الفصل الخامس

اللحوم والأسماك

بيزنطة هي الموطن الأصلي لأسماك التونة المُخَلَّلة في موسمها، وهي أيضًا الموطن الأصلي لسمك ماكريل المياه العميقة وسمك أبو سيف السمين، أما بلدة باريوم فهي من الأماكن التي تُربَّى فيها أسماكُ الماكريل الإسبانية. وسيجلب أهالي بروتيوم أو كامبانيا، عبرَ أمواج البحر الأيوني، شحنةً من مدينة قاديس أو تارانتوم المقدسة، وهي عبارة عن قلوب التونة العملاقة، المعبَّأة بإحكامٍ في جِرارٍ وتنتظر بدايةَ العَشاء. (نقلًا عن كاتِبٍ يُقال إنه هِسيود)

كثيرًا ما كانت اللحوم والأسماك من الأطعمة المرتبطة بالمكانة الرفيعة في العصور القديمة؛ إذ كانت تربية الحيوانات أعلى في تكلفتها من زراعة الحبوب والنباتات، ولم تكن الحيوانات المُخصَّصة للأكل وفيرةً في بلدان البحر المتوسط قطُّ كما كانت الحال في أوروبا الشمالية. وكانت الأسماك وفيرة، لكن لم يكن من الممكن ضمان وصول أسراب الأسماك في الأوقات المتوقَّعة، وكانت الأسماك الكبيرة المنفردة، مثل سمكة الترس وأنواع معينة من أسماك الأبراميس، مرتفعةَ الثمن ويصعب صيدها. وكانت حيوانات المزارع كثيرًا ما تُستخدَم لأغراض أخرى غير الذبح؛ إذ كانت تُستخدَم للحصول على الألبان والصوف، ومنها ما كان يُستخدَم للقيام بالأعمال مثل الثور. وعند ذبحها للحصول على الطعام، كان ذلك يأتي في إطار طقسِ تقديمِ القرابين، كما ناقشنا ذلك في الفصلين الأول والثالث. وكما رأينا، لم تكن الأسماك عادةً جزءًا من طقوس تقديم القرابين؛ ومن ثَمَّ كانت ترتبط بالقوى التجارية، وتحديدًا الأثرياء القادرين على الإنفاق بسخاءٍ (راجع: جالانت ١٩٨٤، وديفيدسون ١٩٩٧، وويلكنز ٢٠٠٠).

كانت اللحوم مرتفعة الثمن نظرًا لتكاليف إنتاجها، وكان استهلاكها بكمياتٍ كبيرة دلالةً على الثراء؛ ومن ثَمَّ، كانت تُقدَّم أطباقُ اللحوم في حفل زفاف كارانيوس وفي عشاء تريمالكيو. ولا يعني ذلك أن الفقراء لم يكن بوسعهم شراء اللحوم؛ إذ كان ذلك ممكنًا عن طريق القرابين الجماعية، وعن طريق أطباقٍ تشبه البيتزا في العصر الحديث كانت تُستخدَم في إعدادها كميةٌ صغيرة من اللحوم بالإضافة إلى كمية كبيرة من الحبوب والخضراوات. ويبدو أن بائع السجق في مسرحية «الفرسان» من تأليف أريستوفان كان يبيع كمياتٍ صغيرةً من اللحوم (وهو ما يأتي على النقيض من بيع الحيوانات الكاملة المُخصَّصة للمآدب الفاخرة)، وكانت اللحوم تباع كذلك في المقاصف الصغيرة المقامة عند مفارق الشوارع في بومبي بكثرةٍ إلى حدٍّ ما. وأُتِيحت فرصٌ كثيرة لحفظ اللحوم، سواء السمك المُجفَّف في الهواء أو المُدخن أو المُملح أو اللحم المُملح والمُجفف. وتشير المصادر الرومانية إلى تصنيع كمياتٍ من لحم الخنزير المُدخن والُمقدَّد (ربما بكمياتٍ قليلة)، كما تشير النصوص الإغريقية والرومانية من كل العصور بكثرة إلى السمك المُملح، سواء أكان على هيئة قِطَع سميكة أم كان سمكًا متخمِّرًا على هيئة صلصة تُعرَف باسم «جاروم». وقد عُثِرَ على الحاويات المُخصَّصة لتصنيع صلصة «جاروم» في الساحل الشمالي للبحر الأسود وفي إسبانيا والمغرب وفي مدينة بومبي على وجه التحديد. ولم يكن الحفظ يساعد في إطالة عُمْر الطعام فحسب، بل كان يساعد أيضًا في توسيع نطاق توزيعه، وكان يعدِّل من نكهاته. وهكذا، استُخدِمت النكهةُ المضافة في لحم الخنزير، ولم تَعُدْ عصاراتُ السمك بعد التخمُّر لها طعم السمك.

وكان بعض السلع المُصنَّعة يتم تبادُله تجاريًّا بناءً على تميُّزه. يقول استرابو إن أفضل أنواع لحم الخنزير المملح كانت تأتي إلى روما من فرنسا (٤، ٣، ٢)، وعلى نفس المنوال ذكرَتِ المصادرُ الأخرى الأسماكَ المملحة المستوردة من منطقة بنطس وإسبانيا، وكان يُنقَل في جِرار كالتي كانت تُنقَل فيها تلك السلعة الأخرى الناتجة عن التخمير؛ أي الخَمْر. وتتوافر في تلك المنتجاتِ الثلاثةِ الجودةُ؛ ومن ثَمَّ القيمة التجارية التي كانت تتَّسِم بها بعض الأطعمة المحفوظة. ويُعَدُّ حفْظُ فائضِ الإنتاج لأوقات الحاجة من الاستراتيجيات الضرورية التي يستخدمها المزارعون الريفيون وغيرهم من المنتجين، وذلك بهدف حماية أنفسهم من أزمات نقص الطعام. ولكن العمليات الكيميائية، مثل التمليح والتخمير، تُضفِي أيضًا نكهاتٍ وقواماتٍ جديدةً مستحسنة في حدِّ ذاتها بسبب طعمها وخواصَّ أخرى؛ فجالينوس مثلًا يتحدَّث باستحسانٍ عن المخللات بسبب خواص الملح والخل.

واللحوم المحفوظة أيضًا من أمثلة اللحوم التي لا تُؤكَل عند تقديم القرابين؛ فكمية كبيرة من اللحوم التي كانت تُؤكَل في العصور القديمة كانت نتاجَ عملياتِ الذبح عند تقديم القرابين. وكثيرًا ما يدَّعِي البعض أن كل اللحوم الإغريقية كانت نتاجَ هذه الطريقة المتعلقة بطقوس تقديم القرابين، وكانت كميات كبيرة من اللحوم الرومانية أيضًا ناشئة عن تقديم القرابين إلى الآلهة. ومن الصعب أن نجزم بشيء في هذا الصدد؛ نظرًا لأن بعض الأدلة ذو طابع لغوي (لا تدلُّ المصطلحاتُ الدينية المتعلِّقة بالذبح بالضرورة على حدوثِ ذبْحٍ في حرم الأماكن الدينية)، ونظرًا لتنوُّع المدن محل البحث في هذا الكتاب. ولكن القاعدة العامة هي استهلاك كمياتِ لحومٍ أقل في العصور القديمة بالمقارنة بكميات اللحوم المستهلكة حاليًّا في غرب أوروبا والولايات المتحدة؛ وأن معظم تلك الكميات كانت في الكثير من العصور ناتجةً عن شعائر تقديم القرابين؛ وأن الأغنياء كانوا قَطْعًا يأكلون كميات من اللحم أكثر مما يأكله الفقراء. وفيما يتعلَّق بالنوع الاجتماعي، يفيد دليلُ الحضارة المينوية الذي استشهدنا به في الفصل الأول أن بعض الرجال في العصر البرونزي كانوا يأكلون كمياتِ لحمٍ أكثر ممَّا يأكلها النساء.

ويبدو أن المستهلكين القدماء — المستهلكين الإغريق على وجه التحديد — كانوا يأكلون مجموعةً أكثر تنوُّعًا من الحيوانات مقارَنةً بما يأكله المستهلكون حاليًّا. وكانوا لا يأكلون اللحمَ البقري إلا في الاحتفالات الكبرى على مستوى المدينة، وكانت اللحوم الأساسية هي لحم الخنزير، بالإضافة إلى قليلٍ من لحم الضأن ولحم الماعز. وكانوا يستمتعون بالأنسجة المختلفة لكل جزءٍ من تلك اللحوم أكثر ممَّا عليه الحال في بريطانيا والولايات المتحدة في العصر الحديث. كانوا يأكلون كلَّ أنواع الطيور فضلًا عن الثعالب والقنافذ، ويبدو أن الأطعمة المُحرَّمة كانت نادرةً (جارنسي ١٩٩٩). ومع ذلك، كانت هناك أطعمة يفضِّلها الناسُ، وأطعمةٌ أخرى لا يفضِّلونها.

ويُسجِّل المؤلف التابع لمدرسة أبقراط لبحث «الحمية ٢» قائمةً باللحوم تشمل ما يأتي (٤٦): اللحم البقري ذا الألياف القوية، ولحم الماعز، ولحم الخنزير والخنازير الصغيرة، ولحم الضأن الصغير، والحمير والكلاب، والجِرَاء، ولحم الخنزير البري، والغزال، والأرنب البري، والثعلب، والقنفذ. وتتدرج هذه القائمة من حيوانات المزرعة إلى الحيوانات البرية، وتصل إلى آخِر حدود النظام الغذائي البشري في حالة الكلاب والجِرَاء. ويستفيض جالينوس في الحديث عن تحديد حدود النظام الغذائي البشري؛ ففي الجزء الثالث من كتابه «عن قوى الأطعمة» يصف لحمَ الخنزير بأنه أهم طعامٍ مغذٍّ من بين كل الأطعمة، ويليه اللحم البقري ولحم الماعز، مع تحفظاتٍ بخصوص لحم صغار الحيوانات، ثم يأتي لحم الضأن الصغير والأرانب البرية، ويليه لحم الحمير البرية. ويرى أن الحمير العجوزة غير مناسبة بالمرة (٣، ١)، «مثل لحم الخيول والجِمال؛ وتلك اللحوم يأكلها مَنْ هم أشبه بالحمير والجمال شكلًا وموضوعًا!» ويقول إن لحم الدِّبَبة والأُسُود والفهود أسوأ. يضيف جالينوس: «أما بخصوص الكلاب، ما الذي يجب أن أضيفه أيضًا؟ في بعض الأماكن يأكل الكثيرون الكلابَ الصغيرة المكتنزة، وخصوصًا المخصِيَّة. وفضلًا عن الكلاب، يأكل الكثيرون لحمَ الفهود ولحمَ الحمير أيضًا، حين تكون بحالة جيدة، مثل الحيوانات البرية؛ وهم لا يأكلونها فحسب، بل إن بعض الأطباء يستحسنونها. وفيما بيننا، كثيرًا ما يأكل الصيادون لحمَ الثعالب في الخريف؛ إذ يعكفون على تسمينها حاليًّا بإطعامها العنب.»

