مقدمة

استشرى الفساد في صناعة الأدوية؛ فكثيرًا ما يُطرَح الدواء في الأسواق ثم سرعان ما تَظهر آثارُه الجانبية الوخيمة ويَثبت فشله. أعتقدُ بحقٍّ أن المرضى وعامة الناس لو أدركوا تمامًا ما يُفعل بهم في هذا المجال؛ أي ما يُقدِم الأطباء والأكاديميون ومراقبو الأدوية الحكوميون على تمريره والسماح به، لَتمَلَّكَهم الغضب. وهذا أمرٌ يمكنك وحدك الحُكم عليه.

نتصوَّر أن إنتاج الدواء مبنيٌّ على الأدلة وعلى نتائج اختباراتٍ سليمة، لكن، في واقع الأمر، هذه الاختبارات غالبًا ما تكون مَعيبةً لدرجةٍ كبيرة. ونتصوَّر أن الأطباء على علمٍ بتفاصيل هذه الاختبارات، ولكن الحقيقة أن الكثير منها تُخفيه عنهم شركات الأدوية. ونتصوَّر أن الأطباء قد حصلوا على مستوًى جيدٍ من التعليم، ولكن الحقيقة أن جانبًا كبيرًا من هذا التعليم تُموِّله شركات الأدوية. ونتصوَّر أن مراقبي الأدوية الحكوميين لا يُمرِّرون إلى سوق الدواء إلا الأدوية الفعَّالة، ولكن الحقيقة أنهم يُعطُون موافقاتٍ رسميةً على عقاقيرَ لا فائدة منها، بينما تُحجَب البيانات المتعلقة بالآثار الجانبية لتلك العقاقير على نحوٍ غير رسمي عن الأطباء والمرضى.

سوف أعرض لك قصة الدواء في عُجالة، بعد قليلٍ في هذه المقدمة وفي فقرةٍ واحدة فقط، بحيث قد يبدو الكلام فيها سخيفًا أو مرعبًا لدرجةٍ قد تجعلك تظن وأنت تقرؤها أنني ربما أبالغ. وسنلاحظ أن صَرْح صناعة الأدوية برُمَّته قد اختُرق؛ لأن الأدلة التي نستعين بها في اتخاذ القرارات قد تَشوَّهت على نحوٍ مُمنهَج يتعذَّر إصلاحه. وهذا ليس بالأمر الهين؛ ففي عالم الطب والدواء يَستخدم الأطباء والمرضى بياناتٍ مجرَّدةً لاتخاذ القرارات في العالم الواقعي، وإذا اتُّخِذَت هذه القرارات على أساسٍ مُضلِّل، فقد تُفضي إلى المعاناة والألم، والموت.

هذه ليست إحدى قصص الشر البسيطة التي نشاهدها في أفلام الرسوم المتحركة، ولن أطرح نظريات مؤامرة؛ فلا أقول إن شركات الأدوية تحجب عنا سرَّ الشفاء من السرطان، أو إنها تقتلنا جميعًا باللَّقاحات؛ فمثل هذا النوع من القصص في أفضل الأحوال به جانب من الحقيقة؛ فكلنا يعرف بداهةً من تلك القصص أن ثَمَّةَ مشكلة ما في مجال الدواء، لكن معظمنا — بمَنْ فينا الأطباء — لا يعرفون ماهية هذه المشكلة على وجه التحديد.

لقد حُجِبَت هذه المشكلات عن أنظار الناس لأنها شديدة التعقيد لدرجةٍ تجعل من الصعب توضيحها في مقطع فيديو أو حتى في مقالٍ صحفيٍّ طويل؛ ولهذا السبب مرَّت دون أن يعالجها السياسيون، ولو بقدرٍ ضئيل على الأقل. وهذا هو السبب الذي جعلني أُؤلِّف هذا الكتاب الطويل الذي بين يديك. وبما أن الأشخاص الذين تثق في قدرتهم على حل هذه المشكلات قد خذلوك، وبما أنه يتعيَّن عليك فهم المشكلة جيدًا لكي تتمكَّن من إصلاحها بنفسك، فقد أوردتُ في هذا الكتاب كلَّ ما تحتاج إلى معرفته في هذا الشأن.

ومن ثَمَّ، ولكي أكون واضحًا، فإن هذا الكتاب بكامله يُدافع — على نحوٍ بالغ الدقة — عن كل ادِّعاءٍ سأطرحه في الفقرة التالية.

