منامًا مثل ذلك. ثم إنهما تعانقا واصطلحا وأقام عندها سبعة أيامٍ بلياليها …»

حكاية المُتوكِّل ومحبوبة

«… وقال لها: يا بنتي، اعلمي أني رأيتُ في هذه الليلة رؤيا وأنا خائف عليكِ منها وخائف أن يصِل لك من سفرك هذا همٌّ طويل. فقالت له: لأي شيءٍ يا أبتِ؟ وأي شيءٍ رأيتَ في المنام؟ قال: رأيتُ كأني دخلتُ كنزًا فرأيتُ فيه أموالًا عظيمة وجواهر ويواقيت كثيرة وكأنه لم يُعجِبني من ذلك الكنز جميعه ولا من تلك الجواهر جميعها إلا سبع حبَّاتٍ وهي أحسن ما فيه. فاخترت من السبع جواهر واحدة وهي أصغرها وأحسنها وأعظمها نورًا وكأني أخذتها في كفِّي لمَّا أعجبني حُسنها وخرجت بها من الكنز، فلمَّا خرجتُ من بابه فتحتُ يدي وأنا فرحان وقلبتُ الجوهرة وإذا بطائرٍ غريب قد أقبل من بلادٍ بعيدة ليس من طيور بلادنا قد انقضَّ عليَّ من السماء وخطف الجوهرة من يدي ورجع بها إلى المكان الذي أتيتُ بها منه، فلحِقني الهمُّ والحزن والضيق وفزِعتُ فزعًا عظيمًا أيقظني من المنام، فانتبهتُ وأنا حزين مُتأسِّف على تلك الجوهرة. فلمَّا انتبهتُ من النوم دعوتُ المُعبِّرين والمُفسِّرين وقصصتُ عليهم منامي فقالوا لي: إن لك سبع بناتٍ تفقد الصغيرة منهنَّ وتُؤخَذ منكَ قهرًا بغير رضاك …»

حكاية حسن البصري الصايغ

•••

ليس أقرب إلى الحدث القصصي من الأحلام، فمادة الحلم لا يُمكن أن تكون مجرَّدة؛ فكما قال سلامة موسى في كتابه أسرار النفس «وممَّا يُلاحَظ في الأحلام أن العقل الكامن يُعبِّر فيها عن المعاني المجردة بأشياء مُجسَّمة، فنحن لا نرى في الحلم الطول أو الجمال، ولكننا نرى رجلًا طويلًا أو امرأةً جميلة أو قصرًا شاهقًا أو ساريةً عالية.» وقد تطوَّرت القصة من تجسيد الأحداث إلى تجسيد الشخصيات، ثم تطوَّر السرد بعد ذلك إلى وصف الأفكار والتهويمات المجردة المُطلقة.

وفي بداية الفيلم الذي أعده المخرج الإيطالي بازوليني عن ألف ليلة وليلة، نرى على الشاشة اقتباسًا يقول «العمل الفني يتكوَّن لا من حلمٍ واحد فحسْب، بل من أحلام عديدة.» وهو لم يفعل ذلك عبثًا، فالواقع أن الأحلام والرؤى تلعب دورًا هامًّا في حكايات ألف ليلة وليلة، ويَستبين ذلك من الاقتباسات العديدة التي أوردناها هنا من الحكايات التي تزخر بالأحلام في الكتاب. والواقع أن الكتاب ذاته، بحُكم طبيعته وظروفه — باعتبار أن قصصه وحكاياته تُسرَد كلها ليلًا — يُشكِّل حلمًا طويلًا متصلًا، يزخَر بكل أنواع النشاط الإنساني، ويَمتلئ بالرغبات والشطحات والأماني والكوابيس المُزعِجة ومواقف الفرح والبهجة.