وأنواع اللحوم كثيرة، ولكن جالينوس لا يحدِّد أين تُؤكَل — على سبيل المثال — الجِمال أو الفهود. ويذكر جالينوس في مواضع أخرى أن الجِمال كانت تُؤكَل في الإسكندرية؛ ولذا لا بد أن ننسب بعض هذه العادات إلى أماكن معينة من الإمبراطورية الرومانية، فالجِمال تُؤكَل في مصر وربما بلاد الرافدين، والفهود تُؤكَل في أصقاع بعيدة. ويذكر هيرودوت عادةَ أكلِ الجِمال (١، ١٣٣، وهو ما يستشهد به أثينايوس في مناقشته للوجبات الفارسية) في سياق احتفالات أعياد الميلاد: «في هذا اليوم، يقدِّم الأغنياء لحمَ الثيران والحمير والخيول والجِمال بعد شوائها كاملةً في الأفران. أما الفقراء، فيقدِّمون الحيوانات الصغيرة ذات الحوافر.» يشير هيرودوت إلى اختيار يوم مميَّز — وهو أمرٌ غير معتاد من وجهة نظر الإغريق — والحيوانات غير المألوفة وطريقة الطهي الفارسية التي تُطهَى فيها الحيوانات كاملةً دون تقطيع (مهما بلغ كبر حجمها)، على العكس من عادة الإغريق في تقطيع جسم الحيوان في شعائر تقديم القرابين، وذلك قبل طَهْيِها. ويذكر هيرودوت أوجه الاختلاف هذه دون أن يضيف تعليقًا ينمُّ عن الازدراء، كدَأْبِه دومًا. ويسخر أريستوفان في مسرحيته «الأخارنيين» — تماشيًا مع الكوميديا الأثينية — من العادة الفارسية المتعلِّقة بطَهْي الحيوانات كاملةً دون تقطيع. أما جالينوس، فيرفض لحم الجِمال دون أن يحدِّد هُوِيَّةَ مَنْ يأكلونه، وذلك في إطار محاولته لتعيين حدود النظام الغذائي لدى الرومان والإغريق؛ وهو بذلك يقدِّم كدَأْبه دومًا وجهةَ نظرٍ من وسط الإمبراطورية، وذلك من الناحية الجغرافية؛ فالأراضي الرومانية أصبحت في هذه المرحلة تشمل أجزاءً من صحاري مصر وبلاد الرافدين؛ ولذلك كان الإتيان على ذِكْر عادةِ أكْلِ الجِمال وإدراجها في نصٍّ من العصر الإمبراطوري أمرًا متوقَّعًا، حتى إذا لم يُوْصِ بها طبيبٌ يكتب في روما أو في موطنه بيرغاموم (التي كانت بأكملها جزءًا من العالم الإغريقي والعالم الروماني لمئات السنين). ومن الممكن أن نجد اهتمامًا مماثلًا بالِجمال في العصر الإمبراطوري في وصفٍ لموكب بطليموس فيلاديلفوس، يستشهد به أثينايوس من كتاب «الإسكندرية» من تأليف كاليزينوس الرودسي (راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب). وكانت الجمال المُحمَّلة بالتوابل من الشرق جزءًا من مظاهر التباهي الملكي بالثراء واحتفالات عيد ديونيسيا، وكان الملوك المصريون يستوردونها من الشرق.

ولم يتحدَّد مدى القُرْب المكاني لعادةِ أكْلِ الكلاب من موطن جالينوس، ولكنَّ عادةَ أكْلِ الثعالب هي فقط التي ينسبها جالينوس إلى موطنه ميسيا في غرب تركيا.

وعلى المنوال نفسه، يرفض جالينوس عادةَ أكْلِ الثعابين وحشرات الخشب بصفتها عادةً مصريةً، وليست إغريقية (٣، ٢). كان الإغريق والرومان يأكلون حشراتٍ معينة وبالتحديد الجراد (راجع الفصل الثاني). رأينا في الفصل السابق أن النظام الغذائي كان يعتمد أساسًا على الحبوب والنباتات القابلة للأكل، وكانت الحدود الفاصلة بين الأطعمة القابلة للأكل وغير القابلة للأكل كثيرًا ما تتداخل، مما أدَّى إلى فحصها بعناية، وظهر ذلك في النظام الغذائي للريفيين في الشهور العِجاف في ربيع بلدان البحر المتوسط.

واللحم من موضوعات البحث المهمة على وجه التحديد؛ وذلك لعدة أسباب؛ فاللحمُ مصدرُه حيواناتٌ ذات إحساس ووعي (وهو موضوع نناقشه باستفاضةٍ في الفصل السابع). ولِلَّحم أهميةٌ دينية كبيرة، وهو ما ناقشناه في الفصل الثالث. ويرتبط اللحم في الكثير من الثقافات بالمكانة الاجتماعية، ويرتبط تحديدًا بالرجال. وهو نادر في بلدان البحر المتوسط بالمقارنة مع بلدان شمال أوروبا وقارة أمريكا الشمالية. وكانت الأسماك — كما سنرى — ترتبط بعاداتِ تناوُل الطعام الفاخر في الكثير من النصوص القديمة، ولكن اللحم كان أيضًا من الأطعمة الفاخرة لدى معظم الناس، وإنْ كان طعامًا فاخرًا تُجِيزه الشعائرُ الدينية. وكان اللحم رمزًا للسلطان والثراء. ومن الملاحظ أن المدن الإغريقية، مثل أثينا، ذات الطبيعة الجغرافية الجافة والصخرية نسبيًّا لم تكن مناسبةً لإنتاج الماشية، ومع ذلك كان المواطنون في القرنين الخامس والرابع يذبحون مئات الرءوس من الماشية في احتفالات المدينة لاستعراضِ ما يتمتع به نظامُ الحكم الديمقراطي من ثراءٍ وسلطان. كانت الماشية تُستورَد من مناطق مناسبة لتربية الحيوانات، وتعكس اثنتان منها — يوبيا وبيوتيا — ارتباطًا بالماشية يتضح من الاسميْن. وبالمثل، كان معروفًا عن أبطال هوميروس أكلُ اللحم البقري المشوي طوالَ مدة حصار طروادة الذي دام عشر سنوات، وكانوا يستمدون القوةَ من هذا الغذاء الغني بالبروتين والمرتفع الثمن الذي كان نادرًا ما يُتحصَّل عليه خارج الشِّعْر الملحمي. وكان المواطنون الأغنياء في مقدونيا يقدِّمون عدة أطباق من اللحم في الوجبة الواحدة، كما في حفل زفاف كارانيوس الذي ورد وصفٌ له في الفصل الثاني. وفي روما، كثيرًا ما تُذكَر أطباق اللحم في أوصاف المآدب؛ ومن الممكن أن نقارن بين أطباق اللحم الكثيرة التي قدَّمها البطل الهزلي تريمالكيو في نص بيترونيوس — مثلًا — وبين الأدلة الأثرية المأخوذة من الموقع الأثري سكولا بريكونوم في روما التي تشهد على وجودِ إنتاجٍ كبير من اللحوم (بارنيش ١٩٨٧). ربما ينبغي وصف إيطاليا بأنها كانت بمنزلة تكساس العالم القديم، ويصفها المؤرخ الإغريقي القديم هيلانيكوس هكذا إلى حدٍّ ما (الشذرة ١١١) في اشتقاقه للاسم «إيطاليا» (وكان الاسم يشير إلى منطقةٍ في القرن الخامس قبل الميلاد أكثر محدوديةً من إيطاليا كما نتصوَّرها حاليًّا) من الكلمة الإيطاليقية/اللاتينية «فيتولوس»، ومعناها «عِجل»، ويذكر فارو هذا الاشتقاق أيضًا في كتابه «عن الزراعة». يبدو أن اللحم كان من العناصر المهمة في غذاء الجيش الروماني (ديفيز ١٩٧١)، ومن اللافت للنظر ظهورُ المزيد من اللحوم أيضًا في الأوصاف المثالية لعادات تناوُل الطعام البسيطة، التي كان من المُتصوَّر أن الناس كانوا يتبعونها في عصورٍ سابقة، ويأتي فيها أن الريفي القوي البنية إبَّان عصر الجمهورية في روما كان يقتات على طعامٍ بسيطٍ يشمل لحمَ الخنزير المُقدَّد وغيره من أنواع لحم الخنزير المحفوظ. وعلى النقيض من ذلك، كثيرًا ما تصف التصوراتُ المثالية الإغريقية عن الماضي وعن الحياة الريفية النقية أسلوبَ حياةٍ نباتيًّا. ويقدِّم كتابُ أفلاطون «الجمهورية» مثالًا على هذا النوع.

fig18
شكل ٥-١: كان الجَمل يُؤكَل في مصر — مع أنه من الدواب المُخصَّصة لحَمْل الأغراض — وفي أجزاء من الإمبراطورية الفارسية. وهو من حيوانات الأضاحي في الإسلام، ولكنه مُحرَّم على اليهود في كتاب سِفْر التثنية. ويرفض جالينوس لحمَ الجمال، وذلك فيما يبدو حين ذكَرَه وهو يشير إلى مساحةٍ تمتد في أنحاء إمبراطورية تضمُّ الشرقَ الأوسط، ولكن في الوقت نفسه وهو يُفرِّق بين ما هو صالح للأكل وما يُؤكَل فعليًّا في وسط إيطاليا واليونان وغرب آسيا الصغرى. ومن الممكن أن نقارن بين هذا ودراسة جالينوس للدولفين الذي يأتي في معظم الفِكْر القديم بصفته الحيوانَ الثديي البحري الأكثر تودُّدًا إلى البشر (ولذلك ربما لا يأكله إلا الشعوب التي تعيش في أماكن بعيدة)، ولكن يُدرِجه جالينوس ضمنَ الأسماك المناسبة للتمليح. (الصورة من مجموعة صور هاردينج كينج EUL MS11، وهي إهداء من مكتبة جامعة إكستر (المجموعات المميزة).)