يُجرى اختبار الأدوية من قِبل الأشخاص الذين يصنعونها، وذلك في تجارِبَ رديئةِ التصميم، وذلك للأسف على عيِّناتٍ قليلة غريبة وغير مُمَثِّلة من المرضى، كما يَجري تحليلها باستخدام تقنياتٍ مَعيبة التصميم بطريقةٍ تُبرِز فوائدها على نحوٍ مبالَغ فيه. ولا غَرْوَ أن هذه التجارِب تميل إلى إصدار نتائج تصبُّ في مصلحة منتجي الأدوية. وعندما تكشف هذه التجارِب نتائج لا تروق لتلك الشركات، فإنها تَعْمد إلى إخفائها عن الأطباء والمرضى؛ فلا نرى سوى صورةٍ مشوَّهةٍ للآثار الحقيقية لأي دواء. وصحيحٌ أن مراقبي الأدوية الحكوميين يطَّلِعون على أغلب بيانات تلك التجارِب، بَيْدَ أن هذا لا يحدث إلا في مرحلةٍ مبكرةٍ من عُمر الدواء، وحتى في هذه الحالة لا يعرضون هذه البيانات على الأطباء أو المرضى، أو حتى على القطاعات الحكومية الأخرى. وتُبلَّغ بعد ذلك هذه الأدلة المشوَّهة وتُطبَّق على نحوٍ مشوَّه. وعلى مدى الفترة الطويلة التي تبلغ الأربعين عامًا التي يمارس فيها الأطباءُ الطبَّ بعد تخرُّجهم في كُلِّياتهم، يسمعون عن الأدوية الفعَّالة من خلال أقاويلَ مرتجلةٍ من قِبل مندوبي المبيعات أو الزملاء أو الدوريات الطبية. لكن أولئك الزملاء ربما يعملون لصالح شركات الأدوية — وغالبًا ما يكون هذا في الخفاء — وهكذا تفعل أيضًا الدوريات الطبية، وهكذا تفعل أيضًا مجموعات دعم المرضى. وأخيرًا، فإن الأبحاث الأكاديمية، التي يظنُّ الجميع أنها موضوعية، كثيرًا ما يُخطِّط لها ويكتبها أناسٌ يعملون مباشرةً لصالح شركات الأدوية ولكن في الخفاء، بل أحيانًا ما توجد دوريات أكاديمية مملوكة برُمَّتها لصالح شركة أدوية واحدة. وفضلًا عن ذلك، وبالنسبة إلى العديد من المشكلات المزمنة والشديدة الخطورة في مجال الدواء، ليست لدينا فكرة عن أفضل الحلول لها؛ إذ ليس من مصلحة أي شخصٍ من الناحية المالية إجراء تجارِب على الإطلاق. وهذه المشكلات مشكلات مستمرة، ورغم أن ثَمَّةَ من يدَّعي إصلاح الكثير منها، فإنهم في الغالب قد أخفقوا في ذلك؛ لذا، استمرت هذه المشكلات، بل وعلى نحوٍ أسوأ مما كانت عليه؛ لأن الناس في مقدورهم الآن أن يتظاهروا بأن كل شيءٍ على ما يرام رغم كل ذلك.

ثَمَّةَ الكثير مما يمكن التوقُّف عنده، والتفاصيل أفظع مما يمكن التعبير عنه في هذه الفقرة. وثَمَّةَ بعض القصص الفردية التي ستجعل نزاهة الأفراد المتورطين فيها موضعَ شكٍّ على نحوٍ جِدِّي، وبعضها سيثير حفيظتك، وبعضها في ظني قد يجعلك تشعر بحزنٍ شديد. ولكني آمل أن تدرك أن هذا الكتاب ليس مُكرَّسًا للحديث فقط عن الفاسدين؛ ففي واقع الأمر، يَحتمِل أن يوجد بعض الشرفاء ضمن أنظمةٍ فاسدة بالأساس، الذين ربما يقترفون دون قصدٍ أفعالًا تُلحِق أضرارًا جمَّة بأشخاصٍ لا يعرفونهم، وأحيانًا ما يكون هذا دون إدراكٍ منهم. إن اللوائح الحالية — الخاصة بالشركات والأطباء والباحثين — تُشجِّع على الفساد، وحريٌّ بنا أن نصلح هذه المنظومات الفاسدة بدلًا من أن نحاول تخليص العالم مما فيها من جشعٍ وطمعٍ دون جدوى.

