الدستور وموارد الثروة

الزراعة

أَلْقِ نظرك على رسم الكرة الأرضية وأمعن في بلاد الدولة العثمانية؛ يتضح لك — بصرف النظر عن كل ما انفصل عنها — أنها لا تزال قابضة على صفوةٍ خالصةٍ من قارات آسيا وأُوروبا وأفريقيا. فلنُغادر الآن البحث في مواقع هذا المُلك المتسع الأرجاء بالنظر إلى القوة والسياسة، ولنقصر الكلام على الزراعة التي كانت ولا تزال أَثْبَتُ موارد الثروة لهذه البلاد وكل البلاد.

تبلغ مساحة البلاد العثمانية — عدا الولايات الممتازة — مليونًا و١٥٦ ألف ميل مربع، فإذا ضَمَمْتَ مساحة فرنسا، وهي ٢٠٤٠٩١ ميلًا إلى مساحة ألمانيا، وهي ٢٠٨٧٣٨ ميلًا إلى مساحة إنكلترا، وهي ١٢١١١٥ ميلًا إلى مساحة إيطاليا، وهي ١١٤٤٠٩ أميال بلغ مجموع اتساع هذه الدول الأربع مجتمعات ٦٣٨٣٥٣؛ أي: ببعض زيادة على مساحة نصف السلطنة العثمانية.

فانظر الآن ماذا يكون موردُ الثروة الزراعية في هذه الأقطار لو عمرت.

ليس من شأننا هنا أن ننظر إلى كل قطر على حدة، ونبحث بحثًا فنيًّا في طرق زراعته وبيان الصالح منها، ووضع القواعد المؤدية إلى استثمار تلك الثروة، فإن ذلك درسٌ موكولٌ إلى عناية أربابه وأولياء مراجعه في الإدارة الدستورية، وهم — بلا ريب — فاعلون.

على أنه لا بُدَّ لنا من إلقاء نظرة عامة نتبين في خلالها ما يتدفق من ميازيب الثروة على البلاد من وراء تلك العناية؛ تطييبًا لنفوس إخواننا العثمانيين، ولا بدَّ لنا أيضًا بنوعٍ خاص من بذل الجهد لإزاحة وَهْمٍ شائعٍ بين ظهرانينا إذ يتساءلون حوالينا أَنَّى يتسنى استحياء تلك الأراضي البائرة، ولا فلَّاح فيها ولا ساكن مقيم في ألوفٍ من أميالها، فإذا طُلب الزارع من داخل البلاد فليس ثَمَّ إلا البدوي وهو عدوُّ الحضارة، وإذا طُلب من الخارج فهنالك نفقاتٌ لا قِبَلَ للبلاد بها، وعقباتٌ جمة تقوم بوجه انتقاله إليها، خلا ما ينظر من المحذورات في المستقبل.

فحسبنا للإحاطة بطرفي هذا البحث أن نقتطع من البلاد جزءًا نتخذه مثلًا يُقاس عليه.

دونك الخُطَّةُ العراقية فهي — مع شمولها بلادَ ما بين النهرين — تمتد مما يلي ديار بكر جنوبًا إلى خليج العجم شمالًا، ومن حُدُود بلادِ إيران شرقًا إلى حدود سوريا غربًا، وتشمل ولايات الموصل وبغداد والبصرة وقِسْمًا من ولاية ديار بكر. وهي بمساحتها تزيد عن مساحة فرنسا، وبخصب تُرْبَتِها لا يفوقها قُطرٌ في العالم. تخترقها مجاري مياه أنهر من أعظم الأنهار، ففيها دِجْلَة وفيها الفُرَات وفيها الزاب الأعلى والزاب الأدنى وذيالة وفيها شط العرب ملتقى الأنهر ذلك البحر الفياض المغني بمده وجزره عن وسائل الإرواء.

ذلك قُطرٌ قامت فيه بعواصمها أعظمُ دول العالم في العهد القديم، من البابليين، إلى الأشوريين، إلى السلوقيين خلفاء الإسكندر، إلى الفرس إلى فخر دول الإسلام دولة العباسيين.

ذلك هو القطر الذي رَغِبَ محمد علي على أن يستبدله بمصر وما والاها مما دخل في حيازته من بلاد الدولة العثمانية فلم يفلح.

ذلك هو القطر الذي وقف هيرودوتس أبو التاريخ واجمًا عن وصف تربته وخصبها خوف أن تُنسب إليه المغالاةُ والكذب مهما خفَّف من الإطراء. ولا غروَ فإن جميع دول العالم التي احتلتْه كان لها من ورائه الثراءُ العظيم. وهذه بابل مع زيادة عدد سكانها في إِبَّان عظمتها على الخمسة والعشرين مليونًا، وامتلاء خزائنها بالمال من موارد ثروته كان حاصل زراعتها كافيًا لمعيشة سكانها، ويفيض عن الحاجة فيصدر مشحونًا إلى سائر البلاد.

