الباب الثالث

يوم باهر مع فؤاد وماهر

تناولتُ الإفطار البسيط الذي جاءتني به الموظفة المسئولة عن تنظيف حجرتي؛ شايًا وقطعة زبد صغيرة وملء ملعقتَي شاي من المربى وقطعة خبز، وهذا ما يسمُّونه في أوروبا «الإفطار القارِّي». أما البلد الأوروبي الوحيد الذي لا يعمل بهذا النظام السخيف فهو بريطانيا؛ فالإفطار البريطاني قد يُغنيك بجودته وكمياته الهائلة عن تناول وجبة الغداء. حقًّا لبريطانيا تقاليدها العريقة الجميلة، ومن علاماتها المميزة اهتمامها بوجبة الإفطار اهتمامًا بالغًا يُثير الإعجاب والدهشة.

رأيتُ أن أصعد إلى حيث يُقيم الأستاذ ماهر وعائلته الكريمة كي أزفَّ إليهم مجيء حقائبي، ففرحوا جميعًا وسُرُّوا له أيما سرور كما لو كانت حقائبهم. وإذ وجدتُهم يستعدون للخروج، سألتُهم عن وجهتهم، فقالوا: «سنسافر الآن إلى مونت كارلو بالقطار.» قُلت: هل تسمحون لي بمصاحبتكم؛ لأنني ما زلتُ مهزوزًا من أحداث أمس، وأبتغي شيئًا من «الونس»؟ فرحَّبوا بي جميعًا، وأبدَوا سرورهم لذلك.

لم نجد صعوبة أو مشقَّة في الوصول إلى محطة القطار إذ كانت قريبةً من الفندق. المحطة جميلةٌ بديعة التنسيق وفسيحة، تغُص بالناس من جميع الأجناس. ورغم هذا فلا تُحسُّ أبدًا بأنك تائه أو ضائع بين كل تلك الجموع الغفيرة. كل شيءٍ مكتوبٌ واضح. وبالمحطة متاجرُ صغيرة، لكنها تنطق بالذوق والجمال.

وصلنا إلى رصيف القطار بعد أن هبطنا سلَّمًا يؤدي إلى نفقٍ فسيح ضخم تحت الأرض. ومشينا داخل ممراتٍ طويلة في غاية النظافة. جلسنا فوق أريكةٍ مريحة ننتظر مجيء القطار. وبينما أنا أنتظر القطار جرَّني الحديث مع عائلة تتكون من أم وأب وولدَين، عرفتُ أنهم جميعًا من ألمانيا. وإنك لتلمس فيهم الرقة والدعة وحلاوة الروح. الرجل الألماني هذا، يُجيد الإنجليزية ويتكلمها أحيانًا بطلاقة، وهو لا ينفر من الأغراب، بل يستمع إليهم، ويردُّ عليهم بجدية واهتمام.

كان القطار طويلًا مزدحمًا، ولكننا، جميعًا، وجدنا أماكن للجلوس. جلس قبالتي في القطار زنجي يحمل كميةً ضخمة من العاديَّات المصنوعة من سن الفيل وعقودًا وأساور، كلها من صنع الصومال. وددتُ أن أشتري منه سورًا عاجيًّا، فطلب أولًا ثلاثين فرنكًا، ولكنه قَبِل أن يبيعني إيَّاه بعشرة فرنكات. كل شيء في القطار سبق استخدامه مئات المرات على هذا الخط الهام، ينقل الناس إلى أشهر المدن الفرنسية المعروفة في كافة أنحاء الدنيا، بجمالها وروعتها وثرائها.

كان بالقطار ستائر من القماش الفاخر بلونٍ أصفر فاقع. كانت زاهيةً نظيفة خالية من أي قَطْع أو تمزُّق أو ما يُشوِّه منظرها الجميل الجذاب. وكانت تبدو مكوية لتوِّها. أما القطار نفسه فينساب بخفة وهدوء فوق القضبان لا يُحدِث جلبةً ولا صخبًا، ولا ضوضاء كأنما هو يجري فوق عَجلات من المطاط. كما أن مقاعده مريحةٌ ومكسُوَّة بالجلد الأصفر المحشُو بالإسفَنج الصناعي.

وصلنا إلى مونت كارلو في سرعةٍ عجيبة، فرُحنا نجوس خلال شوارع المدينة سيرًا على الأقدام. كانت العمارات الشاهقة الارتفاع تملأ ربوع المدينة ولا غرابة في ذلك، إلا أن معظمها كان يقوم شامخًا فوق جبلٍ عظيم الارتفاع.