قد يرى البعض أن هذا الكتاب يُمثِّل هجومًا على صناعة الدواء. وهو بالطبع كذلك، ولكن لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب. أولًا، وكما سترى لاحقًا: المشكلات متشعِّبة، ولكلٍّ من الأطباء ومراقبي الأدوية الحكوميين والدوريات الأكاديمية والصيادلة ومجموعات دعم المرضى، وكثيرين غيرهم، دورٌ فيها. ثانيًا: إن هذا الهجوم ليس مطلقًا بلا حدود؛ فأنا أظن أن معظم من يعملون في هذه الصناعة أناسٌ طيبون بالأساس. كما أنه لا غِنى للطب عن الأدوية؛ فقد أنتجتْ شركات الأدوية في أنحاء العالم بعضًا من أكثر الابتكارات الطبية إثارةً للإعجاب على مدى الخمسين عامًا المنصرمة، فأنقذوا أرواحًا كثيرةً على نحوٍ يستحق الثناء. ولكن هذا لا يعطيهم الحقَّ في إخفاء المعلومات، وتضليل الأطباء، والإضرار بالمرضى.

في الوقت الحالي، حينما يخبرك أحد الأكاديميين أو الأطباء أنه يعمل في مجال صناعة الدواء، فغالبًا ما يفعل ذلك وهو تبدو عليه أمارات الإحراج. وإنني أتمنى أن أساهم في صُنْع عالَمٍ يمكن أن يشعر فيه الأطباء والأكاديميون بالتفاؤل الإيجابي فيما يتعلق بالتعاون مع صناعة الدواء، كما آمل في تطوير علاجاتٍ أفضل، وتحسين حالة المرضى. وهذا سيتطلب إجراء تغييراتٍ كبيرة، بعضها كان لا بد أن يحدث منذ زمن طويل.

تحقيقًا لهذا الهدف، ولأن القصص التي سأرويها لك تثير الانزعاج كثيرًا، فقد حاولت أن أتجاوز مجرد توثيق المشكلات. فحينما تكون هناك حلول واضحة لتلك المشكلات، كنت أذكرها على وجه التحديد. ولكني قدَّمت أيضًا في نهاية كل فصل من فصول الكتاب بعض الاقتراحات بخصوص ما يمكن أن تفعله لتحسين الأمور، وصُغْتُها حسب الدور الذي تلعبه في هذا الإطار؛ سواءٌ كنت طبيبًا أو مريضًا أو سياسيًّا أو باحثًا أو مراقبًا دوائيًّا أو شركةَ أدوية.

لكن، ما أريده أكثر من أي شيءٍ آخر هو ألا يغيب عنك شيءٌ مهم، وهو أن هذا كتابٌ علمي غير متخصِّص؛ فالحيل ومحاولات التزييف المُوثَّقة في صفحاته عجيبة ومعقَّدة ومذهلة في تفاصيلها، ولا تتكشَّف الأبعاد الحقيقية لهذه الكارثة الإجرامية بصورتها الكاملة إلا عند فهم التفاصيل جيدًا وحل ما فيها من تعقيدات؛ فلقد شوَّه الفساد في صناعة الأدوية أُسُسَ العِلم الجيد، لكن هذا الأمر حدث ببطءٍ وتطوَّر على نحوٍ طبيعيٍّ بمرور الزمن. وكل هذا قام به أناسٌ عاديون، ولكن ربما لا يعرف الكثيرون منهم ما اقترفوه.

وأريدُ منك أن تبحث عن هؤلاء وتخبرهم بالحقيقة.

(١) النسق العام للكتاب

هذا الكتاب يتَّبِع مسارًا بسيطًا.

نبدأ بالدفاع عن ادِّعائنا الأساسي المتمثل في أن الدراسات التي ترعاها شركات الأدوية من المرجَّح أن تُصدِر نتائجَ تتملق الأدوية التي تُصنِّعها تلك الشركات، وقد انكشف هذا الأمر الآن بما لا يَدَع مجالًا للشك عن طريق البحوث الحالية. وفي هذا الإطار، نقدم أيضًا فكرة «المراجعة المنهجية» لأول مرة. والمراجعة المنهجية هي استعراض غير متحيِّز لجميع الأدلة المتعلقة بمسألةٍ معينة. وقد استخدمت المراجعات المنهجية لعرض أفضل الأدلة، أينما وجدت، ولم يرد شرح أي دراسات فردية إلا لإعطائك فكرةً مبسطة عن الكيفية التي تُجرى بها عملية البحث أو الفساد الذي ينطوي عليه ذلك.