وهذه الدولة العباسية العظيمة — مع بسط سلطتها — لم تكن سلطنة اليونان والرومان بإزائها شيئًا مذكورًا، كان الكثيرُ من دخلها من السواد وخراجه، وليس السواد إلَّا قسمًا من هذا القطر.

فلئن كان الزمان قد أشقاه كما تشقى الدول فتَبَدَّدَ سكانه وبارتْ أراضيه كل هذه القرون، فتربته لا تزال في أرضها، بل زادت خصبًا بالراحة بعد العناء، ومياهُهُ لا تزال تجري نادبةً تلك الأزمان التي كانت تُحيي فيها تلك الرياض فتتسرب في رياض فيحاء بدلًا من جريها الآن مندفعةً إلى البحر رَهْبَةً من وحشة تلك الفيافي والقفار.

انظر إلى مصر وهذا النيل يفيض لبنًا وعسلًا بما أُحكم فيه من وسائل السقي، وما ساد فيها من الأمن والعدل، وقد كانت لعهد قريب كسائر ولايات الدولة يشكو فلاحها الفاقة وتشكو خزينتها الإفلاس.

ومع هذا فتربةُ العراق أصلحُ من تُربتها، والأراضي السبخة أقل من نظائرها في مصر، والمطر في العراق يُعين على السقي بما لا يتسنى نظيرُهُ في مصر، فمعدات الثروة الطبيعية في أفسح ميادينها، فإذا استتبَّ الأمن وأُحكمت وسائل السقي وتمهدت طرق النقل ووُجد الفلَّاح؛ عادت إلى البلاد ثروتها في عهد بني العباس، وزادت.

أما الأمنُ فالحكومةُ الدستورية ضمين استتبابه فيما يلي من الزمن، وأما السقي فمن العبث أن نبحث في سهولته في هذا العصر — عصر العلم والاختراع — مع توفر الأدلة الأثرية والتاريخية على إحكام أُصوله وطرقه في تلك البلاد منذ القدم. وهذه آثار النهروان وسدوده وترعه تُشير إشارةً واضحة إلى أنه كانت هناك مستودعات للمياه شبيهةٌ بخزانات مصر تَعاقَبَ على إنشائها أهلُ بابل وأشور والفرس، ولم يغفلها المتقدمون من الخلفاء العباسيين حتى رُوي عن بعضهم أنه عجز عن الوقوع على مائة جريب خرب غامر في نقطة واحدة، وأننا لا نستغرب أن تكون الترعة العظيمة البادية آثارها في صحراء قاحلة من السماوة إلى ما بين البصرة والزبير إلى خليج فارس والمعروفة الآن بنهر عمر من أعمال بعض أولئك الخلفاء.

ولكنه منذ بدأ الضعف في الدولة العباسية في أواسط عمرها أخذت ثروةُ البلاد في التدني بأسرع مما تَرَقَّتْ، وظل الخراب يتوالى والسدودُ تقوض والترع تجف وتفيض المياه في المستنقعات أو تذهب هدرًا إلى البحر ويفر الفلاح وتبور الأرض، إلى أن بات المزروع منها الآن نقطةً في بحر.

ولقد كان بعضُ الولاة العثمانيين يفكِّرون حينًا بعد حين ببعض الإصلاح، ولكنهم لا يتجاوزون التفكيرَ إلى التدبير لاشتغالهم بالفتن الداخلية أو انصرافهم إلى مطمَع خاصٍّ. وأول من فكر منهم فكرًا حقيقًا بالإصلاح كان رشيد باشا المعروف بالكوزلكلي، ولكن المَنِيَّةَ فاجأتْه سنة ١٨٥٧ ولم يُنْجِزْ عملًا.

وأما المُصلح الحقيقيُّ الذي وضع الخطط اللازمة وشرع في العمل فإنما كان مدحت باشا، ولو طالت مدةُ ولايته عشر سنين لغادر العراق جَنَّةً غناء؛ فإن المهندسين الأُوروبيين الذين استقدمهم خاصة لوضع مشروعات الإصلاح وضعوا التقارير الوافية عن كل وسائل السقي وتجاوزوا إلى ما وراء ذلك بوضع الخرائط لكل الشئُون الزراعية. وإذ كان ذا همة شماء لا يكاد يفكر حتى يشرع أخذ حالًا مع كثرة الشواغل في شَقِّ الترع وتسهيل طرق الاتصال — كما أسلفنا في باب «رجل الدولة» — ففاجأه أمر الرجوع إلى الأستانة، وساد من بعده حُكْمُ الاستبداد فلم يقم بعده من الوُلاة من يَصلح لإنجاز تلك الأعمال الخطيرة حتى ولو أراد.

