الفصل الثالث

(حجرة الجلوس التي ظهرت في الفصل الأول في منزل فؤاد. يسمع من ناحية غرفة المائدة — إلى اليسار — لغط. ثريا تظهر في مدخل الباب.)

ثريا (وهي داخلة) : كلا، بل لا بد من بقائنا؛ هذا ضروري، وكيف يمكن أن نتركهما وحدهما في موقف كهذا؟!

(خيري يدخل في أثرها.)

ثريا (مستمرة) : إن أبسط واجبات المجاملة تستدعي بقاءنا.
خيري : الأمر في نظري على العكس؛ فإن خير ما نستطيع أن نفعله هو أن ندعهما وحدهما، نتركهما يصفيان ما بينهما من الحساب على انفراد؛ لأن كلًّا منهما خليق أن تأخذه العزة أمامنا وأن يأنف أن يلين لصاحبه في وجودنا، ولكن من المحتمل بل من المرجح إذا تركناهما أن يكونا أكثر حرية في الكلام، في العتاب، لا يخجل أحد منهما حينئذٍ أن يتحبب إلى الآخر أو يعتذر إليه أو يستعطفه.
ثريا : كلام فارغ.
خيري : ثم إني لست من أنصار التدخل بين الأزواج، ما شأننا نحن؟! ماذا نستطيع أن نصنع؟! إنها أمور شخصية جدًّا، وليس من حقنا أن نحشر أنفسنا فيها، هذا رأيي.
ثريا : ولكن هذا لا يعد تدخلًا منا في أمورهما؛ إنما نريد أن نبقى لنساعدهما؛ لنوفق بينهما.
خيري (مقاطعًا) : نساعدهما؟! كيف بالله نساعدهما؟! هيه؟ إنه موقف قد تحل عقدته قبلة في الوقت المناسب، في أوانها، بحرارة ﺑ … باشتياق، هيه، كما أقبلك دائمًا، قبلة كهذه قد تحسم الخلاف وتحل الإشكال وتمسح الماضي وتستلُّ من الصدر كل ما يجيش به من بواعث السخط والنقمة، فكري في هذا، فكري أن الموقف قد يحتاج إلى هذه القبلة، قد ينقذه أن يلين فؤاد ويتذلل ويتضرع ويستثير عطفها ويحرك مروءة نفسها، فكيف يمكن أن يحدث هذا أمامنا؟! إن وجودنا سيكون عقبة، حائلًا دون التصافي، لو كان الرأي لي لأخليت البيت حتى من الخدم، لأعطيتهم اليوم إجازة حتى لا يشهدوا سيدتهم يجيء بها البوليس مرغمة.
ثريا : إجازة للخدم؟! إنك تهذي، أين ذهب عقلك؟!
خيري : لا أعلم أين ذهب، سلي نفسك عنه، ثم إن بقاءنا محرج لي أيضًا.
ثريا : محرج لك! ولماذا؟!
خيري : لست أطيق أن أشهد هذا الموقف.
ثريا : هل من المروءة أن تخذل ابن عمك؟!
خيري : لست أراك تفهمين؛ إن العقدة هي موقف ليلى، فؤاد منتصر ظافر، أما ليلى فمهزومة، فهي المحتاجة إلى ما يهون عليها ذل الموقف، فأيهما أولى بأن يخفف وقع هذا الإذلال، أن نبقى أو أن نختفي؟ أنا أقول يجب أن نختفي.
ثريا : لست أوافق.
خيري : إذن ابقي وحدك، أما أنا فسأجلو عن البيت.
ثريا : بل يجب أن تبقى معي.
خيري : إن إعادتها إلى بيت زوجها الذي فرت منه إذلال لها ولا شك، وهي حساسة جدًّا، وسيكون وجودنا مدعاة لمضاعفة شعورها بهذا الإذلال، أظن هذا بديهيًّا.
ثريا : إنها هي التي جرت على نفسها هذا، كان ينبغي أن تكون أعقل من ذلك.
خيري (مقبلًا عليها وعلى وجهه أمارات الدهشة) : هل تريدين أن تبقي لتقولي لها هذا الكلام؟!
ثريا : ولمَ لا؟! إنها الحقيقة مهما بلغ من مرارتها.
خيري (يشور بيديه) : إن هذا لا يطاق، لا يكفيها أن تراها تعود بكرهها، مقهورة، مغلوبة على أمرها، بل يجب أيضًا أن تستقبلها بكف على وجهها، شيء جميل جدًّا! منتهى الحكمة!
ثريا : ما أشد عطفك عليها!
خيري : بالطبع أعطف عليها، ضعي نفسك مكانها، تصوري أني أرجعتك إلى بيتي بقوة البوليس.
ثريا : كيف تجرؤ أن تقول هذا الكلام؟
خيري : ألم أقل لك أن مجرد التخيل يستفزك، فكيف لو وقع لك ما وقع لها.
ثريا (بغضب) : ألا تريد أن تكف عن هذه الوقاحة.
خيري (مندهشًا) : وقاحة، إنما أحاول أن أساعدك على تصور الموقف الذي ستكون فيه ليلى، فأي بأس في هذا؟!
ثريا : لست أريد هذه المساعدة، فادَّخرها لمن يطلبها.
خيري : لم أعد أفهم شيئًا، يا ستي تصوري ليلى.
ثريا (مقاطعةً) : أرجو أن تسكت، يكفي ما قلت.
خيري (باستغراب) : وماذا قلت؟
ثريا (بحدَّة) : ما سر هذا العطف كله على ليلى؟! هيه!
خيري : المسألة بسيطة جدًّا؛ لأنها مسكينة.
ثريا : وما شأنك أنت؟! ماذا يعنيك من كونها مسكينة أو غير مسكينة؟!
خيري (يضرب كفًّا بكفٍّ وهو يتمشى) : شيء غريب والله، ولماذا تريدين مني أن أبقى إذن إذا كان الأمر لا يعنيني، وبالطبع لا يعنيك أنت أيضًا؟
ثريا : من أجل ابن عمك.
خيري (مندهشًا) : ابن عمي! شيء جميل.
ثريا : لقد كنت أظن أن ابن عمك أولى بعطفك.
خيري : ابن عمي، ابني عمي، لقد صدعت رأسي بابن عمي هذا، إنها مصادفة لا قيمة لها.
ثريا : مصادفة؟ ماذا تعني؟
خيري : أعني أن كونه ابن عمي مسألة كل الفضل فيها للمصادفة، ولست أرى أن هذا يلزمني أن أحتمل ما لا أطيق، أفرضي أن جدي لم يرزق من الأبناء إلا واحدًا، أبي مثلًا، ولكنها الصدفة، الصدفة وحدها شاءت أن يرزق ابنًا آخر، وأن يكون لي عم له ابن، لقد كان من الممكن أن يكون ابن عمي بنتًا.
ثريا : ألا تخجل من هذا الكلام؟
خيري : أخجل! لماذا؟! ماذا قلت مما يستوجب الخجل؟!
ثريا : إنه من لحمك ودمك.
خيري : لحمي ودمي؟! (يضحك ويتمشى) وهل أنا الذي ولدته حتى يكون من لحمي ودمي؟!
ثريا : هذا مزاح ثقيل، لا يطاق، ثم إنه قلة أدب.
خيري : مزاح؟! إني جادٌّ، جادٌّ جدًّا، ومع ذلك ما شأنك أنت؟! هل أنت أيضًا بنت عمه؟! شيء غريب!
ثريا (بحدَّة) : إذا لم تكفَّ عن هذا الكلام فإني سأخرج.
خيري (بتهكم) : ألا تأخذينني معك.
ثريا (وهي هائجة) : ماذا جرى لعقلك؟ هل جننت؟
خيري : لا عجب إذا جننت، حقيقة لم يعد في رأسي عقل، ولي العذر (يلتفت إليها) ومع ذلك هذه مسألة أخرى، والمهم الآن أن وجودنا يضر أكثر مما ينفع.
ثريا : لقد شبعت من الكلام في هذا، فخلِّ كلامك لنفسك (تتمشى).
خيري : كلامي لنفسي؟ يعني ماذا؟ يعني أنظر إلى المرآة وأتكلم.

