الهلالية في القدس وغزة

وعندما استقر الرأي للهلالية في حكم دمشق، ولى السلطان حسن الهلالي الأمير صقر أمرها بدلًا من أبيه التبع.

ثم أمر بدق طبول الارتحال، فهدمت الخيام والمضارب، وركب الفرسان باتجاه القدس وفلسطين التي وصلوها بعد ستة أيام، فنزلوا خارج المدينة، وزاروا الأماكن المقدسة، ومنها رحلوا بعد عشرة أيام باتجاه «غزة بقلوب معتزة.»

«إلى أن عملت طلائعهم على جمع المعلومات عن ملكهم السركسي بن قارب، وهو صاحب جيوش ومواكب، وعنده خمسمائة ألف من الأبطال، والذي ما إن بلغ خبر اجتياح الهلالية لبلاده فلسطين، حتى تكدر واستشار وزيره وقائد جنده الأمير راشد.»

وبدور حاكم غزة، أرسل عيونه وبصاصيه لمعرفة قوة وحجم الجيش الغازي لبلاده، وعاد إليه مَن يخبره بما عنده من الخيل والجمال والأموال، «فعددهم أربع تسعينات ألوف من الذكور، وبناتهم مثل البدور»، وعلى عادة ما هو متبع بالنسبة لسيرتنا هذه، طالبهم السركسي بعشر المال:

إلى حسن أمير قيس وعامر
أمير البوادي في الملوك جليل
فأرسل لنا عشر المال مع الغنم
وعشر النسا جمالكم والخيل
هاتوا فتاة الجازية أم محمد
لها عيون سود وطرف كحيل
وأرسل عطور بنتك بلا خفا
بعيون سود مكحلات رميل
وريا ووطفا بعدها
ليس لهم بين النساء مثيل

وبالطبع ما إن قرأ الأمير حسن الهلالي على شيوخ القبائل رسالته، حتى أرسل له معلنًا الحرب:

اسمع ترى يا سركسي لمقالتي
فأنت تريد الجازية قنوع
تطلب بنات محصنات كواعب
وتريد أخذ سيوفنا ودروع
فما لك عندي سوى السيف والقنا
أجمع عليك من دريد جموع

والمقصود بدريد هنا، قبائل دريد.

وهكذا اندلعت الحرب بين الهلالية وحاكم غزة الذي نازلهم بثلاثة آلاف فارس في أول معركة، نازله فيها أبو زيد على رأس القوة الهلالية.

إلا إن السركسي — كما تصفه السيرة — كان «أفرس زمانه، وكانت تُضْرب به الأمثال وتهابه الفرسان.»

لذا سجلت السيرة اندحار أبي زيد أمامه وعودته منسحبًا مكورًا إلى مضارب بني هلال، حتى إذا ما تلقته نساؤها تتقدمهن الأميرة «عطور الجيد» ابنة السلطان حسن بن سرحان، ليسألنه عما جرى، أجابهن مسرورًا معترفًا بهزيمته، إلى حد قوله إنه أصبح «زمن النساء»:

قال أبو زيد الهلالي سلامة
والدمع من فوق الخدود سيجام
أيا عطور الجيد إن السركسي
يشبه الذئب قد حظي بغنائم
روحي وقولي لأبيكِ أبو علي
ينزل إليه باكر ويهاجم
ما دامن النسوان تولى في الورى
تظهر فوارس كالسباع تصادم
هذا السركسي ما أحد يصادمه
إذا قام في ظهر الحصان يلاطم
فامضي إلى حسن الهلالي والدك
وقولي له أبو زيد ولى هزايم

حتى إن البنات استعظمن الأمر، واستقر الرأي بهن إلى اللجوء إلى دياب بن غانم، يناشدنه منازلة السركسي.

وما إن استجاب لمشورة السلطان حسن ونساء هلال المحرضات على القتال، حتى نزل إليه، إلا أن دياب بن غانم بدوره، تخاذل أمام هجماته، وانسحب إلى صيوان السلطان حسن، فلما شاهده بادره من فوره: «أراك في خوف واضطراب!»