المدينة زاخرةٌ بحمَّامات السباحة المكشوفة والمزوَّدة بأفخر المطاعم التي تُقدم للرواد أجود الأطعمة وأشهاها، وألذها نكهةً ومذاقًا ومنظرًا.

وبهذه المدينة أعدادٌ هائلة من اللنشات واليخوت تقف ساكنة داخل خلجانٍ معزولة عن البحر الرئيسي بحواجز أقامها الإنسان لهذا الغرض. لا ترى هذه اليخوت أصحابها وليس عليها أية حراسة. وهي من مختلف الأحجام وشتَّى الأشكال، منها الكبير الضخم والمتوسط والصغير، ورغم هذا فإنها تقف معًا على قَدَم المساواة في صفوفٍ مُتراصَّة داخل ما يُمكن أن يُطلق عليه «بوغاز».

يحضُر أصحاب هذه اليخوت إليها في سياراتهم الجميلة فيتركونها على رصيف البحر أمام يخوتهم ثم يصعد كلٌّ منهم إلى يخته، وفي الحال تبدأ الأسرة في إعداد مائدة الطعام على سطح اليخت في الهواء الطلق. وقد لاحظتُ أن معظم هذه اليخوت مزوَّدة بتليفونات وأجهزة تليفزيون. كما زُوِّدَت اليخوت الكبيرة الحجم بقاربٍ من المطاط لا يُستخدم إلا وقت الخطر إذا اندلعَت النيران، لسببٍ ما، في اليخت.

كل شيء حولي له لونه الخاص اللامع والبراق. من المُحال أن تجد هنا شيئًا بلا لون. ومع ذلك، فالألوان كلها متجانسةٌ متناسقة، لا نشاز بينها ولا نفور، فترتاح إلى مرآها العين، وتبتهج بها النفس؛ فالأوروبيون مولَعون ولعًا شديدًا بالألوان، وهم يستخدمونها بلباقة وفن وحُسن تصرُّف.

راح الأستاذ ماهر يلتقط فيلمًا سينمائيًّا لعائلته وعائلة الأستاذ فؤاد. ولم ينسَ بحالٍ ما أن يُسجِّل المناظر الخلابة الممتدة حوالَيه. راقَني وأثار إعجابي أن أسرة الأستاذ ماهر أسرةٌ مصرية جُبل أفرادها الأربعة على الحب والسلام والتفاهم وإنكار الذات، وهذا راجع، ولا شك، إلى زوجته السيدة نادية؛ فهي امرأةٌ هادئة تشعُّ عيناها بكل ما ينمُّ عن صفاء السريرة ونقاء القلب. حتى ابتسامتها تبعَث على الطمأنينة وحب الحياة لأجل الحياة الحلوة. ولا يمكن إغفال دَور الأستاذ ماهر؛ فهو ولا شك رجلٌ ماهرٌ بحق، اسمًا على مُسمًّى، ومُطَّلِع ومثقَّف، يفهم الأمور خير فهم، واسع الخبرة بشئون الحياة، دائم الاتصال بالعالم الخارجي بحكم عمله، سافر إلى كل بقعة في أوروبا حيث زاول فيها عملًا وما برح يزاول أعمالًا في بعضٍ منها، وإن كان قد وجد ضالته المنشودة في نابولي بإيطاليا.

لم يبدأ الأستاذ ماهر حياته تاجرًا وإنما كان ضابطًا بالجمارك بمطار القاهرة، ثم استُدعي للخدمة العسكرية، واشترك في حرب ٦٧ المقيتة، وأُصيب بشظية في قدمه، أطارت منها إصبعَين. ومع ذلك تراه يمشي معك دون أن يشكو أو يُظهِر لأحدٍ أنه يتألم أو يعاني. وقد أفهمَني أن قدمه المصابة تُتعبه في السير ويُرهقها المشي الطويل، ولكنه يتحمل كل شيء بجَلَد في سبيل إسعاد زوجته وأولاده. وهذا، في حدِّ ذاته، يُعطي القارئ فكرة عن خُلق هذا الشاب المصري الوسيم الوجه واللون معًا، ذي العينَين الواسعتَين والحديث الحلو اللبِق، والطباع الهادئة، الذي قلما يغضب أو يثور أو يفقد أعصابه.