وبعد ذلك نستعرض كيف تنجح الصناعة الدوائية في أن تكون نتائجُ كل التجارِب التي تُجرى على أدويتها إيجابية. ووقْفَتُنا الأولى هي استعراض الأدلة التي تُظهِر أن بيانات التجارِب غير المتحيزة يمكن إخفاؤها ببساطةٍ عن الأطباء والمرضى. ومع أن شركات الأدوية مطلوبٌ منها قانونًا إجراء سبع دراسات على كل دواء، فإنها إذا وجدتْ منها دراستين إيجابيتين فقط لا تَنشر سواهما، وهذا سلوك شائع. والأسوأ من ذلك أن هذا يحدث في كل حقول العلم والطب؛ بدءًا من الأبحاث المعملية الأساسية حيث يملأ تحيز النشر الدوريات العلمية بالنتائج الإيجابية الزائفة، مما يشكل إهدارًا لأوقات الجميع، مرورًا بالتجارِب البحثية الأولية حيث يحدث إخفاء للأدلة التي تشير إلى أن عقاقيرَ معينةً قد تكون خطيرة، وصولًا إلى التجارِب الرئيسية التي تقوم عليها الممارسات الإكلينيكية اليومية. ونظرًا لحجب الكثير جدًّا من بيانات التجارِب عن الأطباء والمرضى، لا يمكن أن تكون لدينا فكرة واضحة عن الآثار الحقيقية للعلاجات التي نستخدمها كل يوم في الطب. وتتراوح القصص التي في هذا الإطار من مضادات الاكتئاب، مرورًا بعقاقير الاستاتين وأدوية السرطان وحبوب التخسيس، وصولًا إلى التاميفلو. ولقد أنفقَت الحكومات في أنحاء العالم مليارات الدولارات لتخزين هذا العقَّار المضاد للإنفلونزا تحسُّبًا لوقوع وباء عالمي، إلا أن الأدلةَ على ما إذا كان هذا العقَّار يقلل معدل حدوث الالتهاب الرئوي والوفاة محجوبةٌ حتى يومنا هذا.

وبعد ذلك، نخطو خطوةً للوراء، ناظرين إلى كيف تُنتج العقاقير. فسنستعرض عملية تطوير العقَّار، بدءًا من اللحظة التي يَبتكر فيها شخصٌ ما نوعًا جديدًا من الجزيئات، مرورًا بإجراء الاختبارات المعملية على الحيوانات، ثم على البشر، ثم التجارِب المبكرة الضرورية لإظهار أن العقَّار مفيد في علاج المرضى. وهنا ستجد — في ظني — بعض المفاجآت؛ إذ تُجرى اختبارات العقَّار الأولى الخطرة على أُناس مُشردين، والأسوأ من هذا، فإن إجراء التجارِب الإكلينيكية الكاملة قد بدأ يتم على نطاقٍ عالمي، وهو تطوُّر جديد نشأ بنحوٍ مفاجئ، في العامين الماضيين بالتحديد. وهذا يسبب مشكلاتٍ أخلاقيةً خطيرة؛ لأن الأشخاص الخاضعين للتجارِب في الدول النامية غالبًا ما يكون من غير المتوقَّع استفادتهم من هذه العقاقير الجديدة الغالية الثمن، بل إنه يُسبب أيضًا مشكلات جديدة تثير الاهتمام فيما يتعلق بالثقة في بيانات تلك التجارِب.

