تمهيد

ورث العالَمُ الحديث الكثيرَ من صور الطعام وأنماط تناوُل الطعام التي كانت سائدةً في العصور القديمة، وربما يكون من بينها حفلاتُ العربدة التي كان يُقِيمها الأباطرةُ الرومان، والنباتاتُ التي كانت تنتشر في أنحاء الإمبراطورية، وكتابُ الطهي الذي ألَّفَه أبيكيوس، واستخدامُ الأطعمة في النصوص الكوميدية والساخرة. ومن نواحٍ أخرى، فإن الطعام الذي كان الإغريق والرومان يتناولونه في الأحوال العادية غير معروف لنا غالبًا. سيحاول هذا الكتاب إحياءَ الطعام نفسه، وأيضًا الأجواء والأماكن التي كان الناسُ يتناولونه فيها؛ على سبيل المثال: غُرَف الطعام التي كانت مُشيَّدة بجوار المعابد الإغريقية، والهياكل التي كانت تُذبَح فيها الحيوانات.

يستعرض الكتابُ النظامَ الغذائي لملايين الإغريق والرومان ممَّنْ لم يكونوا من الصفوة الرومانية المدلَّلة التي تحدَّث عنها المؤرخُ الروماني سيوتونيوس في كُتبه. ويتضح من المقارنات وجودُ درجةٍ مدهشة من التشابُه بين العادات الإغريقية والرومانية.

علاوةً على ذلك، تتناول هذه الدراسة أيضًا أنواعًا معينة من الأطعمة؛ ومن أمثلة ذلك اللحم، وهو الطعام الذي يحظى بالمنزلة العليا. فاللحم من المنتجات الطبيعية، وتربيةُ الحيوانات للحصول على لحومها من الأنماط غير الناجحة نسبيًّا في تربية الحيوانات؛ لأن الطاقة النباتية الموجودة في العلف (مثل الشعير) لا تنتقل إلى مَنْ يأكلها من البشر إلا على نحوٍ جزئي فقط؛ ولذلك، كان الكثير من الناس يرون أن الحيوانات من دلائل الثراء، وكان المواطنون الأغنياء — فضلًا عن الآلهة — يتوقَّعون الاستفادة من لحوم الحيوانات. وكان الإغريق يتعجبون من الفُرس الأثرياء الذين كانوا يطهون الحيوانات الكبيرة الحجم — مثل الجِمال والثيران — بأكملها دون تقطيعها. وكان الأبطال الذين ورد ذِكْرهم في الأعمال الأدبية لهوميروس يستمتعون بأكل لحم البقر. وكانت طقوسُ تقديم القرابين الواسعة النطاق من سمات الحياة في المدن القديمة ذات الحُكْم الذاتي، ووصولًا إلى شعائر الحج في مكة. ينعكس الدورُ المهم للحيوانات في الأساطير والدِّين؛ إذ إنها تسهم في تعزيزِ شعورٍ بالهُوِيَّة والانتماء لجماعةٍ ما. ومن الممكن أن نقارن بين بعض الشعوب الأصلية في أمريكا ممَّن كانوا يؤمنون بأن الآلهة هي التي تُطعِم قطيعَ الجاموس؛ فمكانُ الجاموس هو السهول وليس الحظائر — الغارقة في الفضلات — التي أدخَلَها المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا. كانت البنيةُ الاجتماعية للعالَم القديم بنيةً أبويةً؛ ولهذا السبب كان الرجالُ يتناولون على الأرجح كميةَ لحمٍ أكبر ممَّا تتناولها النساءُ، وهو وَضْعٌ يتشابه إلى حدٍّ ما مع اليهودية والمسيحية والإسلام.

