الفصل التاسع

الطعام في الأدب

يقول أثينايوس إنَّ الكثير من هؤلاء كانوا حاضرين في مأدبة العشاء التي أقامها لارينسيس، وأنهم أحضروا معهم أعمالهم الأدبية — وكأنها مشاركاتٌ يأتي بها الخارجون في إحدى النزهات الخلوية — وهي ملفوفة مثل أغطية الأرائك. (ملخص «مائدة الحكماء» لأثينايوس)

يحفل هذا الكتاب باقتباساتٍ من الكثير من الفقرات الأدبية، وكثيرًا ما يربط البعض بين النصوص التي ربما تُوصَف بأنها «أدبية» والنصوص «المتخصِّصة» أو «الفلسفية/العلمية». وهذه فئاتٌ مضلِّلة من الكثير من النواحي؛ إذ من المُلاحَظ أن قصائد هوميروس — وهي أقدم ملاحم في اليونان وسبقت أيَّ أعمالٍ أدبية أخرى — استُخدِمت في القرون اللاحقة ليس فقط كسجلاتٍ لتسجيل الحقيقة الأدبية، بل أيضًا كأساس للنظام التعليمي، بما في ذلك النصائح العلمية والمتخصِّصة. وسنرى فيما بعدُ — على سبيل المثال — كيف أن أثينايوس النقراطيسي أثبَتَ في القرن الثالث الميلادي أنَّ هوميروس قدَّمَ أفضلَ نموذجٍ للسلوك المُتبَع في جلسات الشراب. وعلى العكس من ذلك، رأينا في الفصل السابق أن جالينوس — الذي قد يبدو للوهلة الأولى أنه ليس إلا مؤلِّفًا متخصِّصًا في النصوص الطبية — كان يعتبر نفسه في الواقع فيلسوفًا متعدِّد الاهتمامات، ويمكنه أن يكتب أيضًا في جميع مجالات الفِكْر واللغة والثقافة.

إذن، ينصبُّ الهدف من هذا الفصل في أربعة جوانب؛ أولًا: إلقاء الضوء بإيجاز على سماتٍ معينة للنصوص الأدبية الوثيقة الصلة بالسمات الاجتماعية والدينية والعلمية التي تعرَّفنا عليها في الفصول السابقة. ثانيًا: تحديد أهم السمات التي تميِّز اقترانَ الأدب بالطعام وعادات تناول الطعام. ثالثًا: عرض استخدام الطعام في أجناس أدبية معينة مثل الملاحم والهجاء والمسرح التراجيدي. وأخيرًا: استخلاص الأفكار الرئيسة للكتاب ككلٍّ، بالإضافة إلى تقديم عرض نقدي عن المؤلفَيْن اللذَيْن تحدَّثْنا عنهما كثيرًا وينتميان إلى الحِقبة الإغريقية الرومانية — وهما أثينايوس وجالينوس — إذ سيساعدان في تحقيق مزجٍ مترابطٍ بين الأعراف «الأدبية» و«العلمية» والثقافية المتوارَثة.

fig31
شكل ٩-١: لوحة فسيفساء تصوِّر عوليس وجنيَّات البحر، من ملحمة «الأوديسا» لهوميروس (القرن الثالث الميلادي) متحف باردو، بمدينة تونس العاصمة في تونس. تعبِّر لوحة الفسيفساء هذه، من مدينة دُقَّة التونسية، عن غنى الحياة الريفية لدى البعض في شمال أفريقيا. وقد وُضِعَت الصورة عند بئرٍ تماشيًا مع موضوعها الذي يدور في البحر. يمثل المشهدُ أوديسيوس وهو مقيَّد إلى الصاري ليقاوم الأغنية المُغرية التي تنشدها جنيَّات البحر اللاتي يظهرْنَ كفتياتٍ شابات. يعبِّر الموضوع عن أهمية هوميروس الدائمة في الأدب والفن في الحقبة المتأخرة من الإمبراطورية الرومانية. وفي هذه الرواية نجد أن أوديسيوس لا تغريه جنيَّات البحر فقط، بل يغريه أيضًا سرطان بحر كبير يمسك به صياد ويرفعه وهو في قاربه (مصدر الصورة: http://www.bridgemanimages.com/en-GB).
وثمة ثلاثة أمثلة ستوضح المشاركةَ الجادة من جانب الأدب في الموضوعات التي ذُكِرت في بداية هذا الكتاب. في الجزء السابع عشر من ملحمة «الأوديسا»، يظل تيليماكوس شاعرًا بالانزعاج بسبب الخُطَّاب الذين يتقدَّمون لطلب يد أمه بينيلوبي، ويتعدَّى واحد من أشدِّهم جرأةً — وهو أنطينوس — على راعي الخنازير؛ لأنه أحضرَ شحَّاذًا آخَر (وهو في الواقع أوديسيوس متنكِّرًا) ليجلس إلى المائدة (٣٧٥–٣٧٩، ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج):

يا راعي الخنازير المُخزي، لماذا أتيتُ بهذا الرجل إلى المدينة؟ أليس لدينا ما يكفي من المتشردين وأيضًا الشحاذين الكريهين والنابشين الذين يقتاتون على فتات مآدبنا؟ أَلَا يكفيك الرجال المتجمعون هنا من قبلُ لالتهامِ طعامِ سيدك؟ أيجبُ أن تدعو هذا الشخص أيضًا؟

يزخر كلام أنطينوس المنافِق بالتعقيدات الأخلاقية، وأهمُّها شراهتُه ونَهَمُه وافتقارُه إلى روح التبادل، وهو ما يشير إليه تيليماكوس في البيت رقم ٤٠٤. والآن أؤكِّد على العنصر الاقتصادي والديني: يربي راعي الخنازير يومايوس قطيعًا من الخنازير في الريف لإرساله إلى سيده في المدينة لاستخدامه كطعامٍ، وهو يدير وحدة الإنتاج الريفية التي يُخصَّص إنتاجُها للاستهلاك في القصر. فضلًا عن ذلك، تقاس ثروة أوديسيوس بدرجة كبيرة بعدد الحيوانات التي يمتلكها. وفيما يخص إطعام الشحَّاذين فثمة وصيةٌ دينية موجَّهة من زيوس تفيد بتعزيز تلك العادة الاجتماعية.

وتشمل قائمة المخالفات في روما في العصر الذي عاش فيه جوفينال استهلاكَ الأسماك المستوردة («المقطوعة الهجائية الخامسة»):

سيوصي سيدي باستيرادِ أسماك البوري التي يفضِّلها من جزيرة كورسيكا، أو من الصخور التي تقع أسفل مدينة تاورمينا؛ إذ نضبت الأسماك في المياه الإقليمية من كثرة أنشطة الصيد بهدف إطعام تلك الأفواه النَّهِمة …

يصنِّف جوفينال هذا المثال في برنامج أخلاقي مُركَّب نناقشه فيما يأتي. ولكن المثال الذي تحدَّثَ عنه يعبِّر أيضًا عن روما بصفتها مركزَ التبادل الرئيسي في إمبراطورية كبرى، تتاح فيها السلعُ الوافدة من كل أنحاء العالم المعروفة.

ويُستقَى المثالُ الثالث من قصيدة «حياة الترف» لأركستراتوس المولود في مدينة جيلا. يولي مؤلِّفُ هذه القصيدة التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد اهتمامًا كبيرًا للمحاكاة الساخرة ولآدابِ تناوُل الأسماك وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالناحية «الأدبية»، ولكن نجده يهتم أيضًا بالمصطلحات؛ ففي الشذرة ١٣ أولسون وسينس ينصح القارئ قائلًا:

لا تضع جانبًا السمكةَ السمينة ذات الرأس المُذهَّب من مدينة إفسوس، التي يسمِّيها سكانُ المدينة «أيونيسكوس».

ونجد أن الاهتمامَ بالمسمَّيات والمصطلحات المحلية بهدفِ تحديدِ الأسماك وغيرها من الأنواع التي يصعب تصنيفها؛ من السمات التي تميِّز المؤلفين «العلميين» مثل أرسطو وجالينوس، ولكنها سمة موجودة كذلك لدى المؤلفين «الأدبيين» من ناظمي الشعر السداسي التفاعيل مثل أركستراتوس.

(١) أهم الأفكار الأدبية المتعلِّقة بتناول الطعام واحتساء الخمور

إنَّ الكثير من الأفكار ذات الصلة يمثِّل سماتٍ أدبية معروفة، وأبدأ بالفسادِ المنتشر في الحضر والبساطةِ التي تميِّز الريف. يتوق البطل الهزلي ديكايبوليس في مسرحية «الأخارنيون» لأريستوفان إلى قريته التي نشأ فيها؛ حيث يعتمد الناسُ على نظامِ المقايضة للحصول على الطعام والوقود، على عكس الصورة المقدَّمة عن مدينة أثينا في المسرحيات الأخرى؛ حيث يغشُّ تجارُ الأسواق مشتري الأسماك وغيرها من الأطعمة. وبعد ذلك بخمسمائة عام، يؤلِّف جوفينال قصيدةً يصوِّر فيها أحدَ سكان الحضر وقد وقع ضحيةً للنصب والخديعة، بينما يظهر الخدمُ الأنقياء ممَّن يعملون في مزرعة ريفية وهم يقدِّمون أطعمةً بسيطةً. تتعارض هذه الفكرة الرئيسية الأدبية مع المزايا التي قد تجلبها حياةُ المدينة. وسنرى أمثلةً للتناقض بين الفكرة الرئيسية وأثر الأطعمة المستوردة من الخارج إلى الأسواق في المناطق الحضرية بالدرجة الأولى؛ فالبساطة الريفية يترافق معها أيضًا حنينٌ إلى عصور ماضية أكثر نقاءً، ويرافقها نفورٌ وكرهٌ للتجارة. ويُعالَج موضوع التجارة — وهي وسيلة من وسائل انتقال الأطعمة كما ناقشنا فيما سبق — في الأدب على نحوٍ أكثر تناقضًا ممَّا تستدعي أهميته؛ فثمة تعارُضٌ بين الإنتاج المحلي والسلع المستوردة، وهو أمرٌ مُعقَّد من الناحية الاقتصادية، ولكن في الأدب كثيرًا ما يُحسَم هذا التعارض بوضوحٍ أكثر لصالح الإنتاج الزراعي المحلي. والفكرة الرئيسية الرابعة هي استغلال الولائم ومناسبات تناول الطعام العمومية لتحقيق نتيجة مُرْضِية؛ ويتضح ذلك في المسرحيات الكوميدية على نحوٍ ملحوظ للغاية. والفكرة الرئيسية التالية هي الحافز وراء المتعة والرغبة، وهو الذي قد يؤدِّي إلى انعدامِ ضبطِ النفس المهلك الذي ناقشناه في الفصل السابع. وثمة فكرة رئيسية أخرى سبق ذِكْرها في الفصل الأول تتبع نموذجًا تطوريًّا ينطلق من البدايات البدائية إلى التطور/الإسراف في الوقت الحاضر. ومن الأمثلة الأخرى الانحدار من عصر ذهبي إلى «الحاضر» (قارن ما قاله بلينوس عن الحدائق والخضراوات في الفصل الرابع). وبهذا الأسلوب، صُوِّرت الإمبراطورية الرومانية على أنها أكثر المجتمعات البشرية تقدُّمًا أو أكثرها فسادًا.

(٢) الطعام والأجناس الأدبية

اهتمت أجناسٌ أدبية معينة بالطعام بدرجة كبيرة. يقدِّم جاورز (١٩٩٣) دراسة مؤثرة عن الطعام في الأجناس الأدبية الأقل شأنًا في الأدب اللاتيني، وبالأخص في الهجاء والمسرح الكوميدي والحِكَم الساخرة؛ إذ يظهر الطعام في هذه الأجناس التي تخلو عمدًا من الأفكار الرئيسية الجليلة المأخوذة من المسرح التراجيدي أو الملاحم. ومع ذلك، ليس المقصود بذلك أن ننكر أن الطعام — في ملاحم هوميروس وغيرها من الملاحم — يقع في صميم العلاقات بين البشر من جانبٍ، وبينهم وبين الآلهة من جانبٍ آخَر. وسأناقشُ كلًّا من ملاحم هوميروس والمسرحيات التراجيدية فيما يأتي، ولكن المقصود هو أن الموضوعات المتعلقة بالطعام (التجارة والزراعة والتجمعات الاجتماعية والاحتفالات ومناسبات تقديم القرابين) ربما تكون موجودةً في الكثير من الأجناس الأدبية؛ بدءًا من التاريخ ووصولًا إلى شعر الحب والغزل، ولكن من المحتمل وجود محتوًى غزيرٍ يتعلَّق بالطعام في تلك الأجناس الأدبية الأقل شأنًا التي ناقَشَها جاورز (١٩٩٣). ولذلك، يصف أركستراتوس الأسماك والطهي في محاكاةٍ ساخرةٍ للشعر الملحمي، ويحاكي الكاتِبُ — الذي كان يُظَنُّ أنه هِسيود — الشعرَ القديم المتقشِّف الذي ألَّفَه هِسيود لوصف الأسماك (يأتي اقتباسٌ لجزءٍ منه في بداية الفصل الخامس)، وتزخر القصص الهلنستية البذيئة من تأليف الشاعر ماكون — التي تتناول المحظيات — بالكثير عن الطعام.

ذكرتُ في فصلٍ سابق — عن الوصف الذي قدَّمه هيبولوكوس لمأدبة زفاف كارانيوس (الفصل الثاني) — أن الرواة في الأعمال الأدبية كثيرًا ما يستعملون أسلوبًا ساخرًا بهدف التغلُّب على فخامةِ وإسهابِ الأسلوب المُستخدَم في وصف الأطباق المقدَّمة في المآدب؛ وتتضح هذه السمة مثلًا في أعمال أركستراتوس وبيترونيوس وأثينايوس.

ويُوصَف الكثيرُ من الأجناس الأدبية التي تُكْثِر من الحديث عن الطعام بأنه «وضيع»؛ بعضه هو ما وصفه ميخائيل باختين (١٩٦٨) بأنه «شعبية احتفالية». والمسرح الكوميدي الإغريقي والروماني مثالٌ واضح جدًّا على ذلك؛ لأنه يستخدم لغةَ الشارع ولغةَ الجسد لانتقادِ الادِّعاءات الاجتماعية للأغنياء وذوي السلطان (راجع جاورز ١٩٩٣ وويلكنز ٢٠٠٠، الفصل الأول). ويكثر الحديث فيه عن حجم الجسم والشهية، وعن الحَلْق والبطن وأعضاء الهضم، وعن غازات البطن وإخراج الفضلات؛ فالشَّرِهون يتلذَّذون بنزولِ الطعام الساخن في حلوقهم، ويلتهمون الطعامَ بأسرع ما يمكن.