لم أرَ في حياتي مجموعةً هائلة من السيارات الغريبة الأشكال والصنع والموديلات، كالتي رأيتُها في مونت كارلو هذه. المدينة تَعِج بالسيارات الكثيرة الواقفة في الطرقات، والتي تجري بسرعة البرق كأنها في سباق، والتي تسير الهوينَى لا تلوى على شيء، ويبدو أن أصحابها يريدون التمتع بالمناظر الخلابة لتلك المدينة العجيبة. العربات كلها مديدة الطول معظمها مكشوف من أعلى «كابروليه»، لو ألقيتَ نظرةً إلى داخلها لفتنَتك روعة الصناعة وفخامة الجلود على المقاعد الوثيرة المريحة والتي تجعل القيادة متعةً بحق. وباختصار، تُعتبر السيارات التي شاهدتُها في مونت كارلو، بالنسبة للمصري، شيئًا غير مألوف؛ لأنها لم تستعمل عندنا ولم تصل إلى بلدنا، وربما لن نستوردها إذ هي باهظة الثمن جدًّا، وأغلبها سيارات سِباق ليست للنزهة ولا للتنقلات.

ذكرتُ لك طرفًا عن العمارات السامقة الشاهقة ولكني أقف الآن أمام عمارة ضخمة تقوم فوق الجبل ويبلغ ارتفاعها ثلاثين طابقًا. المبنى مفخرة لفن المعمار الذي رُوعي فيه إبراز الإعجاز الهندسي والقوة البشرية والعقل المفكر الجبار.

أصف لك الآن عمارةً أخرى هي بلدٌ أكثر منها مبنًى. ذلك المبنى هو فندق «لويس مونت كارلو». كان علينا، لكي نصل من طرفه الأيمن إلى طرفه الأيسر، أو بالعكس، أن نسير مسافةً لا تقلُّ بحالٍ ما عن الكيلومتر، بلا مبالغة. المبنى نفسه مكوَّن من خمسة طوابق، ولكنه مُستفحِل في انبساط عرضًا فوق الأرض، وكأنهم تعمَّدوا بناءه بالعرض لا بالطول.

ومن أهم الأماكن التي زُرناها وأُعجبنا بها كل الإعجاب، كازينو مونت كارلو للقمار، مبنًى ضخمٌ وفاخرٌ جدًّا. قاعة الاستقبال الواقعة في صدر المبنى ترفعُها عن الأرض أعمدةٌ من المرمر الحُر الثمين.

السقف كله مُزيَّن بزخارف قيل لي إنها من الذهب الخالص. وبهذه القاعة مقاعدُ وثيرة جميلة بعضها مستدير تمامًا على شكل دائرة كاملة، مغطَّاة بالجلد الثمين الأحمر الفاخر والجذاب. وإني لأجد من الأصح أن أقول إنني داخل قصر مُنيف يتكون من طابقَين ولكنه فسيح الأرجاء عديد الحُجرات والقاعات. إنه لا يقل فخامة عن قصر عابدين أيام مجده القديم وسِنيه الذهبية الغابرة التي اندثَرَت تمامًا في عصر الاشتراكية الذي نعيشه الآن ونؤمن به إيمانًا عميقًا. أرى الحوائط كلها زخارف ونقوش، ولكنها هادئةٌ وجذابة لا تملأ حوائط الكازينو فحسب، بل والسقف العظيم الذي تتوسَّطه طاقةٌ ضخمة من البلور الكريستال الملوَّن تسمح للنور الإلهي غير الصناعي بأن يتسلل بأضوائه الطبيعية إلى داخل ذلك القصر. وليت أصحاب هذا الكازينو الذائع الصيت قد اكتفَوا بالنور الإلهي ولكنهم أضاءوه أيضًا بعشرات الثريَّات التي تتدلى من السقوف العالية في كل ركن من أركان القاعة الفسيحة. غير أن النور المنبعث من هذه الثريَّات لم يكن باهرًا يؤذي العين، ولا مزعجًا أو زائدًا على الحد، بل كان هادئًا لا تُحس بوجوده إلا إذا وقعَت عيناك عليه. لم تكن هناك ثريَّا واحدة مطفأة الأنوار في تلك القاعة، بل كلها مضيئة كأنما هي تستعد لحفل عُرس.

بالرغم من أن الدخول إلى هذا الكازينو العظيم كان بالمجان، إلا أنه كان ممنوعًا على الصغار من الذكور والإناث أن يدخلوه. وحتى الأطفال الرضَّع كان يشملهم هذا المنع أيضًا.