وإذا ألقينا نظرةً فاحصة على شكل الأحلام في ألف ليلة ومضمونها، لتبدَّى لنا أن لها دورًا سطحيًّا إلى حدٍّ ما، إذ هي رموز واضحة لِما سيتلو بعدَها من أحداث، أو هي دليل يهدي صاحب الحِلم إلى حلٍّ لمشاكل يُصادفها. ومن أمثال ذلك، حلم الأب ذي السبع بنات بِطَيرٍ غريب يخطف منه أحلى جوهرة يجِدُها في الكنز، وكذلك حكاية المُتوكِّل مع محبوبة وحلمها، بيد أن هناك أحلامًا «مُركبة»، إن صحَّ هذا التعبير، يلعب فيها الحلم دورًا في حبكة القصة وسرديَّتها، مثل حكاية صاحب الكنز المدفون، الذي يدفعه حلمُه إلى الترحال ثم العودة لاكتشاف الكنز، فهنا يلعب الحلم دورًا أساسيًّا في تطوُّر أحداث القصة. ومن الغريب أن استخدام الأحلام في التوصُّل إلى كنوزٍ دفينة ما يزال مُستمرًّا إلى عصرنا هذا. وقد تحدَّثَت الصحف عن المصري الذي استخدم أحلامه في سبيل البحث عن مقبرة ابنة الملك خوفو؛ كما قام آخرون بالبحث عن قبر الإسكندر الأكبر في الإسكندرية وفي واحة سيوة بناء على أحلامٍ ورؤى.

وهناك أيضًا حكاية جعفر البرمكي والفوَّال، ونعرف من القصة الكاملة أنَّ ذلك الفوَّال كان يشكو الفقر حين رآه جعفر البرمكي أيام عزِّه، فدعاه إليه واشترى ما كان معه من الفول بوزنِه ذهبًا، ولم يبقَ معه إلا فولةٌ واحدة، فأخذها جعفر وفلقَها نصفَين وجعل جاريةً له تشتري نِصفها بضعف الذهب المُتجمِّع، واشترى جعفر الفلقة الثانية بقدْر الجميع مرَّتَين ذهبًا. وهي قصة جميلة لا بد أنها انتشرت للإشادة بالبرامكة بعد نَكبتهم.

وفي حكاية الملك جليعاد والشمَّاس، يقوم الأساس على حلمٍ يراه الملك جليعاد ويقصُّه على كبير وزرائه الشماس: «إني رأيتُ في ليلتي هذه منامًا أهالني، وهو كأني أصبُّ ماءً في أصل شجرة، وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة. فبينما أنا في هذه الحالة وإذا بنارٍ قد خرجت من أصل تلك الشجرة وأحرقت جميع ما حولَها مِن الأشجار، ففزعتُ من ذلك وأخذني الرُّعب. فانتبهتُ عند ذلك وأرسلتُ في دعوتك لكثرة معرفتك واتساع علمك وغزارة فكرك.» وينتهي تفسير الحلم بأن الملك سيُنجِب غلامًا لا يسير سيرة أبيه العادلة الحكيمة في الرعية. ويُنجِب الملِك غلامًا بالفعل، ويعمل الجميع، خاصة الشمَّاس ومعاونيه، على تنشئته تنشئةً صالحة عليمة، وبالفعل حين يموت أبوه ويتولَّى الحُكم، يسير في بداية الأمر على نحوٍ عادل حكيم. ولكن الأحلام وتفسيرها في ألف ليلة وليلة كالقدَر المرصود، إذ يستسلِم الملِك الابن لنصيحة إحدى نسائه ويفتك بكبير الوزراء ومُستشاريه بزعم أنهم يتآمَرون عليه، وتسوء سِيرته بعد ذلك من دُونهم، مما يُحقِّق الحلم الذي رآه أبوه الملك من قبل، وذلك قبل أن تأخذ القصة مسارًا آخر.

ومن أمثلة الأحلام السيكولوجية المُعقَّدة، حلم حياة النفوس في حكايتها، وقد أوردْنا تفصيلًا لها في فصل «لمحات فرويدية»، حيث يتعلق الأمر بعُقدة نفسية ترسَّبت لدى الأميرة حياة النفوس لدى رؤيتها حلمًا من الأحلام، ولا يَشفيها إلا الطريقة الفرويدية الحديثة (راجع الفصل المذكور).

وقد نشأ الاهتمام بالأحلام منذ نشأة البشرية، ويُرجِع الأنثروبولوجيُّون إلى الأحلام بداية تقديس البشر للمَوتى، إذ يرَونهم يعيشون ثانيةً في أحلامهم، وأدَّى ذلك أيضًا إلى نشوء الأديان الوضعية والسحر والكهانة. وتمتلئ الأساطير الأولى للشعوب بالأحلام والرؤى، وكذلك الكتُب المقدَّسة والملاحم القديمة. وقد وردت الأحلام في أقدم الآداب المعروفة، في ملحمة جلجامش، وفي القَصص الفرعوني، وكذلك عند هوميروس، في كلٍّ من الإلياذة والأوديسة.