(يُسمع نفير سيارة، خيري يقف بغتة.)

خيري (باضطراب) : يالله! لست أطيق أن أرى هذا الموقف.
ثريا (تقبل عليه وهي مغيظة) : ألا تقول لي ما هو السر في إشفاقك على ليلى؟
خيري : ليس هناك سر على الإطلاق؛ كل ما في الأمر أني لا أريد أن أكون في استقبالها، كلا.
ثريا : ولكنا سنراها على كل حال، غدًا أو بعد غد أو بعد أسبوع إذا لم نرها اليوم.
خيري (متهكمًا) : يا للمنطق! (ثم بجدٍّ) يا ستي المهم هو اللحظة التي تعود فيها، أما بعد يوم بعد يومين فإنها تكون قد هدأت وسكنت نفسها، وربما تكون قد رضيت، ولا يكون أحد قد رأى كيف عادت، ولكن في اللحظة التي تعود فيها وبقوة البوليس أيضًا! يالله! إن هذا موقف عصيب، ولست أستطيع أن أحتمله، ولا أدري كيف تحتمله هي! مسكينة!
ثريا (بتهكم) : يظهر أني بدأت أفهم.
خيري (بتهكم) : بدأت تفهمين؟ الآن فقط؟ الحمد لله.

(تهم ثريا بالكلام ولكن فريدة تدخل بسرعة وهي تقول بصوت كالهمس.)

فريدة : لقد عادوا بها.
خيري (يقف جامدًا وهو ينظر إلى زوجته) : ألا تزالين مصرة على أن تشهدي تسليم البضاعة؟ حسن إذن.
ثريا : إن كلامك ثقيل، مؤلم، ماذا أصابك؟
خيري : أصابني؟ انتظري حتى يجيئني بك البوليس لتعرفي ماذا أصابني.
ثريا : إنك وقح، هذا أنت.
خيري : وقح؟ لماذا؟ لأني أذكرك بأنك امرأة كليلى؟ بأن ما يحدث لها الآن يمكن أن يحدث لك أيضًا؟ لأني أنبه شعورك؟

(يدخل فؤاد، ويرى فريدة فيقول لها.)

فؤاد : اذهبي إليها يا فريدة، ابقي معها، حاولي أن تهدئيها.
فريدة : إنها هادئة يا سيدي.
خيري : أعني … لا بأس. اذهبي إليها (يلتفت إلى الباب) تفضلوا.

(تخرج فريدة من باب حجرة المائدة، يدخل ضابط برتبة اليوزباشي، ووراءه جندي يحمل ملفًّا فيه أوراق، الضابط يحيي خيري وثريا، خيري يرد التحية بجفوة، وثريا تشير برأسها إشارة خفيفة، الجندي يرفع يده إلى جبينه بالسلام العسكري فلا يعبأ به أحد.)

خيري : تفضل يا شوقي بك. (يشير إلى الكرسي الذي بجانب المنضدة) لقد أتعبناك، فمعذرة إنه حكم الظروف.
شوقي : أشكرك.

(ويذهب إلى المنضدة ويهم بالجلوس فيرى الباقين وقوفًا فيعتدل ويظل واقفًا.)