لم يخلُ هذا الكازينو من قاعةٍ فسيحة تُستعمل للعروض السينمائية والمسرحية، وتُقام فيها حفلاتٌ راقصة لأشهر فِرَق الباليه والأوبرا في العالم كله.

لمَّا كان هذا الكازينو مشهورًا بجميع صنوف ألعاب المَيسِر وشتَّى صور القمار؛ لذا كانت بداخله عشرات القاعات الفسيحة لمزاولة هذه اللعَب التي حرَّمها الشرع. وأحمد الله أنهم لم يسمحوا لنا نحن الزائرين بالدخول لمشاهدة قاعات القمار هذه. أفهمونا أن هذا ممنوع منعًا باتًّا. بيد أنه كان هناك بالطابق الأرضي قاعةٌ لعموم الزوار مليئة بعشرات الماكينات التي يستطيع الزائرون أن يمارسوا القمار الخفيف بها، في نطاقٍ ضيق جدًّا.

دخلتُ أنا ورفاقي إلى هذه القاعة، فقال الأستاذ ماهر: سألعب بفرنكٍ واحد، يا راح، يا جاب. ولكن الأستاذ ماهر، والحمد لله، لم يخسر سوى ثلاثة فرنكات هي كل ما غامر به. لقد ابتلعَتْهم الماكينة اللعينة في لمح البص. لفت نظرنا جميعًا رجلٌ واحد يقف أمام إحدى هذه الماكينات دون أن يكلَّ أو يمل. كان يُلقي فرنكاته داخل ثقب الماكينة دون جدوى، ولكن لم تلبث هذه الماكينة أن قذفَت إليه بكمياتٍ هائلة من مئات الفرنكات. كان هذا في نظري كسبًا مثيرًا يكفي ويزيد، ولكن سرعان ما استأنف الرجل اللعب من جديد، أغراه ذلك المبلغ الضخم، ولكن كل تلك الفرنكات ذهبَت ثانيةً إلى الماكينة واحدًا بعد آخر، وخسر الرجل كل ما كسبه. حقًّا، إنه جنون القمار.

خرجنا من كازينو مونت كارلو هذا، ورُحنا نتمشَّى خلال الحدائق الفيحاء المحيطة بذلك الكازينو العظيم. جلس الأستاذ ماهر وحرمه وأولاده بعيدًا عنَّا. كنتُ أراهم وهم يسجِّلون صورهم في فيلم سينمائي عائلي، يريدون أن يستكملوه بأي شيءٍ من تلك المناظر الثمينة، فانتحيتُ أنا والأستاذ فؤاد وحرمه السيدة سوزان وطفلتُهما الحلوة ذات الشهور التسعة. لم أسمعها تصرخ أو تُرهِق والدَيها وكأنها تنام على فراشها الوثير في أمان الله.

رأينا أنواعًا مختلفة من الأشجار والأزهار، راحت الأستاذ سوزان، المهندسة الزراعية، تُسمِّيها لنا وتُحدِّثنا عنها وعن خصائصها.