كانت الحضارة ترتبط لدى الإغريق والرومان — شأنهم شأن علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث — بالزراعة والتكنولوجيا. فضلًا عن اللحم، قدَّم مجالُ الزراعة وتربية الحيوانات نشاطَ زراعةِ الحبوب، وغالبًا ما يقال لنا إن الإغريق كانوا يأكلون «مَازا» أو عصيدة الشعير بدلًا من الخبز. ربما تبدو العصيدةُ غذاءً أساسيًّا غير محبَّب، لكن هذا الكتاب سيحاوِل وضْعَ تصوُّراتٍ لأصناف الطعام التي يمكن إعدادها بمنتجات الحبوب؛ فَلْنتأمَّلْ تنوُّعَ استخدامات الأرز (في الأصناف الحلوة والمالحة)، والقمح (في الخبز والبرغل والمكرونة)، والذرة في العالم الحديث. والحبوب هي بذورٌ صلبةٌ يجب نزْعُ قشرتها عادةً قبل دخولها إلى الجهاز الهضمي للإنسان، وذلك النوعُ من التحضيرِ وطحْنِ الحبوب عمليةٌ صعبة ويستغرق وقتًا طويلًا. في العصور القديمة، كانت النساء يقمْنَ بهذا العمل على الأرجح أكثرَ من الرجال — وذلك نظرًا للطابع الأبوي للبنية الاجتماعية — إلا إذا كان في وسع الأسرة تحمُّلُ تكلفةِ إعالةِ عبيدٍ أو شراءِ منتجاتِ خبزٍ جاهزةٍ.

بدأ دخول الحبوب والكثير من الحيوانات والنباتات التي يأكلها البشر تدريجيًّا إلى البلاد المطلة على البحر المتوسط على مدى ألف عام، إنْ لم تكن متوافرةً أصلًا في المنطقة. وصل القمح والشعير في فترة مبكرة، ووصل الدجاج قبل القرن الخامس قبل الميلاد، ثم وصل الخوخ والمشمش في فترة متأخرة عن ذلك، ووصل الأرز في فترة التأثُّر بالحضارة العربية (بعد عام ٧٠٠ ميلاديًّا)، أما الذرة فقد وصلَتْ بعد كولومبس. وفي العالم القديم، كان لأنواع الطعام الوافدة حديثًا تأثيرٌ مستمر.

كان للإغريق والرومان اتصالٌ كبير مع الشعوب الآسيوية والأفريقية في كل الفترات، وأخذوا الكثيرَ عن جيرانهم الشرقيين على وجه التحديد. وتزامَنَ شعورٌ بالقلق مع دخول أصناف الطعام الحديثة هذه نقلًا عن الفرس والمصريين، على سبيل المثال. ويذكر بلوتارخ هذا الموضوع في كتابه «حياة الإسكندر الأكبر»؛ إذ ذكر بلوتارخ أن ذلك الملك المحارِب المقدوني الشاب — الذي أدَّتْ فتوحاتُه التي وصلت حتى الهند إلى زيادة الاتصال ببلادٍ كانت تنتج حيواناتٍ ونباتاتٍ وتوابلَ غير معروفة — كان لديه تحفُّظاتٌ بشأن «وسائل الترف»؛ وهذا موضوع معقَّد، كما سنناقشه لاحقًا. يخبرنا بلوتارخ (٢٢) أن الإسكندر الأكبر كان معتدلًا في تناول الطعام، وكان يتجنَّب إلحاحَ أمه عليه لتناوُل المزيد من الكعكات والاستمتاع بالطعام الذي يُحضِره الخبَّازون والطهاة. وكان الإسكندر يصرِّح بأن أفضل الطهاة هو تمشية مسائية وفطور خفيف. وكان اعتدال شهية الإسكندر يتناسب مع الصورة الإيجابية لفاتح العالَم التي كان بلوتارخ يحاوِل جاهدًا أن يرسمها، نقلًا عن تراث تاريخي يزخر بقصصٍ تتحدَّث عن إفراط الإسكندر في احتساء الخمر وانغماسه في المُتَع الجسدية. ولا بد من تقديم نبذة عن الكعكات والطهاة وضبط الشهية.

