هوامش

مدخل

(١)
كان ذلك الانتقال جزءًا من صفقةٍ دبَّرها أخي الأكبر غير الشقيق. وكان متعدد المواهب شديد الطموح؛ فلم يكتفِ بالوظيفة الكتابية التي استقر بها في وزارة الحربية وإنما أقبل على تأليف الكتب (أذكر منها واحدًا عن إبراهيم باشا وثانيًا عن «فن التجميل»)، وترجم بعض الروايات من الإنجليزية والفرنسية اللتَين أجادهما بحكم دراسته في مدرسة الفرير، أذكُر منها رواية «عطلة نهاية الأسبوع المفقودة»، وشُغف حينًا بممارسة العلاج الطبيعي في عيادة طبيبٍ مجري بعد أن دَرسَه بالمراسلة، إلى أن عمل لدى أُسرة الجابري، التي أثرى أفرادها من النشاط السياحي وتجارة العاديات ثم انتقلوا إلى مجال الاستيراد. وعندما طالَته حُمَّى المشروع الصغير شاركَ مدرسًا للُّغة الإنجليزية في افتتاح حانوتٍ للخردوات أمام وزارة الزراعة بالدقي باسم «بازار الأندلس» عرض فيه للبيع عيناتِ السلع المستوردة التي حصل عليها من شركة الجابري. وتضمَّنَت الصفقة أن يتولى أبي أمور الحانوت على أن ينتقل للسكنى في شقةٍ مستحدثة بمنزل أُسرة المدرس (ثلاث غرفٍ متصلة مقتطعة من شقَّة خُصِّصَت إحداها للمطبخ)، كما شملَت الصفقة تزويج أبي من قريبةٍ عجوز للمدرس لتتولى العناية بنا — أنا وأختي وأبي. ولم يصمُد المشروع طويلًا؛ فلم تتجاوز محتويات الحانوت بعض العيِّنات من الزراير وخيوط الحياكة ولعب الأطفال. وحتى هذه العينات لم تكن كاملة الألوان والدرجات. ولم تكن مكانة أبي البرجوازي ولا سنُّه يسمحان له بالوقوف خلف كاونتر البيع فتَم استئجار بائعٍ شابٍّ بينما لزم أبي مقعده خلف مكتبٍ خشبي في نهاية الحانوت أو أمام المدخل يدخِّن سيجاره. وصار مصدر الدخل الوحيد هو صندوق المثلَّجات الذي كنا أنا وأبي من زبائنه المجانين الدائمين. أما الزوجة العجوز فظلَّت معنا حتى وفاته بعد أربع سنوات.
(٢)
ولم يكن في نية منظم المسابقة صرفُ قيمة الجائزة، وبُحَّت مطالباتي له عن طريق صندوق البريد الخاص به. وتمكَّن أبي الذي كان معاشه الشهري لا يتجاوز أربعة عشر جنيهًا من التوصُّل إلى عنوانه الحقيقي في مسكنٍ متواضع بشبرا. وذهبتُ إليه بعد أن ارتديتُ بزَّتي الكاملة، وانتظرتُه عدة ساعاتٍ برفقة زوجته التي كانت تحمل طفلًا على صدرها. وعندما جاء أخيرًا غضِب غضبًا شديدًا من وجودي، وانصرفتُ على وعدٍ منه بإرسال المكافأة على عنواني، لكنه لم يفِ بالوعد.
(٣)
بدأ أحمد حسين (١٩١١–١٩٨٢) حياته السياسية وطنيًّا متحمسًا متأثرًا بالحركة النازية. وكوَّن في ١٩٣٣ حركةً على غِرار الحركات الفاشية باسم «مصر الفتاة». وتبنَّى مشروعًا للاقتصاد الوطني عُرف باسم مشروع «القرش». وتقلَّبَت تحالُفاته بين القوى اليمينية والقصر الملكي أحيانًا؛ إذ احتفظ بعداء دائم لحزب «الوفد» الشعبي. وبدَّل اسم حركته عدة مرات. وفي نهاية الخمسينيات اتخذ لها اسم «حزب مصر الاشتراكي». وشَن عَبْر جريدته حملةً شرسة ضد الإقطاع والملك خلقَت له شعبيةً كبيرة، ثم اتُّهم بالمسئولية عن حرق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢، وحُكم عليه بالإعدام، ولم ينقذه من حبل المشنقة سوى قيام الثورة بعد ستة شهور. ومع ذلك أبقاه النظام الجديد في السجن بعض الوقت خوفًا من شعبيته. وعقب الإفراج عنه اعتزل النشاط السياسي وعكَف على إعداد موسوعةٍ ضخمة عن تاريخ مصر. وفي عام ١٩٦٩ أُصيب بشللٍ كلي أقعدَه عن العمل في الموسوعة حتى عام ١٩٧٤ عندما استأنف العمل بها حتى انتهى من جزئها الرابع في عام ١٩٧٨.
(٤)
في يناير ١٩٤٣ برزَت إلى الوجود منظمةٌ سياسية سرية باسم «الحركة المصرية للتحرر الوطني» وضعَت لنفسها ثلاثة أهداف؛ تكوين حزبٍ شيوعي، العمل على تطبيق إصلاحٍ زراعي، تنظيم الكفاح المشترك مع الشعب السوداني ضد الاحتلال الإنجليزي. وكان هنري كورييل قد جمع حوله ابتداءً من عام ١٩٣٩ — حسب ما يقول رفعت السعيد مؤرخ الحركة الشيوعية المصرية — عددًا من المثقَّفين اليساريين (محمد زكي هاشم، د. فؤاد الأهواني، مختار العطار، صبحي زغلول) وغيرهم، وعددًا آخر من العناصر العمالية مثل محمد شطا من قادة عمال شبرا الخيمة، وسيد سليمان رفاعي، إبراهيم العطار، فؤاد حبشي وهم من عمال وصولات سلاح الطيران، ومن النوبيين زكي مراد ومبارك عبده فضل ومحمد خليل قاسم، ومن السودانيين عبد الخالق محجوب والتيجاني الطيب (اللذَين أسَّسا فيما بعدُ الحزب الشيوعي السوداني)، بالإضافة إلى عدد من قادة الحزب الشيوعي القديم الذي حطَّمه «سعد زغلول» في ١٩٢٤ مثل الشيخ سعاد جلال وكمال الحناوي وعبد الفتاح الشرقاوي.