لم يسبق لي أن حادثتُك عن الأستاذ فؤاد. إنه صورةٌ طِبْق الأصل من الممثل الهزْلي المعروف جورج سيدهم. عيناه تشعَّان طيبة وصدقًا وأمانة. سألتُه: أراك سعيدًا جدًّا مع زوجتك سوزان، فهل تزوَّجتَها عن حُب؟ قال: نعم. قُلت: هل سوزان من أقاربك أم هي جارةٌ لك؟ قال: لا هذا ولا ذاك. قُلت: إذن فكيف التقيتما وتحاببتما؟ قال: كان ذلك يوم أن رُقِّيتُ إلى الدرجة السادسة في عملي بوزارة العدل؛ حيث أعمل كخبيرٍ كهربائي لدى المحاكم المصرية. في ذلك اليوم، دخلتُ عند رئيسي في العمل أُخبره بالترقية فهنَّأني وقال: «عقبال العروسة.» ثم وجَّه كلامه إلى سيدةٍ كانت قبالته في مكتبه وقال لها: «ما عندكيش عروسة للأخ فؤاد؟» قالت السيدة وهي تبتسم: «عندي، بس ينوي والعروسة موجودة.» فقال فؤاد: «النية موجودة بس شدِّي حيلك.» ويقول فؤاد: كنتُ أحسبُ أن الأمر لن يخرج عن نطاق الكلام والمجاملات، إلا أنني فوجئتُ بعد أيامٍ قلائل، بالسيدة الغريبة تحضُر إلى الوزارة ومعها فتاةٌ شابة في عمر الورد، لم تذكُر لي شيئًا عنها أكثر من أنها خِريجة كلية الزراعة، ولكنني، والحق يُقال، أُعجبتُ بهذه الفتاة أي إعجاب. كان إعجابًا من أول نظرة، أو قل: حُبًّا من أول نظرة. سمِّه كما تشاء. ومن فرْط إعجابي بتلك الفتاة طلبتُ أن أزور والدَيها. وفعلًا زرتُهما. وبعد أن اتفقتُ مع والدَيها على الزواج، توقف كل شيء؛ إذ مات أبي في حادث سيارة. فاضطربَت أحوالي المالية، وانشغلتُ ﻟ «شوشتي» في إدارة أعمال أبي التي توقفَت تمامًا. وبعد ثلاث سنوات تحسَّنَت ظروفي المالية، وفكَّرتُ في أن أعود إلى سوزان أطلب يدها من والدَيها، ولكنهم رفضوا، بحجة أن سوزان مخطوبة ولا يمكن فسخ خطبتها، ولكن الله أراد أن أتزوجها، وكانت سوزان تميل إليَّ وتُؤثِرني على غيري. قُلت: ألم يحدُث، يا أستاذ فؤاد، أن التقيتَ بها طوال السنوات الثلاث التي انقطعتَ فيها متفرغًا للقيام بأعمال والدك المُعَطلة؟ قال: لم ألتقِ بها ولا مرةً واحدة، ولكن إعجابي بشخصية والدها جعلني أومن بأن سوزان هي خير إنسانةٍ يمكنني أن أتزوجها، وأنا واثقٌ من أنها ستكون خير زوجةٍ يمكنني أن أحظى بها في هذه الدنيا كلها. قُلت: وهل صدَق حدْسُك؟ قال: لقد صدق تمامًا، لدرجة أن أخي عادلًا تزوج أختها، وكلانا سعيدٌ كل السعادة.

غير أنه سرعان ما بدأ الأستاذ فؤاد يشكو لي من سوزان، فقال: هناك أمور تافهةٌ تُضايقني من سوزان. تصوَّر، مثلًا أنني أعود آخر النهار في التاسعة مساءً فلا أجد خبزًا في البيت، فأُضطر إلى الخروج ثانيةً لشرائه … أليس هذا شيئًا يُضايق رجلًا يكدَح ويتعب طوال النهار؟ قالت سوزان: أنت تظلمني، يا فؤاد. كيف تُريد مني أن آتيك بالخبز وليس بالبيت خادمة تساعدني وطفلتنا رضيع، والخبَّار بعيد عن البيت، ومشاغل البيت والمطبخ كثيرةٌ متنوعة لا تنقطع. كيف تُريدني أن أخرج بطفلةٍ رضيع في زمهرير الشتاء لأشتري الخبز؟ هل من الصعب عليك أن تمرَّ على الخباز وأنت في طريقك إلى البيت، فتشتري لنا الخبز؟ ثم شَرعَت سوزان، بدورها، تشكو من الساعات الطوال التي تمكثُها وحيدةً في الدار بلا ونيس ولا جليس، فقالت: يخرج فؤاد من البيت في التاسعة صباحًا فلا يعود إلا في التاسعة مساءً. وطبعًا أحِسُّ بالوحدة والوحشة والضيق. فقال فؤاد: إنكِ لا تُشجعينني أبدًا على العمل ولا تشُدِّين من أزري، أرى أنكِ لستِ طموحةً بالمرة. ألا أبذل كل هذا الجهد من أجل لقمة العيش والحياة الرغيدة، يا سوزان؟ كم يضايقني عدم طموحك بالمرة، يا سوزان!

في هذه اللحظة، أقبلَت إيناس تقول: هيَّا بنا. سنذهب إلى أحد المطاعم لنتناول غداءنا. فقمنا جميعًا، واتجهنا شطر موضع المطاعم، وكان من حُسن حظِّنا أن اخترنا مطعم «لا لويزياد». المطعم كله في العراء بحذاء الشاطئ الجميل، فكيف لا يكون المطعم نفسه جميل المنظر بديع التنسيق. أما الطعام فحدِّث عنه ولا حرج؛ كان لذيذًا شهيًّا وطازجًا ساخنًا، علاوة على كونه جيد الطهي. وكان النادل أيضًا ظريفًا جدًّا بشوشًا خدومًا هادئًا وراقيًا، بالغ الأدب في معاملته، وسريعًا في تلبية الطلبات رغم ازدحام المطعم بالزبائن. تراه يؤدي عمله باستعدادٍ لطيف ورضًى واضح بيِّن.

