فجأة تأكَّد كلُّ شيء

كانت «زبيدة» تدخل في خطواتٍ هادئةٍ، ثم توقَّفت قليلًا وأخذت تتأمَّل «أحمد» … فتحدَّث هو بسرعة، حتى لا ينكشف الموقف: اسمي «براكان» …

ظهرت الدهشة على وجه «زبيدة»، وتردَّدت قليلًا، ثم أدركت بسرعةٍ ما يقصده «أحمد» … ثم وقف «أحمد» ومدَّ يده ليُحييها، وضغط على يدها ضغطاتٍ فهِمَتْها، فقالت بسرعة: أهلًا بالسيد «براكان» … لا بُدَّ أنك في مهمة؟

أحمد: نعم، لقد تحدثت مع السيد «كاسيو» بشأنها. إنني في انتظار لقاء السيد «ويب».

بلغة الدقَّات، تحدثت «زبيدة»: إنَّ «ويب» ليس هنا، إنه ليس الزعيم، يبدو أنَّ هناك زعيمًا أكبر.

فجأة ظهر «كاسيو» على الباب، وكانت تبدو على وجهه ابتسامةٌ خبيثةٌ، استطاع «أحمد» أن يفهمها جيدًا … قال «كاسيو»: عضوٌ جديدٌ في جماعتنا. إنها تُجيد فنونَ الكاراتيه بدرجةٍ فائقةٍ، لكن هذه ليست المفاجأة الوحيدة … إننا سوف نتعاون معًا!

نظر إلى «زبيدة» ثم قال: يمكن أن تنصرفي … إنني فقط أردت أن أُقدِّمك إلى زميل جاء للتعاون معنا … ربما اشتركتِ معه في العملية القادمة …

حيَّت «زبيدة» «أحمد»، ثم انصرفت. قال «كاسيو» مبتسمًا: سوف تلتقي بالسيد «ويب» حالًا … إنه فقط يُجري اتصالًا ما.

كان «أحمد» قد أيقن — منذ ابتسم «كاسيو» — أنه قد انكشف، وأن خدعة الماكياج لم تمرَّ بسهولة … على الأقل أنه يشكُّ، وإلا ما أرسل «زبيدة». بينما كان «أحمد» يحاول أن يتأمَّل «كاسيو» الذي كان يبدو مُستغرقًا في التفكير، كان «كاسيو» يفكِّر في موقفٍ آخر … رفع «كاسيو» رأسه إلى «أحمد» ثم قال: ما رأيك في جلسةٍ طيِّبةٍ حتى يصل السيد «ويب»؟

أحمد: لا بأس!

وقف «كاسيو»، فتبعه «أحمد»، وأخذ طريقه إلى الشرفة … كانت هي نفس الشرفة التي جلسوا فيها مع «ويب» … الشرفة الواسعة التي تُطلُّ على منظرٍ رائعٍ. قال «كاسيو»: أظن أنك لم تجلس هنا قبل الآن أيها السيد «براكان».

اغتصب «أحمد» ابتسامةً ثم قال: لا أظن! غير أنَّنا نسمع عن مقرِّكم.

ضحك «كاسيو» بعمقٍ، ثم قال: ليس هذا هو المقر، إنَّ هناك مقرًّا آخر يجلس فيه السيد «ويب».

ثم ضحك بصوتٍ أعلى، وقال: المقر السري!

كانت هذه الكلمة كافيةً حتى يفهم «أحمد» أنَّ عصابة «الحزام الأسود» تكشف خطواتهم كلها. قال «كاسيو»: هل تأخذ كوبًا من عصير الليمون؟

هزَّ «أحمد» رأسه بالموافقة، كان يفكِّر … هل وقع بقية الشياطين؟ وهل اكتشفوا المقر السري؟ … بعد قليلٍ سمع «أحمد» وقع خطواتٍ تقترب، التفت تجاهها، فرأى ما توقَّعه تمامًا … كانت «ريما» تحمل صينية من الفضة، عليها كوبان من الليمون … طرَقَ على المنضدة التي أمامه كلمات فهِمَتْها «ريما»، وانحنت تقدِّم له الليمون، وبطرف عينه لمح «كاسيو» يتأمَّلهما معًا. شكرها ثم استغرق في شرب الليمون.

أخذ «كاسيو» كوب الليمون هو الآخر، ثم أشار إلى «ريما» فانصرفت. قال مبتسمًا: إننا نستغلُّ العنصرَ الناعم في جماعتنا. إنهنَّ أقدر على تنفيذ أشياءَ كثيرة.

دقَّ جرس تليفون بجواره، فرفع السماعة، ثم بدأ يستمع دون أن يردَّ. في النهاية وضع السماعة، ثم نظر إلى «أحمد»، وقال: سوف نلتقي بالسيد «ويب» بعد قليلٍ … فقط هناك هديةٌ أريد أن أقدِّمها إليك دليل بداية تعاوننا.

