مقدمة الفصل السادس

تجارة النبيذ الحديثة يشوبها الزهو والعجرفة، وتنتابها سخافاتُ الوصف عند محاولة المقارنة بين أنواع نبيذٍ مختلفة وتقييمها. ويُعزَى هذا جزئيًّا إلى المفردات التي لا تكفي لوصْفِ أيِّ فروقٍ في النكهة، بالإضافة إلى الفارق الهائل في تكلفة أنواع النبيذ المرغوب فيها والنادرة بالمقارنة بالأنواع المتوافرة التي تُنتَج على نطاقٍ واسعٍ. ومع ذلك، فإن الميزات النسبية التي يتَّسِم بها نوعٌ معين من النبيذ مقابل نوعٍ آخَر كثيرةٌ للغاية، وتكفي لأنْ تملأ مكتبةً من الكتب والمجلات.

ونجد في الفترة الزمنية التي يتناولها هذا الكتاب من العصور القديمة إشاراتٍ متفرقةً إلى وجودِ أنواعٍ من النبيذ، منها ما هو أفضل ومنها ما هو أسوأ، فضلًا عن تأملاتٍ متفرقة في الجودة الممتازة للنبيذ المصنوع في ليسبوس على سبيل المثال، وبمرور الزمن تتفوَّق أنواع النبيذ القادمة من مناطق معينة بميزاتٍ إضافية. ولكن، يبدو عمومًا أن النبيذ من المشروبات المحلية وليس المُستورَدة، على الأقل في الأماكن التي كانت تستطيع إنتاج النبيذ محليًّا. ربما يكون أركستراتوس قد تحدَّثَ بلهجةِ العالِم بحقائقِ الأمور عن أفضلِ مكانٍ وأفضلِ وقتٍ من العام للعثور على سمكة القاروس، ولكن لم يكن يوجد نظير لروبرت باركر في إرشاد الطبقات المُغرَمة بشرب المسكرات كما هي الحال في الوقت الحاضر، ويمكن مقارَنة ذلك بالمناطق المُنتِجة للنبيذ حاليًّا. قد يكون من الصعب العثور على نبيذ البورغندي (نسبةً إلى منطقة البرغندي الفرنسية) في مدينة بوردو الفرنسية، والعكس صحيح. ولكن، من الأسهل بكثيرٍ العثورُ على مثل هذه الاختيارات في باريس ذات الطابع العالمي الذي يجمع كل الأجناس؛ إذ تقع باريس في أقصى الشمال على نحوٍ يحدُّ من قدرتها على إنتاجِ أيِّ شيءٍ محليًّا للدخول به في سباق المنافسة.

ومن الصعب تقدير أي فروق في الشكل والنوع بين النبيذ آنذاك وحاليًّا. يقال إن الكثير من أنواع العنب اليونانية تربطه صلةٌ مباشِرة بالعصور القديمة، ولكن لا بد أن ألفَيْ عامٍ من الزراعة قد غيَّرَتْ قطعًا من محاصيل العنب التي تُزرَع وأنواعها. كان النبيذ يُخزَّن ويُنقَل في جِرار كانت تُصنَع بحيث تكون مقاوِمةً للماء بفضل طبقةٍ داخليةٍ من الراتينج، الذي كان يؤثِّر على النكهة مثلما تُضفِي الريتسينا نكهةً على الخمور القادمة من اليونان حاليًّا. وهذا الإفساد الحميد شائعٌ في الكثير من المشروبات الكحولية بالطبع، ولعلَّ نكهة البلوط التي تُضفِيها طريقةُ التخزين التقليدية التي تستخدِم البراميلَ يُعزَى إليها جزءٌ من جاذبية الكثير من أنواع النبيذ والويسكي والبراندي.

وبالمثل يؤدِّي تخفيف أنواع النبيذ، أو حتى تَحْلِيتها بشراب العنب، إلى إضعافِ أيِّ فروقٍ بين كمياتٍ مختلفة من النبيذ؛ فالمهم فيما يبدو هو الآثارُ المترتبة لا التفاصيل الدقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