ثم ننظر في عملية المراقبة الحكومية، والخطوات التي يجب المرور بها حتى يصل عقَّارٌ ما إلى السوق. سترى أن المتطلبات هنا قليلة للغاية، وأنه يكفي فقط أن تُثبِت العقاقير أن لها فائدةً ولو قليلة، حتى لو كانت هناك بالفعل علاجات أخرى شديدة الفاعلية في السوق. وهذا يعني أن المرضى الحقيقيين يتناولون عقاقيرَ وهميةً بلا سببٍ معقول، وأن العقاقير تصل إلى السوق وهي أسوأ حالًا من العلاجات التي لدينا بالفعل. وسترى أن شركات الأدوية تحنث بوعودها بإجراء دراسات للمتابعة، وأن مسئولي الرقابة الحكومية يَدَعونهم يفعلون هذا. كما سنرى أيضًا كيف يمكن إخفاء البيانات المتعلقة بالآثار الجانبية ودرجة الفاعلية عن أولئك المسئولين، وأن المسئولين بدورهم يتكتَّمون على مثل هذه الأمور على نحوٍ مُبالَغٍ فيه، ويحجبون البيانات التي بين أيديهم عن الأطباء والمرضى. وأخيرًا سنرى الضرر الناجم عن هذا التكتُّم وهذا الحجب؛ فوجود أَعيُنٍ كثيرة للمراقبة يمكن أن تساعد كثيرًا في اكتشاف المشكلات الموجودة في الأدوية؛ فبعضٌ من أشد الآثار الجانبية إثارةً للفزع للأدوية لم يلاحظه المراقبون الحكوميون، واكتشفه فقط الأكاديميون الذين اضطُروا للنضال من أجل الوصول إلى البيانات الخاصة بتلك الأدوية.

ثم نتحدث عن الفساد الذي يشوب التجارِب الخاصة بالأدوية. ويطيب لنا أن نعتقد أن أي تجرِبةٍ إكلينيكية بسيطة ما هي إلا اختبار غير متحيز لعلاجٍ ما، وإنها بالفعل كذلك إذا أُجريت على نحوٍ سليم. ولكن الواقع أنه أُدخلت حيلٌ عدة، على مدى سنواتٍ كثيرة، تسمح للباحثين بأن يُغالوا ويبالغوا في إظهار فوائد العلاجات التي يختبرونها. قد تظن أن بعضًا من تلك الأخطاء بريء دون قصد، ولكني أشك في هذا، وإنني مهتمٌّ أكثر بمدى دهاء هذه الحيل وبراعتها. والأهم من هذا أننا سنرى كَمْ هي حيل واضحة جلية، وكيف أن الأشخاص المعنيين في كل خطوةٍ من عملية تطوير العقَّار، بدءًا من لجان الأخلاقيات الطبية، حتى الدوريات الأكاديمية، قد سمحوا للشركات والباحثين بأن يتورَّطوا في تلك الأعمال المشبوهة المخجلة تمامًا.

وبعد جولةٍ سريعة لمناقشة كيف أن بعض المشكلات التي تدور حول الأدلة الخاطئة والأدلة الناقصة، يمكن التعامل معها، نعرج إلى التسويق، حيث ركزت غالبية الكتب السابقة عن شركات الأدوية اهتمامها.

وهنا سوف ترى أن شركات الأدوية تنفق عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية كل عام في محاولةٍ لتغيير قرارات الأطباء العلاجية. في الواقع إنها تنفق على التسويق والدعاية بقدر ما ينفقون على الأبحاث وعلى تطوير عقاقيرَ جديدة. وحيث إننا جميعًا نريد من الأطباء أن يصفوا الدواء بِناءً على أدلة، والأدلة شأنٌ عام ومعروف، فإن ثَمَّةَ سببًا ممكنًا واحدًا فقط لكل عمليات الإنفاق الكبيرة هذه، ألا وهو: تشويه الممارسة الطبية المبنية على الأدلة. وحيث إن كل هذه الأموال تأتي مباشرةً من المرضى ومن الحكومات، فإننا ندفع بأنفسنا نفقات هذه الميزة. والأطباء يُمضون أربعين عامًا في ممارسة الطب، مع حصولهم على قليلٍ جدًّا من التعليم الرسمي بعد تخرُّجهم في كُلِّياتهم. وحيث إن الطب يتغير كليًّا في خلال أربعة عقود، فإن الأطباء وهم يحاولون مجاراة ذلك يُقذَفون بوابلٍ من المعلومات من كل اتجاه، سواءٌ من الإعلانات التي لا تُظهر فوائد الأدوية الجديدة ومخاطرها على حقيقتها، أو من مندوبي المبيعات الذين يتجسسون على السجلات السرية الخاصة بالأدوية الموصوفة للمرضى، أو من زملائهم الأطباء الذين يعملون في الخفاء لدى شركات الأدوية، أو من المحاضرات والمؤتمرات الطبية التي ترعاها صناعة الأدوية، أو من مقالات الدوريات «الأكاديمية» المستقلة التي يكتبها سرًّا أشخاص يعملون لدى شركات الأدوية، أو غير ذلك مما هو أسوأ!