فأجابه:

السركسي ما رأيت مثله فارس
يفتح على الحروب أبواب
ما له مثيل في الهلال وعامر
أيضًا، ولا في ساير الأعراب

«فانهزم الأمير دياب ببني زغبي، وأبو زيد ببني زحلان، والأمير حسن والقاضي بدير ببقية الفرسان، وتبعهم الوزير راشد، وشتتهم في جوانب القفار مسافة ثلاثة أيام، وكسب منهم غنائم كثيرة وأموال غزيرة، ولما أظلم الظلام رجعت الفرسان عن بعضهم البعض، ورجع الوزير والجمال، وصارت بني هلال مشتتين في البراري والتلال، واجتمع الأمير حسن والأمير دياب والأمير أبو زيد وأكابر الديوان، وأخذوا يتشاورون في خلاص ما أخذه منهم قوم السركسي، وكيف يقتلوا الوزير الذي كان سبب هذا البلاء.»

قال الراوي: «وكان للأمير حسن ابن أخت شديد البأس قوي المراس، يُسمى الأمير عقل، وكانت أوصافه ممدوحة مستحسنة، وعمره أربع عشرة سنة، فلما رأى ما جرى وكان، وانهزام الأبطال والفرسان من قتال السركسي في ساحة الميدان، واستعظم ذلك الشأن، فجاء إلى عند خاله الأمير حسن، وتعهد له بقتل السركسي، وإزالة الكروب والمحن، بشرط أن تذهب معه النساء والبنات، ليشجعوه في الحرب والثبات، ثم إنه بعد ذلك الكلام أنشد هذا الشعر والنظام:

يقول الفتى الأمير عقل بما جرى
ونيران قلبي زايدات وقيد
أنا فارس الفرسان في حومة الوغا
أخلي الأعادي بالفلاة شريد
فنادي بنات هلال تأتي بسرعة
ونادي لنا أم الأمير شديد
ونادي الجازية أم محمد
وغيا وريا ثم أم الجيد
ونادي لوطفا بنت عمي وزينب
وعليا ونجلا حسنهن يزيد
قاربك فعلي فيه يا أبو علي
وأريه طعنًا في الجمال شديد
على ظهر حمرا ليس يوجد مثلها
أنا فوقها قوم أصيل عنيد»

«ثم إن الأمير حسن أمر الجازية أن تنتخب في الحال مائة بنت من خيار البنات الأبكار اللواتي يشبهن الأقمار، فحضرت بهن عند أخيها، وقالت له: ماذا تريد أن أفعل؟ قال: تذهبي مع البنات ومع الأمير عقل إلى ساحة الميدان، وتنشدونه الأشعار الحسان كما فعلتم مع غيره، حتى يتحمس على قتل السركسي بن نازب. فلما سمعت الجازية كلامه، قالت: كيف نذهب مع عقل، وهو ولد صغير السن؟! أليس هو صغير السن والقتال؟! إذا كان أبو زيد ودياب لم يقدروا على السركسي، فكيف يقدر هذا الصبي؟! وربما يأسرنا السركسي وتبقى معيرة بين الأعادي.»

«وفي الحال ركبت العماريات أمام الفرسان والأبطال، واعتقلوا بالرماح والنصال، وقصدوا ساحة القتال.»

وهكذا لعب هذا الأمير الشاب الجديد عقل دورًا في إنقاذ التحالف القبلي في فلسطين، بصموده أمام جحافل جيش السركسي، وإمداداته التي رجحت كفة قواته عليهم.

وأما بنو هلال فإن الأمير حسن بعد رجوعه إلى المضارب دعا الأمراء لهم: «نحن رجال قصدنا الوصول إلى تونس الغرب، لنخلص أسرى الزناتي خليفة بالحرب، والرأي عندي الآن أن نهجم في الصباح بالأبطال والفرسان، ونحارب أعداءنا حتى نبلغ الآمال، ونسير بالعجل من هذه الأطلال، ويركب الأمير دياب في بني زغبي الشجعان، والقاضي بدير، والخفاجي عامر مع الأمير زيدان الرياشي مفرج وعرندس الألزعي والأمير عقل يقصدون الميدان والأمير أبو زيد يركب في بني زحلان، ويقصدون أبواب غزة بعد حضور السركسي إلى الميدان.» وهكذا تم الاتفاق.