ومن الصعب قياس مدى انتشار عادة أكل اللحوم، ومن الممكن أن نكون على يقينٍ بأن السواد الأعظم من السكان لم يأكلوا اللحم كثيرًا، وأنهم كانوا يأكلونه على الأرجح في المناسبات الدينية، وأن الحيوان الذي كانوا يأكلونه هو الخنزير غالبًا نظرًا لأنه كان سريع التكاثُر نسبيًّا ورخيصًا إلى حدٍّ ما. وفي دراسة بليغة عن تربية حيوانات المزارع، يستنتج جيمسون (١٩٨٨) أن أكثر حيوانات القرابين شيوعًا كان الخنزير، وأن الخنزير الرضيع كان هو الأكثر انتشارًا من تلك الفئة، وأن كمية اللحم المتاحة للفرد كانت قليلةً عند مقارنتها بالولايات المتحدة أو غرب أوروبا. ويستقي جيمسون الدليلَ الذي يقدِّمه من اليونان في العصر الكلاسيكي القديم والعصور الرومانية. أما بخصوص إيطاليا، فيدَّعِي فارو أن «كلَّ الناس هنا» كانوا يربُّون خنزيرًا في إيطاليا في نهاية عصر الجمهورية، ولم يوضِّح بدقةٍ مدى ما يشمله قولُه «الناس هنا» من مستويات السلَّم الاجتماعي. ولا يوجد ما يدل على أن الخنازير التي كان يربِّيها الناس في الربيع والصيف كانت تُذبَح في أواخر الصيف، وهو نمطٌ منتشر من أنماط تربية الخنازير في أوروبا في عصور لاحقة. وربما كان هذا هو ما يفعلونه، وربما يدعم ذلك الإشاراتُ الأدبية الرومانية إلى قِطَعِ لحم الخنزير المُدخن المحفوظ، المعلَّقةِ في العوارض الخشبية للأسقف المائلة في المنازل الإيطالية. ولكن من الجائز أيضًا أن الخنازير في البلدان الإغريقية الرومانية كانت مُخصَّصة عادةً للمناسبات الدينية، وكانت تُذبَح في أوقات أخرى من العام. ومن المؤكد أن أعدادًا كبيرة من الخنازير كانت تُذبَح في المدن الإغريقية في احتفالاتِ خصوبةٍ معينة، وخصوصًا احتفالات الإلهة ديميتر؛ مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا واحتفال ثيسموفوريا. يعلِّق جيمسون (١٩٨٨) على التزامُن الواضح بين المواعيد الأساسية لذبح الخنازير على مدار العام وبين الاحتفالات الكبرى، ويبدو أن المناسبات الدينية تتزامن مع الدورة السنوية لاختيار الحيوانات المراد استبعادها من القطيع.

fig19
شكل ٥-٢: أحد الأبطال — ربما هرقل — مضطجعًا على أريكةٍ بجوار مائدة من اللحم المُعلَّق بشرائط بطرف المائدة. والصورة مرسومة على وعاء مزج، وكان الرسَّامون يصوِّرون الآلهةَ وأنصافَ الآلهة في وضْعِ تناول الطعام الذي يتَّخِذه نظراؤهم من البشر، وكذلك الموتى. وكانت صورُ الآلهة أيضًا من وسائل المساعدة لتناول الطعام فيما بين مَنْ يأكلون ويشربون. (حصلنا على نسخةٍ من الصورة بإذنٍ من متحف المجموعات الأثرية الوطنية ومتحف جليبتوتيك في ميونخ.)

يقدِّم جالينوس دليلًا على نموذج لتربية الخنازير يختلف عن ذلك النموذج الأوروبي؛ ففي مناقشة عن ثمار البلوط («عن قوى الأطعمة» ٢، ٣٨) — سبق أنِ استشهدنا بها في الفصل الرابع — يذكر أن المجاعة دفعَتْ أهالي الريف (في موطنه ميسيا في آسيا الصغرى) للتخلِّي عن عادةِ تربيةِ الخنازير خلال الشتاء، وكانوا يُضطرُّون لذبحها وأكلها في الخريف. ويذكر بلينوس أيضًا («التاريخ الطبيعي» ٨، ٢٠٥) ميلادَ الخنازير في شهر «بروما»، وذلك في منتصف الشتاء.

تناولنا في الفصل الثالث الأهميةَ الدينية لتقديم قرابين من اللحوم، ويظهر اللحم هنا أيضًا بسبب دوره كمكملٍ غذائي للغذاء الأساسي المُكوَّن من الحبوب، وبصفته طعامًا له مكانةٌ تَفُوق بكثيرٍ الدورَ الذي يسهم به في النظام الغذائي ككلٍّ (راجع فيدز ١٩٩١). وهو من البروتينات المُصنَّفة من الدرجة الأولى؛ ولذلك فهو من المكملات المستحسنة للغاية، ولكنه لا يُتاح بكمياتٍ كبيرة إلا للموسرين، وذلك في مناخ بلدان البحر المتوسط. وكانت أيُّ مدينة ذات حكم ذاتي مثل أثينا تستطيع استعراضَ قوةِ مواردها بذَبْح مئات الرءوس من الماشية في عددٍ من الاحتفالات، وكذلك كان يفعل الحكام الهلنستيون والأباطرة الرومان. وكان عدد الحيوانات في إيطاليا يفوق على الأرجح عددَ الحيوانات في البر الرئيسي لليونان. ومن الصعب تقدير مدى تأثير هذا على عامة الناس، وقطعًا لم يكن توزيعُ اللحوم مُدرَجًا في العطايا التي يمنحها الأباطرةُ إلا بحلول القرن الثالث الميلادي. وأهمُّ النتائج التي ربما ينبغي أن نستنتجها من ذلك أن إيطاليا شهدَت استهلاكَ كمياتٍ أكبر نسبيًّا من اللحوم (ولكنها لم تكن كمياتٍ هائلةً)، وكان معظم استهلاك اللحوم من نصيب الأغنياء. ومما يدل على ندرة اللحوم عمومًا الأوصافُ المناقضة التي تصوِّر السلتيين على أنهم قومٌ يُكثِرون من أكل اللحوم في الأنحاء الشمالية من أوروبا.

ويدل إدراج لحم الخنازير في قوانين الإنفاق على أهميته في التباهي عند الأغنياء. يخبرنا بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» ٨، ٢٠٩) أن منتجات الخنازير كانت توفِّر قدرًا كبيرًا من التنوع في «الغانيا» أو دار تناوُل الطعام، وهو ما يربطه بالطبقات الفقيرة. ولكنه ينتقل بعدئذٍ للحديث عن مأدبة العشاء الرسمية أو «سينا»: «لذا، توجد صفحاتٌ من القوانين التي يُصدِرها الرقباءُ، وأطعمةٌ محظورٌ تقديمها في المآدب الرسمية («سيناي»)، وهي: المعدة والبنكرياس والخصية والرحم وأنصاف رأس الخنزير.» ونجد أن الأوصاف الأدبية للمآدب مثل مأدبة عشاء تريمالكيو في كتاب بيترونيوس ترتبط بالإسراف فيما يبدو؛ إذ يظهر لحمُ الخنزير ومنتجاته في مجموعةٍ من الأطباق؛ ففي هذا الكتاب، نرى أمامنا وصفًا للعبد المُحرَّر الغني السوقي الذي يُقِيم مأدبةً لضيوفه الفقراء تتضمَّن كمياتٍ وفيرةً من لحم الخنزير. وتدل هذه المأدبة على ثرائه، ولكنها قد تدل أيضًا على سوقيته؛ إذ إنه لا يقدِّم في مأدبته — فيما يبدو — إلا النذر اليسير من الأسماك، وكانت الأسماكُ في أماكن أخرى من الثقافة الرومانية من الأطعمة التي يتناولها عِلْيَة القوم. كانت الأسماك تميِّز المطَّلِعين على أنماط تناوُل الطعام الأجنبية عن المواطنين العاديين في الجمهورية ممَّن كانوا يقتاتون على القمح الثنائي الحبة ولحم الخنزير المُقدَّد (كما جاء في قصيدة «الأعياد» ٦ للشاعر أوفيد، التي استشهدنا بها في الفصل الثالث). من الوارد أن تأكيد تريمالكيو على لحم الخنزير لا يدل على التباهي الأنيق بقدرِ ما هو علامة على أصوله الوضيعة.

ويظهر اللحم دومًا في مآدب العشاء الفاخرة في العصور القديمة، وتظهر الأسماك المرتفعة الثمن أيضًا في أماكن معينة، وتحديدًا في أثينا. ولكن اللحم يحتفظ بمكانته المرموقة، فهو القربان الأكبر الذي بوسع إنسانٍ أو جماعةٍ تقديمه إلى معبودٍ ما، وهو طعام الأبطال في ملحمة «الإلياذة»، وهو طعام هرقل كذلك. ولعلَّ هرقل — نصف الإله الشَّرِه ذاك — هو المكافئ الإلهي لميلو، ذلك الرياضي الذي يهوى أكلَ اللحوم (راجع الفصلين الأول والثاني). تذكر الشذرةُ ٦ للشاعر الهزلي يوبولوس أن هرقل يعبِّر عن ازدرائه للخضراوات ولأي شيءٍ خلاف اللحم قائلًا:

سواء أكان هذا الطعام ساخنًا أم مقرمشًا أم في منزلةٍ بين الاثنين، فإنه أهم لأي رجلٍ من الاستيلاء على طروادة. أما أنا، فلم آتِ هنا لأتناول الكرنب أو السيلفيوم أو أطباقًا مُرَّة مدنَّسة أو بصليات. بل أنا معتاد دائمًا على تناوُل ما أعدُّه طعامًا حقيقيًّا يحسِّن الصحةَ ويمنح القوةَ البدنية الكاملة، وهو اللحم البقري مسلوقًا وغير مقطع بكمياتٍ كبيرة، بالإضافة إلى حصة وفيرة من الأقدام والخطم وثلاث شرائح من لحم خنزير صغير مرشوشة بالملح. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)

وتتشابه كثيرًا طريقته في التعبير عن الرفض مع ما قاله أركستراتوس للتعبير عن رفضه للخضراوات (الشذرة ٩، أولسون وسينس ٢٠٠٠)، مع أنه يذكر في قصيدته أن الأسماك — وليس اللحم — هي البروتين المُفضَّل لديه.