أيقن «أحمد» أنَّ هناك مفاجأةً ما سوف تظهر بعد قليلٍ، ولذلك فقد أخذ يُعدُّ نفسه للمفاجأة.

أخذ «كاسيو» يتحدث في موضوعاتٍ كثيرةٍ؛ تكلَّم في الموسيقى، وفي الرحلات، وفي الطعام، وتحدث في الأدب والليل. كان «أحمد» يُتابع حديث «كاسيو» في هدوءٍ، ولم يكن يقطع حديث «كاسيو»، حتى دقَّ جرس التليفون مرةً أُخرى، فرفع السماعة، ثم استمع قليلًا … ولم يردَّ سوى بكلمةٍ واحدةٍ: نعم.

وضع السماعة … كان «أحمد» يحاول أن يفهم من تعبيرات وجهه، ماذا يمكن أن يفكِّر فيه «كاسيو» الذي التفت إليه بهدوءٍ، وقال: أعتذر.

ثم بعد لحظةٍ، أضاف: لقد أخَّرتك كثيرًا.

ابتسم «أحمد» وهو يقول: لا بأس، المهم أن نتفق.

فجأة ظهر بالباب رجلٌ ضخمٌ، اتسعت عينا «أحمد» وهو يراه … تقدَّم الرجل وكان يحمل علبةً صغيرةً من القطيفة. حيَّا الرجل «أحمد»، الذي ردَّ مأخوذًا، وإن حاول أن يُخفيَ ذلك. إن هذا الرجل هو «رول»، نفس الرجل الذي لقيَه هو و«بو عمير» في المطعم. وابتسم «رول» في هدوءٍ وهو يقول: أهلًا بالسيد «براكان»!

أخذ «كاسيو» العلبة، ثم أشار إلى «رول» فانصرف.

عرف «أحمد» كلَّ شيءٍ عندما رأى «رول»، ورأى العبة. ابتسم «كاسيو» قبل أن يفتح العلبة، ثم قال: إن هذا تقليدٌ عندنا، أن نُقدِّمَ هذه الهدية لأصدقائنا، وما دمنا سنكون عملاء … فأرجو أن تقبل هذه الهدية. وفتح «كاسيو» العلبة، ثم قدَّمها ﻟ «أحمد» الذي رأى ما توقعه؛ الخاتم الفضِّي … أيقن الآن أنَّ «بو عمير» قد وقع في أيدي العصابة، لكنه في نفس الوقت فكَّر: هل وقع «رشيد» و«خالد»؟ وهل سيكون الشياطين كلهم في أيدي العصابة؟!

كان يتأمَّل الخاتم ليعطيَ نفسَه فرصةَ التفكير. إنَّ هذه فرصةٌ طيبةٌ؛ أن يكونوا جميعًا معًا …

أخيرًا، ابتسم «أحمد» وقال: إنها هديةٌ رائعةٌ … إنني الآن مطمئنٌّ تمامًا إلى أننا سوف نتعاون معًا طويلًا.

أخرج الخاتم من عُلبته، ثم وضعه في إصبعه، وأخذ يتأمَّله … كان يفكر: ما هي الخطوة التالية؟ هل يترك الموقف للظروف؟ أو إنه يجب أن يتحرَّك الآن؟ قال في نفسه أيضًا: يجب أن أنتظر قليلًا، إننا في حاجةٍ للوصول إلى «ويب» أو إلى الزعيم الآخر.

عندما رفع عينيه عن الخاتم، كان «كاسيو» ينظر إليه، فقال مبتسمًا: أظنُّ أنَّ السيد «براكان» لم يرَ مثل هذا الخاتم من قبل؟

قال «أحمد»: لا أظن، بالرغم من أنني أحبُّ الفضة!

قال «كاسيو» مبتسمًا: في الشرق يحبُّون الفضة أيضًا!

تأكَّد «أحمد» أنَّ الشياطين قد انكشفوا تمامًا، وأنهم الآن أمام عصابةٍ غير عادية.

قال في هدوء: هل سنرى السيد «ويب» اليوم؟

أجاب «كاسيو»: بعد قليل.

رفع سماعة التليفون ثم تحدَّث: هل تحدد الموعد؟ نعم. حالًا.

وضع سماعة التليفون، ثم وقف قائلًا: الآن سوف نتحرك للقاء السيد «ويب».

وقف «أحمد» وتبعه … كان يُفكِّر بسرعة، إنه لا بُدَّ من إرسال رسالةٍ الآن إلى الشياطين حتى يكونوا على علمٍ بكل ما حدث.