أما الأفرادُ من أبناء الدولة والأجانب من المهندسين ووكلاء الشركات الذين فكروا باستحياء طُرُق السقي على مناهج مختلفة؛ فكثيرون. وقد كان كاتب هذه السطور فيما نعلم أول من رفع في العهد الأخير تقريرًا مسببًا إلى نظارة النافعة بهذا الشأن وطلب التصريح بإرواء بغداد وضواحيها بالرافعات البخارية، وذلك سنة ١٨٩٢، وسعدي بك منفي قبرص محاسبه هي النافعة يومئذ كان من أعظم الموازرين، ثم فكر بعض الأجانب بالاتساع في العمل إلي ما يُماثل أعمال الريِّ في مصر. وكان السر وليم وليكوكس الإنكليزي أطولهم باعًا وأكثرهم خبرة واقتدارًا، وقد جرت لنا معه مباحثاتٌ تحققنا في أثنائها الخبرَ بالخبر، فصمم على الشروع في العمل إذا أسعفه الحظ بتأليف شركة ونيل الامتياز؛ فشخص من مصر إلى إنكلترا، فالأستانة، ومنها إلى العراق، ورسم — بعد عودته خُطَّةً من أكمل الخُطط تشف عن علم واسع واختبار طويل، وأودع ذلك في كتاب دعاه «ري العراق» استتمَّ فيه البحث من كل وجوهه. ولهذا أحببنا الإشارة إليه في هذا الموضع؛ لأنه يحوي من البحث العلمي والعملي ما يشوق الاطلاع على مثله رجال الدستور.

أما وسائل السقي المُستعملة الآن فمع أنها من أقدم طرز، فقد كان يُرجى منها ثروةٌ عظيمة لو لم تكن منحصرة في دائرة ضيقة، وفي أكثر البلاد لا تكاد الأراضي المزروعة تتجاوز مجاري الأنهر، ومع هذا فإنه يفيض من حاصلات البلاد ما يُشحن بمئات السفن إلى الهند وسواحل البحر الأحمر وأوروبا من التمر والحنطة والشعير والسمسم والهرطمان والأرز وغير ذلك مما اعتاد الأهالي زرعه، وإن كل ما زرعه الأفراد أيضًا على سبيل التجربة أسفر عن أحسن النتائج؛ فقد زرع فيها القطن المصري وزرعت النيلة والتنباك والتبغ وقصب السكر، وكان جميعه أحسن أصنافه في أجود تربة في بلاده وأفلحت أيضًا تربية دود الحرير على التوت الكثير المزروع فاكهة وخشبًا وطعامًا للماشية.

ولقد كان من الواجب مع هذا الخصب الغريب أن لا يُهمل في تلك البقاع شبرٌ بورًا، ولكن الواقع بخلاف ذلك فإذا صعدت في شط العرب من مصبه عند الفاو إلى البصرة ومنها إلى القرنة عند مُلتقى الفرات ودجلة على مسافة تقرب من المئتي كيلو متر ورأيت جنائن النخيل الباسقة متراصَّة على أكثر تلك المسافة من على كلتا الضفتين، ولم تصعد إلى دكة قبة الربان على ظهر الباخرة لترى ما وراء تلك الرياض، خيل لك أنك في بلاد عامرة غاصة بالسكان، ولكن لو وقفت بك الباخرة على أحد الصوبين ونزلت منها متوغلًا بين تلك الجنائن؛ علمت أن نظرك قد خدعك، وأن العمار في أكثر تلك الأرض لا يتجاوز الجرف إلى أبعد من ميل إلى ميلين، وأنك في بعض المواضع ترى الأرض البور متصلة حتى إلى ثغر النهر.

وما أعظم ما تكون دهشتك إذا علمت بعد ذلك أن جميع تلك الأرض في غنًى عن كل وسائل العلم والاختراع لخزن الماء لإروائها إذ يتناوب المد والجزر مرتين كل يوم وليلة في خليج العجم، فيقف ساعة المد في وجه مجرى المياه العذبة؛ فتنقلب على عقبها مرتفعة فتملأ الترع والأنهر المحفورة بين تلك الأرض فترويها بلا نفقة ولا عناء على طول تلك المسافة إلى القرنة، ولا تقف هنالك بل تتجاوز شط العرب إلى مجرى كل من الفرات ودجلة على مسافة أميال.

فالأرض التي تتناول الماء بتلك السهولة لا يبقى على صاحبها إلا أن يفتح لها مجرى تسير فيه مهما طال واتسع، ومع ذلك فهي على ما ذكرنا من ضيق النطاق وذهاب فائدة كل ما وراءه.

فإذا كانت تلك حالة الأرض الغنية عن يد الصناعة لسقيها والمحيطة بمقر ولاية تضمن حفظ الأمن فيها، فما تكون حالةُ ما سواها مما يحتاج إلى خزن الماء أو مما توارى عن نظر الحكومة في الأطراف؟

وإن البصرة مع قلة ما يزرع من أرضها الفسيحة تُعد بالنسبة إلى عدد سكانها من أعظم البلاد ثروةً وأكثرها حاصلًا، فما يكون من شأن تلك الثروة لو امتدت زراعتُها إلى مئات أُلوف الأجربة التي تكنفها من كل جانب.