وقد وردت الأحلام على العرب منذ القِدَم، وتحدث عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع، مُوحيًا أن هناك ما هو أضغاث أحلام، ومنها ما هو رؤى. فقد رأى سيدنا إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه، وهي رؤيا بعثها الله سبحانه وتعالى إليه في صورة حلم، وقام بتنفيذها بما أدَّى إلى الشعيرة المعروفة وهي الهدف من وراء الرؤيا. وهناك بالطبع حلم حاكِم مصر أيام النبي يوسف عليه السلام، وهي أكثر الآيات تفصيلًا للأحلام والرؤى. واستمرَّ الاهتمام العربي بالأحلام وطبيعتها ومادتها، وتَمثَّل ذلك في تفسيرات آيات الأحلام والرؤى في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والتعليق عليها. وقام «ابن سِيرين» (توفي عام ٧٢٨م) بوضع أول محاولةٍ عربية لتفسير الأحلام. ويعكس دور الأحلام في ألف ليلة وليلة والقصص العربية الأخرى قدْر الاهتمام الذي أولاه الأدب الشعبي والفولكلور للحلم والرؤى.

واستمرَّ تناوُل الأحلام في كتُب الأدب العربي. فرسالة الغفران لأبي العلاء المعري (٩٣٧–١٠٥٧م) تُقدَّم على أنها رؤيا ترحالية في الفردوس والجحيم، تَتابَعُ فيها المشاهد والأشخاص في سردٍ حلميٍّ مُجسَّد. ومن قبلها، كتب ابن شهيد الأندلسي (٩٢٢–١٠٣٤م) رؤيا مُشابهة في كتابه «رسالة التوابع والزوابع»، حيث يقتاده جِنِّي من بني عبقر اسمُه زهير بن نُمير إلى لقاءِ مَن أحبَّ مِن نوابغ شعراء العرب السابقين عهدَه.

ثم ازدهرت كتابات الرؤى والأحلام الرؤيوية في مؤلَّفات علماء الصوفية، وعلى رأسهم ابن عربي، الذي تزخَر كتبه برؤًى لا يُدرك مداها أو معناها إلا النفوس التي جرَّبت تلك اللمحات النورانية بنفسها. وقد تركت تلك المؤلَّفات الصوفية أثرًا بالغًا في التصوُّف الغربي المسيحي وفي الكتابات القصصية الروحية الأخرى.

ويُهمنا هنا أيضًا التناول الأدبي والقصصي للأحلام؛ ذلك أن الكتابات الأدبية قد احتوت منذ القِدَم على مدخل الأحلام، ولا يزال هذا المدخل يتواجَد في الكتابات المُعاصرة. وقلَّمَا تخلو سيرة حياة أدبية، أو مذكرات ويوميات، من تسطير أحلامٍ هامَّة رآها الكاتب وأراد أن يَسطُرها في كتاباته؛ وأحيانًا أخرى تُشكِّل الأحلام كتبًا مُستقلة بذاتها. ومن أوائل من سطر أحلامه في مذكراته أو يومياته الإنجليزي «صمويل بيبس» قديمًا، وحديثًا — نوعًا ما — فرانز كافكا، الذي احتوت مذكراته على أحلامٍ كثيرة يُوردها في ثنايا المذكرات، وهي ذات دلالةٍ هامة في تتبُّع حياة الكاتب وهمومه وشواغله في الفترات التي كان يُدوِّن فيها تلك الأحلام.

ومن ناحية أخرى، هناك أعمال أدبية أوروبية تقوم على الأحلام في المقام الأول. فالكوميديا الإلهية يُفترَض أنها رؤيا من الرؤى لمُؤلفها دانتي. وحديثًا، صاغ جيمس جويس كتابه الأخير «فنجانز ويك» بوصفه حلمًا مُعقدًا للبشرية كلها مُتمثلة في شخصية HERE COMES EVERYBODY الذي يرمز للبشر أجمعين. والكتاب كله حلم طويل، كما أنَّ ألف ليلة وليلة تُشبه الحلم المتواصل الحلقات.