وكان المواطنون الأغنياء والفقراء أيضًا بوسعهم شراء الحيوانات البرية. يقول بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» ٨، ٢١٠) إن الخنزير البري أيضًا كان يَلْقَى قدرًا كبيرًا من الاستحسان. ويظهر الخنزير البري في عددٍ من القصص الأدبية القائمة على إحدى رياضات عِلْيَة القوم، وهي صيد الطرائد الكبيرة (راجع ملحمة «الأوديسا» ١٩، وجوفينال ١، وبيترونيوس). ولا بد أيضًا من ذِكْر صيد الغزلان، بالإضافة إلى الأرانب البرية والثدييات الصغيرة، وأهمها حيوان الزغبة الشهير. يتحدَّث جالينوس بإيجازٍ في كتابه «عن قوى الأطعمة» (٣، ١) عن مجموعةٍ من هذه الثدييات التي سبق أن استشهدنا بها في الفصل الأول، وتشمل هذه الثدييات الأرنب وفأر الحقل والزغبة.

كانت الطيور غالبًا هي أكثر أنواع اللحوم المتوافرة أمام المواطنين الفقراء، وكانت الطيور تُؤكَل بكميات كبيرة، ولم يكن الدجاج هو نوع الطيور السائد المُخصَّص للأكل كما هي الحال الآن. وكان يُربَّى بعض أنواع الطيور في أقفاصٍ، وكذلك حيوان الزغبة والأسماك (٣، ٩). ويقدِّم فارو نصائحَ كثيرةً عن تربية الأسماك والطيور الموضوعة في أقفاص. أما جالينوس، فيقول في كتابه «عن قوى الأطعمة» (٢، ١٨) إن «الدجاج» في عصره كان يُسمَّى «طيورًا» فحسب، ممَّا يشير ضمنيًّا إلى أن الدجاج كان نوعَ الطيور الذي من المعتاد تخصيصه للأكل. وكانت الطيور أيضًا جزءًا من التباهي الذي يصبو إليه الأغنياء، وتوجد دلائل كثيرة على ذلك تتعلَّق بالدجاج الحبشي، ويذكر أبيكيوس وآخرون طيورَ البشروش، وكانت تُستورَد طيور التدرج والدراج من البلدان الإغريقية. ويناقش أثينايوس مجموعةً متنوعةً من لحوم الحيوانات في الجزء التاسع من كتابه.

كانت اللحوم توفر البروتينات الأساسية اللازمة للقدماء، وكانت توفر كذلك أشكالًا مختلفة. ويؤكِّد كلٌّ من النصوص الإغريقية والرومانية على وجود فائدةٍ لكلِّ جزءٍ من الأجزاء المختلفة لجسم الحيوان، وقد تكون هذه الأجزاء هي الرأس والآذان والأقدام والكثير من الأعضاء الداخلية. وفي روما، كان الرحم والضرع من الأجزاء المُفضَّلة بوجهٍ خاصٍّ. ويركِّز أبيكيوس على الخنازير العقيمة وغيرها من السمات التي تتسم بها أنثى الخنزير التي أُخِذَ منها الرحم. ونجد أن تنوُّعَ أشكال تقديم اللحوم من السمات التي تربط الإغريق والرومان بعادات تناول الطعام الفرنسية والإسبانية في العصر الحديث، وكذلك عادات تناول الطعام الصينية على وجه التحديد. ولا تهتمُّ البلدان الأنجلوساكسونية مثل بريطانيا والولايات المتحدة بشكل اللحم وقوامه؛ ففي هذه البلدان، تُقدَّم القِطَع الصغيرة من الحيوان على هيئة برجر وسجق. وكان الإغريق والرومان يأكلون الأجزاءَ المحتفظة بشكلها الأصلي من الحيوان، وكذلك السجق وكرات اللحم. يخصِّص أبيكيوس كتابًا بأكمله لوصف بهاء كرات اللحم، وتظهر الكلمة المكافئة لكرات اللحم — وهي «إيسيشيا» باللاتينية — بصفتها عنصرًا يناقشه المدعوُّون إلى المأدبة الواردة في كتاب «مأدبة الحكماء» لأثينايوس. أما الأسماك، فكان يُقدَّم مختلف أجزائها بشكله الأصلي؛ مثل: رأس سمكة الإنكليس البحري الكبير، وبطن سمكة التونة أو لحم ذيلها، وأعجاز أسماك القد بمختلف أنواعها. ونلاحظ هذا الاهتمام في بعض شذرات أركستراتوس، وكذلك في عددٍ من الشذرات المأخوذة من المسرحيات الكوميدية الأثينية، وهي عبارة عن أجزاءٍ من جُمَل حوارية يذكر فيها الأشخاص أطعمتهم المُفضَّلة أو (في أغلب الظن) أكلاتٍ في مأدبة يعكفون على تحضيرها لآخَرين. وفي هذه الشذرات، يُذكَر الكثير من أجزاء الأسماك والحيوانات، بما في ذلك الأعضاء الحيوية وأجزاء الحيوانات المتصلة بتقديم القرابين التي ورد وصفها في الفصل السابق ولكنها أصبحت تباع في السوق فيما يبدو لتصبح متاحةً للشراء في القطاع التجاري. يخبرنا جالينوس في كتابه «عن قوى الأطعمة» عن خواص الأقدام والأخطام والآذان (٣، ٣) والألسنة (٣، ٤)، والغدد مثل الغدد اللعابية وغدد الثدي، والخصية (٣، ٤)، والمخ (٣، ٧)، ونخاع العظم والنخاع الشوكي والأمعاء والمعدة والرحم (٣، ١٢). وهذا الدليل الطبي تدعمه قوائم الأطعمة المأخوذة من المسرحيات الكوميدية الأثينية، مثل الشذرة ٦٣ ليوبولوس:

وبالإضافة إلى ذلك، سيقدِّمون إليك شريحةً من التونة، وأضلاعَ لحم الخنزير، وأحشاءَ جَدْي، وكبدَ خنزير بري، وقِطَعًا من لحم الضأن المقلي، وأحشاء بقر، ورءوس ضأن، والزائدة الدودية لجَدْي، وضرعَ أرنبة برية، وقطعة سجق، وسجقًّا من لحمِ ودمِ الخنزير، ورئة، وسلامى. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)

لا يقل الاهتمام بالتركيب البنيوي للحيوانات عن الاهتمام بنظيره لدى الإنسان. للاطِّلاع على مناقشةٍ عن جسم الحيوان، راجع دوراند (١٩٨٩)، وللاطِّلاع على مناقشةٍ عن جسم الإنسان، راجع الفصل الثامن. لا تقتصر قائمةُ جالينوس عن أجزاء الجسم على الحيوانات ذوات الأربع. في الموضع (٣، ٢٠)، تحدَّثَ جالينوس أيضًا عن أمعاء الطيور وأجنحة الدجاج والإوز وخصي الديوك وأمخاخ الطيور، ويقول إن أقدام كل الطيور ليست صالحة للأكل، ولكنه لا يستطيع الإدلاء بدَلْوه عن غبب الديوك وأعرافها. ولا يكف جالينوس عن سرد مجموعة المكونات التي تليق بطاهٍ صيني متحمِّس إلا في نهاية قائمة أجزاء الجسم هذه.

تُذكَر اللحوم في الكثير من المصادر على هيئة تدرُّج هرمي، وهو ما يتصل بتكلفة الإنتاج. يصف راعي الخنازير في الجزء الرابع عشر من ملحمة «الأوديسا» (وهو جزء يزخر بالكثير من التفاصيل عن استهلاك اللحوم وتربية حيوانات المزارع وتقديم قرابين غير مألوفة) لسيده المتنكِّر؛ ثراءَ أوديسيوس الذي يُستدَل عليه من حجم ما يمتلكه من ماشية وأغنام وخنازير، ويقدِّم لضيفه حيوانًا صغيرَ الحجم نظرًا لانشغال الخُطَّاب الخبثاء بالتهام أسمن الخنازير. يستشهد أثينايوس بفقرةٍ من كتاب «تاريخ الإسكندر الأكبر» من تأليف كليتاركوس، ويأتي فيها أن أهالي طيبة يتَّسِمون بالخسة والبخل فيما يتعلَّق بالطعام؛ لأن الأطعمة التي كانوا يحضرونها كانت عبارة عن «لحم مفروم ملفوف في أوراق نباتية (ثرييا باللاتينية)، وسمك مسلوق، ونوعين من الأسماك الصغيرة، وسجق وأضلاع وحساء بازلاء». ويرى كليتاركوس أن هذه الأطعمة قرابين ضئيلة (تحل فيما يبدو محلَّ اللحم والأسماك الكبيرة) لا تعبِّر عن الأطعمة التي بوسع أهالي طيبة شراؤها.