ولكنك إذا تجاوزت ملتقى النهرين في القرنة ومضيت صاعدًا في مجرى أيهما شئت غضضت طرفك رهبة مما ينالك من وحشة تلك القفار التي كانت في غابر الزمن جنة الأرض، وإذا بدا لك بشر في غير المدن والقرى القليلة القائمة على مسافات شاسعة بعض من بعض هالك ما رأيت من مظاهر الفقر والأجسام العارية.

تصعد في دجلة من القرنة إلى بغداد في مسافة نحو أربعمائة وخمسين ميلًا، وتصعد في مثل تلك المسافة إلى ما فوق الموصل، فما خلا ثلاثة أو أربعة بلدان صغيرة كالعمارة وكوت الإمارة وسامرا، لا تكاد ترى إلا قرية حقيرة أو نزلًا من زراع القبائل ينزلون اليوم فيرحلون غدًا.

وتصعد كذلك من القرنة في الفرات إلى أرض المنتفق والحلة وهيت وعانة حتى دير الزور ومسكنة قرب حلب؛ فيحصل لك مثل ذلك الانقباض وإن كانت مجاري الفرات أكثر ريعًا من مجاري أخيه دجلة.

وقل مثل ذلك في مجرى ذيالة المنحدر من جبال العجم إلى بلد روز وخراسان حتى الخالص إلى مصبه في المخلاط بدجلة.

وإذا رأيت نهرًا أو جدولًا متشعبًا من أحد هذه الأنهر سواء كان مسربًا شقتْه يدُ الطبيعة أو ترعة شقتها يد البشر، وسرك ما علمت من نفعها في إرواء الأرض هالك من جهةٍ أُخرى ما تعلم بعد ذلك عما يتأتى عنها من الضرر أيام الفيضان لعدم إحكام السدود أو عدم وجودها؛ فتنتشر منبسطةً على الأراضي المحيطة بها فتلبث أهوارًا تفشو منها الأوبئة فتفني السكان، أو تبيت معاقل يتحصن بها شذاذ العشائر البادية فيبيتون بمأمن على سلبهم وعبثهم.

ولو حسبت الخسائر التي تتأتى عن طغيان المياه حتى في نفس بغداد سنة بعد أخرى، لتجمع لديك منها وحدها رأس مال يكفي لإنشاء خزانات تُضاهي خزانات مصر عظمةً ومتانة.

ولقد حاول بعضُ الولاة، والحق يقال، تلافي شرورَ ذلك البلاء غير مرة وأرصدوا المبالغ الوافرة وأنشئوا السدود حيث بلغ الضرر أَشُدَّهُ؛ فكانت النتيجة أن الوكلاء والعمال يقتسمون ما بينهم ذلك المال إلا قليلًا منه يقيمون به سدًّا من طين لا يلبث أن ينكسر من نفسه أو تقضه العشائر التي كانت تتخذه ملجأ ومأوًى. ومع ذلك فإن جميع العشائر التي أَلِفَت الزراعة لا تأنف أيان دعت الحاجة إلى إقامة تلك السدود عن التطوع للعمل فيه إما عن طيبة خاطر، وإما امتثالًا لأوامر شيوخها وحسبها من الحكومة تشويقًا وترغيبًا أن تتعهد بإعطائها قسمًا مما يجف من تلك الأهوار بعد انحسار الماء عنها.

وقد كان مدحت باشا رسم لذلك خطة اضطر إلى مغادرة بغداد قبل إنفاذها، فنشط إليها وإلى بغداد رديف باشا بعد رحيل مدحت عنها بسنة، واتفق مع ناصر باشا السعدون شيخ عشائر المنتفق على إنشاء سد الجزائر العظيم، على أن يقوم ناصر بجميع نفقاته ويجمع ألوف العمال من عشائره، ولقاء ذلك يعطي قسمًا عظيمًا من الأراضي التي تنحسر عنها المياه، فهب ناصر للعمل واستعان خلا عشائره بأهل البصرة فانضم إليه قاسم باشا الزهير ببضعة آلاف من عربانها، ولم تمض بضعة أشهر حتى تمَّ إنشاء ذلك السد، وهو وحده لو بقي قائمًا لكان ينبوع رزق وخير لا ينضب؛ إذ كان يصلح هواء ولاية البصرة بجفاف تلك الأهوار وتغزر مياه الفرات بارتدادها إلى مجراها، وتعمر كل البلاد الممتدة من سوق الشيوخ إلى البصرة على مسافة أيام.

ولكنه من جهة كان غير محكم البناء وغير قائم على أُصول الصناعة، ومن جهة أُخرى رأى ناصر نكولًا من الحكومة عن إنفاذ ما تعهدت له به، ومن جهة ثالثة ضاقت المسالك بأوجه قبيلة المعدان التي كانت تنزل بجواميسها تلك الأهوار، فما مضت مدةٌ وجيزةٌ حتى تَقَوَّضَتْ أركانُ ذلك السد فتفجرت المياه وانتشرت فغطت تلك السهول فغادرتْها كما كانت ميدان بلاء ووباء.

