مقدمة الفصل السابع

إنَّ أهمية اللحوم والأسماك في النظام الغذائي اليومي تعود في جزءٍ منها إلى الوفرة، وفي جزءٍ آخَر إلى التفضيل الشخصي. وفي كل الأحوال، نجد الفكرة القائلة إن من علامات الرجولة والخشونة تناوُل اللحوم دون الاهتمام بطريقة تحضيرها، وإن اهتمام المرء كثيرًا بطريقة تتبيل سمكة البوري الحمراء أو سمكة القاروس أمرٌ ينتقص من رجولته، وإن من دلائل الخشونة أن يلتهم المرءُ كلَّ ما يُوضَع أمامه بصرف النظر عن طبيعته. وربما كان الإغريق يعشقون الأسماك حقًّا، ولكن أبطال المعارك كانوا يأكلون اللحوم.

وحتى في الوقت الحاضر، نجد أن الطهي المعقد وما يحظى به من تقدير واستحسان — في الولايات المتحدة على سبيل المثال — يرتبط، فيما يبدو، بسكان كاليفورنيا والمهاجرين من بلدان البحر المتوسط وبلدان سواحل المحيط الأطلنطي أكثر من ارتباطه بالمنحدرين من المستعمرين في ولايات الغرب الأوسط. ولعلَّ ذكرياتنا عن الطريقة التي يطهو بها ستوبوت في المسلسل الأمريكي «روهايد» أثَّرَتْ في المشهد، ولكن توجد قطاعات كبيرة من وسط أمريكا ترضى بشريحة لحم بقري وبطاطس مقلية، وربما معها طبق صغير من السلاطة أو مشروب كوكاكولا أو جعة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن السواحل الحضرية هي قِبْلة الاهتمام الفعلي بالطهي، ونقطة البداية للطهي المعتمد على المزج بين طرق الطهي الآسيوية ومصدر الإلهام لأفكار الطهي الجديدة؛ وهي أيضًا النقطة المحورية لإحداث نهضةٍ في صناعة النبيذ الرفيع المستوى وتقدير قيمته.

وفي بريطانيا ينحصر الشغف بالطهي الراقي في مدينة لندن أساسًا، أما الريف فيُنظَر إليه على أنه الجهة المورِّدة للمنتجات التقليدية التي تتطلَّب رُقِيَّ وأناقةَ السلع الأجنبية المستوردة، مثل التوابل والفواكه النادرة، حتى تتحوَّل إلى شيءٍ أرقى وأكثر تعقيدًا. ويُنظَر إلى أهل لندن على أنهم أقل حزمًا، وأنهم أقل تشبُّعًا بالطِّباع الإنجليزية، أيًّا كان ما يعنيه ذلك. وتحمل كل هذه الروايات — شأنها شأن كل الافتراضات الأخرى — شيئًا من الحقيقة بالإضافة إلى قدرٍ كبيرٍ من الحسد والأفكار المغلوطة.

ربما نجد روابطَ ذهنيةً بين كلٍّ من قدرةِ الذوَّاقة على التمييز بين الفروق الدقيقة في النكهة والقوام — وهي مهارة تتحقَّق بالممارسة وكذلك بامتلاك حاسة تذوُّق رفيعة — وفكرةِ الانغماس في الملذات والإسراف والضعف الشخصي وانعدام ضبط النفس. إنَّ تقدير الطعام الراقي يصبُّ في الخانة نفسها — إلى جانب الشعر والأدب والفنون — إذ إنه يزدهر بصفته شيئًا لا يحظى بإقبال كبير إلا عند الاطمئنان لتوافر الثراء والاستقرار والأمان.

من اللافت للنظر أن مَن يطهون الطعامَ عادةً يكونون من الرجال ويتَّسِمون بمظهر رجولي مبالغ فيه. حين نأخذ جولةً في مطابخ بريطانيا، سنجد طهاةً يبدون أقربَ إلى لاعبي كرة قدم مُجهَدين منهم إلى مصفِّفي شعر، وكلما كنتَ أنيقًا وتميل لتناول الطعام برِقَّةٍ، كان من الأرجح أن تَلْقَى رجلًا قويًّا في المطبخ؛ فأهم طاهيَيْن لدينا في السنوات الأخيرة — جوردون رامساي وماركو بيير وايت — معروفان بأسلوبهما الصارم والمنضبط والمغامر في المطبخ.

غالبًا ما كان الطعام الراقي آنذاك — مثلما هو في الوقت الحاضر — حِكْرًا على الموسرين؛ فمَن كانوا يأكلون أطعمةَ الباعة الجائلين والأطعمةَ النشوية الأساسية كانوا سيزدرون مثل هذا التدليل والترف، وكانوا سيشعرون بالطبع بشيءٍ من الحسد. وكان الاعتدال وضبط النفس عند تناول الأسماك واللحوم — وهي الأطباق الإضافية المكملة للوجبة — بين الطبقات الثرية هو السلوك النموذجي؛ أما مَن كانوا يأكلون أكثر مما هو متوقَّع، فكان يُنظَر إليهم على أنهم نَهِمُون وغير مهذَّبين. ويساعد هذا في إيضاح الحل الأمثل للضغوط المتعارضة، وهو إظهار أن المرء غنيٌّ إلى حدٍّ يمكِّنه من فهم الطعام الطيب وتقديره، ولكنه يتمتع بالاعتدال وضبط النفس اللذين يمكِّنانه من تقليلِ حدِّ التمادي في إشباع شهيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