وبالمثل، ربما يستطيع شخص غني أو مجموعة من الأغنياء شراءَ ثورٍ لتقديمه كقربان (راجع «الأورجيونيس» في الفصل الثالث). كان معظم الناس يقدِّمون خروفًا أو خنزيرًا أو أحد صغار هذه الحيوانات كقربان، وكان ينتشر — على سبيل المثال — تقديم الخنازير الصغيرة كقرابين. وإذا لم يستطع المتعبِّدون تحمُّلَ تكلفة تقديم قرابين من الحيوانات مطلقًا، أو إذا كانت العبادة تتطلَّب تقديمَ قرابين غير الحيوانات، كانت تُقدَّم كعكات من الحبوب وغيرها من النباتات. وبعيدًا عن مناسبات تقديم القرابين، كانت اللحوم ومنتجاتها متاحة للبيع؛ ومن ثَمَّ، نجد أحد المصادر يخبرنا أن أبا إيسخينيس — وهو من أتباع سقراط — كان بائع سجق أو بائع سجق مصنوع من لحم ودم الخنزير (ديوجينيس اللايرتي ٢، ٦٠). وبالمثل، جعل أريستوفان بائعَ سجقٍ الشخصيةَ الأساسية في مسرحيته «الفرسان». ويتضح في المسرحية أن بائع السجق يبيع عدةَ منتجات حيوانية، من الوارد أنها كلها مأخوذة من لحوم القرابين قبل بيعها إلى بائع السجق ليعرضها للبيع بالتجزئة في سوق مدينة أثينا. ويصوِّر أريستوفان بائعَ السجق تصويرًا هزليًّا على أنه ينتمي للطبقة الدنيا من المجتمع، ومن الوارد أن هذه المهنة كانت مهنة وضيعة. ولكن يبدو أن معظم تجار السوق يظهرون في صورة سيئة في النصوص الأدبية، وكان هذا التصوير جزءًا من العلاقات الغريبة التي كانت تجمع النصوصَ القديمة بإنتاجِ الطعام وتوزيعه وتبادُله (ويلكنز ٢٠٠٠، الفصل الرابع). ومن غير الحكمة أن نستنتج من التصوير القديم لباعة السجق أن السجق وغيره من المنتجات الحيوانية لم تكن من الأطعمة المُفضَّلة. ونظرًا للتقدير الذي كان يحظى به شكل الطعام — كما أشرنا فيما سبق — كان الآكلون من كلِّ الطبقات يلتهمون القلب والكلية والسجق المصنوع من لحم ودم الخنزير، بمعزل عن الدور الرمزي الذي تؤديه هذه الأطعمة في طقس تقديم القرابين (الذي جاء وصفه في الفصل الثالث). وكانت هذه الأطعمة بنكهاتها اللاذعة وأشكالها المختلفة مُفضَّلة لدى كل الطبقات، فيما يبدو؛ فهي موجودة في المآدب الفاخرة، وفي كتابٍ لأبيكيوس (وإنْ كان يُنصَح بقراءته بحذرٍ؛ راجع الفصل السابع)، وموجودة أيضًا في أكشاك البيع التابعة لشخصياتٍ أدبية يهجوها المؤلف.

ويبدو أنه كان من النادر في الثقافة الإغريقية أكل اللحم بمعزلٍ عن طقس تقديم القرابين من الحيوانات. وكان مسموحًا لكشك البيع أن يأتي في منزلةٍ تقع بين تقديم القرابين وبين مأدبة العشاء وجلسة الشراب (بمعنى أنه من المسموح أن تفصل المعاملات التجارية بين مستهلك لحم الحيوان وبين الفئة التي قدَّمَتْه كقربان)، ولكن طقس تقديم القرابين سيكون قد حدث، وذلك على حد علمنا. ويبدو أن هذا صحيح حين يطعم يومايوس — راعي الخنازير — أوديسيوس المتنكِّر في الجزء الرابع عشر من ملحمة «الأوديسا»؛ وينطبق هذا أيضًا على الحال في مدينة أثينا في القرن الرابع كما تظهر في كتاب ثيوفراستوس «شخصيات»:

الوقح هو الذي يخرج بعد تقديم القرابين للآلهة لتناول العشاء مع آخَرين، ثم يُملِّح اللحمَ ويخزِّنه. ويستدعي عبدَه وهو جالسٌ إلى مائدة مضيفه، ثم يأخذ اللحمَ والخبزَ من المائدة ويعطيه إياه، وهو يقول بحيث يسمعه الجميع: «حضِّرْ وجبةً لذيذةً، يا تيبيوس!» وحين يتسوَّق يُذكِّر القصَّابَ بأي خدمةٍ بسيطةٍ قد يكون قد قدَّمها له، ويقف بجوار الميزان ويضع عليه خلسةً شيئًا من اللحم إذا أمكن، أو يضع عظمةً ليصنع منها حساءً؛ وإذا تمكَّنَ من الإفلات بفعلته يكون راضيًا، أما إذا لم يتمكَّن من ذلك، فإنه يسرق جزءًا من معدة حيوان من المائدة، ويضحك في سرِّه وهو يهرول بها مبتعدًا. (ترجمه إلى الإنجليزية: فيلاكوت)

توضح هذه اللمحة الرائعة عن حياة الطبقة الدنيا في منازل أثينا وشوارعها، التي من المفترض أن تصوِّر الشخصيةَ الشائنة التي وصفها أرسطو، سواء أكانت على المسرح أم في نصٍ أدبي؛ الرجل السيئ الخلق وهو عاجزٌ عن ربط تقديم القرابين بمشاركة الطعام مع الآخرين، وكذلك وهو عاجزٌ (بالتضمين) عن تناوُل الطعام بالتبادُل مع الآخرين، وأخيرًا وهو عاجزٌ عن الالتزام بالأمانة عند الشراء من القصَّاب. والنظام الاجتماعي مترسخ في هذه المشاهد مثلما هو مترسخ في مسرحية «ديسكولوس» من تأليف ميناندر.

أسدى القديس بولس نصيحةً شهيرة للمسيحيين في كورنث ممَّنْ كان يساورهم القلق من احتمال أنهم يأكلون لحمًا متخلفًا عن طقوس تقديم قرابين وثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح ٨). ونصيحته هي أن يأكلوا اللحم على الرغم من ذلك؛ لأن المسيح إله أقوى من الآلهة الوثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح ٨). ويبدو أنه كان يتسنَّى الحصول على اللحم في كورنث لمَن كانوا لا يرغبون في المشاركة في طقوس تقديم القرابين. وتشير مصادر أخرى في العصر الروماني — كما رأينا — إلى إنتاج اللحوم بكمياتٍ كبيرة، ومن الصعب تقدير إلى أي مدًى رُوعِي فعليًّا في هذا التطوُّر فصلُ تقديمِ القرابين عن إنتاج اللحوم. لا شك أن ما أورده فارو — وهو كاتِبٌ يسبق عهدَ القديس بولس بقرنٍ — (في كتابه «عن الزراعة» ٢، ٥، ١١) يشير إلى أنه كانت هناك حيوانات تُربَّى «بغرض الذبح» — أيْ كي تُذبَح على يد القصَّاف بغرض الاستهلاك التجاري — وعلى النقيض منها كانت هناك حيوانات تُربَّى من أجل تقديم القرابين، «آد ألتاريا» (فراين ١٩٩٣: ١٥٦، دالبي ٢٠٠٣: ٢١٣). وكانت اللحوم (ذات المنشأ غير المعروف) متاحةً في المنافذ التجارية، على ما يبدو. وكانت الحانات ومحال الطهي في إيطاليا تقدِّم فيما يبدو قِطَعَ لحم وأنواعَ سجق رخيصة (وذلك رهنٌ بالتشريعات المقيِّدة الصادرة عن أباطرة مختلفين)؛ فمن المرجح أن نفترض أن نسبةً لا بأسَ بها من السكان كانت تستهلك كمياتٍ قليلةً من اللحوم، ولكن ليس على فتراتٍ متقارِبة. ويستحق الأمر أن نقارن هذا بالدليل المتعلِّق بمدينةِ نابولي من القرن التاسع عشر الذي استشهدنا به في الفصل الثاني. كان بعض الزبائن يأكلون المكرونةَ مضافةً إليها صلصة، ولم يكن بوسع الفقراء إضافة الصلصة إلى الطعام، والأشد فقرًا لم يكن بوسعهم حتى الحصول على المكرونة، بل كانوا يحصلون فقط على ماءِ سلقِ المكرونة لإضفاء نكهةٍ. ويبرهن فروست (الذي يجمع بعضًا من الفقرات الواردة فيما سبق) على انتشار تناوُل اللحوم. يدَّعِي فارو (٢، ٤، ١١، بناءً على ما جاء في عملٍ مفقودٍ من أعمال كاتو الأكبر) أن الإنسوبريين في شمالي إيطاليا يُملِّحون ما يتراوح بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ قطعة من لحم الخنزير المُقدَّد. ويتناول كورتيس (٢٠٠١) مدى انتشار أكل اللحوم في إيطاليا في العصر الروماني.

كان أكل الأسماك يختلف عن أكل اللحوم في العصور القديمة؛ فكما رأينا، لم يكن أكل الأسماك جزءًا من نظام تقديم القرابين، سواءٌ أكان لدى الإغريق أم الرومان. وكان بعض جيرانهم — الليديين والسوريين والمصريين — لديهم بعضُ الأسماك المُقدَّسة، ولم يكن لدى الإغريق والرومان إلا عددٌ أقل بكثيرٍ من الأسماك المُقدَّسة. يذكر أثينايوس بعض الأسماك المُقدَّسة في الجزء السابع من كتابه، وناقشنا بعض استثناءات هذه القاعدة في الفصل الثالث. ولم تكن الأسماك عادةً جزءًا من النظام الديني؛ ومن ثَمَّ كان من الممكن أن يشتريها من السوق كلُّ مَن يستطيع دفْعَ ثمنها. وتشتهر إمدادات الأسماك بأنها عرضةٌ للتقلُّب، ولم تكن العصورُ القديمة استثناءً في ذلك (جالانت ١٩٨٤، وبورسيل ١٩٩٥)؛ فالسمك كان يتوافر بكثرةٍ أحيانًا لمَن كانوا يعيشون بالقرب من السواحل، وفي بعض الأحيان على الأقل كان يتوافر بسعرٍ زهيدٍ بشرط أن يكون من الأنواع التي تعيش في المياه الضحلة، مثل الأنشوفة والسردين، التي يمكن صَيْدها بكمياتٍ كبيرة. ولم يَحْظَ الوصفُ المتشائم الذي قدَّمَه جالانت بأي استحسانٍ بوجهٍ عام، ومع ذلك راجع بورسيل (١٩٩٥) وهورديرن وبورسيل (٢٠٠٠). لقد حاولتُ أن أبرهن (ويلكنز ٢٠٠٥) على أن الكثير من أدلة جالانت يمكن قبولها، شريطة النظر إلى الأسماك بصفتها من المكملات الغذائية وليست غذاءً أساسيًّا يمدُّ الجسم بالسعرات الحرارية.