ولا شك أن تلك الأعمال الخطيرة لو لَقِيَتْ من الحكومة أقل عناية والتفات لقامت على أَمْتَنِ رُكن وأسهل سبيل، وسد الهندية أعظمُ دليل يُستشهد به.

كان أهل الحلة يشكون عكس ما يشكو منه أهالي ولاية البصرة؛ فإن ترعة الهندية (المدعوة بهذا الاسم نسبةً إلى أميرة هندية شيعية قدمت في أوائل القرن الماضي لزيارة مشهد علي والحسين في النجف وكربلاء، فراعتْها قلةُ الماء فيهما فشقت هذه الترعة على نفقتها) أخذت تتسع على مر الأيام حتى تحولت إليها مياه الفرات وانحسرت عن جميع الأراضي الممتدة من المسيَّب إلى الحلة، فكان الخطب عظيمًا وضج الأهالي بالويل والثبور، وتبرعوا بتقديم النفقة والعمال فقبض عمال الحكومة المال جميعه وأنفقوا ربعه في العمل فأقيم سدٌّ لم يعش إلا أيامًا معدودات، فرجعوا إلى جمع المال مرة أخرى وفعلوا فعلتهم الأولى فأسفرت عن تلك النتيجة.

وسنة ١٨٨٩ عين سري باشا واليًا لبغداد، فخالف خطة سلطانه وطلب المال والمهندسين من الأستانة واستعان بوكلاء الأراضي السنية، فبادرت الحكومة بإرشاد سفارة فرنسا إلى إرسال بعثة علمية يرأسها شندرفَر المهندس الفرنسوي فقدر النفقات اللازمة بثمانمائة ألف فرنك لا غير، وقد كان الولاة أنفقوا أضعاف ذلك المبلغ فلم يأتِ بثمرة، فأرصد المال في الحال وأقام شندرفر وأعوانه على العمل بعلمٍ وإخلاص بضعة أشهر، وانتهوا منه سنة ١٨٩٠ فرجعت المياه إلى مجاريها وعمرت الحلة بعد أن كانت على قيد شبرين من الخراب التام، وحييت أُلوف الأجربة من أملاك الأهالي ومستملكات الخزينة الخاصة — وهذا هو العمل الوحيد من نوعهِ في أيام الحكومة الغابرة.

على أنه لا يجب أن ننسى هنا تَذَرُّع المقربين بكل وسيلة من الظلم لتبييض وجوههم المسودة؛ إذ قام وكلاء الخزينة الخاصة بدعوى الحرص على المصلحة، فاستقطعوا الجانب الأعظم من أملاك الأهالي وأضافوها إلى الأراضي السنية، وكان جزاء المُطالب بحقه المَبِيتَ في ظلمات السجون، ورحم الله إبراهيم الخكري فإنه مات بتلك الحسرة.

ذلك مُجمل ما يُقال بالإيجاز عن أرض العراق وحالتها الزراعية في الوقت الحاضر، ولقد يظن لأول وهلة — كما تقدم — أن أرضًا هذه حالها من الإهمال وقلة الرجال لا يتسنى استحياؤها إلا بعد معاناة لأهوال ومرور السنين الطوال، فلا بد لدفع هذا الريب من إلقاء نظرة عامة على القبائل البادية المنتشرة في تلك الأصقاع.

فإذا نظرنا أولًا إلى الفلاحين المشتغلين الآن بزراعة الأرض العامرة في العراقين العربي والعجمي رأيناهم جميعًا من أبناء تلك القبائل العربية ومن بعض القبائل الكردية في أعالي البلاد يقبلون بجد ونشاط على حراثة الأرض من الفاو عند خليج العجم إلى ديار بكر بطريق دجلة وإلى مقربة من حلب بطريق الفرات.

فإذا تيسر لهم المال والأمن تحضروا ولبثوا في مواضعهم، وإلا فالبيداء غير بعيدة عنهم فيرجعون إلى بداوتهم، فالذين طال عهدهم بحراثة الأرض كالدواسر والعوامر قرب مصب شط العرب، والعيدان قرب البصرة في العراق العربي، وبني كعب على ضفته الشرقية في العراق العجمي يكادون لا يفترقون بشيء من طباعهم عن زراع الحضر إلا بشيء من النزعة البدوية يهبون إليها عند تفاقم الظلم، ويلحق بهؤلاء ألوف الفلاحين من عشائر المنتفق العديدة المنتشرة على شواطئ الفرات مما يلي سوق الشيوخ والسماوة والحلة وبني ربيعة فيما يلي كوت الإمارة، وهنالك عشائر كثيرة ممن يتراوح بين البداوة والحضارة تبعًا لأحوال الزمان وسياسة الحكام كبني أسد وبني لام على دجلة وبطون وأفخاذ كثيرة من عشائر المنتفق على الفرات، ويلحق بهؤلاء بعض أفخاذ شمر والقبائل الكردية النازلة في صعيد العراقين.

وإنى موردٌ لك الآن برهانًا حسيًّا يُثبت لك سهولة الوسائل المؤدية إلى إقبال أبناء تلك العشائر بكليتها على حراثة الأرض.