يساعدنا جالينوس في فهم سبب اهتمام الكثير من النصوص الوَعظية — بما فيها النصوص الأدبية المذكورة في هذا الفصل والنصوص الفلسفية المذكورة في الفصل السابع — بمخاطر الرغبة والشهية، واتضح أن الكبد — كما رأينا في العرض الذي يتناول علم وظائف الأعضاء في كتابات جالينوس في الفصل الثامن — يضم الرغبتين الجسديةَ والروحيةَ في مكانٍ واحدٍ. وهذا خليطٌ قوي يجب دائمًا أن يُوضَع في نطاق السيطرة، ويُكبَح جماحه جيدًا، خصوصًا عند ربطه بالأوجه الاجتماعية للرغبة؛ إذ كانت ثمة رغبةٌ تراوِد الناسَ في التنافُس مع غيرهم من أبناء الطبقة الراقية أو مع القصور الملكية الأخرى. وكانت ثمة إغراءات تتعلَّق بالعادات الأجنبية الفاخرة — في بلاد فارس أو اليونان أو مقدونيا — بحسب الحقبة الزمنية. وكانت ثمة إغراءات تتعَّلق بالإمبراطورية؛ إذ جلبت الإمبراطوريةُ كلَّ السلع من أنحاء العالم المعروف إلى أسواق أثينا، وعلى نطاقٍ أوسع بكثيرٍ إلى روما. ونظرًا لشدة هذه الدوافع التجارية التي تحثُّ الرغبة، أصبحت النصوص الوعظية تُقدِّر قيمةَ بساطةِ العادات الريفية وبساطةِ الماضي وبساطةِ العادات الشعائرية، سواء أكانت دينية أم موروثة (الامتناع عن بيع المنازل المتوارَثة عن الأسلاف من أجل الحفلات والأطعمة والخمور السريعة الزوال). حاوَلَ هذا الكتابُ تحديدَ الأوجه المهمة الأخرى للطعام؛ ولكن في هذا الفصل سأناقش بإيجازٍ تلك النصوص الأدبية التي تركِّز على الطعام والإسراف فيه.

ناقشنا في الفصل السادس الأجناسَ الأساسية مثل الشعر المرتبط بجلسات الشراب، والنثر المتمثِّل في كتاب «حوار المأدبة». وتكثر أوصاف المآدب في النصوص القديمة، ولكن جلسة الشراب — وهي القسم الثاني من المأدبة — هي التي ترتبط تحديدًا بالأنشطة الثقافية الأخرى مثل الشعر والألعاب بمختلف أنواعها والفلسفة والعروض الكوميدية الساخرة والأنشطة الفكرية.

وكُتِب الكثيرُ من الأشعار التي تعود إلى الحقبة القديمة جدًّا وما بعدها بهدف إلقائه في جلسات الشراب، وكان الكثير منها يدور حول أفكارٍ رئيسية تتعلَّق بجلسات الشراب. وربما يكون شِعْر الرثاء هو الأهم، وسبق أن ناقشنا القصائد المهمة لثيوجنيس وكزينوفانيس؛ فهذه القصائد تعرض دورَ الطعام والشراب والأسطورة في إطارٍ أخلاقي، وهو الإطار الذي يقوم عليه الكثير من شعر جلسات الشراب لهذا العصر. وحاولتُ أن أبرهن في ويلكنز (٢٠٠٠) أن المسرح الكوميدي كجنسٍ درامي هو أحد أشكال شعر جلسات الشراب، وسأناقشُ المسرح الكوميدي فيما يأتي؛ إذ إن استخدامه لمكانٍ متاحٍ أمام عامة الناس لتقديم العرض المسرحي يجعل دورَه الاجتماعي والسياسي مختلفًا بعض الشيء (وليس تمامًا) عن الشعر المنظوم لإلقائه في المناسبات الخاصة.

وفيما يخص النثر نجد أن كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون أثَّر تأثيرًا شكليًّا كبيرًا على مدار قرون طويلة. وبعيدًا عن الأهمية الفلسفية لهذا الكتاب، فإنه يتحدَّث عن جماعةٍ من الأصدقاء مجتمعين معًا، وعمَّا يتفقون على فعله في هذه المناسبة، ويشمل ذلك مأدبةً تعقبها جلسةٌ لاحتساء الخمور. وعادةً ما يكون الطعام أقل أهميةً (باستثناء كتابات لوقيان وأثينايوس)، وإذا كانت الأهداف الأساسية فلسفيةً — كما هو واقع الحال عادةً — فإن أهمية احتساء الخمور تتراجع أيضًا. وأشرتُ فيما سبق إلى بعض المناسبات التي يقيم فيها بلوتارخ مناظراتٍ تتزامن مع جلسات الشراب في كتابه «حديث المائدة»؛ ومع ذلك، يقدِّم أفلاطون نموذجًا رائعًا لهذا الجنس الأدبي، ويتمثَّل ذلك في المحافظة على التوازن بين مناقشة النواحي الجمالية وعِلم الوجود، وبين احتساء الشراب. كان معظم المشاركين في جلسة الشراب قد أفرطوا في احتساء الشراب في الليلة الماضية؛ إذ إنهم كانوا يحتفلون بانتصارِ الشاعر التراجيدي أغاثون، ولكن ألكيبيادس يدخل متأخرًا وهو سكران ويشعل الأمسية بأجواءٍ جامحة تشبه أجواء عيد ديونيسيا. وفي النهاية ينتصر سقراط في كل الأنشطة، وذلك بعد أن أعلن عن أكثر النظريات تقدُّمًا (وهي نسخةٌ من نظرية المُثُل لأفلاطون)، وبعد أن شبَّهَه الآخرون بهيئة الإله سيلينوس الذي هو نصف إنسان ونصف حصان أو مساعد ديونيسوس، وبعد أن أسكر الجميع تحت المائدة وعادَ إلى بيته في الصباح الباكر.

ومع أن بعض الأفكار الرئيسية تظل ثابتةً من «اليونان الكلاسيكية القديمة» إلى حقبة الإمبراطورية الرومانية، فإن أفكارًا رئيسية أخرى تنشأ وتتضح أكثر. وينطبق هذا على الكتب التي تقدِّم استعراضًا ثقافيًّا شاملًا لأَوْجُه الطعام وعادات تناول الطعام بنطاقٍ معرفي موسوعي؛ ومن بينها كتبٌ معينة مثل: كتاب بلينوس «التاريخ الطبيعي»، وكتاب بلوتارخ «حديث المائدة»، وكتاب أثينايوس «مأدبة الحكماء». وهذه الكتب تعتمد على كتبٍ أدبية سابقة وأعمال متخصصة ألَّفَها علماءُ نباتٍ وأطباء وكُتَّاب متخصِّصون في الشئون الزراعية، كما أنها تعتمد على مجموعاتٍ من الكتابات اللغوية والأدبية. كان الطعام من المعايير المناسبة للنقد الأدبي من حقبة مبكرة؛ ومن ثَمَّ، جعل أريستوفان شخصيتَه الأساسية في مسرحية «الضفادع» — وهو ديونيسوس — ينتقد مسرحياتِ يوربيديس بسبب أجوائها المنزلية (كيفية تنظيم المشتريات والمطبخ والاعتناء بالصحة)، ويشير سقراط في كتاب أفلاطون إلى عدم ذِكْر الأسماك في أشعار هوميروس.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الأدب المتخصِّص كان «واقعيًّا» من ناحيةٍ ما، ولكنه كان أيضًا رهنًا بعوامل ثقافية قوية كما رأينا مرارًا في أعمال كاتو وبلينوس، والقراءةُ الحرَّة للمؤلفين الإغريق عادةً ما تخفِّف من الرأي المؤيِّد للرومان، كما يشير كولميلا؛ فهو يهدف إلى «منح الزراعة أخيرًا الجنسيةَ الرومانية (إذ إنها كانت تنتمي حتى تلك اللحظة إلى الكُتَّاب الإغريق)» («عن الزراعة» ١، ١، ١٢-١٣).

(٣) الطعامُ في أعمال هوميروس

لا بد أن يبدأ استقصاؤنا عن الطعام في الأدب بأفضل الأعمال الشعرية التي تحدَّثَتْ عن السفر، وهي ملحمة «الأوديسا» لهوميروس؛ ففيها تنحرف سفينة أوديسيوس ورفاقه عن مسارها وتستغرق الرحلة سنوات، ويلتقون بأشخاصٍ غريبي الأطوار ويتمثَّل جزءٌ من غرابتهم في عاداتِ تناوُل الطعام التي يتبعونها؛ إذ يتوجَّهون أولًا إلى مدينة إزماروس، وهي موطن قبيلة كيكونيز في تراقيا، وينهبونها. وتأكل قبيلة كيكونيز طعامًا إغريقيًّا عاديًّا، ولكنْ يحتفظ كاهنٌ من كهنة أبولُّو بنبيذٍ مركَّزٍ للغاية يفوق تركيزَ النبيذ العادي بعشرين ضِعْفًا. ثم يبحرون إلى شمال أفريقيا ويلتقون بآكلي اللوتس، ويقدِّم إليهم هؤلاء فاكهةَ اللوتس ذات المذاق الحلو الشبيه بالعسل؛ وهذه الفاكهة طعامٌ رائع، ولكنها تجعل مَنْ يأكلها يفقد هويتَه ورغبتَه في العودة إلى وطنه؛ ومن ثَمَّ، لا بد من إجبارِ رفاقِ أوديسيوس على مغادرة هذا الفردوس بعد أن يأكلوا من هذه الفاكهة.

ثم يصلون إلى جزيرة المسوخ العملاقة سايكلوب — وهي فردوس من نوع مختلف — حيث يجدون «مروجًا رطبة تزدهر فيها الأعنابُ ولا تفنى أبدًا. وتُرْبتُها صالحةٌ للحرث بسهولة، ويتسنَّى لهم حصادُ محاصيل وفيرة في موسمها؛ إذ تقع تحت سطحها طبقة خصبة من الطفال الرملي. فضلًا عن ذلك، يوجد ميناء مناسب هناك». ويتضح أن كلَّ السمات التي يرغب الإغريقي في توافرها في مكانٍ ما — مثل الزراعة الجيدة والميناء المناسب — أمورٌ لا يعبأ بها مسوخ سايكلوبس، بل يتضح أنهم رعاةُ غنمٍ من آكلي لحوم البشر، ويأكلون رفاقَ أوديسيوس دونَ طهي على العشاء، وذلك بعد ضرب رءوسهم في الأرضية وتمزيقهم إربًا. والمكانُ التالي الذي يبحرون إليه هو جزيرة الملك أيولوس الذي لديه ست بنات متزوِّجات من أبنائه الستة، ويمضون كل أيامهم في إقامة الولائم، يقول هوميروس: «طوال النهار تفوح القاعة بالروائح الزكية، وتتردَّد فيها أصداءُ الموسيقى.» وهي فردوسٌ آخَر — خاصةً بعد مسوخ سايكلوب الشنيع — ولكن تشيع فيها أعرافُ زواجٍ غير مألوفة ومستوياتٍ من الولائم يصعب تحقيقها في بلدٍ جبليٍّ صخري مثل اليونان. ثم يصلون إلى تيليبلوس وهي مدينة تقع على مكانٍ عالٍ يعيش فيها اللستريجونيون؛ وهؤلاء أيضًا من الوحوش الآكِلة للبشر، ويصطادون البشر بالرماح وكأنهم أسماك. ثم يصلون إلى جزيرة أييا؛ حيث تعيش سيرسي وهي «إلهةٌ ذات شَعْرٍ مضفَّر، وتستطيع الكلام مثل البشر، ولديها قدراتٌ غريبة»، وأبرز قدراتها فيما يخصُّ أغراضَ هذا الكتاب هي القدرة على مَسْخ البشر إلى خنازير، وهذا من قبيل خلط الفئات؛ إذ جرت العادة على أن البشر يقدِّمون الخنازير كقرابين ويأكلونها. وبعد ذلك، ينزل أوديسيوس إلى العالَم السفلي؛ يحتاج الموتى طعامًا مخصوصًا — وهو الدماء — لأنهم فقدوا قوتهم البشرية. وبعد ذلك، يلتقون بجنيَّات البحر اللاتي يمنعْنَ الرجال من العودة إلى وطنهم، شأنهن شأن آكِلي اللوتس؛ إذ «يجلسْنَ في مرج، بينما تتكدَّس جثثُ الرجال من حولهن، وقد بدأت تتحلَّل عظامُهم بعد تحلُّل الجلد». ثم تأتي الجنيَّة سيلا التي تجلس على جرفٍ وهي تعوي عواءً فظيعًا، وتختطف ستة من رفاق أوديسيوس وتلتهمهم؛ إذ يقول أوديسيوس: «فصرخوا ومدَّوا أياديهم إليَّ وهم في أشدِّ سكرات الموت.» ثم يصل أوديسيوس إلى جزيرة أوجيجيا حيث تعيش كالبيسو، وهي أيضًا «إلهةٌ ذات شَعْرٍ مضفَّر، وتستطيع الكلامَ مثل البشر، ولديها قدراتٌ غريبة»، وتقترح على أوديسيوس أن تحوِّله إلى إلهٍ خالدٍ حتى يتسنَّى له أن يأكل من الطعام نفسه الذي تأكل هي منه — وهو طعام الآلهة — ولا تضطر لتحضير وجبتَيْن مختلفتين لهما؛ طعام البشر له وطعام الآلهة لها.

وفي آخِر الأمر، يُجبِر أوديسيوس نفسَه على ترْكِ هذه الخليلة الرائعة، ويرفض اقتراحها بتقديم طعام الآلهة وتحويله إلى إلهٍ خالدٍ، ويبحر إلى جزيرة فياشا، وأهل هذه الجزيرة أشبه بالملك أيولوس؛ إذ يعيشون بجوار الآلهة ولديهم إمكانياتٌ زراعية هائلة، ويعيشون في فردوسٍ من نوع مختلف بعض الشيء. وأهلُ جزيرة فياشا هم الذين يعيدون أوديسيوس إلى بلاده في إيثاكا وإلى زوجته الإنسية — بينيلوبي — التي سرَّها أن يعود إليها بعد عشيقاته الإلهيات الكثيرات. ويعود إلى ثقافته الأصلية حيث يأكل الناسُ الحبوبَ، ويشربون النبيذَ الممزوج بالماء، ويستعملون زيتَ أشجار الزيتون، ويقدِّمون الحيوانات الزراعية كقرابين على حسب النموذج الإغريقي المتعارَف عليه.