ومن المعروف عن أعمال هوميروس أنها كانت تخلو من أي ذِكْرٍ عن أكل الأسماك، وسنناقش هذا الموضوع في الفصل التاسع، ولكنه يستحقُّ الذِّكْر هنا كذلك. يأكل أبطال هوميروس كميةً مدهشةً من لحم البقر، ونادرًا ما يأكلون الأسماك، وهم لا يأكلونه في الواقع إلا بدافع الجوع. ويأتي ذِكْرُ الأسماك وصيدها والصنانير في قصائد هوميروس، ويصف هوميروس أيَّ ملكٍ بأنه يشرف على بحارٍ تزخر بالأسماك إذا كان مَلِكًا صالحًا. ولكن لا أحدَ يأكل الأسماك في أعماله، ومن الواضح أن الشاعر يتَّبِع منهجًا يروِّج لِلُّحوم على حساب الأسماك. ولعلنا على يقينٍ إلى حدٍّ ما بأن الإغريق في العصر البرونزي كانوا يأكلون الأسماكَ فعلًا، وذلك استنادًا إلى الأدلة الأثرية المذكورة في الفصل الأول، والأدلة المأخوذة من عدة مواقع أخرى تابعة للحضارة المينوية، وبعض هذه الأدلة يسردها كورتيس (٢٠٠١: ٢٧٤-٢٧٥). وتعود ملكية الماشية المُخصَّصة لتقديم القرابين إلى عالَم الأبطال، وربما تعكس القرب بين الأبطال وآلهتهم، وتعكس أيضًا ثراءَهم الذي يتيح لهم أكلَ اللحوم يوميًّا. وتصوِّر القواعدُ الحاكمة للأعمال الأدبية اللاحقة الأسماكَ على أنها من السلع الفاخرة؛ وهذا الموقف يمثِّل طرفَ النقيض، ويأتي كتفسيرٍ على القدر نفسه من التفرُّد لدور الأسماك في النظام الغذائي القديم.

وكما هي الحال في مواضع أخرى من هذا الكتاب — ينطبق الأمر كذلك على أكل الأسماك — توجد تفاصيلُ محليةٌ كثيرة لا بد من إضافتها إلى الصورة العامة، وهذا التنوع هو الأساس الذي تقوم عليه قصيدة أركستراتوس. كانت ثمة أسماك مثل البوري الأحمر أكثر شيوعًا في المياه الإغريقية منها في المياه الإيطالية؛ ومن ثَمَّ كانت تُباع بأسعارٍ أعلى في الأسواق الرومانية. وكان الدولفين في الكثير من المجتمعات الإغريقية الرومانية، مُقدَّسًا أو على الأقل غير مُخصَّص للأكل. يزخر الأدب — بدءًا من هيرودوت وحتى بلينوس الأصغر — بقصصِ التقارُب بين الدلافين والبشر، ولكن زينوفون صادَفَ عادةً مختلفةً للغاية، وذلك أثناء اجتيازه آسيا الصغرى كما ذكر في كتابه «الصعود» أو «أناباسيس» باللاتينية:

أثناء بحث الإغريق عن غنائم في هذه المواقع، وجدوا في المنازل مخازنَ من أرغفة الخبز المُكدَّسة — بحسب ما قاله الموسينوكي — المصنوعة من دقيق العام الماضي، ووجدوا كذلك محصولَ الذرة الجديد محفوظًا كما هو بسيقانه. وكان هناك قمح خشن للغاية، ووجدوا شرائحَ من لحم الدرفيل مُخلَّلة محفوظة في جِرار، ودهن درفيل محفوظًا في أوعية. وكان الموسينوكي (تسمية معناها سكان الأبراج الخشبية، وهي تسمية أطلَقَها الإغريقُ على أهالي بنطس) يستخدمون هذا الدهن كما يستخدم الإغريق زيت الزيتون. وكانت هناك في الغرف العلوية كمياتٌ من ثمار الكستناء، من النوع العريض ذي السطح الناعم. وكانوا يستخدمون ثمار الكستناء بكمياتٍ كبيرة للأكل؛ إذ كانوا يسلقونها ثم يخبزون أرغفةً منها. ووجدوا نبيذًا هناك أيضًا، وعند خلطه يصبح طعمه مُرًّا بسبب نكهته اللاذعة، ولكن رائحته تصبح جيدةً، وكذلك طعمه، عند خلطه بالماء.

للأسماك ثلاثُ سماتٍ أساسية؛ أولًا: كانت كميات الأسماك المتوافرة — كما أشار بورسيل (١٩٩٥) تتَّسِم بالتقلُّب؛ فربما يصطاد الصيادون قطيعَ أسماك فيكون السعر منخفضًا للغاية لمدة قصيرة، وربما تكون الكمية كبيرة بحيث تتحوَّل إلى طعامٍ للحيوانات، كما يحدث في العالم الحديث؛ ولذلك، فمن الجائز أن تكون الأسماك من هذا النوع — مثل التونة والسردين — متاحةً للجميع، على الأقل لمَن يسكنون بالقرب من البحر. ولكن هذا كان يشترط وجود توقعاتٍ تفيد بوجود كمياتٍ وفيرة من حينٍ لآخَر. ونجد أن توافُرَ الأسماك المفردة — وهي الأسماك التي لا تتحرَّك في قطعانٍ ويصطادها الصيادون فرادى — يتَّسِم بقدرٍ أكبر من التقلُّب؛ ومن ثَمَّ فإنها تباع بسعرٍ أعلى. وهذه هي الأسماك التي يتحدث عنها ديفيدسون (١٩٩٧)، وهي نوع الأسماك الفريد الذي يُؤخَذ إلى الملك أو الإمبراطور عند صيده. وتقدِّم الروايات المتعلقة ببوليكريتيس ودوميتيان أمثلةً عن ظاهرة الأسماك المميزة التي كان لا بد من أخذها مباشَرةً إلى أقوى فردٍ في المجتمع (هيرودوت ٣، ٤١–٤٣، و«المقطوعة الهجائية الرابعة» لجوفينال، وويلكنز ١٩٩٣: ١٩٥-١٩٦).

fig20
شكل ٥-٣: تصوِّر عملة التيترا دراخمة هذه من سيراقوسة الاستخدامَ المتكرِّر للأسماك على العملات المعدنية للمدن القديمة. وكانت الأسماك من بين الصور الكثيرة التي استخدمتها منشآت سكِّ العملة المحلية للتعبير عن هُوِيَّة تلك المدن وثرائها. (حقوق الطبع والنشر من أمناء المتحف البريطاني.)

وتفيد المقارنة مع المصادر في العصر الحديث أن الأسماك كانت في متناول الفقراء، وقد استشهدتُ في الفصل الثاني بالدليل الذي قدَّمه هيلتوسكي (٢٠٠٤) عن نابولي في القرن التاسع عشر. يذكر كامبوريزي (١٩٩٣) توافُر الأسماك لأفقر سكان المدن والريف في إيطاليا في القرن العشرين، والأسماك المتوافرة هي الرنجة أو السردين؛ وهذا يؤكِّد الدليل الذي تقدِّمه مصادرنا القديمة.

ثانيًا: توجد أنواعٌ كثيرة ومختلفة من الأسماك، وهو ما يفسح المجال لقدرٍ كبيرٍ من الاستفاضة؛ فهذا التنوع الكبير من الأسماء والأشكال أتاح لأجناسٍ أدبية معينة سرْدَ أعدادٍ هائلة من الأسماك ووصفها. ففي الثقافة الإغريقية، كان سرْدُ أسماءِ الأسماك في المسرح الكوميدي من الفقرات المتوقَّع ظهورها في المسرحية في القرن الرابع قبل الميلاد، بما في ذلك أنواعٌ من الأسماك يعجز عن شرائها غالبيةُ الجمهور إلا فيما ندر (ديفيدسون ١٩٩٧، ويلكنز ٢٠٠٠). كانت الأسماك الواردة في الأعمال الأدبية — مثل اللحم البقري المذكور في أعمال هوميروس — تسرُّ المستمِع دون أن يضطرَّ لتذوُّق السمكة للاستمتاع بها.

fig21
شكل ٥-٤: يظهر الحبَّار المقلي والمطهي بالغلي في الكثير من الأطباق القديمة (أولسون وسينس ٢٠٠٠: ٢٠٦). يذكر جالينوس وديسقوريدوس الاستعمالاتِ الطبيةَ؛ إذ يقول جالينوس إن الحبَّار مغذٍّ ولكنه يؤدي إلى ظهور قدرٍ كبيرٍ (وربما إلى حدٍّ خطير) من الأخلاط النيئة. وسلَّطَ أرسطو الضوءَ على ذكاء الحبَّار، وربما كان لذكائه هذا دورٌ في ربطه بإلهة البحر ثيتيس. (حصلنا على نسخةٍ من الصورة بإذنٍ من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)

وتتعلق السمة الثالثة من سمات الأسماك بمذاقها اللذيذ. كان تناول الأسماك مُستحسَنًا لدى مَن كان بوسعهم شراء الأسماك — كما يبيِّن الكثير من النصوص — ولدى أركستراتوس بالتحديد. وكان استهلاك الأسماك منتشرًا أيضًا في روما، وذلك على الرغم من التفسير الروماني لتاريخ روما باعتبار أن شعبها يعتمد في كسب رزقه على الزراعة، ويعتمد في غذائه على الخبز المصنوع من القمح الثنائي الحبة ولحم الخنزير. يشير أوفيد في قصيدة «الأعياد» (٦، ١٦٩) إلى أن الإلهة كارنا الراعية لمفصلات الأبواب — وهي إلهة الأيام الخوالي — تتوقع تقديم قرابين من لحم الخنزير ولحم الخنزير المقدَّد، وتزدري الأطعمة الحديثة مثل الأسماك والطيور المستوردة من شمال أفريقيا واليونان؛ وقد ذكرنا هذه الفقرة من قبلُ. وهذه صياغة متطرفة لهُوِيَّة روما في عصر الجمهورية، ويبدو فعلًا أنها كانت تقوم على اقتصادٍ زراعي قائم على المواطنين المزارعين، ولا بد من تذكُّر الأمثلة المقابلة لضمان رؤيةٍ متوازنةٍ للصورة. كولميلا له كتاب عن الزراعة يقوم على أساس أيديولوجي شديد يهتم بالأرض والتقاليد، وهو لا يتردَّد في وصفِ المزارع السَّمكية، بل موقع الكائنات البحرية أيضًا في مناطق معينة من البحر المتوسط. وكان من عادة كاتو الأكبر — الروماني المرموق من عصر الجمهورية، على حد تعبير بلوتارخ والكثير من الكُتَّاب الآخَرين — شراءُ الأسماك واللحم أيضًا («كاتو الأكبر» ٤، بلوتارخ)، وإنْ كان يحرص على تجنُّب الإفراط في الإنفاق على شراء قِطَعِ لحمٍ باهظةِ الثمن. وفي كتاب «حياة أغسطس»، يخبرنا سيوتونيوس (٧٦) أن الإمبراطور أغسطس كان يتبع النظام الغذائي الذي يتبعه عامةُ الناس وهو بمفرده، وكان ذلك النظام الغذائي يتضمَّن الأسماك.