لقد كان ينبغي أن يكتب المحضر هناك، ولكنك لم تكن معنا.
خيري : إني أشكر لك هذا التساهل، وأقدر روح العطف التي جعلتك تعفيني من الذهاب معك، ولكنه لا يوجد في الواقع فرق بين كتابة المحضر هناك، وكتابته هنا.
شوقي : صحيح (يدير عينه فلا يرى إلا خيري وثريا فيقول): أظن هذه غير السيدة. (يلتفت إلى فؤاد) معذرة.
خيري (للضابط) : لا يا صاحبي، لا تخلط بهذه السرعة.
الضابط (لخيري) : عفوًا يا سيدي.
خيري (مبتسما وهو يخرج سيجارة) : لا شيء، لا شيء، إنما أخاف على القانون إذا غلطت، لا على زوجتي.
ثريا : خيري!
خيري (لثريا) : هل قلت شيئًا؟! إنما خفت أن يغلط فنبهته إلى أنك بضاعة أخرى يملكها رجل آخر.
ثريا : هل هذا وقت المزاح؟! غريب والله!
خيري : وهل أنا أمزح؟! (يتمشى) هل تريدين أن أتركه يغلط ويخلط بينك وبين ليلى؟ سبحان الله العظيم!
شوقي (لخيري) : معذرة يا سيدي، ولكني لم أغلط وإنما …
خيري (مقاطعًا) : حسن، حسن، يظهر أنها هي التي كانت تريد منك أن تغلط.
ثريا : خيري! ما هذه الوقاحة؟!
خيري (يقف مبهوتًا) : وقاحة؟! (يهز رأسه بعنف) حسن إذن! لن أتكلم (يضع يده على فمه).
فؤاد (للضابط) : لا مؤخذه! إن ابن عمي دائم المزاح، فلا تحمل ما يقول على محمل الجد.
شوقي : ألا يحسن أن نبدأ؟ إنها كلمة صغيرة لا تستغرق وقتًا.
فؤاد : نعم تفضل.
شوقي : ولكن السيدة حرمك.
فؤاد : لقد مضت إلى غرفتها، وأظن أنه لا داعي لحضورها، إن الانزعاج الذي أحدثه الحصار وتوزيع قوة البوليس حول البيت وفوق سطحه، ثم مفاجأتها بدخولك عليها مع المرشدة، كل هذا أثر في أعصابها، فهي محتاجة إلى الراحة.
شوقي : لقد كنا مضطرين يا بك، ليس لنا حيلة، فإنها إجراءات رسمية لا مفر منها.
فؤاد : طبعًا.
شوقي (يشير إلى الجندي) : تعالَ يا حماد.

(يتقدم حماد بملف الأوراق ويحيي التحية العسكرية ويمد يده بالملف.)

شوقي : كلا، اجلس هنا واكتب ما أمليه.

(حماد يخرج أوراقًا ويبحث فيها ثم يعيد بحثها وتقليبها ويطول ذلك منه.)

شوقي : ما هذه البلادة؟! أسرع.
حماد : خلاص يا افندم.
شوقي : هاتِ صورة الحكم.
حماد (يمد يده بورقة) : أهه.
شوقي (يتناولها وينظر إليها ثم يعبس ويظهر الضجر) : يا غبي إني أريد صورة الحكم الصادر من المحكمة الشرعية.
حماد : ما هو …
شوقي : يا حمار (يهز الورقة ثم يرميها في وجهه) إن هذا هو الطلب المقدم من البك إلى المحافظة.

(حماد يعيد تقليب الأوراق.)

شوقي (بملل) : هاتِ (يجر الملف) لست أدري من أين جاءوا بك؟ (يُخرج ورقة بيضاء ويرمي بها إليه) خذ، اكتب.
حماد (يسوي الورقة ويخرج قلمًا من أقلام سوان) : أفندم.
شوقي : «إنه في يوم … الساعة …» أول السطر: «نحن اليوزباشي» ألا تعرف اسمي؟ يا للغباوة!
حماد : يا افندم.
شوقي (مقاطعًا باشمئزاز) : حسن حسن، نحن اليوزباشي، لا يزال الغبي منتظرًا أن أمليه اسمي؟
خيري : وماذا تنتظر من آلة بلا إرادة أو عقل؟!
شوقي : صحيح، نهايته؛ اعذرونا يا بك.
خيري : ولماذا لا تكتب أنت وتريح نفسك؟!
شوقي : لقد بدأ المحضر بخطه فيحسن أن يتمه بخطه (ويلتفت إلى حماد وينظر في الورقة التي أمامه) اليوزباشي بالواو يا حيوان.

(حماد يضطرب ولا يدري كيف يصلحها.)

لا تفعل شيئًا، دعها كما هي، «اليوزباشي شوقي المعاون بقسم … بناء على أوراق الحكم الشرعي مرفوقة: مر، فو، قة: واو، قاف، هه؛ مرفوقة، أيوه، لا تكتب أيوه يا بهيم؛ الواردة من المحافظة، قد انتقلنا ومعنا المرشدة (يلتفت إلى فؤاد) خديجة إيه يا بك؟»
فؤاد : خديجة أحمد.
شوقي (ينظر إلى الورقة) : خلاص المرشدة؟ المرشدة إلى محل السكن، والمرشدة هي الست خديجة أحمد قريبة مقدم الطلب؛ ولمرض حضرته اكتفينا بالمرشدة، وهناك وجدنا الزوجة جالسة وسط أهلها، فأبلغناها الحكم الصادر ضدها والمطلوب تنفيذه عليها، واستلمناها ولم يحصل أي معارضة، وسلمناها للزوج في منزله، وتسلم الزوج الحكم بعد ذلك (لفؤاد) تفضل يا بيه، (يعطيه الحكم) ووقع بالاستلام وختم المحضر في تاريخه وساعته، وقررنا إعادته للمحافظة لإجراء اللازم.
خيري (بدهشة) : إجراء اللازم؟ وماذا بقى بعد ذلك؟
شوقي : مجرد إجراءات كتابية ليس إلا، حسب الأصول. (لفؤاد) من فضلك يا بيه امضِ هنا، (فؤاد يتقدم ويتناول القلم وينظر إلى الضابط) استلمت الحكم — إمضاءك، وهنا أيضًا من فضلك، (لحماد) هاتِ (يتناول القلم والمحضر ويوقع باسمه).
شوقي : لحماد اجمع أوراقك. (لفؤاد) هل تسمح لي بالانصراف؟
فؤاد : ألا تنتظر القهوة؟ ستجيء حالًا.
شوقي : ليس هذا وقتها، اسمح لي.
فؤاد : أشكرك جدًّا يا شوقي بك، لقد أتعبناك، لا تؤاخذنا.
شوقي (ماضيًا إلى الباب وهو يحيى خيري وثريا) : العفو، العفو

(يخرج حماد يلقي التحية العسكرية إلى الحضور ويتبعه حاملًا ملف الأوراق.)