وقد امتلأت أعمال الرومانسيين الأدبية بالأحلام وذِكرها، فلدَينا أهم مثَل عليها في قصيدة كولردج «قبلاي خان» الذي يذكر أن سطورها قد جاءت له في المنام، وأنه أسرع بعد اليقظة بتدوينها بصورةٍ تلقائية، إلى أن قطع عليه الوحي أحد الزوَّار، ولم يتمكن بعد ذلك من تذكُّر بقية الحلم. كذلك أورد «دي كوينسي» بعض أحلامه، وإن كانت تحت تأثير المُخدِّر الذي كان يتعاطاه وكتب عنه في مؤلَّفه «مذكرات مُتعاطي الأفيون». ويذكر روبرت لويس ستيفنسون أن حبكة روايته الشهيرة «دكتور جيكل ومستر هايد» قد جاءته في أحد أحلامه حين كان في أمَسِّ الحاجة إلى الكتابة.

وثمة مثال أساسي نُثبته هنا مُفصلًا نظرًا لأهميته وصِلته بالموضوع، هو الحلم الغريب الذي أثبته الشاعر الرومانسي وليام وردزورث في «المُقدمة» وجمع فيه على نحوٍ مُثير بين العرب وسرفانتس ودون كيشوت، وهو الشاعر الذي تأثر كثيرًا في طفولته وشبابه بحكايات ألف ليلة وليلة. والحلم ورد في الكتاب الخامس مِن المُقدمة في صياغتها الأخيرة عام ١٨٥٠م، حين يصِف الكاتب غفوةً انتابته بينما كان يقرأ دون كيشوت على شاطئ البحر ويحلُم الحلم التالي:

رأيت منبسطًا أمامي،
سهلًا مترامي الأطراف.
من برية رملية،
تَرين عليها الظلمة والفراغ.
وحين تطلَّعتُ حولي،
زحفَ فوقي شعور الحزن والخوف.
وعندها ظهر إلى جانبي،
إلى جواري القريب،
شكل غريب يَمتطي جملًا،
مُنتصبًا عاليًا.
كان يبدو عربيًّا من قبائل البدو،
يحمِل رمحًا.
وثمة حجر تحت إحدى ذراعَيه،
ويحمِل في اليد الأخرى
صدفةً ذات وهجٍ دفَّاق.
وابتهج فؤادي لمرآه؛
فقد وجدتُ فيه دليلًا
يقودُني للخروج من تِيه الصحراء،
بمهارةٍ لا شيةَ فيها.
وفيما أنا أتطلَّع إليه،
وأُحدق فيه نظراتي،
وأسألُ نفسي
عن محتويات هذا الخُرج
الذي يحمله الوافد الجديد تحت وسطه،
بادرَني العربي يقول إنَّ الحجر،
(وأنا أستخدِم هنا لغة الحلم)،
هو «مبادئ إقليدس»،
والآخر، قال لي:
هو شيء أكثر قيمةً ومنزلة.
ومع قوله ذاك،
أبان أمامي الصَدَفة،
ذات الشكل الرائع،
والألوان البهية،
مع أمرٍ بأنْ أضعَها فوق أُذني.
ففعلتُ ما أُمرت.
وسمعتُ لحظتها لِسانًا أعجميًّا،
فهمتُ ما يقول برغم ذلك:
أصواتًا فصيحة مُبينة،
صيحة تحذير عالية ذات تساوُق،
أنشودة،
تتردَّد منطوقةً في انفعالٍ زائد،
تتنبَّأ بهلاك بني الأرض،
بطوفان قريب.
وما إن انتهت الأنشودة،
حتى أعلن العربي،
بنظرةٍ هادئة،
أنَّ كل ماحذَّر منه الصوت،
آتٍ لا محالة،
وأنه ذاهب الآن،
كيما يواري هذَين الكتابَين الثرى.
الكتاب الأول الخبير بالنجوم،
الذي يُوفِّق بين النفس وقرينها،
بوشيجة العقل، الطاهرة الصافية،
لا يُزعِجه مكان ولا زمان،
والثاني هو إله،
أجل، آلهة كثيرة،
لها أصوات أكثر من أصوات الرياح جميعًا،
وقوة تُفعِم الروح بالنشوة،
وتُضفي هدوءًا على فؤاد الإنسان،
بكل أنواع الصفاء.
وفيما كان العربي ينطق تلك العبارات
التي تبدو غايةً في العجَب،
لم أكن أشعُر أنا بأي غرابة،
رغم أني كنتُ أرى الأول حجرًا،
والثاني صدَفة،
ولكني لم أشُك لحظةً
أنهما كتابان،
وكُلي ثقة في صدق كل ما مرَّ بي.
وتزايدتُ شوقًا،
في أن ألتحِق بركب ذلك الرجل،
ولكن …
حين رَجَوتُه أن أُشاركه رحلته،
أسرع مُبتعدًا،
دون أن يُعيرني اهتمامًا،
بيدَ أني تبِعتُه،
وكان يراني؛
إذ إنه كان يلتفت وراءه
بين الحين والحين،
وهو يقبض على كنزِه المُزدوَج.
وركِبَ يخبُّ خافضًا رمحه،
وأنا من ورائه أسعى،
وفجأة …
تحوَّل في مخيلتي،
إلى الفارس الذي يَحكي سرفانتس قصته.
بيد أنه لم يكن الفارس،
بل عربي، ومن الصحراء أيضًا.
وهو لم يكن أيًّا من هذَين،
وكان كليهما في الوقت ذاته.
وفي ذلك الحين،
زحف المزيد من القلق والخوف،
على ملامح طلعته.
ونظرتُ ورائي إلي حيث كان ينظُر،
فرأت عيناي مَهدًا من نورٍ يتلألأ،
فوق نصف البرية المنبسطة.
سألته عن السبب،
قال: إنها مياه الخِضم،
تتجمَّع فوقَنا.
وطفق يحثُّ دابته الرَّعْناء،
على إسراع الخُطى.
تركني …
وناديتُ عليه بأعلى صوتي،
بيد أنه لم يأبَه بي،
بل أسرع يَخُبُّ فوق العماء اللامُتناهي،
أمامي وتحت بصري،
وحِملُه المزدوَج ما يزال في قبضته،
بينما تُطارده المياه الجارفة التي تُغرِق الدنيا.
وعندها …
صحوتُ يَغمرني الرعب،
ورأيتُ البحر أمامي،
وإلى جواري،
الكِتاب الذي كنتُ أقرأ فيه.