ومن الممكن أن نناقش ثلاث أفكار استرشادية أخرى. يهتف بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» ٩، ٥٣)، بعد مناقشةٍ بخصوص المحار، قائلًا: «لماذا أذكرُ هذه الأمور التافهة في الوقت الذي يشكِّل فيه المحارُ أكبرَ مصدرٍ للفساد الأخلاقي والترف؟ الحقيقة أننا نجد البحر — من بين كل عناصر الطبيعة — مُضِرًّا للغاية بالمعدة بطرقٍ لا حصرَ لها، وذلك بفِعْل المأكولات البحرية الكثيرة وأنواع الأسماك الشهية.» ثم ينتقل في فزعٍ ليتحدث عن عادة ارتداء اللآلئ بصفتها صورةً أسوأ بكثيرٍ من صور الفساد. ولعل فزع بلينوس يعزِّزه أركستراتوس الذي يُدرِج عددًا من التوصيات بخصوص المأكولات البحرية في كتابه «حياة الترف».

فمثلًا في الشذرة ٧ أولسون وسينس ٢٠٠٠، نقرأ:

أينوس يأتي منها بلح البحر الكبير الحجم، ومن أبيدوس يأتي المحار، ومن باريون يأتي السلطعون، ومن ميتيليني يأتي الأسقلوب … ويمكنك شراء البطلينوس البيلاوري في ميسيني …

وكان المضيف الذي يرغب في إبهار ضيوفه يقدِّم على مائدته المحارَ بالتأكيد. يذكر جوفينال قدومَ وارداتِ المحار من ريتشبورو في بريطانيا إلى روما؛ وليس المقصود من ذلك أن نقول إن المحار الصغير الحجم لم يكن متاحًا للفقراء الذين كانوا يسكنون بالقرب من البحر. يقدِّم لنا الشاعر الهزلي الصقلي إبيكارموس من القرن الخامس قبل الميلاد مثالًا على ذلك (الشذرة ٤٢): «الحلازين البرية، وهي لا تحظى بقيمةٍ كبيرة ورخيصةُ الثمن.» يستعرض كارالي (٢٠٠٠) أنواعَ المحار ويناقش فئات مستهلكيها.

ويفرِّق بعض النصوص بوضوحٍ بين لحوم القرابين وبين الأسماك المباعة في السوق، ولكن توجد أدلة كثيرة على أن الاثنتين كانتا متاحتين في السوق، وكان يتسنَّى للكلِّ شراؤهما ما عدا أشد الناس فقرًا. وكانت أشكال اللحوم متنوعة مثل أشكال الأسماك؛ وكانت الأنواع والأسعار متنوعةً إلى حدٍّ كبير. وكان من الممكن شراء أيٍّ منهما من أجل المناسبات المميزة، ولكنَّ كلَّ يومٍ كان بمنزلة مناسبةٍ مميزة بهذا المعنى لدى المواطنين الأغنياء؛ ولذلك فمن المضلِّل للغاية أن يحسب جالانت الحصةَ السنوية للسعرات الحرارية التي توفِّرها الأسماك في النظام الغذائي للمواطن الإغريقي العادي، وأن يستنتج أن قيمةَ السعرات الحرارية للأسماك كانت ضئيلةً بالمقارنة بحصة البقوليات والحبوب. ومن الممكن إجراء عملية حسابية مماثلة لِلُّحوم والخضراوات والفواكه، وكلُّ هذه الأطعمة التي لا تحتوي على الحبوب أو البقول هي مكملاتٌ للغذاء الأساسي المكوَّن من الحبوب، وكانت تُضفِي الطعم والعناصر المُغذِّية القيَّمة على الغذاء الأساسي الخالي من النكهة.

وكما هي الحال مع اللحوم، كان من الممكن حفظ الأسماك في الأوقات السِّمان للمساعدة في الأوقات العِجاف. والأسماك أكثر عرضةً للتلف من اللحوم، ولكن كل منهما مناسبة للتجفيف وخاصةً عن طريق التمليح. وتمليح قِطَع لحم الخنزير المُقدَّد — كما رأينا — هو المثال القديم، وكان يكثر في إيطاليا واليونان، وفي الوقت نفسه كانت لحوم الخنزير تُستورَد كذلك من فرنسا. وربما يُنظَر إلى طريقة الحفظ هذه بصفتها الاستراتيجيةَ الحكيمة التي يتبعها المزارعُ الريفي الذي يخزِّن الطعامَ لوقتٍ آخَر؛ إذ تتيح له تجفيف الفواكه وتخزين الحبوب وحفظ الزيتون في محلول ملحي. وهذا النوع من استراتيجيات التخزين فعال حقًّا، ولكن للحفظ فوائد أخرى كذلك؛ فهو يعدِّل الطعمَ والقوامَ؛ ولذلك، فيما يتعلق بلحم الخنزير، نجد أن أشكال لحم الخنزير المُقدَّد ولحم الخنزير من سيرانو أو بايوني أو بارما ولحم الخنزير المطهي؛ مختلفةٌ تمامًا فيما بينها، ومختلفةٌ كذلك عن الكثير من قِطَع لحم الخنزير الطازج. ويمكن تمييز الطعم بحسب عمليات المعالجة المُستعمَلة؛ ومن ثَمَّ، فإن لحم الخنزير المُقدَّد هو قَطْعًا الخيارُ الأفضل بعد قطعةٍ طازجةٍ من لحم الخنزير. وينطبق الأمر نفسه على الأسماك أيضًا. كان تمليح الأسماك من الأنشطة الكبرى في مناطق من بلدان البحر المتوسط قديمًا، كما يُلاحَظ مثلًا في أماكن في إسبانيا والبحر الأسود وخليج نابولي، وسبق لأهالي قرطاج أيضًا أن استعملوا أساليبَ مماثلةً في عصرٍ أقدم (راجع — على سبيل المثال — كورتيس ١٩٩١ و٢٠٠٥، ونيلسين وبيكر ٢٠٠٥).

ولم يكن من السهل تربية الأسماك — كما رأينا — على عكس الخنازير. ومن استثناءات هذه القاعدة المزارع السمكية في إيطاليا، التي كثيرًا ما يشير إليها المؤلفون المتخصِّصون في شئون الزراعة، وكثيرًا ما كانت هناك المزارع السمكية في عِزب المُوسرين. وبخصوص أنواع الكائنات البحرية، كان من المتوقَّع عمومًا ظهورُ قطعان الأسماك الزيتية من عامٍ إلى عامٍ، ولكن كان من الوارد في أي وقتٍ ألَّا تظهر أو تصل بأعدادٍ أكبر من المتوقَّع. وأُنشِئت في منطقة البحر الأسود — في القرن الرابع قبل الميلاد وصولًا إلى العصر الروماني — منشآتٌ كثيرة لتمليح الأسماك الصغيرة وشرائح الأسماك الكبيرة (تكثر الإشارة إلى «تيماشي»؛ وتعني الشرائح، كما تكثر الإشارة إلى تيماشي اللحم؛ أيْ شرائح اللحم) أو إنتاج صلصة جاروم. كانت للأسماك المملحة أشكالٌ متنوِّعةٌ، فضلًا عن إمكانية نقلها بسهولةٍ نسبيةٍ في جِرار أو قوارير ضيقة، وهي الأواني الفخارية التي كانت تُستخدَم أيضًا في حفظ الخمر. ويعلِّق أركستراتوس في كتابه «حياة الترف» على استحسانِ الأسماك المملحة. وكما رأينا في الفصل الأول، لم يكن مهتمًّا بالسلع الرخيصة، بل إنه رفض الأسماك الصغيرة بصفتها «نفايات» (الشذرة ١١، أولسون وسينس)، وكان لا بد من تقديم أدلة — إنْ وُجِدت — على أن الفقراء كان بوسعهم شراء أسماك المياه الضحلة الصغيرة مثل الأنشوفة.

في الشذرة ٣٩ الواردة في أولسون وسينس، ينصح أركستراتوس بتناول:

شريحة من التونة الصقلية، التي قُطِعَت قبل حفظها في جِرار التخزين («بيكوي»). وأقول سُحْقًا لسمكة «سابيرديس»، تلك السمكة اللذيذة من منطقة بنطس، وسُحْقًا لكلِّ محبِّيها. قليلون هم مَن يعرفون أنها طعام رديء وغير فعَّال. ولكن، في المقابل، يمكنك أن تتناول سمكة ماكريل، بعد ثلاثة أيام من خروجها من البحر، قبل نَقْعها في المحلول الملحي وبعد وضعها في الجرة بقليلٍ؛ أي عندما تكون «نصف مملحة». ولكن إذا زُرْتَ المدينة المقدسة في بيزنطة الشهيرة، فإني أستأذنك أن تأكل مرةً أخرى شريحةً من سمك «هورايون»، فهو لذيذ وطري.

وفي الشذرة ٤٠ من أولسون وسينس، نقرأ — في إشارةٍ إلى الأسماك المحفوظة الآتية من مضيق البوسفور — أنها «أشد الأسماك بياضًا وترتحل آتية من مضيق البوسفور، ولكنْ دَعُونا لا نذكر اللحمَ القاسي للأسماك التي تعيش في بحر آزوف، وهي أسماكٌ لا يجوز ذِكْرها في الشِّعْر». والسمكة التي لا تليق بالأبيات الشعرية ذات التفعيلة السداسية هي سمكة «أنتاكايوس» أو الحفش.