وقادت المنظمة الشيوعية الجديدة عديدًا من الحركات الاحتجاجية وسط العمال والطلاب وفي الجيش. وسعَت إلى تكوين اتحادٍ عام للعمال ومدَّت جذورها إلى الريف، كما لعبت دورًا مرموقًا في ميدان الصحافة والنشر والفكر عمومًا، بجانب الدور الذي لعبَته منظَّماتٌ شيوعية أخرى.
وفي يوليو ١٩٤٦ وجَّه صدقي ضربته لكل المنافذ العلنية للمنظَّمات الشيوعية، وانتشرَت الانقساماتُ على الفور، وظهرَت منظَّماتٌ شديدة اليسارية. لكن هذه الضربة عزَّزَت من ناحيةٍ أخرى الاتجاه إلى وحدة المنظَّمات. وكانت أكبر هذه المنظَّمات وأهمها هي إسكرا؛ أي «الشرارة» التي كانت تضُم المثقفين أساسًا، وبينهم نسبة كبيرة من الأجانب وأبناء الأغنياء، وأسَّسَت «دار الأبحاث العلمية» وجريدة «الجماهير» وتَرعْرعَت داخلها مجموعةٌ من الأسماء التي لعبَت دورًا هامًّا في النشاط اليساري فيما بعدُ؛ مثل ميشيل كامل، محمد سيد أحمد، فاطمة زكي، شهدي عطية، عبد المعبود الجبيلي، عبد العظيم أنيس، أحمد فؤاد.
وفي يونيو ١٩٤٧ تكوَّنَت كبرى المنظَّمات الشيوعية من وحدة «الحركة المصرية» مع إسكرا باسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) التي لعبَت دورًا بارزًا في الحياة السياسية والثقافية للبلاد، وأثارت الكثير من الجدل بسبب سياساتها المستقلة. وبعد شهرَين قادت حدتو إضرابًا لعمال النسيج في شبرا الخيمة ضم ٢٧٠٠٠ عامل، ثم إضرابًا لعمال الإشارة في السكة الحديد. وفي يناير ١٩٤٨ شاركَت في تنظيم إضراب الطلاب في جامعة القاهرة الذين مزَّقوا صور الملك فاروق وهتفوا بسقوطه، وتضامنَت مع إضراب رجال البوليس (كانت منشورات التأييد للإضراب تتضمَّن قصيدة لعبد العظيم أنيس جاء فيها:
عساكر الجيش والبوليس خطبُكُمو
خطبُ البلاد فعادُوا من يُعاديها
وارتفعَت مبيعاتُ جريدة «الجماهير» إلى ١٥ ألف نسخة.
وطرحَت حدتو على حزب «الوفد» تحالفًا على أساس تحقيق الجلاء التام وإلغاء معاهدة ٣٦ ورفض الأحلاف العسكرية ورفض الارتماء في أحضان الاستعمار الأمريكي (كان رئيس مكتب الدعاية في مجلس الوزراء أمريكيًّا والمستشار الرئيسي للوفد المسافر إلى مجلس الأمن أمريكيًّا وطلبَت وزارة الدفاع خبراء أمريكيين لتنظيم الجيش المصري)، وأيضًا على أساس تأميم الصناعات الكبرى وتوزيع أراضي كبار الملَّاك الزراعيين المتعاونين مع الاستعمار.
لكن لم يمضِ أقلُّ من عامٍ على قيام حدتو حتى بدأَت التكتُّلات والانقسامات داخلها وتعرَّضَت لضربةٍ عنيفة من السلطة. كما تعرَّضَت أيضًا إلى هجومٍ شرس من المنظَّمات الشيوعية الأخرى انصَبَّ على خطها السياسي الذي وضعه هنري كورييل» في تقريرٍ شهير باسم «خط القوات الوطنية والديمقراطية»، أكَّد فيه أن الطبقة العاملة ليست الطبقة الثورية الوحيدة في مصر وإنما هناك قُوًى ثورية أخرى، وأنه مع الاعتراف بقيادة الطبقة العاملة يجب أن يكون الحزب حزبًا لكل الجماهير الثورية في إطار المرحلة.
واجه هذا الخط رفضًا من جانب عديدٍ من الأعداء القياديين في حدتو ذاتها الذين تمسَّكوا بالنصوص التقليدية، وكرَّروا أن الحزب هو حزب الطبقة العاملة وحدها. ونشب الصراع على القيادة بين كورييل وشهدي عطية. تَمَّ تجريد الأخير من مَهامِّه كمسئولٍ للعمل الجماهيري وكمشرفٍ سياسي على مجلة «الجماهير»، فأعلَن تكوين «التكتل الثوري»، وأيَّدَه أنور عبد الملك وسعد زهران، ومعهم محمد سيد أحمد وإلهام سيف النصر وتوفيق حداد (الشقيق الأكبر للشاعر فؤاد حداد) وعبد المنعم الغزالي (قريب شهدي وشقيق سيف الوفدي وزينب وحكمت الإخوانيتَين والداعية الإسلامي المعروف محمد الغزالي). وقام المتكتِّلون بسرقة المطابع والأجهزة الفنية والمكتبات، فاستعادها كورييل مع مجموعة من رجال سلاح الطيران في ملابسهم الرسمية. ولم يلبث أن تفتَّت التكتُّل بدوره ولم يتبقَّ منه سوى مجموعةٍ صغيرة من سعد زهران وداود عزيز استجابت لدعوة فؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله — القادمَين من باريس — لتأسيس منظَّمة «الحزب الشيوعي المصري» التي عُرفَت باسم منظمة «الراية».
وفي هذه الأثناء انقسمَت قيادة حدتو إلى مجموعة كورييل (كمال شعبان، عبد الخالق محجوب، سيد سليمان رفاعي، فؤاد وكمال عبد الحليم، أحمد حمروش، محمد الجندي وشريف حتاتة) بينما تزعَّم التيار الآخر عبد المعبود الجبيلي (وهو من أقرباء شهدي وأسرة الغزالي) ومحمد شطا، وانضَم إليهما أحمد شكري سالم (الذي وجَّه فيما بعدُ عريضة ولاء إلى الملك لينجو من السجن) وزوجته لطيفة الزيات وإنجي أفلاطون وإبراهيم المناسترلي وأحمد فؤاد الذي صار في الستينيات من قادة التنظيم الطليعي في الاتحاد الاشتراكي، وعلي الشلقاني الذي صار في الثمانينيات والتسعينيات من نجوم التطبيع مع إسرائيل وتولَّى مكتبُه للمحاماة الدفاع عن مصالح الشركات الاحتكارية العالمية.