ثمة مؤشراتٌ كثيرة تفرِّق بين ثقافة وأخرى؛ أوَّلها المنتجاتُ الزراعية وكيفية تحضيرها وأكلها، وثانيها العلاقةُ الراسخة بين الإنسان وعالَم الحيوان. ونعود إلى واقعةٍ في الجزء الثاني عشر من ملحمة «الأوديسا» كنتُ قد غفلتُ عنها منذ قليل؛ إذ يصل أوديسيوس ورفاقه — بعد أن كانوا يهربون معظمَ الوقت من الجنيَّة سيلا آكلة لحوم البشر — إلى «الجزيرة الجميلة التابعة لإله الشمس». ومع أن رفاق أوديسيوس تلقَّوْا تحذيرًا من سيرسي بالامتناع عن أكل ماشية إله الشمس، فإنهم يحاولون تقديم هذه الماشية كقرابين أثناء نومه. ويقول هوميروس أنهم يعجزون عن تقديم قرابين بالطريقة المعتادة (طريقة بروميثيوس التي جاء شرحها في الفصل الأول)؛ لأنه لم تكن لديهم حبوبُ شعيرٍ حتى ينثروها على رءوس الحيوانات، ولا نبيذٌ لإراقته في طقسِ إراقةِ الخمر المقدَّم إلى الإله. وهم يشتركون في ذلك مع مسوخ سايكلوبس والعمالقة اللستريجونيين وسيرسي في خلط العلاقة بين البشر — وهم المتحكِّمون في طقس تقديم القرابين — وبين الحيوانات، وهي الكائنات التي تُقدَّم كقرابين (راجع للاستزادة الفصل الأول، وفيدال ناكويت ١٩٨١).

***

سعى الإغريقُ القدماء إلى تقبُّل حقبتَيِ الحضارة المينوية وحضارة مايسيني في أقدم الكتابات التي وصلَتْ إلينا من العصور القديمة، وهي «الإلياذة» و«الأوديسا». وللطعام دورٌ بارز في كلَيْهما. تقدِّم هاتان الملحمتان مزيجًا مُركَّبًا من عناصر مأخوذة من حضارة مايسيني والحضارات التي أعقبَتْها؛ وذلك نظرًا لصياغتهما بأسلوبٍ شفاهي طويل يتطوَّر تدريجيًّا. يشتمل شعر هوميروس على عدة سماتٍ مهمة بخصوص تاريخ الطعام، وذلك بالإضافة إلى رحلات أوديسيوس.

(٣-١) العلاقة التبادُلية: الآلهة والبشر

في ملحمة «الإلياذة» نجد أن معظم العلاقات التي تجري فيما بين الشخصيات البشرية وبين الأبطال والآلهة ترتبط بذبح الماشية وأكلها. ويأتي وصفُ المآدب بإيجازٍ شديد، ولكن يُقدَّم وصفٌ تفصيلي لتحضير الحيوان وغيره من الأنشطة الشعائرية. وقبولُ إنسانٍ للطعام أو قبولُ إلهٍ لقربان هو علامة على علاقة ناجحة؛ وينبئ رفْضُ المشاركةِ في الطعام أو رفْضُ قبولِ القربان عن صدع في العلاقة (كثيرًا ما يكون فادحًا). ويقوم تناول الطعام في ملحمة «الأوديسا» أيضًا على هذا النمط التبادلي على المستوى البشري، وفي العلاقات بين البشر والآلهة. ويهمل المتقدِّمون لطلب يد بينيلوبي — على وجه التحديد — في ردِّ المآدب؛ فمن بين مآخِذ أخرى، يسيئون التصرف حين يأكلون من ثروة أوديسيوس — وتمثِّلها الماشية والخنازير — دونَ تبادُلٍ للثروة بتقديم حُسْن الضيافة لتيليماكوس وأفراد أسرة أوديسيوس.

(٣-٢) عالَم البشر وعالَم الطبيعة

في فقرة بارزة من ملحمة «الأوديسا»، نجد أن دور الملك يتحدَّد بناءً على إنتاج الطعام: «الملك الشريف يخشى الآلهة ويحكم مملكةً قويةً سكانُها ذوو أخلاق رفيعة، ويدافع عن العدل، وفي ظل حُكْمه تنتج الأرضُ السمراء القمحَ والشعيرَ، وتصير الأشجارُ مثقلةً بالثمار، ولا تكفُّ الأغنامُ عن ولادةِ الصغار أبدًا، ويزخر البحرُ بالأسماك؛ كلُّ هذا بفضل حُكْمِه الصالح؛ ولذلك يزدهر شعبه بفضله» (١٩، ١٠٩–١١٤، ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج). وفي هذه الفقرة، يقارِن أوديسيوس المتنكِّر سمعةَ ذلك الملك بسمعة بينيلوبي؛ فهو يرى أن الملك لا يدافع فقط عن النظام الزراعي، بل أيضًا عن النظام الطبيعي الأشمل، بما يشتمل عليه من نباتات وحيوانات وأسماك تزدهر في مملكة تبجِّل الآلهةَ أيضًا، ويعيش فيها شعبٌ ناجح لا تقهره الصعابُ ويستردُّ عافيتَه بسهولةٍ.

(٣-٣) الاحتياج البشري

ونجد أيضًا هذا السياق الواسع الذي يَرِد فيه ذِكْرُ الطعام في الكلام الذي يوجِّهه أوديسيوس إلى يومايوس (١٧، ٢٨٦–٢٨٩): «لا يستطيع الإنسان إغفال شهوات البطن البغيضة؛ ممَّا يجلب الكثير من المتاعب ويدفعنا إلى تسيير السفن لتعبر البحار، ويدفعنا إلى مناوشة أعدائنا» (ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج). والبشرُ ليسوا كائناتٍ شبيهة بالآلهة؛ فهم دائمًا في حاجة إلى القوت؛ ومن ثَمَّ تتحكَّم فيهم بطونهم (وهي فكرة رئيسية تعتمد عليها مناقشةِ فيرنان لأسطورة بروميثيوس التي ناقشتُها في الفصل الأول). ولا يمكن تلبية تلك الحاجة دائمًا (إذ حدثَتْ مجاعاتٌ مزمنة في بلدان العالَم القديم)، وكذلك — على حدِّ تعبير أوديسيوس، وعلى حدِّ تعبير أفلاطون بعد ذلك (راجع الفصل السابع) — يؤدِّي عدمُ توفير الطعام إلى انطلاقِ حملاتٍ حربية بالسفن. ويفيد بعضُ الروايات أن أزمات نقص الطعام دفعَتْ بعضَ المجتمعات القديمة إلى إنشاء مستعمراتٍ تقع ما وراء البحار. وكثيرًا ما كانت أزمات نقص الطعام التي أصابت المدن القديمة مصدرًا للاضطراب وعدم الاستقرار.

ويتعرَّض أوديسيوس ورفاقه في رحلتهم لأزماتِ نقصِ الطعام الواردة في أعمال هوميروس، ويتعرَّض لها أيضًا الشحَّاذون في قصور الأغنياء. في إيثاكا لا يُبْدِي المتقدِّمون لطلب يد بينيلوبي أيَّ احترامٍ للشحاذين — وخصوصًا لأوديسيوس المتنكِّر في هيئةِ شحاذٍ — مثلما لا يُبْدُون أيَّ احترام لثروة أوديسيوس؛ فمن المسموح للشحاذين استجداءُ الطعام وذلك بحماية زيوس، ولكن بعض الخُطَّاب لا يُبْدُون أيَّ احترامٍ لهم ويعترَّضون في رياءٍ على منْحِ طعامٍ لشحاذ، مع أنهم لا يقدِّمون شيئًا من مالهم؛ ومن ثَمَّ، فإن ملحمة «الأوديسا» تتناول كلَّ أحوال الرجال والنساء والآلهة. وتتناول هذه الملحمة — بتركيزٍ أكبر ممَّا في «الإلياذة» — راعيَ الخنازير وإنتاجَ الحيوانات والشحاذَ وكلَّ قليلي الشأن الذين يحضرون الوليمة والصراع على الطعام الذي يشتعل بين مَنْ يسمِّيهم بعضُ البريطانيين الفقراءَ المستحقين والفقراءَ غير المستحقين. ويعرض هوميروس هذا الصراعَ في الكلام المتبادَل بين أوديسيوس المتنكِّر والشحَّاذ أيروس، ويحظى هؤلاء المشتغلون في إنتاج الطعام والأشخاصُ الذين لا يحقُّ لهم الحصول على نصيبٍ متساوٍ من الوليمة؛ بظهورٍ لافتٍ في ملحمة «الأوديسا»، وقد ظهروا أكثر من مرة في هذا الكتاب، بصفتهم أولًا جزءًا من «الذين لا ينتمون إلى الطبقة العليا»؛ أيْ ما يتراوح بين٩٠ و٩٥ في المائة من السكان، وظهروا أيضًا بصفتهم تلك الفئة السكانية المفضَّلة في الأدب، وهي الشخص المتطفِّل في المأدبة الإغريقية والتابِع في المأدبة الرومانية، وهو الموضوع الذي تناولتُه في الفصل الثاني.

(٣-٤) الطب والأطعمة الخاصة

في الجزء الحادي عشر من ملحمة «الإلياذة»، يُقدَّم للمحاربين المصابين والمجهَدين مشروبٌ مقوٍّ — أو كيكيون — مكوَّنٌ من نبيذ وجبن وجريش شعير وعسل وبصل. ويظهر اهتمامٌ أيضًا في الأجزاء التالية من ملحمة «الإلياذة»، بأن أخيلِّيس — في أوج حماسه للانتقام لمقتل باتروكلوس — يرفض الاهتمامَ باحتياجات جنوده للطعام قبل القتال، وينمُّ رفضُ أخيلِّيس للأكل عن اختلالِ حالته العقلية. وتُذكَر أيضًا العقاقير في عقار هيلين المُهدِّئ الذي يُضاف إلى النبيذ، وفي جذر عشب «مولي» الذي يُقدَّم إلى أوديسيوس ليقاوِم سحر سيرسي.

(٣-٥) الخواص الإغريقية وغير الإغريقية

تحدثتُ فيما سبق عن الأطعمة الغريبة التي صادَفَها أوديسيوس ورفاقه خلال جولاتهم في أنحاء المحيط؛ فليس من بينها تقريبًا ما يشبه أغذيتهم الأساسية مثل الحبوب والنبيذ وزيت الزيتون، وليس من بينها طريقتهم المميزة لتقديم قرابين من الحيوانات؛ وهذا النمط الغذائي يتَّخِذ مسارًا ينحرف تارةً نحو طعامِ الآلهة، وتارةً أخرى نحو طعام الحيوانات، كما سنرى.

(٣-٦) أوصافٌ تفصيلية

كثيرًا ما تحتوي أعمالُ هوميروس على وصفٍ تفصيلي لعملياتٍ معينة، وهذا ينطبق تحديدًا على ذبح الحيوانات وتحضير اللحم للأكل، وكثيرًا ما يشار بإيجازٍ إلى كل الطعام المُقدَّم في أوقاتِ تناوُل الطعام بأنه «أطعمة من كل الأنواع» (وهو ما لا يشير إلى الغذاء المحدود الذي فسَّرَه بعض المصادر التي جاءت لاحقًا)، وكثيرًا ما يشمل الوصفُ قِطَعَ الأثاث وأدوات المائدة وخصوصًا أقداح الشراب.

(٣-٧) أوقات الطعام

تقدِّم ملحمتا «الإلياذة» و«الأوديسا» نماذجَ لمشاركةِ الآخرين في مائدة واحدة تعبِّر عن المجتمع الإغريقي في حقبة مبكرة، وأثَّرَتْ أيضًا في الفِكْر الذي ظهر فيما بعدُ. سنرى فيما سيأتي انتقادَ النماذج التي وردت في أعمال هوميروس وتطبيقها في عصور لاحقة. وتستخدم أشعارُ هوميروس أوقاتِ تناوُلِ الطعام لتكون محورَ العلاقات على المستويين البشري والإلهي، وتحين أوقاتُ تناول الطعام يوميًّا وفي مناسباتٍ خاصة في ملحمة «الأوديسا» (في حفل زفافٍ في الجزء الرابع، وأوقات تناوُل الطعام اليومية التي يحضرها الخُطَّاب في أجزاءٍ تالية). وفي ملحمة «الإلياذة» تتخلَّل أوقاتُ تناوُلِ الطعام مشاهدَ المعارك، وعادةً ما تأتي أوقاتُ تناول الطعام بعد وصفٍ لأحد طقوس تقديم القرابين، وكثيرًا ما تعقبُها جلسةٌ لاحتساءِ الخمور وعزْفِ الموسيقى، يتناول فيها المشاركون النبيذَ الممزوج بالماء. وهذه الجلسة صورة مبكرة من جلسة الشراب، التي يرتدي فيها المشاركون الأكاليل، وتتميَّز بمزجِ النبيذ بالماء، وإنشاد الأغاني وإلقاء الشعر، ولكنَّ المشاركين فيها يجلسون ولا يتَّكِئون.

ويأتي رفْضُ الآلهة لقبول قربانٍ ما، أو رفْضُ شخصٍ ما للمشاركة في مناسبةٍ لتناوُل الطعام؛ بمنزلة خرقٍ فادح للنظام الاجتماعي والديني. تصوِّر ملحمةُ «الإلياذة» — في الجزء التاسع والجزء الرابع والعشرين — مناسباتٍ لتناوُل الطعام تسير على ما يرام في مواقف صعبة. يتناول الناسُ الطعامَ في إطارِ نظامِ التواصُل الأرستقراطي المعروف باسم «زينيا»، وهو نظامٌ يرحِّب بالغرباء من خلال السماح لهم بالاستحمام وتقديم الطعام إليهم قبل أن يُطلَب منهم تعريف أنفسهم. وإذا كانوا معروفين لمضيفهم، فإن الطعام يُقدَّم إليهم بصفةٍ تبادُليةٍ مقابل مآدب سابقة أو اجتماعات متوقَّعة في المستقبل.

الشاعر مهتمٌّ بوصف تفاصيل طقس تقديم القرابين والطهي، ويخصِّص مساحةً أقل لوصف تناوُل الطعام والمأدبة نفسها. وأكثرُ الأطعمة الشائعة هي اللحم البقري والخبز، ولكنْ كثيرًا ما تُقدَّم «كل أنواع الأطعمة». وسنلاحظ قدرًا كبيرًا من الاهتمام في القرون اللاحقة بما يُقدَّم على المائدة.

من الممكن القول بإيجاز إن أقدم الأعمال الأدبية في اليونان استخدمَتِ الأطعمةَ وعاداتِ تناوُل الطعام للتعبير عن الهُوِيَّة، وللإفصاح عن السلوك اللائق وغير اللائق، وعن النجاح أو الفشل في العلاقات بين الآلهة والبشر وفيما بين البشر أنفسهم، ولترسيخ التسلسُل الهرمي الاجتماعي.