إن للخزينة الخاصة في تلك البلاد أملاكًا متسعة تعرف بالأراضي السنية، وليس من غرضنا الآن التعرض لتاريخها وطرق استملاكها، فنقصر البحث في كلمة عن فلاحها.

ارتأى وكلاء الخزينة الخاصة، ونعم الرأي ما ارتأوا، أن يخصوا فلاح الأراضي السنية بنعم تُشَوِّقُه إلى الإقامة على حراثة الأرض؛ فأعفوه من الخدمة العسكرية، ووسعوا له في الرزق، وجعلوه بمأمن من تعدي الحكام، ورفعوا عنه جميع التكاليف العامة والخاصة؛ فاطمأنَّ وأخلد إلى السكينة وانقطع إلى زراعته، فأخصبت أرضه فأشبعتْه فارتاح إلى الحضارة ونَبَذَ البداوة نبذًا مؤبدًا، وأصبح في نعيم تحسده عليه سائرُ العشائر حتى بات كثيرون من رؤساء العشائر يتقربون ببذل المال رشوةً إلى من يُفسح لهم مجالًا فيها ينزلونه ويقسمون الأيمان ويعطون الضمان على إخلاص النية وصدق الخدمة.

ذلك مثالٌ واحد على فعل المجاملة بأولئك العربان، وأما أمثلة السياسة الخرقاء والظلم فلا يحصرها إحصاءٌ، ودونك مثالًا يتناول المسألة من طرفيها.

كانت البقعة المحيطة ببلدة العمارة منذ بضعة عقود من السنين قاعًا بلقعًا ليس فيها إلا شرذمة من الجند تُقيم فيها بين البصرة وبغداد؛ اتقاء لشر القبائل البادية، ولهذا كانت تُدعى الأوردوي نسبةً إلى نقطتها العسكرية، فهاجت الحمية أحد المتصرفين فما زال يجامل ويشوق بعض الزعماء من بني أسد وبني لام حتى أَسْكَنَهم هنالك وخفف عنهم الضرائب؛ فحرثوا الأرض وزرعوها فعمرت وأثمرت، وكانوا كلما زاد اطمئنانهم زادوا عددًا وزاد حاصل أرضهم، وتبدل حال ذلك القفر بمدة خمس سنين، ثم عُزل ذلك المتصرف وليس في الوقت متسع للتحري عن اسمه وحقه أن يدون بحروف الثناء، فابتلاهم الله بخلف أعماه الطمع وأصماه الجشع فدعا إليه الشيوخ وزجهم في السجن استنزافًا للمال؛ فاحتالوا تخلصًا من مخالبه الناشبة برقابهم متظاهرين بإخلاص النية وصدق الولاء وطلبوا إليه أن يرفقهم بمن يحمل إليه المال بعد الإفراج عنهم فاطمأن لهم؛ لأن جميع حاصل الزراعة كان لا يزال على بيادره، فقاموا في حنادس الليل وحملوا ذلك الحاصل على أباعرهم وانقلبوا راجعين بخيامهم إلى بداوتهم، وبارت الأرض مدة طويلة إلى أن عادت فسكنتها بعض فصائلهم بمواثيق مغلظة. ومن أجزاء تلك الأرض الآن الكحلة وحدها يقدر حاصل زراعتها سنويًّا بأربعين ألف ليرة، وهي من جملة ملحقات الأراضي السنية.

وإن لنا من أمثال هذا التبدِّي بعد ذلك التحضر ما يملأ الصفحات العديدة فنجتزئ — خوف الإطالة — بما تقدم مكتفين بالإشارة إلى أمثاله في عشائر المتفق والدليم إلى ما فوقها من قبائل شمر والعشائر الكردية.

وليس بالأمر اليسير إحصاء تلك القبائل وحصر العدد الذي يمكن استخدامه في الزراعة، ولقد أجهدنا النفس مدة سنوات بمخالطة بعض العشائر، واستقراء أقوال الثقات، وتَتَبُّع آثار بعض غزواتهم، واستماع أخبار بعض شيوخهم، وملاحظة سابلتهم في الحواضر؛ فلاح لنا من وراء كل ذلك أن القبائل البادية العربية وحدها في الخطة العراقية وما يليها من بادية الشام حتى أطراف الأناضول، وما يلي العراق إلى نجد، ومنها إلى نجد والحجاز واليمن وبادية عمان وحضرموت لا تقل عن السبعة ملايين.

وإن لدينا في ذلك جداولُ طويلةٌ لا يتسع لها هذا الموضعُ يؤخذ منها أن نصف هذا العدد منتشرٌ في الخطة العراقية وبادية الشام في أرض خصبة التربة غزيرة المياه، فإذا أسقطت من هذا النصف نصف مليون وقسمت الباقي ثلثين للعراق وثلثًا لسوريا، كان لك مليونا نسمة تضيفها بأسهل الطرق إلى فلَّاحي العراق، وليس هذا العدد مما يُستهان.