(صمت قصير.)

خيري (يتقدم على مهل إلى فؤاد ويقول بلهجة المتهكم) : والآن ماذا تنوي أن تصنع بالبضاعة (فؤاد يرفع إليه عينه مستغربًا لهجته وتعبيره) ألا تذهب لمعاينتها؟ (ثريا تدق كفًّا بكفٍّ وتتمتم بكلام غير مسموع وهي تتمشى) من يدري؟! (يهز كتفيه) ربما كان قد أصابها عطب أو تلف، أو … على كل حال المعاينة واجبة.
فؤاد (بلهجة الجد) : خيري! لا تزدني ألمًا، أرجوك؛ إنك لا تعلم ماذا احتملت، ولكني كنت مضطرًّا.
خيري : طبعًا طبعًا، ومن ذا الذي لا يضطر إلى البوليس أحيانًا؟! إننا جميعًا في حماه.
فؤاد : لا أدري، ولكني أظن أن هذا ليس أوان التهكم، إني أقول لك إني أتألم.
خيري (مقاطعًا) : بديهي ولكن هي؟ هي؟ ألا تظن أنها تألمت أيضًا؟ أم لا حساب عندك لشعورها؟
فؤاد : لست أعني هذا، ولكني ما سلكت هذا الطريق إلا لخيرها ومصلحتها.
خيري : أظن أن مصلحتها شيء يعنيها وحدها، على كل حال لقد جاءوك بها، فهل تريد أن تدعها مرمية في غرفتها وأنت هنا تتمشى وتأتنس بنا، وتتمتع برؤيتنا وحديثنا؟!
فؤاد : الحق معك، غير أني أظن أن الواجب أن تسبقني أنت وثريا إليها.
خيري (يجزع) : أنا؟
فؤاد : هل في هذا من بأس؟
خيري : لا يا صاحبي! أني مستعفٍ؛ لست كفؤا لهذا الموقف! عندك ثريا إذا شئت! إنها بطلة وليس لها أعصاب.
ثريا : هذا جميل، جميل جدًّا، ألا تقول لي ماذا جرى لك اليوم؟
خيري : ماذا جرى لي؟! إنها تسأل! (يشور بيديه) ماذا يجري للعاقل حين يجد نفسه بين المجانين؟
ثريا : أشكرك على هذا الأدب.
خيري : العفو، أستغفر الله.
فؤاد : ولكن يا خيري ألا يمكن أن تفعل شيئًا على سبيل التمهيد؟
ثريا : هذا واجب، ولقد لبثت نصف ساعة أحاول إفهامه وهو لا يريد أن يفهم، لا أدري ماذا أصابه؟
خيري (لثريا) : تعالَي. (لفؤاد) وأنت أيضًا تعالَ — ادنوا مني — (يدنوان فيضع كفًّا على كتف كل منهما) إما أن أكون أنا مجنونًا وإما أنكما أنتما المجنونًان، نعم، لا يمكن أن نكون كلنا عقلاء.
ثريا (تنحِّي يده) : أهذا كل ما تريد أن تقوله؟
خيري : كلا، ولكني أريد أن أفهم معنى التمهيد الذي يقترحه فؤاد، تمهيد؟! تمهيد لأي شيء؟! بعد أن أعدتها بقوة البوليس واستعديت عليها القانون واستخدمت سلطانه وسخرت رجاله؟ لأي شيء بعد هذا تريد أن تمهد؟! هيه؟ أفهمني إذا كنت مجنونًا، إيه، أرجع لي عقلي!
فؤاد (وهو مطرق) : إن كل ما أعني يا خيري أن الموقف صعب، وأن علاجه يحتاج إلى الحكمة.
خيري (بصوت عالٍ) : صعب! إنه مستحيل يا حبيبي! لقد كنت أفهم التمهيد للوفاق قبل هذا؛ أما الآن فقد جعلتها حضرتك مسألة قوة، تفضل إذن.
ثريا : إذن أذهب أنا إليها.
خيري (يهز كتفيه) : إني أدعو لك بالتوفيق.
ثريا : نعم فقد تكلمنا أكثر مما يجب، ولا يليق تركها هكذا.

(تتجه نحو الباب.)

خيري (لثريا) : بل يجب تركها (ثريا تقف).
فؤاد : أرجوك يا خيري، دعها بالله تذهب إليها.
خيري : وهل أنا أمنعها؟! إنما أريد أن أفهمكما أن الواجب أن تذهب أنت وتتضرع إليها وتتذلل وتركع أمامها (فؤاد يبدي علامة اشمئزاز) نعم تجثو على ركبتيك هاتين، (يشير إلى ركبتي فؤاد) وتستغفرها، وتنسى أنك انتصرت عليها، هذا هو الواجب، ولكنكما لا تريدان أن تسمعا، إه، شأنكما إذن، (لثريا) اذهبي يا ستي وجربي، سترين.
فؤاد (يتمشى وهو يفكر) : الحق أقول لك يا خيري، لقد كلَّ ذهني، لم أعد أستطيع أن أفكر.
خيري : لا أظنك فكرت أبدًا، وإلا …
ثريا : ألا تكف عن هذا الكلام؟
خيري (بإشارة يأس) : سأكف، اذهبي.
ثريا : نعم سأذهب.