ما إن ظهَرَت تباشير العصر حتى راحت الموسيقى تصدَح في جميع الكازينوهات التي بطول الشاطئ.

الناس جميعًا في نشوةٍ وسعادةٍ ومرح؛ بعضهم في صحبة وخلوة. الحب يلعب دوره هنا في حرية ما بعدها حرية؛ فالعشاق في تلاقٍ ومحبة وهناء وسعادة.

غادرنا المطعم وخرجنا للنزهة في شوارع المدينة، ولكن المتاجر كلها كانت مغلقةً في عطلة يوم الأحد، يوم الراحة المقدس في البلاد الغربية قاطبة؛ حيث تُنسى الأتراح والأحزان ويعمد الناس إلى البهجة والمرح والسرور. وتُحتِّم بعض البلاد على جميع رعاياها أن يرفعوا الأعلام مرفرفةً على منازلهم في ذلك اليوم، فترى الرايات تخفق والزينات تعُم البلد، فيُشعِرك هذا بالبهجة حتى ولو كانت حقائبك قد ضاعت في المطار.

الحديث ذو شجون يجرُّ بعضه بعضًا؛ فقد تصادف أن كان أحد أصدقائي في دولة المجر وأراد يوم أحد أن يذهب بالأوتوبيس إلى النمسا، فذهب إلى بلدٍ يُسمَّى «شوبرون» على حدود النمسا في صباح ذلك اليوم، فبهره أن رأى البلد كله في فرح، والأعلام الكبيرة ترفرف على كل منزل وكل حانوت، والموسيقى تصدح في جميع المتنزهات. وقد خرج الأهالي من بيوتهم في ذلك اليوم إلى المتنزهات والخلوات؛ بعضهم يتناول غداءه في المطاعم، بينما أحضر البعض الآخر طعامه معه يتناوله في المتنزهات، فوق مفارش من البلاستيك، أو في المقاهي والكازينوهات، أو في العراء. المدينة كلها أفراح، والشوارع كلها سيدات ورجال وأولاد في أزهى ملابسهم. حتى ضابط الجوازات على الحدود كان يختم الجوازات وهو يضحك ويقول بعض كلماتٍ لم يفهم الفريق منها شيئًا؛ إذ كانت بلغةٍ غريبةٍ لا هي إنجليزية ولا فرنسية ولا ألمانية.

بعد أن تركنا المطعم في مونت كارلو أبصرنا خليطًا من الناس غاية في الغرابة، مناظر الناس وأشكالهم تختلف عمَّا تألفه عيوننا. كل فتاة لها طرازها وذوقها، الحرية مطلقةٌ بين الأحباء؛ بعضهم يتبادلون القبلات في نهَم بالشوارع والمقاهي والمطاعم دون حرج ولا استحياء ولا أدنى محاسبة، والكلاب هنا في سعادةٍ بالغة «ملظلظة» ومعتنًى بها كالبشر تمامًا، وما أكثرها في فرنسا! وكم يطيب للفرنسيين أن يخرجوا للنزهة ومعهم الكلاب من شتَّى الأنواع والأحجام وأغربها أيضًا! فبعضها صغير الحجم جدًّا حتى تكاد لا تراه فتطؤه بسهولة بقدمَيْك وأنت سائر دون أن تفطن له، وبعضها ضخمٌ هائل إلى حدٍّ يفوق التصور، كما أنهم يصحبون الكلاب إلى المقاهي. ومما يسعد المرأة أن تُبدي إعجابك بكلبها، فتأخذ في تقبيله، وأحيانًا من فمه، وتربِّت على ظهره وتضع خده على خدها وتضُمه إلى صدرها في حرارةٍ وشوقٍ حتى ليتمنى بعض الرائين أن يكون كلبًا! ويمكنك أن تدرك من امتلاء أبدان الكلاب، مدى الرفاهية التي يتمتع بها شعب فرنسا العظيم.