(٤) تناوُل الطعام كموضوعٍ في أعمال هوميروس

أثَّرت ملاحمُ هوميروس تأثيرًا كبيرًا في الأعمال الأدبية التي ظهرت بعد ذلك. يقدِّم أثينايوس مثالًا لافتًا للغاية؛ فهو يسوق لنا تعليقاتِ أفلاطون وبعض الشعراء الهزليين الذين عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد عن خلو أعمال هوميروس من ذِكْر الأسماك. وتناقش الشخصياتُ الواردة في كتابه العاداتِ المذكورة في أعمال هوميروس بشيءٍ من الاستفاضة؛ بدايةً في الجزء الأول من كتابه «مأدبة الحكماء» الذي لم يصل إلينا للأسف إلا في صورةٍ موجزةٍ تُعرَف بالملخص. ويبدو أنه قد ثار خلافٌ علمي حول درجة الترف التي كان يعرضها هوميروس في الملاحم؛ إذ قيل إنَّ هدفه الأساسي كان الترويجَ لحياةٍ قائمةٍ على البساطة في عادات تناوُل الطعام وعلى الاستقامة الأخلاقية. وذُكِرت ادِّعاءاتٌ غير عادية عن أهمية الأسماك والخضراوات. يقول أحد المشاركين في المأدبة:

كانت تُقدَّم أيضًا الخضراوات للأبطال في المآدب، ومن الواضح أن لديهم درايةً عن زراعة الخضراوات من كلماتٍ مثل: «بجوار أبعد صفٍّ من أحواض الحديقة المزروعة بأناقة.» فضلًا عن ذلك كانوا يأكلون البصل أيضًا، مع أنه يمتلئ بالعصارات غير الصحية.

نظرًا لأن هذا هو الجزء المُلخَّص من كتاب أثينايوس، فإننا لا نعرف هُوِيَّة هذا المتحدِّث المشارِك في المأدبة، ولا نعرف ما إذا كان هو نفسه الذي يقول بعد ذلك بقليلٍ:

ولكن الشاعر لا يتحدَّث عن أكل الخضراوات والأسماك والطيور لأن ذلك علامةٌ على الجشع، وأيضًا لأنه من غير اللائق للأبطال أن يمضوا وقتَهم في تحضيرها للأكل.

ومع ذلك، من المحتمَل أن يكون هذا الكلامُ نسخةً موجزةً من مناظرةٍ تدور حول دور الطعام في أعمال هوميروس، استقاها المتحدِّثون من المصادر العلمية التي ربما تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وكان المتحدثون يعبِّرون أيضًا عن الأمور التي كانت تشغل الناسَ في عصرهم في القرن الثاني الميلادي. وفي هذه المرحلة، كان هوميروس هو معيار الحُكْم في الشئون الأدبية والأخلاقية والمتخصصة؛ فحتى الخضراواتُ كان من الممكن البحثُ عن معلوماتٍ عنها في النص المُبجَّل: هل تُصنَّف على أنها مكملات غذائية (وليست مكونات غذائية أساسية)؛ أو هل هي أقل شأنًا من أن تستحق الاهتمام؟ هل النباتات الخضراء مهمة، أم فقط الخضراوات المُخصَّصة للأكل؟

وعلى المنوال نفسه، فيما بعدُ — في الجزء الخامس — تُؤخَذ أعمالُ هوميروس بصفتها النموذجَ المُستحسَن بخصوص جلسة الشراب، وذلك في مقابل النماذج التي قدَّمَها الفيلسوفان أفلاطون وإبيقور، مع أن عادة الاتكاء عند تناوُل الطعام لم تكن قد انتشرَتْ بعدُ. ويُفهَم أيضًا أن كبح الإسراف هو الهدف الأساسي الذي يسعى إليه هوميروس. وينجح أثينايوس في هذه الفقرات في الحفاظ على شيءٍ من الخلاف القديم الذي دار حول هوميروس في المكتبات الهلنستية، ويتخذ من القصائد أيضًا نموذجًا لعصره هو. وفي هذا الكتاب، يتناول العلماء الطعامَ في منزلِ لارينسيس الوالي الروماني الثري فيما يبدو، ويتحدَّثون عن المناهج اللائقة وعن مستويات الفخامة المسموح بها. ومن الواضح أنهم لا يتَّبِعون التوصيات الداعية إلى التمسُّك بالبساطة التي يدَّعون أن هوميروس كان يتبعها. ويسبق الحديثَ المتعلِّق بجلسة الشراب في الجزء الخامس أيضًا الأوصافُ التفصيلية للولائم العامة التي كان يُقِيمها الملوك في العصر الهلنستي. إذن، فمن الممكن فهم التفسيرات المتعلِّقة بهوميروس على أنها انتقاداتٌ ساخرة لعادات تناوُل الطعام التي ظهرت لاحقًا، وللعلماء أنفسهم الذين حضروا المأدبة؛ نظرًا للفخامة الواضحة التي يتَّسِم بها طعامهم (خصوصًا الأسماك الواردة في الجزء السادس).

وسواءٌ كان التفسير الساخر هو الأفضل أم لا، فإن أثينايوس يقدِّم دليلًا لافتًا على قراءة أعمال هوميروس في القرون اللاحقة. وبخصوص الاهتمام بأعمال هوميروس في أوقات تناول الطعام، يمكن مقارَنة استخدامِ أفلاطون لمينيلاوس بصفته أفضلَ رجلٍ حضَرَ الوليمةَ في كتاب «حوار المأدبة». ويفترض أفلاطون أيضًا وجودَ علاقةٍ جنسية مِثْلية بين باتروكلوس وأخيلِّيس في كتابه «حوار المأدبة». ومن بين مظاهر الاهتمام بأعمال هوميروس في أوقاتٍ لاحقة وصولُ السُّمَرَاء الهزليين المعروفين باسم «هوميريستاي» إلى مأدبة عشاء تريمالكيو في نَصِّ بيترونيوس، ولوحةُ الفسيفساء التي تصوِّر عوليس وجنيَّات البحر الموضَّحة في الشكل الوارد في بداية هذا الفصل. إن تتبُّعَ أعمال هوميروس عبر مساحاتٍ زمنية وثقافية شاسعة، وصولًا إلى كتاب أثينايوس القائم على التوليف الثقافي، يتيح لنا أن نرى كيف أن نصًّا يعتمد على النظام الثقافي والتعليمي الإغريقي الروماني استُخدِم وأُعِيدَ استخدامُه للتعبير عن الهموم المعاصرة. وتأتي مناقشةٌ مثمرةٌ لهذا الموضوع في ديفيدسون (١٩٩٧).

إنَّ تفسيرات أعمال هوميروس التي يناقشها العلماءُ المشاركون في المأدبة فيما بينهم تكشف عن معلوماتٍ مفيدة؛ فبعضُ هذه التفسيرات تفسيراتٌ قَيِّمة أو خاطئة، والبعضُ الآخَر يقدِّم ادِّعاءاتٍ يصعب إثباتها. يستعمل هوميروس تعبيرًا جامعًا غير مانع وهو «كل أنواع الطيبات» («الأوديسا» ٤، ٥٥ و٧، ١٧٦) التي كثيرًا ما تُقدَّم في مناسباتِ تناوُل الطعام. وليس من الواضح تمامًا إنْ كانت هذه الطيبات تشمل الأسماك والفواكه أم لا، ولكن الواقع هو أن هوميروس كان يتبع مناهجَ معينةً؛ ففي أعماله يقلُّ الحديثُ عن الأكل بعكس الحديث عن تحضير الطعام — وخصوصًا اللحوم — وبعكس الحديث عن احتساء الخمور بعد ذلك؛ ومن ثمَّ، يبدو أن هوميروس يضع المعايير التي تسود في الكثير من الكتابات الأدبية التي تتناول جلسات الشراب، وهي المعايير التي كثيرًا ما يُرجَع إليها لمعرفة معلوماتٍ عن مناسبة المأدبة/جلسة الشراب، ولكن القسم المخصَّص لجلسة الشراب التي يُقدَّم فيها الشعر والغناء هو القسم الذي يحظى بالاهتمام، وذلك فيما يخص الأدب على أقل تقدير.

وأحيانًا يتحدَّث جالينوس نفسه — وغالبًا ما كان استثناءً لهذه الفكرة العامة — عن رؤية الطبقة الراقية الحَضَرية. وهو يتحدَّث في كتاب «عن المزاج السيئ غير المتَّزِن» مثلًا (٤٣ جرانت) عن أن أسلوب الحياة الخامِل يؤدِّي إلى الإصابة بمزاج سيئ غير متَّزِن، وأضافَ: «في قديم الزمان، فيما يبدو، لم يكن يعاني أحدٌ من هذه الحالة؛ لأنه لم يكن من السائد أن يعيش الناسُ بذلك المستوى من الراحة والوفرة …» وقد أطلعنا جالينوس على نموذجِ التطوُّر الذي يفضِّله هِسيود وكاتو وجوفينال، وهو النموذج القائل بأن ذوي السلطان على وجه التحديد يقلُّ معدلُ عملهم عمَّا كان عليه في العصر الجمهوري المتشدِّد؛ فالثراءُ جلَبَ «أوتيوم» أو «سكولي» — أيْ حياة الرفاهية — وتزامَنَ مع ذلك زيادة اعتلال الصحة.

(٥) المسرح الكوميدي والمسرح التراجيدي الإغريقي والروماني

وثمة جنسٌ أدبي بارز آخَر ظهَرَ على مدار عدة قرون فوق خشبة المسرح الكوميدي، ويُلاحَظ فيه الاحتفاءُ بالطعام في صورٍ شعبيةٍ احتفاليةٍ. وينطبق هذا على المسرح الكوميدي في المدن الإغريقية ذات الحكم الذاتي (من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد)، وفي المسرح الروماني الذي قدَّمَه بلاوتوس وتيرينس (من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد). ومن السمات اللافتة في مناقشة المسرح الكوميدي ابتكارُ صورٍ مبكرة عن الفردوس تخلو من أي أزماتٍ خاصة بنقص الطعام، ويتوافر فيها الطعام في قالبٍ مثالي، يكاد يتوسَّل فيه إلى الناس ليأكلوه (راجع الفصل الخامس). ويقدِّم الشاعر فيريكراتيس الذي عاشَ في القرن الخامس قبل الميلاد مثالًا، وذلك من مسرحيته «عمَّال المناجم» (الشذرة ١١٣، ٣–٩):

أنهارٌ تمتلئ بالعصيدة والمَرق أخذَتْ تتدفَّق في القنوات وهي تُصدِر خريرًا، وتجد فيها ملاعقَ وغيرَ ذلك، وتمتلئ أيضًا بقِطَع من كعكِ الجبن؛ ولذلك، كان من السهل أن تنزلق اللقمة من تلقاء نفسها إلى داخل أفواه الموتى. وكانت تتوافر قِطَعُ السجق المصنوع من لحم ودم الخنزير، وكانت تنتثر رقائقُ السجق بجوارِ ضفافِ النهر وكأنها مَحَار.

هذا هو الأدب الذي يتناول نقْصَ القوت، ويقابله الأدبُ الذي يتناول الإسرافَ الذي كان يصدره الأغنياءُ الذين كانوا يرقبون في فزعٍ السلوكياتِ التي تنمُّ عن الإسراف الذي يأتي به البعض — كثيرًا ما يكونون من الشباب حسبما يقال — من بين أقرانهم المُوسِرين (راجع الفصل السابع، وديفيدسون ١٩٩٧، وويلكنز ٢٠٠٠).

والنُّسَخ الكوميدية الساخرة من هذه التصوُّرات المثالية مهمةٌ للغاية؛ نظرًا لأنها تُقدَّم لجمهورٍ كبيرٍ، وهو ما لم يكن من المحتمَل أن ينطبق على نصوصِ أفلاطون أو ثوسيديديس، على سبيل المثال.

يقدِّم المسرح الكوميدي مقابلًا قيِّمًا للعالَم الثري المميَّز الذي يحيط بجلسة الشراب القديمة؛ ففي جلسات الشراب — في شعر ثيوجنيس وبيندار وغيرهما — نجد تمجيدًا للمُثُل العليا المتعلِّقة بالتميُّز الأرستقراطي، وتشجيعًا للتجمُّعات الأنيقة التي يحضرها الأقرانُ ممَّنْ ينتمون للطبقات الراقية في المدن ذات الحكم الذاتي. وصورةُ جلسة الشراب هذه شجَّعَتِ الفكرةَ القائلة بأنها ظلَّتْ سنةً مقصورةً على أبناء الطبقة الراقية في المدن ذات الحكم الذاتي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما؛ إذ كان الأغنياء يحضِّرون جلساتِ شرابٍ أكثر فخامةً ولمراتٍ أكثر مقارَنةً بغيرهم. ولكن جلسات الشراب لم تكن مقصورةً على أبناء الطبقة الراقية، وذلك كما أحاوِلُ أن أبرهن في الفصل السادس.

وتكمن قيمة المسرح الكوميدي بالنسبة إلى هذه الدراسة في كونه اجتماعًا عامًّا للمواطنين؛ إذ كان جمهوره هائلًا، وكان عددُه يصل في أثينا وسيراقوسة إلى نحو ١٥٠٠٠ مواطن وغيرهم. وينشب خلافٌ كبير حول تركيبة الجمهور، ولكن ليس حول حجمه أو القدرة المدهشة التي يمتلكها الشعر الهزلي على الجَمْع بين التعبير الأدبي الراقي واللغة الدارجة المُستعمَلة في الشارع. وقُدِّمت المسرحياتُ الكوميدية — مثل شقيقتها المسرحيات التراجيدية — في الاحتفالات العامة التي كانت تعبِّر عن الأساطير والأيديولوجيا وهموم المجتمع ككلٍّ. وهذا الجمهور المؤلَّف من كل الطبقات يكاد يكون فريدًا في تاريخ إنتاج الأعمال الأدبية القديمة. وبالإضافة إلى الجمهور الكبير والمتنوِّع إلى حدٍّ استثنائي، كان الشعراء الهزليون يكتبون أيضًا في إطارِ قواعد أدبية ودينية مدهشة؛ ومن ثَمَّ، شرع شعراءُ المسرح التراجيدي — باستثناءاتٍ بارزة — في التخلُّص من الكثير من التفاصيل المتعلقة بالطعام في مسرحياتهم، واختاروا تمثيلَ هذه التفاصيل في مسرحيةٍ رابعةٍ إضافيةٍ لتختتم الثلاثية، وهي عبارة عن محاكاة ساخرة. وعلى العكس من ذلك، أدرَجَ شعراءُ المسرح الفكاهي الطعامَ وعاداتِ تناوُل الطعام في مسرحياتهم بدرجةٍ مبالَغٍ فيها. وهذه التقديراتُ مقدَّمةٌ بالمقارنة — على سبيل المثال — بملاحم هوميروس التي لا تحذف الإشارات إلى تناوُل الطعام مثل المسرح التراجيدي.