خرجا من الباب إلى أسانسير صغيرٍ حملهما معًا إلى جراج العمارة، وركبا السيارة التي كان يسوقها «كاسيو» بنفسه. فكَّر «أحمد»: إن هذه فرصةٌ؛ أن يكون «كاسيو» وحده، إنه يمكن أن يتخلَّص منه بسهولة، لكنه في نفس الوقت فكَّر بطريقةٍ أخرى: إن المقصود ليس «كاسيو» نفسه … إن المقصود هو العصابة كلها.

لحظات وكانت السيارة تقطع شوارع «برن»، لكنها لم تستمرَّ في شارع واحد … كان «كاسيو» يمرُّ في شوارعَ كثيرةٍ ضيقةٍ وواسعة. عرف «أحمد» أنَّ «كاسيو» يُريد أن يجعل الوصول إلى حيث «ويب» صعبًا، أو حتى مستحيلًا … وضع «أحمد» يده على جهاز الإرسال، ثم بدأ يرسل رسالةً إلى الشياطين … كانت حركته عادية، حتى إنَّ ذلك لم يلفت نظر «كاسيو» الذي كان مُستغرقًا في القيادة … كانت الرسالة تقول: أين أنتم الآن؟ …

وبسرعة جاءه الردُّ: نحن نتبعك، لقد فقدنا أثر «بو عمير»، ولم يُرسل إلينا بعد!

كاد «أحمد» يبتسم، ولكنَّه أخفى ابتسامته، وتأكَّد الآن أنَّ «بو عمير» قد وقع في أيدي العصابة، وأنَّ «رول» هو السبب.

دخلت السيارة في طريقٍ ضيقٍ، لم يكن يحدُّه سوى اللون الأخضر من النباتات، ولم تكن هناك سياراتٌ في الطريق، حتى بدا وكأنه طريقٌ خاصٌّ. فكَّر «أحمد»: كيف سيصل الشياطين؟ إنَّ سيارتهم يمكن أن تنكشف لو دخلت هذا الطريق!

ظلَّت السيارة في طريقها، وشيئًا فشيئًا بدأت تظهر بحيرةٌ واسعة، وكيف أنها بحيرة «لوجانص». وعلى قمةٍ خضراء، ظهر مبنًى أبيض، كان يلمع وسط الخضرة التي تحوطه. نظر إلى «كاسيو» وقال: إنه موقع رائع!

ودون أن ينظر إليه «كاسيو» قال: نعم، تستطيع أن تقضيَ فيه أيامًا لو أردت.

كانت ابتسامة خفيفة تُغطِّي وجه «كاسيو»، فهم منها «أحمد» ما الذي يعنيه بالضبط … وبدأت السيارة تصعد الطريق الصاعد إلى حيث المبنى الأبيض. اختفت البحيرة الآن، ولم يعد يظهر سوى اللونين؛ الأبيض والأخضر … اقتربت السيارة أكثر فأكثر، حتى توقَّفت أمام المبنى … كان عبارة عن قصرٍ ضخمٍ يتوسَّط حديقةً واسعةً تمامًا، وكان يبدو هادئًا، وكأنه لا يسكنه أحد. عندما فتح «كاسيو» باب السيارة، فُتح باب القصر تلقائيًّا، ولم تمضِ لحظةٌ حتى ظهر رجلٌ ضخم في الباب. نظر إلى «كاسيو» ثم أسرع إليه رافعًا يده بتحيةٍ، ظهرت أنها تحيةٌ متفقٌ عليها. نزل «أحمد» وتبع «كاسيو»، فاقترب الرجل ثم همس في أذنه بكلماتٍ لم يسمعها «أحمد». نظر «كاسيو» وقال: تفضَّل أيها السيد «براكان»، إن السيد «ويب» في انتظارنا. وعندما تجاوزا الباب، كانت هناك قاعةٌ واسعةٌ تمامًا … لفت نظر «أحمد» ارتفاع السقف وتلك النقوش الجميلة التي تزينه … نظر إليه «كاسيو» ثم قال: تستطيع أن تستريح قليلًا حتى أعود إليك.

اختفى «كاسيو»، وظلَّ «أحمد» يتأمَّل القاعة الفسيحة … كانت التماثيل البرونزية والرخامية تملأ المكان، وفي صدر القاعة كانت هناك شرفةٌ عريضةٌ تُطلُّ على البحيرة … مشى «أحمد» في هدوءٍ إليها، حتى وقف عندها … كانت البحيرة تمتدُّ أمامه في هدوءٍ، وكان لونه الأزرق يُوحي بالراحة والتأمُّل معًا … كانت هذه فرصة ليُرسل رسالة إلى الشياطين، وضع يده على الجهاز، ثم أرسل الرسالة: «نحن في المقر الآن.» وجاءه الردُّ: «نعرف، اللون الأزرق هو الطريق … فهمنا ماذا تعني الرسالة.» ثم ارتفعت موسيقى هادئةٌ، وكأنها افتتاحية لعمل مسرحي. ثم فجأة … تأكَّد من كلِّ شيءٍ عندما التفت خلفه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