هناك كثيرٌ من القادمين من الصومال الفرنسي يمُرُّون على المقاهي بغير انقطاع يبيعون التماثيل المصنوعة من العاج والعقود والأساور المُطعَّمة بسن الفيل، كما يبيعون أحيانًا الملابس المطرَّزة على الطريقة الصومالية، وهي تشبه القفاطين التي يرتديها البرابرة عندنا، الذين يعملون في قاعات الطعام بالفنادق. والإقبال على شراء هذه البضائع قليل، ولكني لاحظتُ أن هؤلاء السود مؤدَّبون جدًّا في غير ما لجاجة، ولا يُزعجون الشعب الفرنسي. كما أنهم يتكلمون الفرنسية بطلاقة. وكثيرًا ما يَقْبلون أي ثمنٍ معقول يُعرض عليهم مقابل ما يريد الزبون شراءه، وينسَون تمامًا الثمن الذي طلبوه منك أولًا. وهم أبعدُ ما يكونون عن القذارة. ومنظرهم، وإن بدا مُخيفًا أحيانًا من جرَّاء لون بشرتهم الشديدة السواد، إلا أنك تُحِس بأنك آمنٌ بينهم وأمامهم.

حقًّا ما أشيك الفتاة الباريسية! فالأزياء هنا لا حصر لها؛ كل فتاة ترتدي زيًّا مختلفًا بشكل قلَّما ترتديه فتاةٌ أخرى. كما أن نظافة الفتاة الفرنسية أمرٌ يدعو إلى الإعجاب والتقدير. أما بساطة الملبس فتلعب دورها الخطير؛ فالأناقة صارخةٌ مع البساطة الواضحة والألوان المتجانسة المتآلفة والماكياج الهادئ المتقن المثير. وربما كان هذا هو سِر كثرة زيارة البريطانيين لفرنسا؛ إذ لديهم قولٌ مأثور يعرفونه جميعًا، يقول:

“The Parisian girl can dress herself well enough to turn a man’s head”.

ومعناه: «تستطيع الفتاة الباريسية أن تتزيَّا بطريقة تدير رأس الرجل.»

تلتصق الفتاة الباريسية بحبيبها فلا تطرف بعينَيها إلى شخصٍ آخر أو إلى أي شيءٍ آخر حولها، عيناها عليه هو فقط، وكأن الدنيا قد تركَّزَت وتمركزَت فيه وحده، وفي عينَيه، إن مشي سارت خلفه وتبعَتْه كظله أو كخادمه الأمين، الرجل هو الذي يتكلم، أما الفتاة فكل همِّها أن تُصغيَ إلى حبيبها المفدَّى، يُحادثها وهو مشغولٌ فيها وكَلِف بها، ينسى الدنيا كلها بمن فيها وما فيها.

لاحظتُ أن المرأة الفرنسية الكهلة تتكلم في الطريق العام وفي داخل المقاهي والمطاعم بصوتٍ عالٍ فيُصغي إليها الجميع وكأنهم يريدون سماع ما تقول؛ هذه ظاهرة لاحظتُها كثيرًا هناك.

وهناك ظاهرةٌ أخرى تستحق التسجيل؛ كثير جدًّا من السيدات والآنسات الفرنسيات يركبن الدراجات البخارية في براعةٍ تامة، فترى العشرات بل المئات منهن ينطلقن كالسهم المارق وسط السيارات والأوتوبيسات دون خوفٍ ولا وجل. يا لها من فكرة رائعة تساعد كثيرًا على حل أزمة المواصلات وتصون للفتاة كرامتها وأنوثتها من عبث العابثين والتعليقات البذيئة للمتسكعين! وتترك الراكبة دراجتها البخارية فوق الطوار حيث حدَّدوه لها. إنهن لا يربطنها بسلسلةٍ ولا بقفل خوف السرقة؛ فليس هناك من يسرق الدراجات البخارية. والعجيب الجدير بالذكر أن الفتاة الفرنسية تقود دراجتها البخارية بشجاعةٍ لا مثيل لها، ومهارة فائقة تستَحِق عليها التصفيق. وتستطيع أية فتاة سائحة — لو أرادت — أن تستأجر دراجةً بخارية تزور بها بعض الأماكن النائية كي تتمكن من التوغل فيها وزيارة كل أحيائها ومشاهدة جميع معالمها.