وهذا المثال من أجملِ أمثلة الأحلام في الأعمال الشعرية التي بين يدَينا.

وكانت الأحلام مادةً خصبة في ميادين التفكير والفلسفة والأدب والفن، وكثُر فيها التنظير والبحث والكتابة، إلى أن طلع سيجموند فرويد بكتابه العُمدة عن تفسير الأحلام، وجمع فيه خلاصة أبحاثه عن هذا الموضوع وأورد فيه عددًا هائلا من أحلام مَرضاه وأحلامه هو نفسه، فوضع أساسًا علميًّا لهذا النشاط الغامض الذي عرَّفه البشر منذ وجودهم، وكانت نظريته عن دور اللاوعي في الأحلام فتحًا في عالَم عِلم النفس انعكست فيما بعدُ في الفن والأدب خاصة في تقنين عامل تيار اللاشعور ودور الأحلام في الأعمال الفنية. وتجدر الإشارة إلى أن مُؤلَّف فرويد ذاك، رغم أنه لا يُشير إلى ألف ليلة وليلة بطريقةٍ مباشرة، قد أورد في تعليقاته قصة «الرغبات الثلاث» المُتضمَّنة في حكاياتها، وإن كانت الصيغة الفرويدية قد غيرت المضمون إلى وضع أقل صراحةً عمَّا جاءت به القصة في ألف ليلة؛ برغم أن القصة بصورتها الأصلية كانت تتناسب مع نظريات فرويد الأخرى بصورة أكبر.

فإذا انتقلنا إلى الأعمال الموازية لموضوعنا، فإننا نجد أن هناك أديبين كبيرين أصدرا كُتبًا موضوعها الوحيد أحلامهما، أولهما «الأستاذ»، أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذي ينشُر منذ سنواتٍ شذرات قصيرة عبارة عن الأحلام التي يراها. وهذه الأحلام تُمثل في غالبيتها قصصًا قصيرةً جدًّا غاية في التكثيف، وربما يكون هذا نتيجة لإدخال الأستاذ بعض اللمسات الإضافية على الحلم الأصلي؛ ولكن النتيجة تجيء باهرةً من الناحية القصصية المَحضة. والآخر هو الروائي البريطاني جراهام جرين.