فبينما تصوِّر ملاحمُ هوميروس تقديمَ قرابين من الحيوانات على نحوٍ متكرر في ملحمة «الإلياذة»، وتصوِّر مشاهدَ تناوُل الطعام في الكثير من المناسبات في ملحمة «الأوديسا»؛ نجد أن المسرح التراجيدي يقلِّل من وصف تلك المناسبات. ويُذكَر تناوُل الطعام في الولائم بصفته نشاطًا كان يستمتع به الناس (راجع ويلكنز ٢٠٠٣)، ولكن لم يَعُدْ أحدٌ يمارسه. وكثيرًا ما كان للولائم في المسرحيات التراجيدية مغزًى مشئومٌ، وهو ما يتصل بقَطْع العلاقات بين الآلهة والبشر بسبب فسادِ طقسِ تقديمِ القرابين؛ فهذه الطقوسُ لا تسير بحسب المقرَّر لها سلفًا، وكثيرًا ما تقترن بالقتل. وتظهر هذه السمة بوضوحٍ في الأساطير المتعلقة بأكل لحوم البشر وبالقتل الشعائري، وهي الأساطير الحاضرة عادةً في الأسطورة التراجيدية. والأسطورة الأولى يصوِّرها إيسخيلوس في مسرحيته «أجاممنون»، وفيها تصف الكاهنةُ الطروادية الأسيرة كاساندرا رؤيا كئيبةً ترى فيها مقتلَ أطفالِ ثيستيس (١٢١٩–١٢٢٢): «رأيتُ أطفالًا يُقتَلون وكأنما على أيدي أقربائهم، وتمتلئ أيديهم بوضوحٍ باللحم؛ لحم الأطفال، وبأعضائهم الحيوية وأمعائهم — آه وا أسفاه — التي كان قد تذوَّقَها أبوهم.» وفي هذه الرؤيا، يُقسَّم لحمُ الأطفال إلى الفئات الثلاث المتَّبَعة عند تقسيم الحيوان في طقس تقديم القرابين: وهي اللحم، والأعضاء الحيوية، والأحشاء (راجع فيرنان ١٩٨٩ والفصل الأول).

ونجد علاقةً أشمل بين تقديم القرابين والقتل وتقطيع الجسم البشري، وذلك بالتشبيه بذبح الحيوان بغرض تقديمه كقربان، وذلك في المسرحية التي ألَّفَها يوربيديس بوَحْيٍ من أسطورة إلكترا؛ وهذا التشبيه ناقَشَه دوراند (١٩٨٩). ونجد إيجيسثوس — زوج الأم الشرير — يقدِّم ثورًا كقربانٍ ويدعو عابِرَيْ سبيلٍ من الغرباء (وهما في الواقع ابن زوجته المُبعَد أوريستيس وصديقه بيلاديس) لمشاركته في وليمةٍ من لحمِ القربان مُقدَّمة للحوريَّات. وفي كلامٍ مطوَّل (٧٧٤–٨٥٨)، يروي الرسول مشهدَ إيجيسثوس وهو يذبح بقرة صغيرة، ويُدعَى أوريستيس لتقطيعها، ويكشف الجلدَ الأبيض ويسلخ البقرةَ ويفتح الجزءَ الواقع تحت القفص الصدري؛ ويجد الكبد (وهو من الأعضاء الحيوية المهمة من عدة نواحٍ) ولكنه لم يكن مُقسَّمًا إلى فصوص، أما الطحال فهو أيضًا غير سليم من الناحية التشريحية. ويقترح أوريستيس أن يبدءوا في إقامةِ وليمةٍ من الأعضاء التي يجب تذوُّقها في طقس تقديم القرابين، ولكن إيجيسثوس ينحني ليفصل أجزاء الكبد، فيضربه أوريستيس على فقرات عموده الفقري ويكسر ظهره؛ فينهار جسم إيجيسثوس بأكمله، ويسقط مترنحًا، ويلفظ أنفاسه الأخيرة، «ويموت ميتة أليمة غير طبيعية». يضع يوربيديس خطوات طقس تقديم القرابين جنبًا إلى جنب مع واقعة القتل، حتى إنه أثناء انشغال إيجيسثوس في خطوات تقديم القربان يتلقَّى الضربةَ وكأنه ثورٌ يُضرَب تمهيدًا لذبحه. وتحفل خطبته هذه بالكثير من الأفكار المُلتبِسة؛ إذ تستخدم الدمجَ بين موت الحيوان وموت الإنسان لطرح أسئلةٍ كئيبةٍ عن موت الطاغية، ودور أوريستيس المظلوم. والفقرةُ مزعجةٌ عن قصدٍ؛ فمع أن هذه الشَّعيرة تشير إلى الوليمة التي كان من المتوقَّع أن يستمتع بها المشاركون، فإنها في الوقت نفسه تُذكِّر جمهورَ المشاهدين باستمرارٍ بالتفاصيل غير الملائمة. ويشمل هذا جسمَ الحيوان وجسمَ الإنسان، وبالتضمين الأمر الإلهي الذي يُشرِف على هذه المناسبة الدينية. ويُشار إلى فكرةِ تذوُّق اللحم مرتين. ومتعةُ الأكل — كعهدها دومًا — تكون قريبة زمنيًّا من فِعل تقديم القربان، ولا بد أن نقارن هذه الفقرة بالفقرتين الواردتين في مسرحية ميناندر اللتين استشهدتُ بهما في الفصل الثالث بخصوصِ التوازُن بين التقوى والمتعة عند حضورِ وليمةٍ من لحم القرابين.

وليس المقصود بهذا أن نقول إنَّ المسرح التراجيدي يستبعد الطعامَ تمامًا. يصف يوربيديس وليمةً فاخرةً في دلفي في مسرحيته «أيون»، وفيها يُدعَى شعبُ دلفي إلى مأدبةٍ في الهواء الطلق في خيامٍ أقمشتُها مرسومٌ عليها النجوم وهي في قبة السماء ووحوشٌ خارقة. ويرتدون الأكاليل ويأكلون وليمةً لذيذة (لا تُوصَف بالتفصيل) تقرُّ بها عيونهم، وينتقلون إلى جلسة الشراب، وتُقدَّم الأقداحُ الذهبية والعطورُ ويبدأ احتساءُ الشراب، وصولًا إلى محاولةِ تسميمِ البطل الأثيني أيون. ويُذكِّر تسميمُ القدح بالحياة في قصر الإسكندر وقصور الملوك الهلنستيين وغيرهم من الملوك الذين كانوا يعيشون في خوفٍ من السموم وغيرها من وسائل الاعتداء على حياتهم واغتيالهم.

وإذا كان المسرح التراجيدي يقدِّم الطعامَ وقد شوَّهَه بشدةٍ الإخلالُ بنظامِ تقديمِ القرابين، فإن المسرح الكوميدي — على الرغم من تحمُّسه للأكل ولمُتَع الجسد — لا ينظر إلى الطعام من منظورٍ غيرِ مبالٍ؛ إذ يعرض المسرح الكوميدي توبيخًا ساخرًا للأشخاص النهمين والأشخاص أقوياء البنية الذين يلتهمون أكثر من نصيبهم، ويعبِّر عن القلق حيال طقوس تقديم القرابين التي تجنح أكثر من اللازم نحو المتعة. ولكن المسرحيات التراجيدية والمسرحيات الكوميدية على حدٍّ سواء كانت تُقدَّم في احتفالات ديونيسوس في أثينا، وكان من الواضح أن إله الخصوبة هذا كان يُكرَّم بمختلفِ أنواعِ الترانيم قبل ابتكار الدراما، وما إنْ تطوَّرَتِ الدراما حتى صار يُحتفَى بجوانب مختلفة من الإله في الأجناس الأدبية المختلفة. كانت المسرحيات التراجيدية تصوِّر ديونيسوس في صورة مزعجة بصفته أخلَّ بالنظام المتعارف عليه، وأدخَلَ عالَمَ الطبيعة إلى شئون البشر؛ وتتمثَّل أكثرُ الصور تطرفًا لهذا التصوير في مسرحية «الباخوسيات» من تأليف يوربيديس، وتصوِّر الطاغيةَ بينثيوس ضعيفَ الحيلة على الرغم من قوته المدنية والعسكرية، بجوار الإله غير محدَّد الجنس الذي لا يمكن إدراجه في الفئات العادية مثل إغريقي أم أجنبي، أو ذكر أم أنثى، أو مخبول أم عاقل، أو طبيعي أم متحضر. ولا تظهر أسطورة ديونيسوس صراحةً في الكثير من المسرحيات، ولكن يظهر في كل مسرحية تقريبًا هجومُ القوى المخيفة على النظام والفئات المدنية الثابتة. وتكاد تخلو المسرحياتُ الكوميدية من العناصر المخيفة؛ إذ تقدِّم هذه المسرحياتُ عالَمًا مضطربًا تُصلِحه القوى الهزلية التي تفسد على نحوٍ مؤقتٍ بنيةَ السلطة، وتعزِّز من التضامُن بين الجوقة والمواطنين، وتؤكِّد على الرغبات البشرية العنيفة التي تصبو إلى تناوُلِ الطعام وإقامة العلاقات الجنسية على المشاع. مسرحية «الأخارنيون» هي مسرحية كوميدية معروفة بامتداحها لديونيسوس وتمثيلها على المسرح لعددٍ من احتفالاته المدنية. وليس المقصود بذلك القول أن المسرحية تخلو من العناصر المزعجة؛ إذ إن البطل الهزلي ينجح في تحقيق فردوس يليق بديونيسوس في نهاية المسرحية في أجواءٍ مناهضة للشيوعية كما يبدو، ترفض اقتسامَ معاهدة السلام التي يبرمها البطلُ مع أي أحدٍ كان.

fig32
شكل ٩-٢: مزهرية إكستر — وهي إناءٌ للنبيذ أو للماء — ربما كانت مخصَّصة للاستعمال في جلسات الشراب، وتحمل صورة لإلكترا وأوريستيس عند قبر أجاممنون. واسم أجاممنون منقوش على القبر، وأسماء الشخصيات مذكورة عند الضرورة. وإذا كانت من الأواني المستعملة في جلسات الشراب، فإن مَنْ يشربون النبيذ كانوا يرون أمام عيونهم مشهدًا أساسيًّا من مسرحية «إلكترا» التي ألَّفها يوربيديس، أو التي ألَّفها شاعرٌ آخَر. ففنُّ الدراما انتقلَ من خشبة المسرح إلى عالَم جلسات الشراب. (الصورة إهداءٌ من قسم الآداب الكلاسيكية والتاريخ القديم، جامعة إكستر.)

يمثل المسرح الكوميدي قيمةً كبيرة لهذا الكتاب نظرًا لطابعه «الشعبي الاحتفالي»، الذي أناقشُه في ويلكنز (٢٠٠٠). ويكفي الاستشهاد بمثالين. في مسرحية «برلمان النساء» التي ألَّفها أريستوفان في عام ٣٩٢ قبل الميلاد تستولي نساءُ مدينة أثينا على مقاليد الأمور، وهذا مثالٌ لتناول فكرة المدينة الفاضلة بأسلوبٍ هزلي، وتشهد المدينة اتحادَ كلِّ المواطنين في وحدة جنسية واحدة، واندماج كل الممتلكات في ملكية مشتركة واحدة. وكما هي الحال مع الأمثلة الهزلية الأخرى على المدينة الفاضلة، تنطلق تلميحاتٌ بأن الاقتسام الجماعي للثروة والنشاط الجنسي لن ينجح. وفيما يأتي الاقتراحات المتعلقة بإقامة مآدب العشاء (٦٧٥–٦٩٧):

بليبيروس : وأين سنتناول عشاءنا؟
براكساجورا : سأطلبُ تحويلَ كل قاعات المحكمة والأروقة المُعمدة إلى قاعات طعامٍ للرجال.
بليبيروس : ومنصة الخطابة، لأي غرض ستستخدمينها؟
براكساجورا : سأضعُ عليها أواني المزج ودوارق الماء، ومن الممكن أن ينشد الأطفالُ الصغار الشعرَ الملحمي عن الرجال الذين قاتلوا بشجاعةٍ في الحرب. وإذا اتضح أن أحدهم جبان فسيُحرَم من الجلوس لتناول الطعام.
بليبيروس : بحق أبولُّو، كَمْ هذا لطيف! ولأي غرضٍ ستستخدمين الآلات المخصَّصة لتوزيع الأنصبة؟
براكساجورا : سأضعها في ساحة السوق. سأقفُ بجوار تمثال هارموديوس وأخصص أماكن للجميع بالقرعة، وحين يحصل جميع الحاضرين على نتيجة القرعة، ينصرف كلٌّ منهم وهو يعلم الحرف الذي يرمز إلى المكان الذي سيتناول الطعام فيه؛ وسيصدر إعلانٌ مخصَّص لمَنْ يندرجون في فئة الحرف (بيتا) لكي يجلسوا لتناوُل الطعام في الرواق الملكي، وسيجلس مَنْ يندرجون في فئة الحرف (ثيتا) في الرواق الذي يليه، وسيجلس مَنْ يندرجون في فئة الحرف (كابا) في رواق باعة الشعير.
بليبيروس : لكي ينحنوا؟
براكساجورا : لا، بل ليتناولوا طعامهم هناك.
بليبيروس : والذين لا يُسحَب الحرف المخصَّص لتحديد مكانٍ يتناولون طعامهم فيه، هل سيُطرَدون؟
براكساجورا : لن يحدث هذا لكم. سنوفِّر كلَّ شيء للجميع بسخاءٍ، وسيترتب على ذلك خروجُ الجميعِ وهم سكارى، وكلٌّ يرتدي إكليله ويحمل مِشعله، وستنقضُّ النساءُ الآتيات من الشوارع الجانبية على الرجال الخارجين من مأدبة العشاء وهنَّ يقلْنَ: «هَلموا إلينا. ها هي ذي فتاة جميلة.»

صارت الآلات المستخدمة في الانتخاب الديمقراطي تُستخدَم في حفلات الشراب، وثمة فكرتان تجدر الإشارة إليهما؛ أولًا: كان يقام الكثيرُ من مناسبات تناول الطعام واحتساء الشراب للمسئولين الحكوميين في المدينة التي تطبِّق الحكمَ الديمقراطي، وكان ثمة بندٌ يقضي بمراجعةٍ شهريةٍ لكميات الطعام المتوافرة؛ ولذلك، فالاقتراح الهزلي هو امتدادٌ لما كان مدمجًا في النظام، وهو امتدادٌ في الفردوس الهزلي لضمان عدم وقوع أحدٍ ضحيةً للجوع. ثانيًا: تنتظر النساءُ الرجالَ خارج قاعات الطعام؛ فهذا النظام الشيوعي البدائي لا يتمادى فيما يخصُّ القواعدَ التي تحكم العلاقةَ بين الجنسين إلى حدِّ السماح للرجال والنساء بتناول الطعام معًا.