(تعود فتتجه نحو الباب، باب غرفة المائدة وإذا بليلى واقفة في مدخله، وعلى فمها ابتسامة مرة، تراها ثريا فتقف، فؤاد يضطرب وينظر إلى باب الشرفة، خيري يقف محملقًا.)

ليلى : لا تتعبي نفسك (تدخل على مهل والابتسامة المرة على فمها) هل انتهى المؤتمر؟ (تنظر إلى فؤاد) هل رفعت الجلسة؟
خيري (يتقدم إليها ويتناول كفيها بعطف) : ليلى، أرجو أن تثقي أني لم أكن من أعضائه، أو على الأصح أني كنت ولا أزال العضو المعارض.
ليلى (بابتسام خفيف) : أعرف هذا، وأشكرك.

(تسحب يديها وتتقدم إلى المنضدة.)

خيري (يدور وهو واقف في مكانه) : إننا جميعًا متألمون من أجلك، حتى هو وإن كنت لا تصدقين، ولكن الذي يخفف ألمنا، والذي يهون عليك أنت هذه المعاملة، أنه مجنون، هذا هو الواقع.
فؤاد (ينتفض ويواجهه) : مجنون؟ أتقول إني مجنون؟
ثريا (بلهجة اليائس) : لقد فقد وعيه.
خيري (لفؤاد) : معذرة ولكنك لست مجنونًا فقط بل مستشفى مجاذيب بأسره.
فؤاد (بغضب) : إذا كنت تمزح فليس هذا وقته، وإذا كنت جادًّا فإنها … نعم قلة أدب.
ليلى (لفؤاد) : لماذا تغضب؟ هدئ روعك! إن هذا يوم انتصارك، أفلا تستطيع أن تحتمل أنت النصر كما أحتمل أنا الهزيمة في سكون؟
خيري (تبدو عليه دلائل الإعجاب) : برافو.
فؤاد : ليلى! إني أعلم أني كنت قاسيًا! ولكن من الرحمة أحيانًا أن يكون الإنسان قاسيًا.
ليلى (بتهكم) : هل تريد مني أن أبتلع هذه الفلسفة أيضًا؟
فؤاد : فلسفة! أين الفلسفة؟ إنها حقيقة عارية يعرفها كل إنسان، ولست أتفلسف ولا لي على ذلك قدرة، ولكني أبين لك أني قصدت إلى الخير من وراء ما فعلت، هذا كل ما أردته.
ليلى (بتهكم) : الخير؟! الخير أن يتسور الجنود البيت ويحاصروه ويهجموا عليَّ ويقرءوا عليَّ حكمًا أنت تعلم أنه ظالم؛ لأني لم أدافع عن نفسي؟ نعم لم أرضَ أن أقدم دفاعًا، صنت شرفك، أردت أن لا أفضحك أمام الناس، واحتفظت بحيائي وكرامتي وإبائي. الحكم؟ (تهز رأسها) لو شئت لتقدمت وقلت، ولكني لست سوقية، إن أهلي كانوا كرامًا على الرغم من فاقتهم، وقد أحسنوا تربيتي، وأنت؟ أنت تجرُّني بالقوة؟! تسلط عليَّ الجند يقتحمون عليَّ البيت ويدخلون بلا استئذان ويجرونني إليك كأني مجرمة؟! الخير؟ أتقول الخير ولا تخجل؟
فؤاد : ولكن يا ليلى، لم يكن لك حق فيما فعلت، تصوري.
ليلى (مقاطعةً ومشيرة بيدها إليه أن يسكت) : لا حاجة بك إلى الكلام، عملك ناطق لا ينقصه البيان.
فؤاد : اسمعي يا ليلى، إن العبرة بالبواعث، والأعمال بالنيات، فإذا كانت الوسيلة جافة عنيفة، فإن الغاية كريمة محمودة.
ليلى : لقد لجأت إلى القانون تسأله الإنصاف، وقد أنصفك، فاستغنِ عن إنصافي إذن، فلست مفتقرًا إليه، حسبك إنصاف القوة، لو كنت أنصفتني لما احتجت إلى القانون، ولكنك اخترته فاقنع به.
خيري : هذا صحيح، صحيح جدًّا، وعدل أيضًا.
ثريا (لخيري) : ما شأنك أنت؟! ألا بد أن تحشر نفسك؟! ألا تدعهما يتكلمان؟!
خيري (لثريا بدهشة) : إيه، ولماذا إذن أرغمتني على البقاء؟ أليس لأقول شيئًا؟! أما إنك لمدهشة!
ليلى (لخيري وثريا) : لا تتنازعا من أجلي؛ فإني لا أستحق ذلك، إني أمَة جارية.
فؤاد : ليلى! لماذا تقولين عن نفسك.
ليلى (بزراية) : أهو غير صحيح؟
فؤاد : صحيح! كيف يمكن أن يكون صحيحًا (يدنو خطوة) لا تدعي مرارة نفسك تفيض على لسانك، هبيني مخطئًا، فالإنسان يخطئ، وقد عدنا.
ليلى (متراجعة ورافعة راحتيها لتصده) : لا لا، ابقَ حيث أنت، من فضلك.
(يقف) أشكرك، نعم أمَة؛ ألست قد اشتريتني يوم أنقدت أبي مهري؟ يوم أفرحته بضخامة المهر وجسامة الثمن؟ لم يكن هذا مهرًا (تضحك ضحكة خفيفة) بل كان ثمنًا للجارية التي يسمونها ليلى ويزعمونها زوجة (بابتسامة مُرَّة) زوجة! يا للسخرية!
فؤاد : بالطبع أنت زوجة، فما هذا الكلام الفارغ؟ إن كل ما حدث لا يمحو صفة العلاقة بيننا ولا يغيرها، بل هو يؤكدها ويزيدها ثبوتًا ويقوي رباطها.
خيري (مقاطعًا) : النظرية صحيحة في ذاتها، ولكن تقوية الرباط لا يا صاحبي.
فؤاد (بانفعالٍ) : قلت لك يا خيري إن هذا ليس وقته؛ أنت ترى حالتها النفسية.
ليلى : حالتي النفسية؟ لقد بدأت تُعنى بها وتفكر فيها، ولكن بعد الأوان يا صاحبي.
خيري (لفؤاد) : هذا أيضًا صحيح، وليس يسعني إلا أن أوافق على النظريات الصحيحة …
ثريا (لخيري) : بل أنت تلعب على حبلين؛ توافقه وتوافقها.
خيري : ليس هذا ذنبي … دعي أحدهما يغلط فلا أوافقه.
فؤاد : أرجو يا خيري، أرجو، أرجو.
ليلى (بضحك فاتر كأنها تحدث نفسها) : الزوجة الجارية، هل في هذا تنافٍ أو تنافرٌ؟ عقيلته المحترمة وأمَته الذليلة … زوجته المصون وجاريته المستعبدة، بديع هذا أليس كذلك؟!
فؤاد : إن هذا كثير يا ليلى، ولو هدأت قليلًا لتبينت أني …
ليلى : إني هادئة، فإذا كنت لا تصدقني فسل البوليس.
فؤاد : ألا يمكن أن تتناسي هذا لحظة لنتفاهم بهدوء واتزان؟
ليلى : لقد ردني إليك البوليس، أليس هذا صحيحًا؟ ردني إليك مرغمة بغير اختياري وأنفي في التراب، ويقول مع ذلك أني زوجة ولست جارية! هئ هي.
خيري (مشورًا بيديه) : لست أطيق أن أسمع هذه النبرات.
ثريا (لخيري) : ثم ماذا؟
خيري (لثريا) : إن صوتها باكٍ، حزين، يقطع القلب.
ثريا (لخيري) : ما أبلغك!
خيري : إنها مسألة أذن حساسة.
ثريا : ألا تعفينا من الكلام؟! إننا في غنًى عن مساعدتك.
خيري (متلفتًا إليها) : إذن من الذي أبقيتني لأساعده؟ هيه؟
ثريا : لا أحد، من فضلك اسكت.
فؤاد : اسمعي يا ليلى.
ليلى (مقاطعةً) : لقد سمعت الحكم، ونفذوه أيضًا، فماذا تريد أن أسمع فوق ذلك؟! جاءوا بي إليك مسحوبة على وجهي كما أنذرتني، لم أعد أملك من أمري شيئًا، ليس لي في نفسي حق، أنا ملكك، أسيرة إرادتك ورهينة مشيئتك، ملكك، هيه، يعني إذا أردت … (يحمر وجهها).