«هجم الأمير عقل وزيدان، واقتلعوا السركسي من ظهر الحصان، وارتقاه بالسلاسل والقيود، وأخذاه إلى الخيام، وبلغوا المقصود، ولما بلغ أبو زيد هذا الخبر فرح.»

«وهكذا دخلت بنو هلال غزة بقلوب معتزة، فغنموا الأموال، وخلصوا صباياهم من الاعتقال. وفي اليوم الثاني أقبلت أهالي البلد والأكابر والعمد، وطلبوا من الأمير حسن الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل مناديًا ينادي بالأمان الاطمئنان، فاستكنت الأحوال، واستبشر بنو هلال، ثم حشرت قواد الفرسان والأمراء عند الأمير حسن، فشكرهم وغمرهم بالعطايا ثم أحضروا عقل، وأكرموه على ما أبداه من الحرب والصدام، وقلده الأمير حسن مقام الأمراء العظام، وألبسه سيفًا مرصعًا بنفيس الجواهر.»

«فتقدم الأمير زيدان شيخ الشبان، والتمس من الأمير حسن أن يأمر بعمل عرس لأولاد الأمارة الذين حان وقت زواجهم، حيث تمت الحروب، واسترحنا من الشدائد، وركبت أولاد الأمارة فوق الأمهار والأبراش، وعملوا عراضة عظيمة، وبعده عملوا عرسًا بالمسرات، رقصت أمامهم النساء والبنات أيام.»

«وأحضروا السركسي مقيدًا بالأغلال وهو صامت، وأدخلوه عند الأمير حسن يطلب العفو، وكان الأمير أبو زيد عن يمينه والأمير دياب عن شماله، فهدده الأمير دياب بالعقاب والانتقام على ما جرى، فحينئذ طلب منه العفو والأمان، وقال: يا دياب يا شتي هو سبب الأذية والضرر، وكان سببًا لسبي النساء.»

«فأمر السلطان حسن بإطلاق الأغلال عنه، وقال: يا سركسي العفو عنك إذا حفظت الشرائع الملوكية، وهي أوصيك بمحبة الله، وحفظ شرائعه ووصاياه ما دمت على قيد الحياة، ولا تكون لحوحًا في الكلام، ولا مدمنًا لشرب، بل حافظًا لزمام الاحتشام، متخلقًا بأخلاق الكرام مع الخاص والعام، متجنبًا كلام الهزء والهذيان، واقيًا نفسك من عثار اللسان؛ لأن سدود الأحرار قيودها، فمن صان نفسه ملك أمره، ومن باح لم ينجح. وزاد: واحذر يا سركسي من النساء الأشرار، فإن مكرهن عظيم، وخطواتهن تؤدي إلى قاع الجحيم؛ لأنهن أصل الأذى والضرر، وهن أغدر من كل إنسان، وإياك أن تغفل عن أحوال الرعية، وتتعدى القواعد الهلالية، وتخلف قوانين وشرائع الملوكية، بل سالكًا الطريق المرضية، معاملًا الكبير والصغير بالسوية، رافعًا لشكوى المظلوم حجابك، فاتحًا في وجهه بابك، واضعًا الأشياء في محلها والمناصب في يد أهلها، ولا سيما ولاة الأنظار وأرباب الوظائف الكبار، فينبغي أن يكون هؤلاء الرجال من خواص العيان ومن أهل الفضل، فإذا كانوا على هذه الحالة تستقيم أحوال الرعايا، وينشر العدل في كل مكان، فترى الذئاب مع الغنم، وتبات العصافير في الرخم.»

وهكذا استتب الأمر لبني هلال في القدس وغزة، عقب وصايا السلطان حسن لحاكمها، وما إن دقت طبول الرحيل، حتى وقعت حادثة جديدة للأمير جابر والد زوجة أبي زيد العالية.

حيث تمكن أحد أمراء الشام وفلسطين، ويدعى البردويل بن راشد حاكم العريش، من قتله «بوسط عكا»، وسبى العالية زوجة أبي زيد، إلا أنه تمكن من قتله، واسترداد زوجته التي سباها ملك العريش، واتخذت الهجرة الجماعية طريقها إلى مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