والفقرةُ الهزلية الثانية مأخوذةٌ من مسرحية «بلوتوس، إله الثروة» لأريستوفان، وتصوِّر هذه الحكايةُ الرمزية الأسطورية إلهَ الثروة الكفيف وقد استعاد بصره؛ ممَّا أدَّى إلى عواقب مدهشة؛ فبمجرد أن يتمكَّن الإله من الرؤية لا يكون البشر في حاجةٍ إلى الآلهة؛ لأن الصالحين لديهم ما يكفيهم من الثروة. وهكذا، يواجه الكهنة والآلهة خطرَ الموت جوعًا، كما يحدث في مسرحية أريستوفان السابقة التي ألَّفَها في عام ٤١٤ قبل الميلاد؛ «الطيور». ولكن علاج العمى هو ما أودُّ التركيزَ عليه، وهذا العلاجُ عبارة عن النوم المقدَّس، ويذكِّرنا بعادةٍ دينيةٍ ناقشتُها من قبلُ في الفصلَيْن الثالث والثامن، والراوي هو كاريون العبد.

يغتسل إلهُ الثروة في البحر، ثم يرقد في حرم المعبد. تُقدَّم الكعكات والبخور (٦٦١-٦٦٢)، ويرقدون على أرائك ريفية. ومن بين غيره من المرضى امرأةٌ عجوز معها قدرٌ من «أتهاري» (عصيدة القمح)، ويطمع فيه العبد، ولكن نواياه في الاستيلاء على الطعام أقلُّ تطورًا من نوايا الكاهن الذي يختطف الكعكات المخصَّصة كقرابين والتين المجفَّف من هيكل المعبد. ويخشى العبدُ من أن يمر الإله بجوار المزار وهو يرتدي الإكليل ويضبطه وهو يسرق العصيدة، وترتاب المرأة العجوز أيضًا، ويُصدِر العبد صوتَ فحيحٍ وكأنه أفعى مقدَّسة لإخافتها ويختطف العصيدة؛ فتُخرِج العجوز ريحًا من فرط الخوف، ويُخرِج العبد ريحًا أيضًا، بعد أن أكل من العصيدة؛ فيُمسِك خَدَمُ الإله أنوفَهم، ولكن الإله لا يعبأ بذلك؛ لأنه يأكل الفضلات. ويمرُّ الإله بجوار المرضى ومعه هاون ويد هاون وصندوق من الأدوية، ويعالج سياسيًّا كفيفًا بالثوم وعصير التين وبصل البحر والخل؛ ما يسبِّب ألمًا شديدًا لهذا الرجل المكروه. وفي غضون ذلك، يُشفَى إله الثروة بفِعْل الأفاعي المقدسة، وفور عودته إلى المدينة يتأكَّد أن البسطاء لا يعانون من الجوع (٧٦٢-٧٦٣) وينشر الرفاهية بين جميع الصالحين.

وهذه توليفة هزلية معتادة تعبِّر عن انتصار البسطاء على ذوي السلطان (الآلهة وكذلك البشر)، وهو ما ناقشتُه في ويلكنز (٢٠٠٠). والفكرة غير المعتادة (ولذلك هي مفيدة للغاية: راجع إديلشتاين آند إديلشتاين ١٩٤٥) هي الوصف التفصيلي للنوم المقدس؛ إذ تشرح المسرحيةُ الكوميدية كيف يحصل الكهنة على القرابين المقدَّمة للآلهة، وربما يأكلونها أيضًا: فأين عساها تذهب؟ ويُصوِّر الإلهَ أيضًا في هيئةٍ ماديةٍ وهزليةٍ للغاية. ونظرًا لأن اختبار البراز والبول عادةٌ طبية متعارَف عليها لتشخيص الأمراض، فإن الإله لا يتأثَّر بالروائح الكريهة التي تزعج خَدَمه. والعلاجُ يعتمد على الأفاعي، و«العلاج» العقابي القائم على الخل وغيره المخصَّص للسياسي (حتى لو لم يكن عقابًا) لا يبدو أنه من سُبُل النوم المقدس، بل هو علاجٌ بديل يقدِّمه الطبيب.

وكما أكَّدْتُ في ويلكنز (٢٠٠٠)، فإن المسرح الكوميدي يقدِّم تفاصيلَ دقيقة عن عادات تناوُل الطعام القديمة، وكثيرًا ما تتفوَّق هذه التفاصيلُ بكثيرٍ على أيِّ مصدرٍ آخَر.

ولم تتسبَّب هُوِيَّةُ المسرح الكوميدي بصفته جنسًا أدبيًّا شعبيًّا في استبعاد أهميته للطبقة الراقية؛ إذ كان يتسنَّى إدماجه في الأعمال الأدبية الأخرى التي ظهرت في عصرٍ لاحق. وكان المسرح الكوميدي شاهدًا على استعمال صيغة نقية من المفردات الأتيكية، وكان شاهدًا أيضًا على الكثير من أوجه الثقافة الأثينية في العصر الكلاسيكي القديم. ولهذه الأسباب يظهر المسرح الكوميدي في أعمال بلوتارخ (مع أنه يكره سوقيته)، وأعمال أثينايوس (وتعجبه سرعة البديهة اللفظية وتفاصيل المآدب الحقيقية)، وأعمال جالينوس. ويستعمل الأخير المسرحَ الكوميدي بغرضِ إدراجِ أدلةٍ عن المصطلحات المتعلِّقة بالطعام ولأسبابٍ أسلوبية، كما أنه كتبَ عددًا من الكتب عن لغةِ شعراءِ المسرح الكوميدي القديم؛ مثل: يوبوليس، وكراتينوس، وأريستوفان.

وتأتي مناقشةٌ عن المسرح الكوميدي في كتاب بلوتارخ «حديث المائدة» (٧، ٨). يتسم المسرح الكوميدي القديم بلغته الخشنة أكثر من اللازم؛ إذ يتطلَّب الأمرُ تدخُّلَ عالِمِ نَحْوٍ لتفسيرها لكلِّ شخصٍ على حدة، وكأنه الشخص المُكلَّف بصبِّ النبيذ الواقِف خلف كل ضيف. والغناءُ أفضلُ منه بكثيرٍ، فهو يقدِّم طعامًا أساسيًّا في هيئة كلمات، ويقدِّم الموسيقى بصفتها مكمِّلات إضافية. وهذا مثالٌ لافت لاستيعاب الصور الثقافية (ممثَّلةً في المسرح الكوميدي والأغاني) على سبيل المجاز في جلسات الشراب.

وأصبحَتْ وظيفةُ المسرح الكوميدي في العصر الإغريقي المتأخِّر الذي كان يكتب فيه كلٌّ من بلوتارخ وجالينوس وأثينايوس؛ تتجاوز النقدَ المرح أو الهجائي الذي كان مهمًّا للغاية في هيئته الأصلية كعروضٍ تُؤدَّى على المسارح. وكان المسرح الكوميدي يُستخدَم في جلسات الشراب وفي حلقات النقاش التي يحضرها العلماء، كما يشرح بلوتارخ، ومن الممكن استخدامه أيضًا — كما رأينا — ليكون شاهدًا على المصطلحات الصحيحة المكتوبة باللغة الإغريقية الكلاسيكية القديمة. ويساعد المسرح الكوميدي — شأنه شأن أعمال هوميروس — المؤلفين الذين ظهروا فيما بعدُ على التحقُّق من المصطلحات الكلاسيكية القديمة. وهذا من الأسباب التي تفسِّر استخدام أثينايوس للمسرحيات الكوميدية بهذه الكثرة؛ إذ إن المسرح الكوميدي يقدِّم إشاراتٍ كثيرةً للطعام، ويثبت المفردات المتخصِّصة أيضًا؛ ومن ثَمَّ، فإن استخدام الشعر الهزلي يضيف عُمْقًا علميًّا، وأيضًا ظرفًا وأسلوبًا هجائيًّا مناسبًا للغاية في جلسة الشراب. وكان للشعر الهزلي وظيفةٌ أخرى؛ إذ كان واضحًا ويسهل تذكُّره. وهذه الفكرة يتناولها بوضوح نصٌّ جغرافي من القرن الثاني قبل الميلاد، وهو «رحلة حول الأرض»، وكان يُنسَب خطأً إلى العالِم الجغرافي شيمنوس. وهذا العمل الغريب مكتوبٌ في قالبٍ من الشعر الهزلي من التفعيلة العمبقية؛ لأنه — حسبما يصرِّح المؤلف (٣-٤) — يعبِّر عن كلِّ فكرةٍ بإيجازٍ ووضوحٍ؛ ولأن (٣٣–٤٤) الشعر الهزلي يسهل تذكُّره، وبفضل طابِعه الموجز يتميَّز بالدقة وقوة الإقناع، بالإضافة إلى شيءٍ من الجاذبية. وهذا الاستخدام العلمي للشعر الهزلي نراه أيضًا في عمل أبولودورس من أثينا، وهو الذي يُستشهَد باقتباساتٍ كثيرة منه في كتاب أثينايوس، ونراه أيضًا في الوصفات الطبية الشعرية التي يقتبسها جالينوس كأمثلةٍ على الوصفات التي يكتبها الطبيب، ومن المُستبعَد أن تسمح بحدوث أخطاءٍ في النُّسَخ بسبب الضمانات التي يوفرها إيقاع الشعر.

ومن ثَمَّ، فإن كثرة استخدام أثينايوس للمسرح الكوميدي لها تفسيرٌ عابِث «متعلِّق بجلسات الشراب»، ولها تفسيرٌ قائم على المحتوى لأن الطعام والولائم كانت من العناصر الجوهرية في المسرح الكوميدي، ولها تفسيرٌ علمي أيضًا.

(٦) الهجاء الروماني

تزخر الكتابات الهجائية التي ألَّفها هوراس وجوفينال وبيترونيوس وغيرهم بالإشارات إلى الطعام، وذلك كما أوضح جاورز (١٩٩٣) وغيره. وربما تكون كلمة هجاء satire نفسها مشتقة من صورة صحن ممتلئ أو مائدة ممتلئة، وذَكرتُ فيما سبق فكرتين رئيستين هما الحنين إلى الماضي والنقاء الريفي، وهي من الأفكار الحاضرة بقوةٍ في الهجاء. ومن الأفكار الرئيسية الحاضرة بقوةٍ أيضًا النَّهَم وأنماط تناوُل الطعام القائمة على التسلسل الهرمي (جوفينال «المقطوعة الهجائية الخامسة»، ورَدَ اقتباسٌ منه في الفصل الثاني)، وفكرة توافُر السلع الفاخرة أمام الطبقة الراقية الرومانية. وفي «الهجائيات» (٢، ٤) و(٢، ٨)، يقدِّم هوراس أولًا كاتيوس المعتاد على الاستماع إلى فِكْرٍ فلسفيٍّ خاطئ، ونَصَحَه البعضُ بأن يبذل كلَّ ما في وسعه (في القصيدة على الأقل) للعثور على أفضل المكونات. ويُوصَى بالكثير من المكونات الممتازة المرتبطة بأماكن معينة، في صيغةٍ شبيهة بقصيدة «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس. وفي «الهجائيات» (٢، ٨)، يتباهى المضيفُ ناسيدينوس أمام ضيوفه بثرائه الفاحش.

إنَّ نَص «عشاء تريمالكيو» لبيترونيوس هو أبرزُ تلك الأعمال — مع أنه يشبه كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون (دوبونت ١٩٧٧) — لأن المأدبة التي يُقِيمها يحضرها ضيوفٌ أغنياء وفقراء، ويُقدَّم فيها طعامٌ وفير، وتدور فيها مناقشاتٌ عن وسائل الترفيه وعن أزمات نقص الطعام في المجتمع الأكبر، وتحتوي على كل اللمسات الصغيرة التي يصعب على القارئ المعاصر أن يكوِّن عنها رأيًا بدقةٍ. هل بيترونيوس هو «حَكَمُ الأناقة» الذي وصَفَه تاسيتُس في قصر نيرون؟ هل تريمالكيو عبارة عن محاكاة ساخرة للإمبراطور نيرون؟ يهتم تريمالكيو اهتمامًا بالغًا بمرات التبرُّز لديه؛ فهل السبب في هذه البذاءة هو الموضوع، أم لأنه يناقش الموضوع بإفراط؟ رأينا في الفصل السادس أن الموت وجلسة الشراب فكرتان رئيسيتان متلازمتان في أحيانٍ كثيرة. هل تريمالكيو كئيب إلى حدٍّ غير سويٍّ، أم أن الأمر لا يزيد عن كونه مهتمًّا بموته أكثر من الحد الطبيعي؟ أم أن حجم قبره فقط هو الذي يؤرِّقه؟ يقدِّم تريمالكيو الكثيرَ من أطباق اللحم، ومعظمُها من لحم الخنزير، ولا يقدِّم إلا كميةً قليلةً من الأسماك. فهل يشير هذا إلى أصوله الوضيعة، أم أن هذا طعامٌ روماني طيب؟

وفي منمنمة طريفة أخرى — يناقشها كونت (١٩٩٦: ١٧٢) — يتَّبِع تريمالكيو مبادِئَ الاكتفاء الذاتي ولا يشتري الطعام إلا من أملاكه؛ ففي النصوص التي تتناول الوعظَ الأخلاقي يكون من المُستحسَن تجنُّب عوامل الإغراء التي تحفل بها الأسواق. ولكنْ يتَّضِح أن أملاك تريمالكيو تشمل معظمَ أنحاء جنوبي إيطاليا، وتمتد إلى أفريقيا، ويستطيع زراعة الفِطْر الهندي والأُتْرُجِّ؛ ومن ثَمَّ يتجنَّب الأسواقَ، ولكنه يستطيع الوصولَ إلى كل ثروات الإمبراطورية.

وتريمالكيو شخصيةٌ تتَّسِم بالغِلْظة، ولكن الكثير من الأطباق المقدَّمة في مأدبته، والكثير من الأنشطة المصاحبة للمأدبة، عبارة عن صور مُبالَغ فيها من أوجه المآدب وجلسات الشراب التي رأيناها في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ويبدو أن دور الوعظ الأخلاقي الذي يلعبه كاتِب الهجاء واضحٌ، ولكن المؤرِّخ المتخصِّص في الطعام لا يجد أمامَه إلا المزيد من الألغاز والأفكار الغامضة.

يعكس فنُّ الهجاء الغِنَى الفاحش، الظاهِر على موائد الأغنياء، وذلك من خلال تنوُّع الأطعمة التي يذكرها، وكذلك مفرداته وأسلوبه الساخر. وشرحتُ في ويلكنز (٢٠٠٤) أنَّ بعض الأساليب الهجائية سخيفةٌ ومُبالَغٌ فيها، ولكن ثمة نماذج أخرى يعبِّر عنها مؤلِّفون أكثر رصانةً بكثيرٍ مثل جالينوس. يتحدَّث بلينوس أيضًا — في قالبه الموسوعي — عن بعض المفاسد التي تَحْدُث في المآدب ويشجبها كُتَّابُ الهجاء. ورأينا في الفصل السابع آراءَ بلينوس عن سوءِ استعمال الخنازير البرية في عصره كطعامٍ. ويتحدَّث جوفينال على المنوال نفسه في مقطوعته الهجائية الأولى: «كَمْ هو نَهِمٌ فظٌّ ذلك الذي يلتهم خنزيرًا بريًّا كاملًا، يلتهم حيوانًا مخصَّصًا كي تُصنَع منه وليمةٌ لجماعةٍ من الناس!»