وفي الختام، سنرى ما الذي يمكن عمله. فإذا قلنا إن الطبيب الذي يراعي آداب المهنة يمكن أن يتجاهل إغراءات التسويق الخداعي، فإن المشكلات التي تُسببها الأدلة المضللة تؤثر في الجميع، دون استثناء؛ فحتى الأطباء الأعلى أجرًا في العالم يتخذون قراراتهم الخاصة بعلاج مرضاهم بِناءً على الأدلة المتاحة لهم، ولا يوجد من يمكنه معرفة كل خبايا الأمور. فإذا كانت هذه الأدلة مشوَّهة، فإننا جميعًا نكون مُعرَّضين للمعاناة والألم وخطر الموت، والتي جميعًا كان من الممكن تجنُّبها. إن المنظومة بأكملها تحتاج لإصلاح. وإلى أن يتم هذا، فإننا جميعًا بحقٍّ في مركب واحد.

(٢) كيفية قراءة هذا الكتاب

لقد شرعت في شرح المثالب التي توجَد في أنظمتنا لتقييم فوائد العلاجات التي تقدمها صناعة الأدوية، وكشف النقاب عن نوعية الأدلة التي يتم جمعها. وكثيرًا ما يُستخدم عقَّار واحد معين كمثال لشرح عيبٍ أوسع نطاقًا في المنظومة، ولكن هذا الكتاب لا يُعَدُّ كُتيبًا استرشاديًّا فيما يتعلق بالعقاقير الجيدة والسيئة، ولا يجب عليك بالتأكيد أن تُغيِّر أدويتك بِناءً على ما تقرؤه هنا. وإذا شعرت بالانزعاج بعد قراءتك ما ورد هنا، فهناك نصيحة في نهاية الكتاب بما يمكنك فعله لتحسين الأمور بالنسبة إليك وإلى الآخرين. فأغلب الأضرار المذكورة فيه تنشأ عن تقاعسنا عن بذل أقصى جهدنا، وليس عن إعطاء علاجاتٍ لا فائدة منها. وإذا كان هذا يصيبك بالإحباط، أو إذا كنت تريد المزيد من الميلودراما، فإني أقترح عليك أن تقرأ كتابًا ألَّفه أحد مُدَّعي الطب.

ولقد تعمدت ألا أُقْدِم على شرح كل المصطلحات الطبية؛ وذلك حتى لا أطيل أو أُشتِّت انتباهك. وهذا لا يعني أنك لن تستطيع فهم الموضوع. فإذا لم يُشرح أو يُعَرَّف أحد الأعراض (على سبيل المثال)، فهذا يعني أنك أصلًا لست بحاجةٍ لمعرفة تلك التفصيلة لكي تفهم القصة، ولكنني ذكرت المصطلح الطبي لكي أشجع الأطباء أو الأكاديميين على معرفته، ولكي أُرسِيَ لهم المبدأ العام في مجالٍ معين من مجالات الطب. ولقد عَرَّفت الألفاظ المركبة والاختصارات خلال صفحات الكتاب، واستخدمتها كيفما اتَّفق بعد ذلك؛ لأن هذه هي الطريقة التي يتحدث بها الناس في الواقع. ويوجد في نهاية الكتاب مَسْردٌ يضم بعض الأفكار والمصطلحات الشائعة التي قد تنفعك في حالة قراءتك لفصولٍ من الكتاب دون التزامٍ بترتيبها المذكور، ولكنك لن تجد شيئًا في هذا المسرد لم يرِد ذكرُه في النص الرئيسي للكتاب.