إنَّ الكعكات في العالَم القديم ربما تأتي في صورة قرابين صغيرة مكوَّنة من الدقيق والعسل وتُقدَّم للآلهة، أو منتجات بسيطة كان ينصح بها السياسي الروماني المناصِر للتقشُّف كاتو الأكبر، أو أهم جزء من الوجبة، وذلك بحسب وجهةِ نظرٍ وردَتْ عن الفرس في كتاب هيرودوت (١، ١٣٣). وكان للكعكات أشكالٌ شتى ومجموعةٌ متنوعة من الدلالات الثقافية، كما هي الحال في العالَم الحديث. (قارِنْ — على سبيل المثال — بين كعكة العلف الحيواني، وكعكة أعياد الميلاد ومحتويات فطيرة مُحلَّاة ومحشوَّة على الطريقة الفرنسية.) غالبًا ما كان الخبَّازون والطهاة في المطابخ القديمة من العمالة المتواضِعة الحال، ولكنْ كان يرتبط وجودُهم بطقوس تناوُل الطعام ذات المستوى الراقي. ويربط ليفي بينهم وبين وسائل الترف الجديدة التي طرأَتْ على روما في القرن الثاني قبل الميلاد، بينما يربط أفلاطون بينهم وبين وسائل الترف المجلوبة التي دخلَتْ أثينا في القرن الرابع. كان القادة العسكريون يستعينون بالطهاة أيضًا عند خروجهم في حملات، وخصوصًا الفُرْس في عام ٤٨٠ قبل الميلاد (هيرودوت ٩، ٨٢)؛ فكان هؤلاء الحرفيون المَهَرة المتخصِّصون في شئون الطهي والمطبخ موظفين يعملون في أماكن حارة تتصاعد فيها الأبخرة والدخان، وكانوا في الوقت نفسه متعهِّدِي تقديمِ الطعام المترف.

وكثيرًا ما نجد المصادر القديمة تغلب عليها مناقشةُ مخاطر الترف التي تتضاعف في جموحٍ انطلاقًا من الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل المسكن والملبس والطعام. لطالما كان أفلاطون أحدَ عوامل التأثير القوية للغاية في هذا الجانب من الفِكر الغربي، ومن الآثار التي تركها وأثَّرَتْ في الفلسفة لاحقًا وفي المسيحية نظرتُه للفرد، التي هي أقرب إلى الازدواجية منها إلى الشمولية؛ فمن وجهة نظر المؤمن بمذهب الازدواجية، يجب إحكام السيطرة على الجسد حتى يتسنَّى للعقل والروح التركيز على الشئون الأكثر أهميةً بدلًا من التركيز على النشوة العابرة التي تأتي بالطعام والمتعة الجنسية. وأقرَّ أفلاطون نفسه بدور الطعام والخَمْر في العادات الاجتماعية والدينية، كما يشهد بذلك كتاباه «حوار المأدبة» و«القوانين». وفي كتاب «طيمايوس» قدَّمَ نموذجًا للجسد وللعالَم، وأصبح الكتابُ من الأعمال المهمة التي تأثَّرَ بها علماءُ الطب الذين جاءوا لاحقًا مثل جالينوس.

للطب دور مهم في هذا الكتاب؛ إذ يحتوي على نظرياتٍ قديمة عن التغذية ونظرياتٍ عن أثر الطب في الثقافة. يعزِّز الفِكْرُ الطبي الرأيَ القائل بأن الطعام كانت له أهميةٌ ثقافية لدى القدماء تضاهِي دورَه في الثقافة الصينية؛ وهذا الرأي الشامل يختلف عن الآراء المتعلِّقة بأهمية الطعام من منظور فن تذوُّق الطعام و«أسلوب الطهي المميَّز في بلدٍ ما»، مثل أسلوب الطهي الفرنسي الذي ظهر على مدى القرنين الماضيين. في دراستنا هذه عن الطعام في الثقافتين الإغريقية والرومانية نعتمد على كتابات جالينوس وبلينوس وأثينايوس، وهم من المؤلِّفين القدماء البارزين، ومن الممكن أن نطلق على كلٍّ منهم لقب مؤلِّف «موسوعي» من حيث المجال والمنهج. رجعنا مرارًا إلى نوعٍ من الموسوعات الحديثة المختلفة بعض الشيء، وهي بالتحديد موسوعة «عن الطعام والطهي» من تأليف هارولد ماكجي، و«لاروس جاسترونوميك»، و«دليل أكسفورد للطعام».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