(٧) الحكاية الكاشِفة

إن أثينايوس واحدٌ من الكثير من المؤلفين الذين لديهم قصصٌ لا تُحصَى عن ذلك الرجل الذي … أو عن تلك المرأة التي … وتكشف هذه الحكايات عادةً عن صفة معينة، كثيرًا ما تكون النَّهَم أو نقيصةً أخرى مشابهة. ويوفر تناوُل الطعام والأنشطة الاجتماعية أرضًا خصبة لمثل تلك الأخبار. يقتبس أثينايوس ما قاله الفيلسوف الرواقي خريسيبوس — مثلًا — عن الرجل النَّهِم فيلوزينوس:

أذكرُ شخصًا نَهِمًا كان مجردًا من كل مشاعر الخجل أمام رفاقه — مهما حدثَ — حتى إنه كان يُعوِّد يده على السخونة وهو في الحمامات العمومية بغمرها في الماء الساخن، وكان يتغرغر بالماء الساخن حتى لا يجفل من الطعام الساخن؛ إذ كانوا يقولون إنه نجح فعلًا في إقناع الطهاة بتقديم الأطباق وهي ساخنة جدًّا، وكان هدفه من ذلك أن يلتهم كلَّ شيءٍ وحده، طالما أنه لم يكن بوسعِ أحدٍ سواه أن يحذو حذوه.

وهذه هي الحكاية المقصودة بها العِبْرة التي يستخدمها الفيلسوف أو المعلم الأخلاقي لتوضيح مخاطر الإسراف أو السلوك المنحرف اجتماعيًّا؛ فالرجلُ الذي يفرط في التمتُّع بطعامه معرَّضٌ لخطر ارتكاب الجريمة الاجتماعية القصوى، وهي تناول الطعام وحده.

ويندرج هذا المثال في نموذج الفِكْر الذي وردَتْ مناقشتُه في الفصل السابع؛ فقد استخدم الكثير من الأجناس الأدبية مثل تلك الحكايات. والمؤلِّفون الذين يجمعون مجموعات من المواد المتنوعة ويقتبسون منها — مثل أثينايوس وأولوس جيليوس وإيليان — يمثِّلون حالةً لافتةً للغاية؛ ويعود الفضل إلى هؤلاء في معرفتنا لمؤلفين مثل ماكون الذي ألَّف كتاب «الحكايات»، وهو سلسلة من الحكايات التي تتحدَّث عن الأشخاص النَّهِمين والمحظيَّات. كان ماكون أيضًا يكتب المسرحيات الكوميدية، وهو جنسٌ أدبي يهتمُّ هو الآخَر بذلك الموضوع، وأكثرُ سلسلة من الحكايات ذات صلة بهذا الموضوع تتناول عازفَ هَارب يُدعَى ستراتونيكوس («مأدبة الحكماء»: راجع جيلولا ٢٠٠٠). وساعدَتْه مهنته على دخول عددٍ من جلسات الشراب، وبات جديرًا بأن يتذكره القارئ بفضل تعليقاته الطريفة، وساعدت رحلاتُ العمل التي قام بها في أنحاء البحر المتوسط على إضفاء التنوُّع على الحكايات. وفي بيلا (مقدونيا) أهانَ عازفًا منافِسًا وأفرطَ في احتساء الخمور حتى سَكِر؛ وفي أبديرة أخذ يروي طرفاتٍ عن المَحَار، وفي بنطس توجَّهَ إلى القصر الملكي، وفي كورنث أخرجَتِ امرأةٌ ريحًا في جلسة شراب. وبالإضافة إلى القيمة الأخلاقية والترفيهية لهذه الحكايات، فإنها تقدِّم مَشاهِدَ اجتماعيةً سريعة ربما تنطوي على قيمةٍ بصفتها أدلةً، وهي تُظهِر أيضًا — مثل قصيدة أركستراتوس — وجود اهتمام بالمكان. وفي هذه يؤدِّي التنوُّع من حيث المكان إلى توضيح السمات المحلية، وبعضها معروفٌ (العاهرات في كورنث مثلًا)، والبعض الآخَر غير مألوف (أجواء بيلا تساعد على إظهار الحالات المَرضِيَّة التي تصيب الطحال). ومع أن حكايات ماكون عن ستراتونيكوس تُضفِي وجهةَ نظرٍ قائمة على التصوير المحلي على التعليقات الذكية، فإن حكاياته الشهوانية عن المحظيَّات يقع معظمها في أثينا، ولكنها تطلق العنان للظرف الأنثوي في المأدبة وفي جلسة الشراب («مأدبة الحكماء»).

وكثيرًا ما يُدرِج كُتَّابُ السيرة حكاياتِ تناوُلِ الطعام واحتساء الخمور بهدف إظهار سماتِ شخصيةِ مَنْ يكتبون سيرتهم. ويقدِّم كتابُ «حياة أغسطس» من تأليف سيوتونيوس، وكتاب «كاتو الأكبر» من تأليف بلوتارخ، مثالين لافتين في هذا الصدد؛ ففي نهاية كتاب «حياة أغسطس»، يكتب سيوتونيوس ملاحظاتٍ لافتةً عن الإمبراطور في ملخصٍ عن عادات تناول الطعام، يسرد فيه كيف كان أغسطس يمتلك أثاثًا لغرف الطعام أقل فخامةً من الكثير من الأفراد العاديين، وكان يقيم مآدبَ غاية في الرسمية، تُراعَى فيها الفوارقُ الطبقية بكل دقة، وكثيرًا ما كان غير حاضر في بدايةِ أو نهايةِ تلك المناسبات. وكانت مآدبه تقدِّم ما يتراوح بين ثلاثة وستة أصنافٍ من الطعام، وكان مُضيفًا كريمًا يجيد مساعدةَ ضيوفه في التصرُّف بأريحية ودون تكليف. ومع أن هذه المآدب كانت رسمية، كانت تتخلَّلها فقراتٌ ترفيهية يؤدِّيها عازفون وممثلون ولاعبو سيرك. وكان الإمبراطور أغسطس يدبِّر مقالب للناس في المآدب المُقامة في المناسبات الاحتفالية، بما فيها عيد ساتورناليا. وفي غير المناسبات العامة، كان يقتصد في طعامه ويُفضِّل «طعام البسطاء، لا سيَّما الخبز الخشن والأسماك الصغيرة والجبن الطازج المصنوع يدويًّا والتين الأخضر من القطفة الثانية» (ترجمه إلى الإنجليزية: جريفز). وفي الأوقات التي يكون فيها على انفرادٍ، كان يأكل بأسلوبٍ خالٍ من الرسميات وبلا تكليف؛ إذ كان يتناول طعامًا بسيطًا عبارة عن كمية قليلة من العنب مع الخبز في المحفة التي يجلس عليها؛ أو بضعَ لقيماتٍ من الخبز في منتجع المياه المعدنية بعد أن يكون قد أمضى النهارَ دون أن يأكل شيئًا.

يحفل وصف الشخصية بالتفاصيل الدقيقة، وهذا من أساليب كتابة السِّيَر الذاتية الناجحة للغاية؛ إذ يجمع المؤلفُ الأدلةَ من المذكرات التي كتبها أغسطس ومن رسائله؛ ما قد يُضفِي مصداقيةً على الوصف. ولكن الأهمية الأساسية للدراسة التي بين أيدينا تكمن في الافتراضات الضمنية التي يفترضها المؤلف؛ ومن ثَمَّ، فمن المتوقَّع أن يكون لدى الإمبراطور أثاثٌ فاخر، شأنه في ذلك شأن غيره من الملوك. وتتوافق مراعاةُ التسلسل الهرمي مع الأدلة الأخرى المتعلِّقة بالمآدب الرومانية، وهو أمرٌ متوقَّع. وفيما يخص غياب المضيف عن جزءٍ من المأدبة، هل يشير هذا إلى كونه مضيفًا سيئًا؛ الأمر الذي يتناقض مع حرصه على تسلية ضيوفه ومؤانستهم بأسلوبٍ اجتماعي لائق؟ فهل هذا تصرُّفٌ سويٌّ؟ بالطبع، يغيب تريمالكيو عن ضيوفه؛ فهل من المتوقَّع ألَّا يكون لدى قائدِ دولةٍ وقتٌ يمضيه في مآدب رسمية تستمر لوقتٍ طويل يوميًّا؟ إذن هل ثمة مزيجٌ من الالتزام بالرسميات — المتمثِّل في مراعاة التسلسُل الهرمي الاجتماعي — وعناصر التحرُّر من الرسميات، المقصود بها أن محور التركيز في المأدبة لم يكن الإمبراطور بصفة مستمرة؟ القارئ الروماني في القرن الأول الميلادي هو مَنْ كان في مقدوره الإجابة عن تلك الأسئلة على نحوٍ أفضل منَّا. وأخيرًا، أغسطس الذي يميل إلى الاقتصاد في طعامه. يقدِّم لنا سيوتونيوس معلوماتٍ مفيدةً عن النظام الغذائي الذي يتبعه البُسطاء (قارِنْ ذلك بما وردَ في الفصول الثاني والرابع والخامس). ويشير أيضًا إلى أن أغسطس كان راضيًا بذلك النظام الغذائي، وهو ما يأتي على النقيض من المآدب الرسمية المكوَّنة من ستة أصنافٍ من الطعام، وساعَدَه ذلك على اتباع أيديولوجية البساطة التابعة للجمهورية، وهي الأيديولوجية التي كان يسعى للترويج لها عن طريق الكثير من وسائل الدعاية والقوانين. ويُعتبَر الإفصاح عن عادات تناوُل الطعام البسيطة لدى الحاكِم في غير المناسبات العامة من نقاط القوة التي تُحسَب لكاتِبِ السيرة عند رسمه للشمائل الحقيقية لمَنْ يكتب عنه. ومن السمات المتكرِّرة أيضًا في كتابة السِّيرة إظهارُ اهتمام الحاكِم بالأنشطة المرتبطة بعامة الناس، وذلك بسبب الهُوَّة الشاسعة التي تفصل بين الشخص العادي والقصر الملكي؛ ومن ثَمَّ، لم يكن نيرون هو الإمبراطور الوحيد الذي كان يحب الخروج وهو متنكِّر ليلًا وقضاء الوقت في الحانات، قبل أن يتَّجِه إلى ارتكابِ حوادثِ الطعن والسرقة (كتاب «نيرون» من تأليف سيوتونيوس ٢٦).

يستخدم بلوتارخ ملاحظاته عن تنظيم الطعام بطريقةٍ أكثر تكامُلًا في كتابه «كاتو الأكبر». وكاتو هو الرمز العظيم للجمهورية في عصره وفي العصور اللاحقة، كما رأينا في الفصل السابع. يخبرنا بلوتارخ أن (٤) «قدراته على التعبير كانت بكل بساطة نموذجًا يُحتذَى به لدى الشباب، وهو نموذجٌ كان معظمهم يبذلون قصارى جهدهم للوصول إليه. ولكن الرجل الذي كان يتبع عادةً موروثةً وهي زراعة أرضه بنفسه، والذي كان يرضى بإفطارٍ باردٍ وبعشاءٍ بسيط وبأبسط الملابس وبالسكن في كوخٍ متواضِعٍ، والذي كان يرى حقًّا أنه من الأفضل التخلِّي عن وسائل الترف والكماليات بدلًا من السعي وراءها؛ مثل ذلك الشخص كان لافتًا في تفرُّده.» ويرى بلوتارخ أن تفاصيل الحياة اليومية في هذه السيرة تحظى بنفس القدر من الأهمية الذي تحظى به الخُطب العظيمة التي ألقاها كاتو من حيث ما تقدمه من صورةٍ للرجل. لكاتو عاداتٌ غير مألوفة، مثل شرب الماء فقط وعدم الشكوى من الطعام الذي يطهوه جندي المراسلة أثناء خروجه في حملة حربية (١)، والعمل مع عبيده وتناول الطعام معهم (٣)، ومشاركة عبيده في احتساء نفس نوعية النبيذ الفاخر الذي كان يحتسيه بوصفه كان بريتورًا وقنصلًا (٤). ولزوجته عاداتٌ غير مألوفة أيضًا؛ إذ كانت أحيانًا ما تُرضِع أطفالَ العبيد لضمان ولائهم للأسرة (٢٠). وحتى بلوتارخ — الذي يعجبه موقف كاتو من الترف — يرى أن كاتو شخصيةً مخيفةً؛ إذ كان يبيع العبيدَ المتقدِّمين في السن، وكأنهم دوابُّ مُنهَكة، في موقفٍ لا ينمُّ فقط عن الخِسَّة بل أيضًا عن القسوة وانعدام القدرة على تقدير الأواصر التي تجمع الإنسان بأخيه الإنسان (٥). يقدِّم بلوتارخ وصفًا باهرًا يجمع فيه بين القرن الثاني قبل الميلاد وعصره هو (القرن الثاني الميلادي) ومعتقداته الفلسفية؛ فمن ناحيةٍ ما، يندهش القارئُ مثله مثل فاليريوس فلاكوس — وهو جارٌ غني من جيران كاتو — حين يكتشف بعد أن دعاه على العشاء أن كاتو ضيفٌ دَمِث وظريف، ولا يحتاج إلا لشيءٍ من الدعم والتوجيه فيما يخصُّ القِيَم المتحضِّرة (٣). (فيما يتعلَّق باستعمال بلوتارخ للحكايات عمومًا، راجع داف ١٩٩٩.)

يعتمد استعمال الحكايات في معظمه على القواعد الأخلاقية، وهي القواعد التي يفترض المؤلف أن القارئ يؤمن بها أيضًا؛ فالتذكير بأن النَّهَمَ صفةٌ سيئة يصبح نابضًا بالحياة وجليًّا في حالة إدراجِ واقعةٍ صغيرة أو طرفة. ويبدو أن عمل جالينوس الذي استعنا به بكثرةٍ في هذا الكتاب — وهو بحث «عن قوى الأطعمة» — يميِّزه استخدامٌ مختلف للحكايات. ويستخدم جالينوس الحكاياتِ في أعمالٍ أخرى لتقديم دراسات حالة، هي أشبه بصِيَغ مطوَّلة من الحالات المذكورة في عمل أبُقراط «الأوبئة». كما يستخدم الحكاياتِ في أعماله الجَدَلية ليكشف عن تفوُّقه في التشخيص والعلاج بالمقارَنة مع منافسيه (وذلك في كتاب «عن التكهُّن بسير المرض»). ولكننا رأينا الكثيرَ من الأمثلة عن لقاءاتٍ مع الريفيين، أو رواياتٍ تحكي أنهم كانوا يضطرون لأكل خنازيرهم، ثم ثمار البلوط المُخصَّصة لتكون طعامًا للخنازير؛ وتساعد هذه الحكاياتُ في توسيعِ نطاقِ معارفه وتمنحه استحقاقًا قويًّا ليكون مصدرًا موثوقًا منه. وقد زار الإسكندرية وروما، ويقدِّم أمثلةً من هاتين المدينتين الكبيرتين، ولقد برهَنَ على أن لديه معرفةً جغرافية واسعةً للغاية، أضافَ إليها قدرًا كبيرًا من المعرفة الاجتماعية، مستقيًا الأدلةَ التي بنى عليها مبادئه العامة من الحالات التي شهدها في مقاطعته المحلية ميسيا. ساعدت تلك الحالات في توضيح أهمية طريقة التحضير (هل هذا خبزٌ مصنوع من القمح أم دقيقٌ مصنوع من القمح المسلوق؟) وأهمية صفات كل مريض في حد ذاته.