وبالمثل، فإنني لم أُعرِّف بالتفصيل أغلب التجارِب الإكلينيكية مثل «الدراسات الدولية لعلاج احتشاء عضلة القلب الحاد». ولكن إذا كنت مهتمًّا بهذا الأمر كثيرًا، يمكنك البحث عن هذه التجارِب على الإنترنت أو في الملاحظات الختامية في نهاية الكتاب، ولكنها ليست بالأمر الأساسي لاستمتاعك أو فهمك لما في هذا الكتاب من أفكارٍ وقصص. وفيما يتعلق بالعقاقير، فقد صادفتْني مشكلة في عرضها؛ فمن المعروف أن لكل عقَّارٍ اسمين: الاسم العلمي، الذي هو الاسم العام الصحيح لجزيء ذلك العقَّار، والاسم التجاري، وهو الاسم الذي تستخدمه الشركة المُصنِّعة للعقَّار على عبواته وتستخدمه في الدعاية له، ويكون عادةً أكثر لفتًا للأنظار وجذبًا للانتباه. وبصفةٍ عامة، يعتقد الأطباء والأكاديميون أنك يجب دائمًا أن تستخدم الاسم العلمي؛ لأنه يعطيك فكرة عن فئة جزيء العقَّار، كما أنه أقل غموضًا، بينما يستخدم الصحفيون والمرضى في الغالب الاسم التِّجاري. ولكن لا يوجد اتفاق بين الناس على استخدام أيٍّ من الاسمين، وكذلك أنا شخصيًّا في هذا الكتاب. وأقول مجددًا إن هذا يعكس ببساطةٍ كيفية تحدُّث الناس عن الأدوية في واقع حياتهم.

ذكرتُ مصدر جميع الدراسات التي جرت مناقشتها في هذا الكتاب في آخره لكي يمكنك الرجوع إليها. وكلما أمكنني، حاولت أن أنتقيَ الأبحاث المنشورة في دورياتٍ يمكن للجميع الاطلاع على محتواها مجانًا، دون مقابل. كما حاولت أيضًا أن أذكر الدراسات أو الكتب التي تعطي فكرةً عامة جيدة عن مجالٍ أو موضوع ما، بحيث يمكنك أن تقرأ المزيد عن هذا المجال أو الموضوع إذا شئت.

وأخيرًا، وإلى حدٍّ ما، إنه مجال تحتاج لمعرفة كل شيءٍ عنه، وفهم كيف أنه يؤثر في كل شيءٍ آخر. ولقد بذلت أقصى ما في وسعي لكي أورد ما بهذا الكتاب من أفكارٍ في أفضل تنظيمٍ ممكن، ولكن إذا كانت كل هذه المادة العلمية جديدةً عليك تمامًا، يمكنك أن تلتمس بعض العناصر المساعِدة الإضافية، أو ربما تُضطر لتجشُّم عناء قراءة هذا الكتاب مرةً أخرى! وإنني لا أفترض في القارئ أيَّ معرفةٍ سابقة، ولكنني أفترض أنك قد تحتاج لمساعدةٍ من هنا أو هناك؛ فبعض ما في هذا الكتاب صعب الإدراك، وهذا بالضبط هو السبب وراء تجاهُل المشكلات المعروضة فيه، وهو ما حدا بي لأنْ أوضحها لك هنا، في هذا الكتاب. فإذا أردتَ معرفة الحقيقة، يجب أن تدرك جيدًا كافة الملابسات حتى تتكون لديك الصورة كاملة.

أتمنى أن تستمتع بقراءة الكتاب.

بن جولديكر
أغسطس ٢٠١٢

•••

في هذه الطبعة الجديدة من الكتاب لعام ٢٠١٣، أدخلتُ بعض التغييرات القليلة في النص، وكان أغلبها في ضوء ما ورد إليَّ من تعليقاتٍ من القراء، والتي كانت تحثُّني على أن أُوضح بعض النقاط أو أُحسن العرض أو أُقوِّي نبرة الحديث أو أُصحح بعض الأخطاء الطفيفة. وعلى مدى العام الماضي نشر البعض مزيدًا من الأدلة فيما يتعلق بالمشكلات المستمرة التي عرضتُ لها في هذا الكتاب. ولقد قاومت ما شعرت به من رغبةٍ مُلحة في التوسع في فصول الكتاب بسبب ذلك، إلا أنني تناولت بعضًا من هذه الأدلة الجديدة في القسم الجديد «ماذا بعد؟» وفيما يختص بالمشكلة الأساسية المتعلقة بحجب بيانات التجارِب، فقد انطلقتْ حملة دولية على مدار عام ٢٠١٣ حققت بعض النجاح، وقد تحدثنا عن ذلك أيضًا في نهاية الكتاب، وآمل أن يحثك هذا على العمل الإيجابي.

بن جولديكر
أغسطس ٢٠١٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