(في وقت واحد.)

فؤاد : بالله عليك يا ليلى!
خيري : مسكينة، مسكينة!
ثريا : ليلى!
ليلى (ماضية بلهجة مُرَّة على الرغم من الابتسام) : نعم جارية، يعني إذا اشتهيت ضمة أو قبلة من خدي هذا (تلمسه) أو وجنتي هذه (تلمسها بأصبعها) أو من فمي (تضع سبابتها عليه) أو إذا اشتهيت أن تعض شفتي أو تمص لساني.
فؤاد (بصوت خشن) : ليلى! إن هذا كثير.
ليلى (تهز كتفيها) : لمَ لا؟! ألست عبدة؟! أليس لك أن تصنع بي ما تشاء؟! طوبى لك، هذا أنا أمامك، ألست جميلة (تضحك) لم يضع عليك مالك! كلا، فإنه في حراسة البوليس.
فؤاد (بعنف) : وبعد؟ ألا تنوين أن تقصري؟
خيري : مهلًا يا صاحبي، كن حليمًا.
ثريا : دعها تطرح عن صدرها العبء.
ليلى (غير ملتفتة إليهم ماضية في كلامها بلهجة الرزاية المرة) : كلا لم يضع عليك الثمن الذي دفعته؛ فما زلت جميلة (بتأنٍّ) قوامٌ معتدلٌ، خصرٌ نحيلٌ، ثديٌ ناهدٌ، خدٌّ أَسِيلٌ، لحظٌ فاتكٌ، هدبٌ طويلٌ، محيًّا نضيرٌ كأنما غذته الورود، شفتان رقيقتان، شعرٌ جميلٌ، كل هذا ملكك، وما أقل الثمن وأرخص الجارية!
فؤاد وخيري وثريا : ليلى!
ليلى (وقد بدأت تهيج على الرغم من لهجة التهكم) : يا سيدي ومالك رقِّي! هل تريد أن أعرض عليك مفاتني؟ أتبغي أن أمشي أمامك وأتخلَّع؟ أو أن أرقص وأتثنَّى وأتقصَّع؟ أتحب أن أسقيك ريقي الحلو وأرشفك رضابي العذب؟ أتودُّ أن أريح صدري على صدرك، وأنيم ثدييَّ على قلبك؟ أتشتهي أن أضمك وأذوب بين ذراعيك؟ كل هذا لك بحكم القانون، بقوة البوليس، إذا نفرت من عناقك فمن يدري؟! ربما أمكنك أن تستعين البوليس ليرموا بي في حضنك.
فؤاد : إن هذه ثورة جنون.
ليلى : أخمدها بقوة القانون وسطوة البوليس، أليسا تحت أمرك؟!
خيري : اسمعي يا ليلى …
ليلى (مقاطعةً) : وأنت أيضًا؟ لا بأس، لم يبقَ لي أحد.
خيري : لا، لا، إني أعني …
ليلى (تلتفت إلى فؤاد مقاطعةً خيري) : سنرى أينا الغالب؟ أنت بالبوليس أم أنا بقوة الله وقوة الإرادة (ثم بعنف) لقد جاءوا بي إليك ولكنهم ما جاءوا إلا بقبر متحرك، بجثة لا ينقصها إلا أن تُلَفَّ وتُدفن في التراب.
ثريا (تدنو منها وتضع يدها عليها مشفقة) : ليلى! ليلى! ماذا أصابك؟ (تلتفت إلى فؤاد وخيري) اخرجا من هنا، اتركاني معها إلى حين حتى تهدأ.
ليلى (تتملص من ثريا وتواجه فؤاد) : نعم جثة، وسترى أني سأصبح جثة، رمَّة نتنة جيفة قذرة، تبادر إلى التخلص منها وإخراجها من بيتك، (يضطرب صدرها جدًّا) لا تريد أن أخرج حية؟ فلأخرجْ إذن ميتة.
فؤاد (يرتاع) : خيري! لم أعد أدري ماذا أصنع، لم يكن هذا الجنون في حسابي، إنما أردت صلاحها.
خيري (لفؤاد) : اخرج الآن، اخرج، دعني أنا وثريا معها.