(٨) «مأدبة الحكماء» لأثينايوس

ينتهي هذا الكتاب بعملٍ لا يتبع بالتأكيد جنسًا أدبيًّا بعينه، وهو «مأدبة الحكماء» لأثينايوس. إنه عملٌ عجيب يصعب تناوله، ومع ذلك يكثر الاقتباس منه في كل الكتب التي تتحدَّث عن الطعام في العصور القديمة. ولا بد من تقديم وصفٍ مُوجَز للهدف من هذا العمل ونقاط القوة فيه.

إنَّ مادةَ الكتاب مُنظَّمة بحيث تتبع ترتيبَ مراحل المأدبة، وبنيته الكُليَّة عبارة عن جلسة شراب — تحاكي ما جاءَ في كتاب «حوار المأدبة» من تأليف أفلاطون — ولكن البنية أحيانًا ما تبدو فوضويةً بعض الشيء، فتجد حينًا دردشةً أثناء تناوُل طعام المأدبة، ثم تجد حينًا آخَر قائمةً من العناصر (تكون أحيانًا مرتَّبةً ترتيبًا أبجديًّا، وأحيانًا لا). وكان من الصعب للغاية على الكثير من القراء فهم هذ النسق، ومن أهم أسباب ذلك وجود اقتباساتٍ طويلة من النصوص، دون دمجها بالكامل في سياق الحديث؛ ولذلك، يرى الكثيرون أن كتاب أثينايوس هو ذخيرة من الاقتباسات التي انتُحِل عددٌ كبير منها واستُخدِمت في هذا الكتاب.

بدايةً، علينا أن نتحقَّق من أن أثينايوس ورفاقه من العلماء يجلبون الثقافة الإغريقية إلى روما (راجع العبارة المقتبسة في بداية هذا الفصل). ففي مقابل سلسلةٍ من المآدب التي يقيمها المضيف لارنسيس يقتبس حاضرو المأدبة — وبعضهم من الرومان والبعض الآخَر من الإغريق — أعمالًا متخصِّصة وأدبيةً ذات صلة بتلك المرحلة من المأدبة؛ وبهذا المعنى يكون أثينايوس مؤلِّفًا إغريقيًّا يمثِّل عصرَه.

وهو أيضًا مؤلِّف موسوعي، مثل بلينوس وإلى حدٍّ ما جالينوس، وعمله هو الأقرب شبهًا بموسوعة «لاروس جاسترونوميك» أو «دليل أكسفورد للطعام» الذي تحقَّقَ في العالم القديم. وإذا لم يكن قد استخدم الترتيب الأبجدي بانتظامٍ، فإن جالينوس أيضًا لم يستخدمه مثلًا في كتيبه الذي يتناول العقاقير «عن العقاقير النباتية البسيطة».

يمنح أثينايوس شخصياته من المتحدثين صفاتٍ بلاغيةً؛ فمنهم الفلاسفة الكَلبِيون الجائعون، والفقيه القانوني أُلبيان الذي يميل لاستعراض ثقافته. وتخفِّف من مادة الكتاب الحواراتُ الظريفة المأخوذة من المسرح الكوميدي ومن المجادلات الفلسفية الشائعة. وتتيح المجادلات تقديمَ آراءٍ متعارضة؛ ومن ثمَّ، من المهم أن يقتبس أثينايوس من قصيدة «حياة الترف» لأركستراتوس الجيلي (نسبةً إلى مدينة جيلا)؛ إذ تذكر هذه القصيدة الكثيرَ من الأسماك من أماكن عديدة (وهي ذات أهمية كبرى للجزء السابع من كتاب أثينايوس). والقصيدة مذكورة أيضًا في بداية كتاب «مأدبة الحكماء»، وهي من ناحيةٍ ما عملٌ خلَّاق في مشروع أثينايوس، ولكن في الوقت نفسه يوصي أثينايوس بالجشع والترف، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأخلاقية المُعلَنة لأثينايوس ولارنسيس؛ ولذلك، كثيرًا ما يبدأ المؤلف الحديثَ عن أركستراتوس بتعليقٍ ساخر ويربطه بالفيلسوف إبيقور الذي يُعتقَد أنه يتبع مذهبَ المتعة، أو يقارنه بالفيلسوف المتقشِّف هِسيود، بل يقتبس أيضًا من أعماله على لسان خريسيبوس الفيلسوف الرواقي المعادي له.

وإذا كان موقف أثينايوس تجاه أركستراتوس لا يُفهَم بوضوحٍ، فتارةً يروج له وتارةً أخرى يشوِّه سمعته، فماذا عن طبيعة علاقته بلاينسيس المضيف العظيم الذي يقدِّم كلَّ المآدب؟ موائد لارنسيس معروفة بفخامتها، ويبدو أنه قد أحرَزَ النجاحَ الذي أصابه الملوك الهلنستيون الذين احتفى بهم أثينايوس في الجزء الخامس من كتابه، وكذلك النجاح الذي أصابه كارانيوس وأنطيوخوس والملوك البطالمة الذين تحدَّثْنا عنهم في الفصل الثاني. ولكن في مواضع أخرى من الكتاب (خصوصًا في الجزء الثاني عشر)، يعقب الترف والفخامة حدوثُ انهيار، ويبدو أن أثينايوس يشترك في بعض الأفكار المبهمة التي يتَّسِم بها فن الهجاء الروماني. فهنا روما — الواقعة في مركز إمبراطورية عالمية — التي يمكنها جذب كلِّ شيءٍ إلى أسواقها وإلى موائدها، ويستفيد الكثيرُ من المواطنين. ويمتدح إيليوس أريستيديس قوةَ روما (٢٦، ١١–١٣)، بالطريقة نفسها التي امتدح بها الشاعرُ الهزلي هيرميبوس أثينا في عصر بريكليس.

يكتب هيرميبوس (الشذرة ٦٣):

أخبريني الآن، يا ربَّات الإلهام … كل النِّعَم … التي جلبها (ديونيسوس) إلى رجاله هنا في سفينته المشئومة؛ إذ جلبَ من قوريني سيقان السيلفيوم وجلود الثيران، ومن مضيق الدردنيل أسماكَ الماكريل وكلَّ أنواع الأسماك المجفَّفة المملَّحة، ومن ثيساليا أيضًا سجق اللحم البقري وضلوع لحم البقر … ويأتي أهل سيراقوسة بالخنازير والجبن … ويجلب من سوريا البخور.

ويذكر بعد ذلك المزيد من مباهج جلسات الشراب (راجع ويلكنز ٢٠٠٠).

وهذه نِعَمٌ جليلة، ولكنها أيضًا مصدرٌ للهَمِّ؛ إذ تؤدي إلى وصول الثروة والمآدب الفاخرة إلى القلة، وغالبًا ما تكون هي القلة التي تضم حُقَراء من أمثال تريمالكيو أو ناسيدينوس. ويخلو كتاب أثينايوس من أي انتقاداتٍ صريحة للمضيف العظيم لارنسيس، ولكنه يحفل بالمضمون الأخلاقي، ومن أهم عناصره الحكايات الكثيرة التي يهجو فيها أشخاصًا معروفين بعاداتٍ سخيفة في الأكل، وهو هجاءٌ مأمونُ الجانب لأن الشخصيات التي يهجوها من الماضي البعيد.

ومع وجود هذه المَسحة الأخلاقية في أعمال أثينايوس، فإنها تتَّسِم أيضًا برغبةٍ شديدةٍ في جمع قدرٍ هائل من المعلومات ذات الصلة المتعلقة بأي شيءٍ قد يكون موضع خلاف، مثل التين أو لعبة «كوتابوس». ويستمد أثينايوس ورفاقه مادتهم الأدبية من مجموعة متنوعة من الأعمال، مثل الأعمال الأدبية (هوميروس أو المسرح الكوميدي، مثلًا) والأعمال التاريخية والأعمال المتخصِّصة التي ألَّفها علماءُ نباتٍ أو أطباء، ومجموعة متنوعة من الدراسات الخاصة؛ على سبيل المثال: تقارير مفصَّلة عن مدن في آسيا الصغرى، ودراسات تتناول مِلَلًا دينية وأسماكًا وأكاليل. إن كتاب «مأدبة الحكماء» يشهد بطريقة لا يضاهيه فيها إلا «قاموس أكسفورد الكلاسيكي» أو الموسوعة التي ألَّفها الألماني بولي فيسوفا (١٨٩٤)؛ على التنوع الشديد الذي كان يميِّز الأدب والكتابات المتخصصة في العصور القديمة. وكلُّ هذه العناصر يطرحها أثينايوس ورفاقه من الحاضرين على مائدة المأدبة، وكلُّ مادة الكتاب تناسب جلسة الشراب؛ ومن ثَمَّ، يتحدَّث حاضرو المأدبة عمَّا يفعلونه، ونظرًا لأنهم موجودون في روما — وليس في اليونان — نلاحظ أن ثمة دمجًا بين القسم المُخصَّص لمأدبة الطعام والقسم المُخصَّص لجلسة الشراب. لقد أنشأ أثينايوس موسوعةً عن مائدة الطعام، وهي تطرح — شأنها شأن سائر الموسوعات — أسئلةً شائكة عن المبادئ التنظيمية، وعن الحدود الفاصلة بين المواد المناسبة والمواد غير المطلوبة. ويغلب على الكتاب الأسلوبُ التحريري الخفيف الظل، وذلك مقارَنةً بغيره من مؤلِّفي الهجاء؛ ومن ثَمَّ، فإننا نجد بدلًا من تريمالكيو مضيفًا يشبه الملوك الهلنستيين. وبوسع الرومان فعل هذا، ما داموا يعيشون في مركز العالَم المعروف آنذاك، وما داموا — كما يقول أثينايوس — يجذبون كلَّ شيءٍ إلى روما. راجع الفصلَيْن الثاني والسابع؛ فروما أصبحَت النسخةَ الجديدة من مصر، أغنى بقاع الأرض. ولكن الرومان لا يزالون في حاجةٍ إلى فهم ماضيهم الإغريقي الروماني، ولا يزالون في حاجةٍ إلى إدراك ثروات الشرق الإغريقي؛ ومن ثَمَّ، تُقدَّم إليهم دراسةٌ موسوعيةٌ عن بلدان البحر المتوسط؛ فهي موسوعة عن الطعام والشراب، وهي مكتوبة في ١٥ مجلدًا أو لفائف بردي، يتسنَّى لأثينايوس إخراجها وتلاوتها واحدةً تلو الأخرى أثناء المأدبة؛ وبهذا يتسنَّى لصديق أثينايوس تيموكراتيس — المُوجَّه إليه الكتاب — أن يلاحظ تنوُّعَ المطبخ الإغريقي والثقافة الأدبية الإغريقية وثراءَهما كما يقدِّمهما حاضرو المأدبة من العلماء من خلال أصناف الطعام المتوالية. وهكذا من الممكن أن يتأمل أثينايوس وتيموكراتيس ولارنسيس والآخَرون — ومعهم نحن؛ قرَّاء «مأدبة الحكماء» — القِيَم والخواص المشتركة بين اليونان وروما، ويمكننا أيضًا أن نتأمل باستياءٍ الموائدَ الفاخرة في روما، التي تتعارض تمامًا مع الحياة البسيطة التي يرى حاضرو المأدبة فيما يبدو أن هوميروس — وهو «القدوة» فيما يبدو التي يُحتذَى بها في جلسات الشراب — كان يروِّج لها في ملاحمه (راجع ما ورد سابقًا في هذا الفصل).

وكثيرًا يكون من دواعي الارتياح أن كتابَ أثينايوس يحفلُ بالكثير من الإشارات إلى أعمال هوميروس، ما دام الكثير من المؤلفين الذين يقتبس من أعمالهم ليسوا من بين المؤلفين القدماء المُعترَف بهم، ولا حتى من الأسماء المعروفة. ويبدو أن أثينايوس أحيانًا يتعمَّد الاقتباسَ من مؤلفين مثل أركستراتوس وماترو، وليس أريستوفان وثوسيديديس؛ ولكن من المهم أن نُقِرَّ بأن أثينايوس يعتبر أن الأعمال المُعترَف بها مقروءة؛ فقرَّاؤه لديهم إلمامٌ بأعمال هيرودوت وبوليبيوس وسوفوكليس وبلوتارخ. ويرى أثينايوس أن مهمته هي استخلاصُ كل إشارة إلى الطعام والشراب في أعمال هؤلاء المؤلفين المُعترَف بهم، وإضافةُ كلِّ تلك الإشارات المأخوذة من أعمال مؤلفين طواهم النسيان في غياهب المكتبات، وصياغةُ كلِّ هذه المواد في قالبٍ يصوِّر هوميروس بصفته القدوة لكل ما هو إيجابي، ويصوِّر أفلاطون بصفته يمثِّل القطبَ السالب. ويسري أسلوبٌ هزلي مَرِح في الحوار بين حاضري المأدبة من العلماء، ويُلاحَظ في بعض المواضع التأكيد على قِيَم رومانية أساسية (الموروثات في نهاية الجزء السادس، والزواج في بداية الجزء الثالث عشر). ولا نجد أيَّ معنًى حقيقيٍّ في الكتاب يفيد أن لارنسيس معرَّضٌ لخطرٍ شديدٍ بسبب ثرائه وما يتوافر له من أسباب الترف. وبحسب تعبير جوسيبي زيكيني، فإن أثينايوس يظن فيما يبدو أن لارنسيس محصَّنٌ بطريقةٍ ما ضدَّ مثلِ تلك المخاطر.

لن يجد أيُّ دارس جاد للطعام في الثقافتين الإغريقية والرومانية خلاصاتٍ وافيةً من الأدلة أفضل من أعمال جالينوس وأثينايوس. فضلًا عن ذلك، فإن هذين المؤلِّفين — وكذلك بلوتارخ وبلينوس — يقدِّمان لمحةً عامةً فريدة من نوعها عن السمات الفارقة بين العادات الإغريقية والرومانية في تناوُل الطعام، وعن المزج الشامل بين تلك العادات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