ثمَّ إذا علمت ما يكون من ازدياد هذا العدد بانقطاع هذا الجَمِّ الغفير عن الغزوات والتعرض لمشاقِّ البداوة إذ حيث لا تفنيهم الحروب تنتابهم الأوبئة والمجاعات في سني انحباس الأمطار وهلاك الماشية ليبس الكلأ وقلة المرعى، وعلمت أن القبائل النائية لا تلبث أن تنضم إليهم بما ترى من فضل البداوة على الحضارة، واعتبرت أيضًا أنهم بطبعهم كثيرو النسل؛ ثبت لديك أن البلاد ليست بها حاجةٌ إلى الفلَّاح الأجنبي إلا ما يؤتى به للتعليم والتدريب، وأن فيها من بَنِيها ومجاوريها ما يكفيها عند الاقتضاء مئونة ذلك العناء.

ويؤخَذ مما تقدم أن جميع القبائل المنتشرة في تلك الأصقاع لا تخرج عن إحدى فئتين: فئة ألفت الزراعة، وفئة أُخرى لم تألفها بعد. فأما الذين ألفوا الزراعة فغاية ما يلزم لاستقرارهم في مواضعهم ومثابرتهم على العمل أن تحسن السياسة في معاملتهم، وترتفع عنهم مظالم جُباة الأموال، وأن تنشأ لهم مدارس ابتدائية يتناول أبناؤهم فيها ولو شيئًا يسيرًا من مبادئ القراءة والكتابة في أول الأمر ريثما تعمر البلاد ويصير في الإمكان تعميمُ التعليم، وإذا خُصُّوا بشيء من منح فلاحي الأراضي السنية كان ذلك غاية ما يتمنون.

وأما الفئة الأخرى التي لم تألف الزراعة فالنظر في أمرها يستلزم اهتمامًا أعظم وبذل شيء من المال. ولعل الحكومة تحسن صنعًا بإقطاع كل فرقة منهم أرضًا تتجاوز لهم عن مالها مدة سنين تملِّكهم في نهايتها جزءًا منها بلا ثمن وتُخفف عنها جميعها الضرائب مدةً أخرى. ولا بد لها أيضًا من إمدادهم بآلات الزراعة وماشيتها ولا حاجة بها بادئ بدء إلى بناء البيوت؛ لأن بيوت الشعر التي لديهم تكفيهم سنين عديدة، وخيرٌ لهم وللحكومة أن يشرعوا في العمل وهم في بيوتهم هذه؛ لئلا تأخذهم الوحشة إذا انتقلوا دفعة واحدة من الفراغ وبيوت الشعر إلى العمل والبيوت المبنية بالحجر أو الطين، ولا بدَّ أيضًا من إمدادهم خلا بذار الزرع وفسائل الغرس بشيء من الحبوب طعامًا لهم قبل أن تغل لهم مزروعاتهم كفاية قوتهم.

فإذا توفرت لهم كل هذه الوسائل السهلة المنال، وتيسر لهم بعناية الحكومة من يعلمهم الزراعة، ويدربهم عليها؛ فلا أسهل من ارتياحهم إليها.

أما سقي الأراضي التي يقطعونها فليس بالأمر الصعب حتى في السنين الأولى، فإن في البلاد ترعًا كثيرة مردومة وترعًا أخرى ضيقة وقصيرة المجال، وأراضي كثيرة في صعيد العراق وأوساطه تكفي بعض المزروعات فيها مياه الأمطار، فإذا أُسكن بعضهم في هذه الأراضي الأخيرة اكتفوا، مدة سنين، بماء المطر إلى أن تُستكمل أسباب الري، ويُعان النازلون على الترع المردومة والترع الضيقة القصيرة على تطهيرها وتوسيعها ومدها على مسافات، ولقد يحسن أيضًا حفر ترع جديدة على مقربة من بعض البلاد الآهلة بالسكان لسهولة إيصال حاصل الزراعة إليها. ولقد رأيت مما تقدم أنهم لا تعلو بينهم صيحة شيوخهم حتى يهبوا إلى العمل هبة رجل واحد، وما أسهل استخراج تلك الصيحة من الشيوخ.

ولا شك أن الحكومة لا تكتفي بهذه الوسائل الابتدائية لإحياء بلاد هذا شأنها فلا بد من اتخاذ الوسائل الصناعية لإرواء جميع الأراضي، وتسهيل سُبُل الاتصال، ونقل الحاصلات بطرق الحديد ومجاري الأنهار والترع، ولكن ذلك يقتضي وقتًا يحسن في خلاله أن تتخذ بعض الطرق التي أشرنا إليها أو ما هو من قبيلها.

على أن تعميم الري وطرق الاتصال على الأصول الصناعية الحديثة ليس الآن من الصعوبة بالمكان الذي كان فيه قبل إعلان الحكومة الدستورية، فقد بادت المطامع التي كانت تقف حاجزًا في وجه جميع الأعمال الأخيرة. وقد زالت الموانعُ التي كانت تصد العمال عن العمل وذوي المال عن بذله ما لم يُثقلوا كاهل البلاد بأضعاف أضعافه؛ ضمانًا لهم وسدًّا لما يبذلونه طي الخفاء لأرباب السلطة والنفوذ.