(ثريا ترى اضطراب صدرها فتحيطها بذراعها.)

(فؤاد يتردد وينظر من خيري إلى ليلى.)

خيري : يا أخي اخرج (يدفعه).
فؤاد (وهو يتجه إلى الباب) : لا أدري ماذا أصابها؟ (يلتفت إلى خيري) ألا يحسن أن أدعو طبيبًا؟
خيري (يلتفت إليه بغضب) : يا أخي اخرج أولًا، ما هذه البلادة؟! اخرج ثم ادعُ طبيبًا أو عفريتًا كما تشاء، اخرج والسلام.
ليلى (مشيرةً إلى فؤاد ومحاولةً أن تتقدم خطوات) : بل تبقى، (فؤاد يقف ويدور) لا بد أن تسمع كلامي لتعرف قيمة بوليسك وضباطك وعساكرك.
خيري (لليلى) : ليس الآن يا ليلى، هدئي روعك، دعيه يخرج ثم قولي ما بدا لك.
ليلى (بلهجة الجزم) : كلا، بل الآن، هي كلمة واحدة.

(خيري يشير إلى فؤاد أن يسرع فيخرج.)

(فؤاد يهم بالاتجاه نحو الباب.)

ليلى (وهي تلهث) : قف، لن أذوق في بيتك طعامًا ولا شرابًا.
فؤاد (يصيح) : إيه؟
ليلى : نعم لقد قلت لك إنهم ما حملوا إليك إلا جثة، وسأصير جثة، أفهمت؟!

(في وقت واحد.)

خيري : تنتحرين؟
ثريا : هل جننت؟
فؤاد : ماذا تقولين؟
ليلى (ويدها على صدرها المضطرب) : نعم أو ألقي بنفسي من النافذة أو السطح، أو أشرب سمًّا، أو أخنق نفسي، أي ميتة ولا أبقى معك، فما للقانون ولا للبوليس سلطان على الروح، ليأخذ جثتي التي استعدى عليها القانون والبوليس، سأرمي أنا بها إليه، سألقي بجثماني إليه كما تُلقى العظمة للكلب النَّهِم، (فؤاد ينتفض، خيري يشير إليه داعيًا إلى الحلم) أما روحي فلا، (يزداد اضطراب صدرها ويضعف صوتها) لا سلطان عليها إلا لله ولنفسي (بصوت لا يكاد يُسمع) فقط.

(ولا تكاد تقول ذلك حتى تتهافت على المقعد مغشيًّا عليها، خيري يسرع إليها، فؤاد يتقدم وينظر وهو مرتاب مخافة أن تكون قد ماتت.)

ثريا (وهي حانية عليها) : لقد أغمي عليها.
خيري : سأحملها إلى غرفتها.

(يضع يديه تحتها ليحملها.)

فؤاد : ألا أدعو طبيبًا؟
خيري (وهو ينهض بحمله) : بالطبع تدعو طبيبًا؟ ماذا جرى لك؟

(فؤاد يخرج وهو مضطرب. خيري يخرج من باب غرفة المائدة.)

ثريا (تتمشى وهي صامتة ثم تقول) : لم تعد هناك فائدة؛ لا يمكن أن يعيشا معًا! كلا، لا بد من الفراق، ولكني لم أكن أتصور أن كل هذه الثورة في صدرها، إن قلبها مضطرم، فيه بركان من المقت.

(خيري يدخل.)

خيري : هل أعجبك هذا؟ لعلك مسرورة!
ثريا (بجفوة) : ثم ماذا؟ ألا يكفينا ما نحن فيه؟
خيري : ثم إنكم جميعًا مجانين، وقد قلت هذا في أول الأمر فلم تصدقوني، فلعلكم اقتنعتم الآن.

(يدخل فؤاد مفكرًا.)

خيري : هل دعوت طبيبًا؟
فؤاد : نعم.
خيري : ليس هناك إلا علاج واحد.

(فؤاد يرفع إليه عينيه ويحدق في وجهه بلا كلام.)

خيري : تدعها تذهب.
فؤاد (يرتد مصدومًا) : تذهب؟
خيري : نعم، إلى حامد؛ إنه قريبها.

(فؤاد ينزعج ويدير عينه إلى ثريا بلا كلام.)