يتحدَّث أركستراتوس عن أفضل قسم في السوق، وينصح محبُّ الأسماك الفَطِن بالتجوُّل في أنحاء بلدان البحر المتوسط بحثًا عن أجود الأسماك. وفي رأيه أن سمكة «سابيرديس» ليست لذيذةً بما يكفي، وهو رأي يشاركه فيه خبراء آخَرون، حسبما يذكر أولسون وسينس في ملاحظاتهما عن هذه الفقرة. وعلى الرغم من أن أسماك التونة تصلح للتمليح، يبدو أن أركستراتوس ينصح باستعمالها قبل التمليح إذا كانت من صقلية أو من بيزنطة، مثل سمكة «هورايون»، وهي أفضل سمكة تصلح للحفظ. ويَلْقَى استحسانَه سمكُ الماكريل المملَّح تمليحًا خفيفًا، ولكنه لا يستحسن سمكَ الحفش المملح. ويستشهد أثينايوس بتعليقات عددٍ من المؤلفين عن الأسماك المملحة. يستحسن جالينوس («عن قوى الأطعمة»، ٣، ٤٠) الأسماكَ المحفوظة؛ لأن الملح وغيره من المواد الحافظة يُبْطِل مفعول تراكمات الأخلاط الكثيفة — مثل البلغم — في الجسم.

(١) المنتجات الحيوانية

(١-١) العسل

كان العسل هو المادة المُحَلِّية الأساسية في العصور القديمة، بالإضافة إلى النبيذ ومنتجات الفواكه، خصوصًا الفواكه المجففة؛ لأنها كانت تحتوي على سكريات مركَّزة. وكان علماء النبات يعرفون قصب السكر، ولكنه لم يكن يُستخدَم بكثرةٍ في منطقة البحر المتوسط. وتحدَّثَ الكُتَّاب القدماء كثيرًا عن النحل، واهتموا بمناقشةِ إنتاجِ العسل وتنظيم خلايا النحل. تأتي مناقشات تفصيلية في كتابات فارو وكولميلا، وتأتي مناقشة شهيرة في القصيدة الرابعة من كتاب «جورجيك» من تأليف فيرجيل. ويُدرِج هذان الكاتبان نصائحَهما العملية في قالب مُنمَّق من القصص الشعرية والأسطورية التي تتحدَّث عن النحل. وكان العسل مهمًّا للغاية لكونه من مكونات الكعكات المُخصَّصة للقرابين الدينية (راجع الفصل الرابع)، وكذلك الكعكات التي تُقدَّم في القسم المُخصَّص للتحلية بعد الطعام، ويُطلَق عليها «الموائد الثانية» في البلدان الإغريقية، وكانوا يأتون بتلك الموائد خلال جلسة الشراب. ومن وجهة النظر الطبية، نجد أن العسل كان يتَّسِم بطابع مركب؛ إذ كانت له مزايا كثيرة، وكان فريدًا لكونه طعامًا حلو المذاق، ولكن كان له تأثيره في إضعاف أخلاط الجسم. ومع ذلك، كان من الوارد أن يؤدي العسل أيضًا إلى الإصابة باضطراباتٍ. ويناقش جالينوس هذه الطبيعة المزدوجة للعسل في كتابه «عن قوى الأطعمة» (١، ١)، مع أنه يتحدَّث أيضًا عن بعض الأفكار الغريبة عن إنتاج العسل (٣، ٣٨). يناقش دالبي (١٩٩٦: ٤٧ و٢٠٠٣: ١٧٩-١٨٠) العسل ويقدِّم قائمةَ مراجع كاملة عنه. وأختلفُ مع ادِّعائه (١٩٩٦: ٤٧) بأن العسل كان «سلعةً كماليةً مترفة بالأساس»، ما دام ادِّعاؤه هذا يُوحِي بأنه لم يكن متاحًا إلا لقليلين في العصور القديمة؛ فبالأحرى كان العسل متاحًا للكثيرين، ولكن ليس بكمياتٍ كبيرة على الأرجح.

(١-٢) الحليب

قد يدفعنا الاطلاع على ديفيدسون ١٩٩٩ و«لاروس جاسترونوميك» إلى توقع استخدام الحليب والجبن على نطاق محدود في الأراضي الأقل خصوبةً من بلدان البحر المتوسط في العصور القديمة؛ بل قد يدفعنا أيضًا بعضُ النصوص إلى أن نفترض أن الإغريق والرومان لم يكن من عادتهم شرب الحليب. يخبرنا أثينايوس، على سبيل المثال، أن:

الجميع يتفق على أن الماء مغذٍّ، ويتضح ذلك من حقيقة أن كائناتٍ معينةً — مثل حشرة زيز الحصاد — تتغذَّى على الماء فقط. والكثير من السوائل الأخرى مُغذِّية أيضًا مثل الحليب وماء الشعير والنبيذ. ويعيش الأطفال الرُّضَّع على الحليب على الأقل، والكثير من القبائل تعيش على شرب الحليب.

وتحتوي اللغة اليونانية على كلمة «جالاكتوبوتين»، ومعناها «شرب الحليب»، وتصف ذلك الفعل بأنه نشاطٌ مميَّز يختلف عن شرب النبيذ أو شرب الماء. ويُذكَر عن المسخ سايكلوب في الجزء التاسع من ملحمة «الأوديسا» أنه يشرب الحليب ولا يعرف النبيذ. وتُعرف هذه العادة أيضًا عن السكوثيين والليبيين — وهم الشعوب الرعوية التي كانت تقطن الحدود الشمالية والجنوبية للعالم الكلاسيكي القديم — وتُعرَف كذلك عن الفرنسيين والبريطانيين. وتميِّز عادةُ شرب الحليب راعيَ الغنم والبدوي والرعوي في كثيرٍ من النواحي، حتى إن مَن يشربون الحليب يُوصَفون بأنهم مختلفون عن الإغريقي أو الروماني المتحضر (شو ١٩٨٢-١٩٨٣ وجارنسي ١٩٩٩). كان واردًا آنذاك — في الكتابات المَعنيَّة بالتراث العِرْقي وغيرها من الكتابات — وصْفُ مَن يشربون الحليبَ بأنهم يختلفون عنَّا «نحن» المتحضرين.

ومع ذلك، لا بد أن نضع بجوار هذه السمة سماتٍ أخرى، وهي أنه كان ثمة الكثير من الرعويين في البلدان الإغريقية والرومانية؛ كانوا يربون الغنم والماعز — والبقر بدرجة محدودة — من أجل الحصول على ألبانها وأصوافها، وبالقدر نفسه من أجل لحومها، إنْ لم يكن أكثر. وكان الرعويون ينتمون للعالم القديم. ولكن، يستخدم يوربيديس مصطلح «الذي يشرب الحليب» ليصف ريفيًّا يأتي إلى القصر الملكي في مسرحيته «إليكترا». وما ينبغي أن نستنتجه على الأرجح من هذا الدليل هو أن استهلاك الحليب كان في كثيرٍ من الأحيان نشاطًا ريفيًّا، وليس نشاطًا حضريًّا. وكان الأطباء ينصحون بالحليب، ولكن المنتج المشتق من الحليب — الذي كان أكثر توافُرًا في المدن — كان الجبنَ على الأرجح. ولا بد أن نفرِّق أيضًا بين مَنْ كانوا يشربون الحليب لا النبيذ، وبين مَنْ كانوا يشربون الصنفين.

وتأتي مناقشة مستفيضة عن الحليب في كتابات جالينوس، ونجد هذه المناقشة في كتبه «عن المحافظة على الصحة» (هايجينا) (٥، ٧)، و«عن قوى الأطعمة»، و«عن النظام الغذائي المُستخدَم في تخفيف الأخلاط». ومن الواضح أنه يتوقَّع أن يعالج الأطباءُ آثارَ الحليب على الجسم. اهتمَّ الأطباءُ بالحليب المأخوذ من حيوانات مختلفة، واكتشفوا أن لكل نوعٍ منها — كما هي الحال في العالم الحديث — خواص مختلفة للغاية. وكما رأينا، كثيرًا ما يصف أمزجة تتكوَّن من الحليب أو الماء — وذلك في كتابه «عن قوى الأطعمة» — وثمار البلوط والكثير من أنواع الدقيق؛ فهذا المزيج من المكونات التي تُمزَج مع العصيدة، ووسيلة تمكِّن الريفيين من تخزين الحليب وحفظه. ويصف فوكسهول وفوربز (١٩٨٢) كيف يمكن — في كريت في القرن العشرين — استخدام أمزجة الحليب والدقيق هذه في صنع قوالب مستطيلة الشكل وتجفيفها في الشمس لاستخدامها في الشتاء. ولم يكن الريفيون وحدَهم هم الذين يستهلكون الحليب. يذكر بلينوس الأصغر — وكان يملك فيلاتٍ فخمةً في منطقتَيْ توسكاني ولاتيوم — أن الحليب متوافر له بسهولة.

وتوجد أدلة على إنتاج الزبد في العصور القديمة، وربما كان إنتاجُ الزبد أكثر انتشارًا ممَّا يبدو عليه، كالحال تمامًا مع شرب الحليب وصنع الجعة. ومن الوارد أن مناطق من اليونان وإيطاليا كانت تستخدِم كمياتٍ كبيرة من الزبد وغيرها من الدهون الحيوانية، ومن المرجح أن استخدام زيت الزيتون لم يكن منتشرًا. تشير مسرحية كوميدية إغريقية بازدراءٍ إلى عادةِ أكل الزبد في تراقيا (أناكساندريديس، التي سبق أنِ استشهدنا بها في الفصل الثاني). والأدلة الإيطالية أكثر وضوحًا. يصف بلينوس صناعة الزبد، ولكن معظم الأدلة المتعلِّقة باستخدام الزبد في إيطاليا تخصُّ الاستعمالات الطبية؛ إذ كان يُستعمَل كمادة لينة (كورتيس ٢٠٠١: ٣٩٩-٤٠٠).

وكان الجبن من منتجات الألبان الرائجة في البلدان الإغريقية والرومانية في البحر المتوسط، وكان يُنتَج على نطاق واسع، ويتفاوت إنتاجه بحسب الموقع، وكان يتسنَّى الحصول عليه بأشكالٍ كثيرةٍ ومتنوعةٍ في المدن نظرًا لسهولة نقله؛ ومن ثَمَّ استطاع الخبراء انتقاء الأجبان، شأنها شأن أنواع الخمور والأسماك. ويعطي بلينوس فكرةً عن أنواع الأجبان المتوافرة. وكان ينتشر استخدام الجبن أيضًا في صنع الكعكات (شأنه شأن الحليب فيما يبدو)، ويمكن استخدام الجبن أيضًا لإضفاء نكهة على أطباقٍ أخرى، حتى الأسماك، كما يذكر أركستراتوس باستهجانٍ. وكانت هناك أيضًا أشكالٌ أخرى من منتجات الحليب في العصور القديمة؛ راجع دالبي (١٩٩٦، ٢٠٠٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