فأما الفَعَلة — وعليهم مدار معظم العمل — فهم متوفرون في نفس البلاد.

وأما المال فإما أن يكون من البلاد أو من خارجها، فإذا أرادت الحكومةُ الإسراع في العمل والالتجاء إلى المال الأجنبي؛ فإن أرباب الأموال وشركات العالم أجمع تتسابق إلى بذل أموالها في عملٍ هذا شأنُهُ لقاء فائدة يسيرة لتوثقها مما ترى من ضمان الربح. وسواء على هذه الشركات أقامت بالعمل لحسابها أم لحساب الحكومة دينًا لها عليها.

وإذا شاءت الحكومة أن تقوم بتلك الأعمال بأموال العثمانيين فإننا على يقين أنه يتيسر لها ذلك أيضًا، وإن اقتضى زيادةً في الزمن لإنجاز العمل؛ لأن ما كان يبدو من العثمانيين من التباطؤ عن إنشاء الشركات لم يكن ناشئًا عن قلة إلمام بنفعها أو تعذُّر وجود المال، وإنما كان لقلة ثقةٍ بحكومتهم.

وإذ كان نشرُ العلم من أقوى الوسائل المؤدية إلى توطيد أركان الحضارة، وكان لا بد لهذه الحكومة الدستورية من إذاعة تعليم اللغة الرسمية ليسهل على العناصر المختلفة أن تتفاهم أيان شاءت؛ وجب أيضًا أن تنشأ ولو بضعة كتاتيب تدرس فيها اللغة التركية لأبناء الشيوخ إلى أن يتيسر تعميمُ تعليمها؛ فإن ذلك يزيل من وجه الحكومة الجديدة كثيرًا من العقبات التي قامت بوجه السلاطين في الزمن السابق لعدم اكتراثهم بنشر لسانهم بين أبناء رعيتهم، ولقد فكرت حكومة الاستبداد منذ أعوام بشيء من ذلك فأنشأت في الأستانة المدرسة المعروفة بمكتب العشائر، ولكنها جرت فيه على خلاف المقصود إذ كان أبناء الشيوخ من الطلبة فيه أشبه برهائن منهم بطلاب علم، وأُحيطوا بالجواسيس، وأوذوا ولم يخف ذلك على ذويهم؛ فكان ذلك المكتب من أسباب زيادة النفور بدلًا من التآلف.

وإنه لا يصعب على أيٍّ كان أن يتصور ما ينجم من النفع للعالم أجمع بعد إنجاز تلك الأعمال الخطيرة، وقيام المدن والقرى في بلاد تتلقاها بملء البشر بعد طول العهد بشدة شوقها إليها إذ تصبح تلك القفار رياضًا نضرة ومصدر رزق ورخاء لأهلها ولسواهم بما يفيض من خيرها وتُضاف إلى أُمم الحضارة قبائلُ شتيتة هي بمثابة أُمَّةٍ كبيرة، قد طالما امتدت يدها في الأزمان السالفة إلى توطيد أركان التمدن.

وأما الدولة العثمانية فبعد أن كانت هذه البلاد علة ضعف وفقر ومعرَّة لها فستصبح — إن شاء الله — مورد قوة وغنًى وفخر عظيم.

ولا حاجة بنا — بعد ما تقدم — إلى إطالة الشرح بوصف الحالة الزراعية في سائر البلاد العثمانية مما ولي العراق، من سوريا إلى الأناضول إلى الولايات الأوروبية وبلاد الغرب؛ فإن فيها جميعًا بُقَعًا لا تقل عن أرض العراق خصبًا وغزارة ماء، وهي كلها متشابهةٌ في الخراب وأسبابه من الإهمال والفتن والاستبداد حتى في ما جاور مقر السلطنة في نفس أُوروبا كأن الخراب صار من مميزات هذا المُلك الفسيح. ولا يصعب على الجغرافي السائح في أُوروبا أن يحسن رسم حدود البلاد من تتبع الفَرْق الذي يبدو له واضحًا بين مظاهرها ومظاهر ما جاورها من البلاد الأُوروبية حتى في الممالك التي انفصلت عن جسمها. وحسبك تثبُّتًا من ذلك أن تركب قطار سكة الحديد من الأستانة، فلا تصل جسر مصطفى باشا على الحدود البلغارية حتى ترى ما فعلت يدُ العمل والاجتهاد في هذه السنين القلائل.

وأما وسائل الإصلاح فهي وإن اختلفت بعضها في بقعة عما سواها بالنظر إلى طرق السقي وطبيعة البلاد وخلق السكان؛ فمرجعها كلها إلى توطيد الأمن والعناية بالفلَّاح، وقد اتضح جليًّا حتى الآن أن ذلك من أجل ما ترمي إليه حكومتُنا الدستورية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