ثريا : وهذا رأيي أيضًا.
فؤاد (ينظر من خيري إلى ثريا مذهولًا) : ماذا تقولان؟!
خيري : نقول إنك تقتلها إذا أرغمتها على معاشرتك، وأظنك رأيت وسمعت ما فيه الكفاية.
ثريا : نعم لا فائدة؛ فإنها تكرهك (فؤاد يرتد قليلًا من الصدمة).
خيري : لا يشقَّ عليك ما نقول؛ إنه لمصلحتك.
فؤاد (يعبس ثم يتماسك ويعتدل) : إني أدرى بمصلحتي.
خيري : كذلك ليلى يجب أن تكون أدرى بمصلحتها.
فؤاد (مصدومًا) : ولكنها في غير وعيها؛ ليست هذه حالة طبيعية، ومن مصلحتها …
خيري (مقاطعًا بجفوة) : ليس من مصلحتها أن تنتحر.
ثريا : إنها عنيدة، وأخشى أن تنفذ عزمها.
فؤاد : كلام فارغ، إنها مريضة، وأعصابها متعبة، وسأعالجها.
خيري : خير لك أن لا تحاول، حاذر.
ثريا : نعم حاذر!
فؤاد : إذن لم أصنع شيئًا.
خيري : بل صنعت شرًّا.
فؤاد : لقد دعوت الطبيب، إنها مسألة محتاجة إلى طبيب، لا إلى …
خيري (مقاطعًا) : إذن أنت مصرٌّ؟
فؤاد : مصرٌّ! أمجنون أنت؟ إنها ليست مدركة لما تصنع، فكيف تطلب مني أن أجاريها؟! كيف تريد مني أن أعد نزوات الجنون صادرة عن تفكير متزن هادئ؟! ثم إني مسئول عنها.
خيري : ستصبح مسئولًا عن موتها.
فؤاد (مستخفًّا) : إنها مريضة، هذا كل ما بها.
خيري : مريضة؟ إنها تكرهك.
فؤاد : ربما كانت تكرهني، بل فلتكرهني، هذا لا يهم، إنما المهم أنها وديعة عندي، وأنا مدين لأبويها ومطالب أمام الله وأمام ضميري بالحرص عليها.
خيري : هل من الحرص عليها أن تقتلها؟!
فؤاد : ليس لها أحد سوى حامد؟ بف! حامد!
خيري : وما شأنك أنت؟
فؤاد (ماضيًا في تفكيره) : فقير، معدم، لا يكاد يملك قوت يومه بانتظام (يلتفت إليهما) ستزول هذه الحالة بالعناية والتعهُّد، ومتى عادت إليها الصحة رجع إليها عقلها.
خيري : أهذا رأيك النهائي؟
فؤاد : بالطبع، ماذا تنتظر مني غير ذلك؟! لست طفلًا فلا أدرك التبعات، ولا جبانًا فأفر من حملها.
خيري : إذن على رأسك فلتقع التبعة الكبرى.

(تدخل فريدة مسرعة، يلتفتون.)

فريدة (لثريا) : أدركيني يا ستي.
خيري : ماذا؟ قولي بسرعة؟
فؤاد : ماذا جرى؟
ثريا : أوه!
فريدة (تتلفت وتبلع ريقها) : إنها تهذي، تسمع أصواتًا لا وجود لها، أصواتًا لا أسمعها، وتخاطب من لا أرى.
خيري (معتدلًا) : الحمد لله.
فؤاد (مندهشًا) : الحمد لله! ماذا تعني؟
خيري (ينظر إليه مستغربًا بلادته) : توهمت أنها ماتت، هذا ما أعني.
فؤاد (لفريدة) : وكيف تركتها وحدها؟!
فريدة : لم أتركها وحدها يا سيدي.
فؤاد : كيف؟ من معها؟
فريدة : ستي الحاجة.
فؤاد : ستك الحاجة! أي حاجة؟!
خيري : آه صحيح، لقد نسيت.

(فؤاد يلتفت من فريدة إلى خيري.)

فريدة : قريبة سيدي حامد.
فؤاد (ببطء وعنف) : سيدك حامد؟! (يدنو منها) كيف جاءت؟ متى؟ قولي! تكلمي!
خيري : مهلًا، مهلًا، لماذا تهيج هكذا؟! لقد نسيت أن أخبرك أني تركت ليلى معها لعنايتها.
فؤاد : ها! هل رأيتها؟
خيري (مستمر بصوت رفيع) : نعم رأيتها، أي بأس في هذا أيضًا؟! إنها سيدة كبيرة ووجودها لا شك نافع، فلماذا تنقلب سحنتك هكذا؟!
فؤاد : ولكني أريد أن أفهم كيف جاءت؟
خيري : وفيم العجلة؟! افهم فيما بعد.
فريدة : لقد جاءت في أثر سيدتي؛ لأنها لم تستطع أن تمنع نفسها، أرادت الاطمئنان على سيدتي ومواساتها.
خيري : حسنا فعلت، تعالَي يا ثريا لنرى ليلى. (يمضيان إلى باب غرفة المائدة وخيري يقول لثريا): لقد جاءتني فكرة لإنقاذها، تعالَي، إن مجيء الحاجة نعمة … (يلتفت إلى فؤاد) يمكنك أن تتمشى إلى أن نعود.

(يخرجان.)

فؤاد (لفريدة) : لماذا تبقين؟! اخرجي أنت أيضًا (فريدة تفزع) لا أريد أحدًا … (تخرج فريدة وهي تتلفت إليه مندهشة)، (لنفسه وهو يتمشى مطرقًا): الحاجة! قريبة حامد! همم … (يمسك ذقنه بكفه) هل يمكن … (يقف) كلا، لا يمكن … لست أصدق! ليست ليلى من هذا الطراز، أن قلبها على لسانها، ولو كان هناك شيء لانطلق به وهي ثائرة، ولكن الحاجة! وحامد! (يهز رأسه ببطء) وواجبي، واجبي! ماذا أصنع! (يشير بكفه نافيًا) كلا، لن أحيد عن طريق الواجب! ولكن، أوه! لم أعد أدري، لم أعد أدري (يرتمي على الكنبة وينحني على ركبتيه ويغطي وجهه بكفيه).
(يسدل الستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