عُدنا من مونت كارلو إلى نيس مرة أخرى وقد أحسَسْنا بأننا أمضينا يومًا ممتعًا حقًّا. كانت الرحلة مريحةً جدًّا لم نصادف فيها أية مشقةٍ أو تعب، كل شيء كان سهلًا يسيرًا؛ مواعيد القطارات مضبوطة، والأماكن موفورة، والسعادة تتجلى في كل شيء حولك. ما لم تبدعه الطبيعة، أبدعته يد الإنسان بالزينة والألوان والإعداد الجميل.

عُدت إلى الفندق، واستلقيتُ على فراشي طلبًا للراحة بعد عناء السير الطويل ومتاعب اليوم السابق البدنية والذهنية والفكرية والنفسية.

لم تنَم أجفاني أكثر من ساعة، ثم أخذتُ حمامًا دافئًا. كل شيء في الحمام الملحق بحجرتي ينمُّ عن الذوق الرفيع ودقة الصنع وجودة الصنف؛ الصنابير لامعةٌ غريبة الأشكال. الماء الساخن يجري في أي لحظة ليل نهار، ويأتيك في الحال بمجرد فتح الصنبور الخاص به. حظيتُ بدُشٍّ ممتع حقًّا، أنعشَني وأزال عن بدني كل تعبٍ وإرهاق.

خرجتُ بعد ذلك بُغية الترويح عن النفس ورؤية نيس ليلًا. الناس كلهم في الشوارع. والمقاهي الفسيحة مملوءةٌ كلها بالجالسين. الكل ينعم بجو نيس الرائع. حقًّا ما أطيب الطقس في هذه البلدة الهادئة في هذا الوقت من السنة! الطقس هنا معتدلٌ جاف خالٍ من كل أثَر للرطوبة. والهواء نقيٌّ جدًّا ومنعش. لا توجد هنا أتربة بالمرة، لا في الجو ولا في الشوارع أو الأزقة.

التقى بي الأستاذ ماهر وحرمه وأولاده. شاهدوني جالسًا في أحد المقاهي الكبيرة أُسطِّر خواطري وملاحظاتي فجلسوا معي. فهمتُ منهم أنهم سيسافرون في الغد إلى روما، وأنهم قد خصصوا صباح الغد للتسويق؛ فالسيدة نادية تريد شراء فستانٍ شيك، كما أن إيناس بحاجة إلى حذاء؛ لأن الحذاء الذي بقدمَيها، والذي اشترته من متجر بالقاهرة قبيل سفرها مباشرة، قد انفصل نعله عن وجهه. وبهذه المناسبة كان لا بد لي من التعليق على صناعة الأحذية التي أخذَت تتدهور في مصر رغم غُلوِّ أثمانها غلوًّا فاحشًا، وعلى الغش التجاري الذي راح يتفشَّى بين طبقات الصُّناع والتُّجار وكأن ضمائرهم قد ماتت. يريد معظمهم أن يستولي على كل ما في وِفاضك دون أن يُعطيك شيئًا يستحق أي مبلغ. وأكبر دليل على ذلك، الحذاء الذي انشَق بين يوم وليلة بالضبط، فيا ليت المسئولين يهتمُّون بهذا كما اهتموا بالخضر والفاكهة وضربوا على أيدي الجشِعين.

أحسَسْنا بالجوع من جمال الطقس والجو البديع المحيط بنا، والهواء النقي الذي استنشقناه. طلبنا من النادل أن يأتي لكلٍّ منَّا بشطيرةٍ واحدة، فأحضر لنا شطائر لذيذة الطعم، فعلًا، ولكنه تقاضى عشرة فرنكات عن الشطيرة الواحدة المحشوَّة بالجبن الرومي وقليل من شرائح اللحم الرقيقة؛ أي ما يعادل ١٨٥ قرشًا مصريًّا. حقًّا، ما أغلى أسعارَكِ يا فرنسا! ارتفاعٌ مهول في أسعار كل شيء، المأكل والملبس، والفنادق وأجور التاكسيات. شيءٌ رهيب، بل ومخيف، بالنسبة للمصري لو أنه راح يحسب ما يدفعه بالفرنكات بما يقابله بالعملة المصرية؛ فقدَح القهوة ثمنه ٧٥ قرشًا وكذلك قدح الشاي. زجاجة الليمونادة ثمنها ١٨٥ قرشًا من الصنف العادي جدًّا. أما الخمور فأسعارها أرخص من أسعار الكوكاكولا وغيرها من المشروبات الغازية، وهكذا أسعار المأكولات جميعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