وقد خصَّص جرين كتابًا صغيرًا — صدَر بعد وفاته — عن الأحلام التي كان يسطرُها في كراسات، والتي بلغ عدد صفحاتها ٨٠٠ صفحة؛ ولكنه اختار منها عددًا صغيرًا للنشر. وكان هو الذي اختار عنوان كتاب الأحلام ليكون «عالمي الخاص»، مقابل العالَم المُشترك، عالم حياة اليقظة الطبيعي. وقد اهتمَّ جرين بالأحلام طوال حياته ككاتب، وكان يعدُّها جزءًا من مِهنته الأدبية. وكان يعمد إلى قراءة ما كتبَه في يومِه قبل أن يأوي إلى الفراش، ويترك لاوعيه يعمل في كتابه طوال الليل! وثمة أحلام أعانته على التغلُّب على فترات التوقُّف BLOCKAGE العارضة التي يمرُّ بها كل الكتَّاب، كما أن أحلامًا أخرى أمدَّته بموضوعات لقصصه ومنها «القنصل الفخري». وقد بلغ من امتزاج عالَمه بالأحلام أنه كان أحيانًا يحلم بأحلام شخصيات رواياته، مثلما يذكُر أنه حدث حين كان يكتب رواية «مسألة مُنتهية». ويتفق جرين مع ما جاء في كتاب ج. و. دان «تجربة مع الزمن» من أن الأحلام تتضمَّن شذرات من المُستقبل مِثلما تتضمَّن شذراتٍ من الماضي؛ ويتذكر في هذا الخصوص كيف أنه — حين كان في السابعة من عمره — حلم بباخرةٍ ضخمة تغرق عشية غرق الباخرة المشهورة تيتانيك عام ١٩١٢!

فإذا تناولنا نصوص كتاب جراهام جرين نجد أنه قد قسَّمها بحسب موضوعاتٍ عامة، مثل: الكتَّاب المشهورون الذين قابلهم (في الحلم بالطبع)، ومنهم هنري جيمس وروبرت جريفز وجان كوكتو وت. س. إليوت ود. ﻫ. لورانس وسارتر؛ وأحلام عن خدمته في المخابرات البريطانية؛ ومقابلاته مع ساسة معروفين منهم ديجول وخروشوف وكاسترو وكرومويل. وثمة أحلام عن الكتابة، والقراءات، وعن المسرح والسينما والرحلات. وفي الكتاب أقسام لا تحتوي إلَّا على حلمٍ واحد، وأخرى تشمل أحلامًا عديدة. وقد خرجت من قراءة الكتاب بمدى الخسارة التي نشأت حتى الآن من عدم نشْر كلِّ الأحلام التي سطَّرها «جرين»، ونرجو أن تكون ما زالت هناك فرصة لنشرها أو لأن يطَّلع عليها الباحثون في أدبه.

وهذا ما يقودنا إلى أهمية الأحلام التي يوالي نجيب محفوظ نشرَها بين حينٍ وآخر. ورغم أن الأستاذ صرح أنه غالبًا ما يقوم بإضفاء لمساتٍ إلى الأحلام التي يراها بالفعل، فإنها تُتيح للقارئ — وللباحث على وجه الخصوص — النَّفاذ إلى صورٍ من صور اللاوعي القصصي عند أكبر روائيينا العرب. ورغم أن الأحلام لم تُنشَر بالعربية بعدُ في كتابٍ يجمعها (قرأت اليوم فقط — الخميس ٢٤ مارس ٢٠٠٥ — عن صدور الطبعة العربية للأحلام)، وأن هناك تفاوتًا في أرقام الأحلام التي تتيسَّر للقارئ العربي من نشرها في عدة مجلات وصحف، فإن تلك الأحلام تُقدِّم لنا — في صورةٍ مقطَّرة — لمحاتٍ قصصية في غاية الإبداع. وأذكر هنا — فيما يتَّفِق مع موضوع هذا الكتاب — الحلم رقم ٧٩، عن فاتنة درب قرمز التي تظهر في كارِتَّة (عربة) يجرُّها جواد مُجنح، والجواد يطير فوق الأسطح إلى أن يصِل إلى قمة الهرم الأكبر!

ويبدو أن اختياراتٍ تتدخَّل في اختيار الأستاذ لأحلامه التي تُنشَر، فالشخصيات التي تترى على أحلامه المنشورة — فيما أُتيح لي الاطلاع عليه منها حتى الآن — تقتصِر على شخصياتٍ عامة مثل سعد زغلول ومصطفى عبد الرازق، ثم شخصياتٍ فنية هي سيد درويش وزكريا أحمد وجريتا جاربو. وثمَّة تيمة مُفزعة تردَّدَت أكثر من مرة في الأحلام المحفوظية، هي صدور حُكم بالإعدام عليه دون أن يكون له أي دخلٍ في الجرائم أو المحاكم التي تُصدِر الحُكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