•••

وفي ١٥ مايو ١٩٤٨ مع إعلان الحرب في فلسطين اعتقلَت الحكومة كورييل وعددًا من قادة حدتو وتَبِعَتها حملة اعتقالاتٍ واسعة ثم سلسلةٌ من المحاكمات. وتولَّى سيد سليمان رفاعي قيادة المنظمة حتى اعتُقل بدوره. وفي نهاية ١٩٤٩ جرت انتخاباتٌ برلمانية فاز فيها الوفد فوزًا كاسحًا، وخرج جميع المعتقَلين (باستثناء بعض الأجانب الذين تم ترحيلهم إلى خارج البلاد) وكان في انتظارهم وزير الداخلية الوفدي فؤاد سراج الدين ليقدِّم لهم عروضًا سخية؛ منحةً دراسية للحصول على الدكتوراه بالخارج (ترك عبد المعبود الجبيلي مركزه كسكرتير لتنظيم «العمالية الثورية» وسافر إلى باريس، وصار بعد ذلك من مؤسِّسي مفاعل أنشاص الذري ومؤسسة الطاقة الذرية، وانضَم بعض الوقت في الستينيات إلى التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي، وتولَّى وزارة البحث العلمي في بداية عهد السادات ثم اعتزل السياسة. وسافر عبد العظيم أنيس إلى إنجلترا ثم عاد إلى مصر في أعقاب العدوان الثلاثي، واشترك في تكوين الحزب الشيوعي المتحد، ورشَّح نفسه في انتخابات ١٩٥٧، بينما تبنَّت حدتو منافسه، وقُبض عليه في ١٩٥٩ وعند خروجه في ١٩٦٤ اختير عضوًا بالتنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي، ثم واصل نشاطه السياسي في المعارضة اليسارية للنظام الحاكم حتى لحظة إعداد هذا الكتاب، بالرغم من تجاوُزِه لسن الثمانين، وإصابته بالفشل الكُلوي).
استعادت حدتو في ظل الحكومة الوفدية عافيتَها بقيادةٍ جديدة (بعد ترحيل كورييل خارج البلاد) من سيد سليمان رفاعي، محمد شطا، كمال عبد الحليم، مبارك عبده فضل، فؤاد حبشي، زكي مراد، أحمد الرفاعي أعادت بناء المنظَّمة التي شهدَت أروع أيامها في العامَين السابقَين على ثورة يوليو ١٩٥٢.

•••

وقد ارتبط اسم حدتوبهنري كورييل (١٩١٣–١٩٧٨) اليهودي المصري من أصلٍ إيطالي. ويُعتبر كتاب «رجل فريد»، للكاتب الفرنسي اليساري الشهير جيل بيرو، المصدر الوحيد الشامل لسيرة كورييل. ويتميَّز بأسلوبٍ ديناميكي حي يمزجُ المعلومات الوفيرة بأحكامٍ غير مطلَقة، ويروي القصة الكاملة لكواليس السنوات المجيدة المأساوية، كما يُلقي ضوءًا كاشفًا على شخصية الرجل الذي أثار الكثير من الجدل.
اشتُهر بيرو بمؤلفاتٍ سياسية مثيرة تتميَّز بوفرة المعلومات وعمق التحليل أشهرها «الأوركستر الأحمر»، «البلوفر الأحمر». وفي سبتمبر ٧٨ بعد اغتيال كورييل بشهور طلب منه جوزيف حزان، صديق كورييل ومعاونه الأقرب (مات سنة ٢٠٠٤) أن يكتب عن كورييل وزوَّده بالوثائق اللازمة، وسهَّل له مقابلاتٍ عديدة في القاهرة. اكتمل تأليف الكتاب في ١٩٨٣، ونُشر في سِفرٍ ضخم في العام التالي، وفي ١٩٨٦ نُشرَت ترجمةٌ عربية في بيروت للجزء الأول منه بقلم كميل داغر، وفي ١٩٨٨ نُشرَت في القاهرة ترجمةٌ أخرى أعدَّها لطيف فرج احتوت على الجزء الأول كاملًا، وعلى ملخَّص للأجزاء الباقية الخاصة بنشاط كورييل العالمي وكفاحه من أجل ما أسماه المؤلِّف «السلام العادل في الشرق الأوسط».

•••

وحسب بيرو فإن جد كورييل كان مرابيًا، أما أبوه دانييل الأعمى الشغوف بالموسيقى فصاحب بنك، كوَّن ثروته من رهن أراضي الفلاحين البؤساء. وجاءت أمه من أُسرةٍ ثرية في إسطنبول تحوَّلَت إلى الكاثوليكية في صباها. الوئام الظاهري يُخيِّم على فيلَّا في الزمالك تضم ١٧ غرفة بخلاف غرف الخدم (طباخ ومساعده وثلاثة سفرجية وسائق وغيرهم) وحديقة كبيرة. بينما كان فقراء اليهود يتكدَّسون في حارة اليهود، كان الأغنياء ذوو الأصول الأجنبية من نسل مورِّدي جيش نابليون ومستشاري الخديو إسماعيل، والذين يحملون الجنسية الإيطالية، قد رفضوا الجنسية المصرية رغم أنهم عاشوا في مصر أكثر من قرن؛ لينتفعوا بنظام الامتيازات الأجنبي. لكن هنري في ١٩٣٥ عندما واجه الاختيار بين الجنسيتَين اختار المصرية، وبدأ دراسة اللغة العربية. وبسبب الجو العام والتعليم في الليسيه ونوعية الثقافة كان يتطلَّع إلى فرنسا. وفي ١٩٣٩ تقدم هنري وأخوه الأكبر راؤول إلى القنصلية الفرنسية في القاهرة للتجنيد في الجيش الفرنسي كواجبٍ وطني.
التحق الأَخَوان بالمدرسة اليسوعية في الفجالة حيث تعلَّم هنري الأسلوب المغلَّف والملتوي للرهبان اليسوعيين؛ فهو يردُّ في النقاش على أساسِ آخرِ جملةٍ لمحدِّثه كما لو كانت حقيقةً لا خلاف حولها. وقال عن هذه المدرسة فيما بعدُ: «لقد نمَت لديَّ قيمٌ أخلاقيةٌ عالية … والحاجة إلى مفهوم شامل للعالم … وجدتُه في الماركسية.»
أعدَّه أبوه لدراسة الحقوق ثم الالتحاق بالبنك. وفي العشرين من عمره أُصيب بالسأم والضجر. إنه وسيمٌ يقُص شَعرَه على الموضة وله ابتسامةٌ ساحرة تَفتِن الفتيات (ينتقل من واحدةٍ إلى أخرى. يُحب اجتذابهن وأن يُؤخَذ منهن غلابًا. يُحب أن تغتصبه المرأة إلى حدٍّ ما. ويُبدي مقاومةً في بعض الأحيان، فلاحقَته الشائعات حتى قبره: «إنه عاجز جنسيًّا»). ضعيف صحيًّا، فيتعاطى الكثير من المنشِّطات والمنبِّهات وخاصة «الميتدرين»؛ مما جعلَه يبدو دائمًا على حافة الانهيار، وجعل أعصابَه متوترةً لأمدٍ طويل.
كان راءول في هذه الأثناء قد اقترب من النشاط اليساري في باريس، وعند عودته إلى القاهرة وجد البرجوازية اليهودية في خوف من هتلر وموسيليني. أصدَر جريدةً أسبوعية مع جورج حنين ورمسيس يونان وكامل التلمساني وغيرهم باسم دون كيشوت. وانضم هنري إلى مجلس التحرير. وشاركَت الجريدة في الحملة التي قادها الأب عيروط اليسوعي الشهير تحت شعار: «الحد الأدنى للفلاح المصري حتى يمكن تمييزه عن الحيوان خمسة قروش يوميًّا» (كانت أجرة الفلاح في اليوم ثلاثة قروش ونصف والحمار أربعة). وهو رجلٌ ضخم ملتحٍ يجوب الصعيد على ظهر حمارٍ وينام فوق الحصيرة في أكواخ الفلاحين ويُقيم المدارس والمستوصفات.
لكن هنري لم يلبث أن مَلَّ الجريدة وأخذ يدعو للسيطرة على الجسد. وصار نباتيًّا مُتحمِّسًا، يرتدي قميصًا بنصف كُم وشورت وصندل بسيور فوق جسمٍ نحيل لا يزيد وزنه عن خمسين كيلوجرامًا. يتردَّد على بيوت الدعارة ليُناشِد العاهرات ترك وضعهن كأدواتٍ جنسية.
بدأ يدرُس الماركسية بتشجيع من أخيه. وقرَّر أن يذهب مع صديقته روزيت (البلغارية الأصل والتي تزوَّجها فيما بعدُ) إلى عزبة أبيه خارج القاهرة لمعالجة الفلاحين من أمراض الرمد الحبيبي (مصر كانت تضرب الرقم القياسي العالمي في عدد العميان) والبلهارسيا. وبعد شهورٍ قرَّر التوقُّف بعد مقارنة بين البؤس القاتل والعلاج الضئيل. وقرَّر الارتباط بالعمل السياسي. لكن «الوفد» لم يعُد يُرحِّب باليهود. و«الاتحاد الصهيوني» في شارع «سليمان باشا» يُعلِّق خريطةً لإسرائيل المقبلة تمتد من النيل إلى الفرات؛ الأمر الذي يرفُضه. هكذا تشكَّلت حلقات دراسة ماركسية على هَدي علاقات القرابة والمصاهرة. وبفضل شيوعيٍّ سويسري يتولَّى التدريس بمدرسة البوليس المصرية اتجه كورييل إلى النشاط العملي، انطلاقًا من النقطة التي طالما وُصِف من أجلها بالانتهازية؛ تجميع أكبَر عَددٍ ممكن حول أهدافٍ بسيطة تربوية.

•••

في صيف ١٩٤٢ اقترب روميل من الحدود وهتفَت الجماهير المصرية «إلى الأمام يا روميل». وشعَر اليهود بالفزع. وضعَت السلطات البريطانية تحت تصرُّفهم قطاراتٍ خاصة متجهة إلى فلسطين. مارسيل إسرائيل وهيليل شوارتز، منافسَا كورييل الرئيسيان فيما بعدُ، ركبا القطار أما كورييل فقرَّر البقاء في القاهرة. وقال إنه سيُنظِّم المقاومة ضد الاحتلال الألماني المرتقب. لكن البوليس قبَض عليه، وفي معتقل الزيتون واصل النضال؛ أَضربَ عن الطعام فور انتهائه من صيام رمضان تطبيقًا لمبدأ: يجب على المناضل الشيوعي أن يكون دائمًا هو الأفضل ويُقدِّم المثل. تدخَّل أبواه لدى النحاس باشا فأُفرج عنه ووُضِع رهن الإقامة الجبرية في منزل الزمالك، ثم انتقل إلى الطابق ١٣ بالعمارة رقم ٣٣ شارع عبد الخالق ثروت بالقرب من بنك أبيه ومكتبة «الميدان» التي أسَّسَها له. يعمل في البنك صباحًا، وفي المكتبة مساء، ويتزوج روزيت ويجري لقاءات في جروبي سليمان باشا، انتهت بإنشاء «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني»، كنواة لبناء حزبٍ شيوعي. وبعد مرور ثلاثة أشهر أقام أول مدرسة كادر في عزبة والده بالمنصورية في أكتوبر ١٩٤٣، ضمَّت حوالي عشرين دارسًا كلُّهم من المصريين.

•••

وصف بيرو الحركة الشيوعية في ذلك الوقت بأنها تتألَّف من مجموعة الشباب المنتمين للبرجوازية الكبيرة الذين كرَّسوا أنفسَهم في حماسٍ بريء من أجل الثورة، يصنعونها وهم جالسون في شرفة جروبي، ولديهم خدمٌ أميون يُخفون المطبوعات عن المخبرين، أما تأنيب البوليس لهؤلاء الشباب فيتمُّ في احترام؛ فهناك آباءٌ باشوات يبسُطُون حمايتهم على ذريتهم.
ولعب اليهود الأجانب دورًا رئيسيًّا في المنظَّمات العديدة التي تألَّفت منها الحركة. وأهمها إسكرا أو «الشرارة» التي أسَّسَت «دار الأبحاث العلمية» وجريدة «الجماهير». ويقول بيرو إن الثلاثة؛ هنري كورييل وهيليل شفارتز ومارسيل إسرائيل «كانوا مقتنعين بأن مصر تنتظر لينين آخر، وكلٌّ منهم يُرشِّح نفسه.» كورييل وحده هو الذي قال: كيف يمكن الحديث عن الثورة الاشتراكية بينما الجيش الإنجليزي في البلاد؟ فكِيلَت الاتهامات لمنظَّمته بالانتهازية والضعف التنظيمي والمبالغة في النشاط الجماهيري، ثم بالعمالة للبوليس.
وفي يوم ٩ فبراير ١٩٤٦ خرج الطلبة في مظاهراتٍ غفيرة من جامعة القاهرة تطالب بالاستقلال والجلاء، وأمر سليم زكي البوليس بإطلاق النار وفتح كوبري عباس فسقط العشرات وغرق عشرون واحدًا. وفي اليوم التالي للمذبحة انتخب الطلبة لجنةً تمثِّلهم، وتحرَّك عمال شبرا الخيمة والمحلة وتكوَّنَت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» التي كان الشيوعيون قلبها، وضمَّت الأحزاب المختلفة (سكرتيرها شيوعي هو حسن كاظم). ولأول مرة منذ ١٩١٩ يتحرَّك الشعب المصري تحت قيادة غير قيادة حزب «الوفد».
تصاعدَت المظاهرات في ٢١ فبراير وأصدرت النقابات قرارًا بالإضراب العام. وفي ذلك اليوم أُصيبَت مصرُ كلُّها بالشلل. وبعد أسبوعَين أعلنَت بريطانيا أنها ستجلو عن وادي النيل وتبقى في منطقة قناة السويس. واستقبل صدقي باشا أعضاء اللجنة. وبعد بضعة أسابيع — في ١١ يوليو ١٩٤٦ — أُلقي القبض على أكثر من مائة شيوعيٍّ بينهم كورييل وكمال عبد الحليم (الذي وصفه بيرو بأنه محترفٌ ثوريٌّ متطرف يبحث عن مرآة ليتأمل نفسه بينما يتحدَّث إلى الأعضاء الذين يقودهم)، ثم أُفرج عن الجميع، وأُعيد القبض على كورييل وسيد سليمان رفاعي من جديد بعد خمسة أشهر.

•••

في يونيو ١٩٤٧ تمَّت الوحدة الاندماجية بين «الحركة المصرية» و«إسكرا» فوُلدَت «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني». وكان ذلك إعلانًا بانتصار كورييل وخطه السياسي وبانطلاقةٍ جماهيريةٍ واسعة في عدة مجالات على الفور. وكان كورييل قد شكَّل بالجيش مجموعةً من الضباط تضُم عثمان فوزي وخالد محيي الدين ثم انضَم إليها أحمد حمروش قادمًا من «إسكرا». وكان السودان مجالًا أثيرًا إليه. وحسب بيرو «كان كورييل يقول، بلا أي عُقَد كعادته، إن اهتمامه بالسودانيين يرجع إلى الشعور الفيَّاض الذي كان يحملُه أثناء صباه تجاه أحد خدم والدَيه الذي كان من النوبة السودانية، وكان ابنه أحد أقران هنري في اللعب». هكذا أسَّس حستو، «الحركة السودانية للتحرر الوطني» التي أصبحَت فيما بعدُ الحزب الشيوعي السوداني. وعزَّزَت الوحدة العمل بين النساء، فدعَت إنجي أفلاطون إلى ضرورة الحصول على موافقة المرأة في الزواج والطلاق، ودافعَت عن حقها في التعليم والعمل والتصويت والترشُّح للانتخابات. وأمام خطر وباء الكوليرا جند التنظيم كل إمكانياته لمساعدة الجماهير على المقاومة ونشر الوعي الصحي. وأصبحَت جريدة «الجماهير» تبيع بين أربعين وخمسين ألف نسخة.
دامت الوحدة أقل من عام. يقول بيرو إن الخلاف بدأ حول خط كورييل الخاص بتجميع القوات الوطنية. «فاليساريون والأغنياء أرادوا حزبًا شيوعيًّا وثورةً اشتراكيةً.» ومن ناحيةٍ أخرى دعا كورييل إلى تمصير الحركة — مما أثار طمع المصريين في القيادة — دون أني يتخلَّى في الوقت نفسه عن دوره، فظل يجمع كل خيوط التنظيم في يده. وكان هناك أيضًا التنافُس الشخصي بين الآباء الثلاثة للحركة (كورييل وإسرائيل وشفارتز) وانتهى الصراع بفوضَى شاملة.

•••

في ١٥ مايو ١٩٤٨ اندلعَت الحرب بين العرب واليهود. وعارضَتها حدتو منذ البداية على أنها من تدبير القوى الرجعية في الجانبَين. وكانت قد أعلنَت مُعاداتَها للصهيونية ولمعاداة السامية في نفس الوقت. ودعت إلى إنشاء دولة في فلسطين تضم اليهود والعرب معًا، ثم انحازت أخيرًا إلى مشروع التقسيم الذي وضعه جروميكو وتبنَّته الأمم المتحدة.
وانتهت الحرب بالهزيمة. وبضربة لليهود الشيوعيِّين الذين اعتُبروا في البداية أجانب ثم أصبحوا الآن يُعتبَرون طابورًا خامسًا. انتهزَت الرجعية المصرية الفرصة فوجَّه إليهم البوليس حملةً ساحقة بمساعدة عميلٍ من اللجنة المركزية (وقد أبلَغ القاضي أحمد فؤاد كورييل بأوامر القبض) وبعد اختفاءٍ طويل سئِم فسلَّم نفسه أثناء إحدى مطاردات الشرطة. أودعوه معتقَل الهايكستب، فوضع لنفسه ولرفاقه نظامًا صارمًا من التدريبات الرياضية والدروس النظرية.
رفض هنري الخروج من المعتقَل هو وأصدقاؤه تنفيذًا لشروط الهدنة بالإفراج عن المعتقَلين. وأبلغ السلطاتِ المصرية بأنه وأصدقاءه يرفضون الحصول على حريتهم تنفيذًا لأمرٍ تفرضُه تل أبيب، وقد نَدِم فيما بعدُ على هذا الموقف الذي استغلَّته السلطات المصرية للإبقاء على اليهود الشيوعيين خلف القضبان لمدة عامَين، ثم عرضَت الحكومة عليهم الإفراج بشرط مغادرتهم مصر نهائيًّا. وغادر الواحد بعد الآخر المعتقل بينما كان الباقون يُنشِدون نشيد الدولية الشيوعية وداعًا له. كانت التعليمات تقضي بالذهاب إلى كيبوتز إسرائيلي ومواصلة النضال عن طريق الحزب الشيوعي الإسرائيلي. البعض منهم قام بذلك فعلًا والأغلبية التقت من جديد في فرنسا.
وتبقَّى ثلاثة أشخاص؛ هنري، جو ماتالون، شحاتة هارون إلى أن جاءت انتخابات يناير ١٩٥٠ ونجح الوفد. وبعد قليلٍ خرج المعتقلون إلى حدتو المنقسمة. وضع هنري خطة لبعث التنظيم من خلال مشروعٍ تقدُّمي واسع النطاق. وجد ذلك المشروع في نداء استكهولم وتأسَّسَت حركة السلام برئاسة كامل البنداري باشا (الذي كان رئيسًا للديوان الملكي في وقتٍ من الأوقات ثم جذبَتْه الماركسية وصار يُعرف بالباشا الأحمر) والمحامي يوسف حلمي. وقُبض عليه في يوليو ١٩٥٠ بقصد طرده خارج البلاد باعتباره أجنبيًّا خطرًا على الأمن (كانت السلطات المصرية تحتجز جواز سفره المصري منذ عام ١٩٤٣). ويوم ٢٦ أغسطس وُضِع بالقوة على ظهر باخرةٍ إيطالية. تمكَّن من الهروب في مرسيليا وأسرع إلى لجنة الحزب الشيوعي الفرنسي المحلية بقصته، فلم يستريحوا إليها، وعاد إلى الباخرة. وفي جنوا رفض مغادرة الباخرة فأنزله البوليس منها بالقوة. كان في السابعة والثلاثين، ولم يَرَ مصر من بعدها على الإطلاق.

•••

يقول بيرو إن طرد كورييل من مصر كان بالنسبة إليه «بداية السنوات الكئيبة … لقد رفض من ناحية المبدأ الإقامة في إسرائيل … ورفض الحصول على الجنسية الإيطالية … رفض بعنفٍ بَتْره عن مصر
أقام في روما وشرع يبحث عن طريقة لمواصلة العمل. لم يُرحِّب الحزب الشيوعي الإيطالي به. عكَف على الدراسة والتفكير وتعلُّم اللغة الروسية. ثم تسلَّل إلى فرنسا.
ثم قامت حركة الجيش في ٢٣ يوليو ١٩٥٢. اتخذَت جميع التنظيمات الشيوعية موقفًا واحدًا ضد السلطة الجديدة فيما عدا حدتو التي كانت تتولَّى طبع منشورات الضباط الأحرار قبل الثورة. وبينما كان الجيش يدخل شوارع القاهرة قام بدر (سيد سليمان رفاعي) سكرتير عام حدتو بإبلاغ كورييل في باريس أن الحركة تُتابِع الموقف بتيقُّظ، فهاج كورييل وماج: «الأمر لا يتطلَّب متابعة الموقف. يجب النزول إلى الشارع مع الجيش.» ومنذ فجر ٢٣ وزَّعَت حدتو منشورات تأييد لحركة الجيش. بينما هاجمَتْها الأحزاب الشيوعية العالمية والمعسكر الاشتراكي على أساسِ أنها من تدبير المخابرات الأمريكية. ودمغَتها التنظيمات الشيوعية المصرية الأخرى بالفاشية.
وفي يوم ١٢ أغسطس وقعَت المأساة المدبَّرة بعناية؛ مظاهرةٌ تقليدية من عمال كفر الدوار تُطالِب بزيادة الأجور أطلق البوليس النيران عليها، فأشعل العمال الحرائق في المباني. تدخَّل الجيش في ١٣ أغسطس؛ مما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص، وقُدِّم عاملان للمحاكمة العسكرية في اليوم التالي فصدَر الحكم عليهما بالإعدام، فهتف العاملان بحياة الثورة. وفي مجلس الثورة دافع عبد الناصر وخالد محيي الدين وعبد الحكيم عامر بحماسٍ من أجل العفو عنهما وهُزموا عند التصويت.
لكن الحملة العالمية كانت ساحقة، وبعد شهرَين من الانقلاب نشر كورييل نقدًا ذاتيًّا لموقفه من تأييد الانقلاب!
ثم وقع العدوان الثلاثي.

•••

تحرَّك كورييل لمنع الحرب في الوقت الذي اجتاحت فيه الصحفيين اليساريين الفرنسيين موجةُ عداءٍ لمصر. فشرب ألبير كامو كأسًا من الويسكي مع راءول روا صباح الهجوم احتفالًا به.
وقبل الهجوم بعشرين يومًا بعث كورييل إلى خالد محيي الدين بالوثائق السرية لخطط الحملة الفرنسية الإنجليزية. ولم يُصدِّقها عبد الناصر. فيما بعدُ وافق على طلبٍ من خالد بعودة كورييل إلى مصر، وعلى طلبٍ مماثل من ثروت عكاشة أرسله من موقعه في اليونسكو.
في هذه الأثناء كانت تجري عملية توحيد المنظَّمات الشيوعية المصرية، وأبلغَت اللجنة المركزية الجديدة المنفيين قرارًا بطردهم جماعيًّا باعتبارهم أجانبَ لا يحق لهم التدخل في الشئون المصرية. وتؤكِّد الفقرة الأخيرة من الخطاب أنه سيتم قبول المساهمات المالية منهم. وثار البعض من رفاق كورييل في فرنسا على هذا القرار لكنه أصَر على مواصلة العون. واستمر فيه عندما فُتحَت أبواب المعتقلات الناصرية للشيوعيين المصريين.

•••

لكنه بحث عن مجالٍ آخر لنشاطه، فوجدَه في الجزائر، وكان قد اتصل في خريف ١٩٥٧ بشبكة فرنسية مؤيدة ﻟ «جبهة التحرير» الجزائرية، وبدأ يقدِّم لها خبرتَه في العمل السري (كان هناك تحفُّظ من جانب جويس وديدار وزوجته روزيت على الشبكة الفرنسية بسبب الحياة الجنسية المتسيِّبة لأعضائها الفرنسيين). ثم أزاح قيادة الشبكة وتولَّاها سنة ١٩٦٠.
وبطريقته المعهودة سعى إلى الانفتاح على العمل الجماهيري (تجميع أكبر قدْرٍ ممكن من الناس حول الهدف الذي يحتشدُ حوله أكثرية الناس)، فأعلن تشكيل «الحركة الفرنسية المناهضة للاستعمار» التي اعتبرَت التضامُن مع الجزائريين التعبير السياسي الأمثل عن مناهضة الاستعمار. وأثار هذا الإعلان عاصفةً شديدة بين اليساريين الفرنسيين. ووُجِّهَت إليه الاتهامات، وبعضها من الحزب الشيوعي الفرنسي ذاته. لكنه عمل مع زملائه بحماس ونشاط هائلَين أوصلاهم إلى السجن.
عاش كورييل في السجن ببياناتٍ تقول إنه بدون جنسية أو دين أو مهنة أو محل إقامة. وكانت أيامه مليئة بالنشاط؛ أعطى للمسجونين الجزائريين دروسًا في الإصلاح الزراعي واللغتَين الإيطالية والفرنسية. وصام معهم شهر رمضان. وأقبل على القراءة والكتابة ودراسة الأبراج لأنه يعتقد فيها. درَس أيضًا نظام المزارع التعاونية السوفييتية، وأشاد به، وفكَّر في ضرورة تنظيم العناية بكبار السن بعد أن تنتهي الحرب الجزائرية (وكان قد صار في الثامنة والأربعين، وهي السن التي اغتيل فيها شهدي عطية في نفس العام).
بقي كورييل في السجن عشرين شهرًا لم يفكِّر فيها في الهرب. لكن زميلته ديدار روسانو (ابنة مدير البنك الأهلي المصري التي تزوَّجَت من الضابط عثمان فوزي ثم تركَته إلى هنري ثم شريف حتاتة) تمكَّنَت منه بطريقة الأفلام في فبراير ١٩٦١ مع بعض زميلاتها. وبعد عامٍ وُقِّعَت اتفاقيات إيفيان، وأُفرج عن المسجونين الجزائريين. وتَبعَهم كورييل بعد شهور. وحصل على تصريح بالبقاء في فرنسا يتم تجديده كل ثلاثة شهور.

•••

يقول بيرو إن تحرير الجزائر نقل كورييل إلى مرحلةٍ جديدة، فقرَّر أن يكون نقطة اتصالٍ بين اليسار الأوروبي وحركات التحرُّر في العالم الثالث. هكذا وُلدَت منظَّمة «التضامن» بقيادة من الشيوعيين والكاثوليك والبروتستانت لتُقدِّم المساعدات (أدوية، بطاطين، مطبوعات، أماكن اختباء، تدريب على النشاط السري … إلخ) إلى المناضلين في جزر المارتينيك، أنجولا، الكاميرون، النيجر، مهدي بن بركة، المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا ثم فيتنام، هاييتي، روديسيا، كردستان، زيمبابوي، نيجيريا. وحرصَت المنظَّمة على الابتعاد عن المنظَّمات اليسارية المتطرفة مثل بادر في ألمانيا، و«الألوية الحمراء» في إيطاليا، التي كانت تبدو في نظرها شاذَّة وخطيرة. وفتَح لها بن بيلا خزائن الجزائر بلا حساب. وبالمقابل وقَّع الأخوان كورييل في ٢٧ أكتوبر ١٩٦٤ على عقدٍ موثَّق بتقديم منزلهما في الزمالك — ناصية شارعَي حسن صبري وإسماعيل محمد — هبةً لجمهورية الجزائر الديمقراطية لتستخدمه سفارة (ويقدَّر ثمنه الآن في ٢٠٠٤ بعدة عشراتٍ من ملايين الجنيهات).
لكن المرحلة الجديدة من نضال كورييل لم تخلُ من النكسات. جاءت النكسة الأولى في يونيو ١٩٦٥ عندما انقلب بومدين على بن بيلا، وحُرمَت «التضامن» في لحظةٍ واحدة من التمويل. قرَّر هنري أن الانقلاب مسألةٌ تخُصُّ الجزائريين ولا يتدخل فيها. وكانت المنظمة تقوم على أساس التطوُّع لكن هناك أربعة أو خمسة أعضاء متفرغين لا بد من دفع مرتباتهم. وهناك أيضًا مصاريف إدارية. ويتم تسديد كل هذا من اشتراكات الأعضاء والمساعدات المقدَّمة من منظَّماتٍ إنسانية مثل الجمعيات الكاثوليكية والبروتستانتية ومجلس الكنائس العالمي. أما ميزانية الخدمات المقدَّمة لحركات التحرُّر فكانت الجزائر تدفع قيمتها بالكامل. ولحل هذه المشكلة تقرَّر أن تحصل المنظَّمة من حركات التحرُّر ذاتها على مقابل لكل خدمة تقدَّم إليها وفقًا لفاتورة حساب بسعر التكلفة.
وفي ٣٠ أكتوبر جاءت الضربة الثانية.
كانت العلاقات قد توطَّدَت بين كورييل والزعيم المغربي المهدي بن بركة الذي حُكم عليه بالإعدام غيابيًّا في ١٩٦٤ وعاش في المنفى بين الجزائر وسويسرا. اشترك الاثنان في الإعداد لمؤتمر دولي للقارات الثلاث يُعقد في كوبا في نهاية عام ١٩٦٥. وكان المعروف أن المناقشات الكبرى في المؤتمر ستكون بين أنصار جيفارا وخصومه. وكان لبن بركة وكورييل موقفٌ واحد من هذه القضية؛ اتخاذ قرار مع الكفاح المسلَّح أو ضده أمرٌ مستحيل سياسيًّا لأن اللجوء للكفاح المسلَّح يتوقَّف على الظروف وعلى المكان. تولَّى كورييل مد خط اتصال بين بن بركة وديجول. تحدَّد موعد ٣٠ أكتوبر ١٩٦٥ لمقابلة أحد معاوني الأخير في قصر الإليزيه. أحد رفاق كورييل سيتولى استقبال بن بركة لكن الأخير يُدبِّر لقاءً آخر في مطعم بخصوص مشروع فيلم. على باب المطعم ينتظره ضابطَا بوليس فرنسيان ويطلبان منه في أدبٍ مرافقتهما إلى إدارة البوليس. ويكون ذلك آخر العهد بالزعيم المغربي. وكشفَت التحقيقات التي قامت بها «التضامن» أن الاختطاف تم بواسطة أجهزة المخابرات الأمريكية بالتعاون مع مثيلتها المغربية والفرنسية. وانهار المؤتمر.

•••

خصص بيرو الجزء الأخير من كتابه — الذي تضمَّنَت الطبعة العربية موجزًا له — للمرحلة الأخيرة من حياة كورييل التي بدأَت في ١٩٧٢، وكرَّس فيها جهده لتحقيق «السلام العادل في الشرق الأوسط». ويقول بيرو: إن موقف كورييل من القضية الفلسطينية لم يتغيَّر طَوال السنوات من ١٩٤٧ حتى اغتياله في ١٩٧٨. وإن الفلسطينيين تحوَّلوا خلال تلك الفترة من الرفض الكامل والتام للوجود اليهودي إلى اقتراح إقامة دولةٍ علمانية ديمقراطية يعيش فيها اليهود والعرب في سلام، ثم اقتراح إنشاء دولةٍ فلسطينية على الأرض التي احتلَّتها إسرائيل عام ١٩٦٧. أما الإسرائيليون فقد تأرجحوا بين المطالبة بحقهم في العيش بأمان وبين أحلامهم بإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. وظل كورييل يدين الأعمال الإرهابية الفلسطينية لكنه يطالب بإقامة وطنٍ لهم، ويدعو إلى حق إسرائيل في الوجود وفي الأمن، بينما يدين مغامراتها التوسُّعية. كان يقدِّم لكل مؤتمر ورقة تقول: «نحن ننطلق من حق الجماعات الوطنية المقدَّس والذي لا يسقط بالتقادُم في أن تعيش في وطنها. إننا نعترف بحق يهود إسرائيل في الوجود الوطني، لكن هذا الحق يجب بالأحرى منحه لعرب فلسطين. ولتحقيق ذلك لا بد من إنشاء دولتَين تضمن كلٌّ منهما لكل جماعةٍ حق الوجود الوطني.» وللوصول إلى هذا يجب قيام تحالُف بين قوى التقدُّم التي يجب أن تُنسِّق مجهوداتها ضد القوى الرجعية في المعسكرَين وضد حليفها «الاستعمار الأمريكي». وبمعنًى آخر العمل على عقد لقاءاتٍ بين أولئك الذين لديهم استعداد للحوار داخل المعسكرَين.
ويَسرُد بيرو تاريخ مساعي كورييل من أجل هذا الهدف؛ ففي ٥٣ كتب من منفاه إلى رفاقه في القاهرة محذرًا: «إننا نناضل من أجل حل النزاع بين الدول العربية وخاصة مصر وبين إسرائيل من ناحيةٍ أخرى.» وفي ١٩٥٦ — قبل العدوان الثلاثي — حرَّر مع يوسف حلمي سكرتير حركة السلام المصرية رسالتَين نُشِرتا بتوقيع يوسف حلمي. إحدى الرسالتَين موجَّهة إلى إسرائيل وتضمَّنَت النداء التالي: «نحن نريد السلام وأنتم تريدونه أيضًا. يجب عليكم إذن رفع شعارات السلام ضد مثيري الحروب …» الرسالة الثانية أُرسلَت إلى جمال عبد الناصر تدعوه إلى الاعتراف ﺑ «حق شعب «إسرائيل» في أن يكون له دولة» وتقترح عليه الدعوة إلى مؤتمرٍ دولي يضم الدول العربية وإسرائيل ودول باندونج والدول الكبرى يضع شروط السلام. ودُبر لقاء بين يوسف حلمي والكاتب آموس كانان أحد أعضاء منظمة شتيرن الإرهابية السابقة والذي شارك في حرب ٤٨ ضد العرب، وصار بعد هذا اللقاء في مقدِّمة روَّاد السلام في إسرائيل. وأدَّى العدوان الثلاثي إلى تمزيق أوصال رسائل السلام.
وقال بيرو إن هنري وجد في الحرب الجزائرية فرصةً لإقامة علاقات بين إسرائيل والدول العربية، ففاتَح يوري أفنيري الصحفي الإسرائيلي المعارض في أن تقوم إسرائيل بمساعدة الوطنيين الجزائريين. ووافقَت «جبهة التحرير» على الفكرة بينما رفضتها إسرائيل.
ولم يكد ينتهي عام ١٩٥٦ حتى أصدر كورييل نداءً دوليًّا جديدًا إلى حكومات وشعوب الدول العربية وإسرائيل، اقترح فيه عقد «اجتماعاتٍ دولية يشارك فيها عرب وإسرائيليون بهدف دراسة شروط وأسس عملٍ لتسوية النزاع». وفي ١٩٥٨ شارك في مؤتمر فلورنسا تحت رعاية الأمير الحسن ولي عهد المغرب وقتها بهدف بدء حوار بين العرب والإسرائيليين. وبعد حرب ١٩٦٧ ثارت مناقشةٌ حادة بين أفنيري وكورييل. الأول يؤكِّد أن بلاده التي تبدو ظاهريًّا معتدية هي في الواقع في حالة دفاعٍ شرعي عن الذات. والثاني يدينُ رغبة الحكام الإسرائيليين في التوسُّع. ومع ذلك يكتب إلى أصدقائه المصريين: «تعتقد الجماهير الإسرائيلية أن الحرب لم تكن عدوانًا من جانب إسرائيل. هل من المنطق أن نطالبها بالعودة إلى حالة يمكن أن يعتبروها بأنها تهدِّد بإبادتهم؟ إن هذه الجماهير ستتخلى عن الأراضي المحتلة في حالة حصولها على سلامٍ حقيقي وأمنٍ حقيقي.»

•••

ثم جاء أحمد حمروش إلى باريس. وحصل على موافقة عبد الناصر لإجراء الاتصالات مع أنصار السلام الإسرائيليين الذين يقدِّمهم له كورييل. واشترك خالد محيي الدين في هذه الاتصالات بموافقة عبد الناصر.
أسفرَت جهود كورييل وأصدقائه الإسرائيليين عن عقد مؤتمر بولونيا للسلام في ١٩٧٣. ولأول مرة كان سيجتمع وفدٌ فلسطيني مع ممثِّلين إسرائيليين في قاعةٍ واحدة. وفي صباح نفس اليوم الذي كان سيطير فيه الوفد الفلسطيني إلى المؤتمر ألقت الطائرات الإسرائيلية القنابل على مطار بيروت، ورفض المندوبون العراقيون والسوريون مصافحة الإسرائيليين فغادر آموس كانان المؤتمر صائحًا: «هذا هزل. يدعوننا ويرفضون رؤيتنا.»
وقبل حرب أكتوبر ١٩٧٣، شَعر كورييل باتجاه الريح فكتب: «يبدو أن المسئولين المصريين لديهم استراتيجيةٌ جديدة هي الاتفاق والتفاهم مع المجموعة الإسرائيلية الحاكمة»، و«مثل هذا الاتفاق سيكون أكبر ضربة تُوجَّه إلى القوى المسالمة، والمعادية للتوسُّع داخل إسرائيل.» وبعد الحرب كتب لأصدقائه من مؤسِّسي الحزب الشيوعي المصري الجديد في ٧٥: «إن الانتصار النسبي عام ٧٣ — الذي لم يتحوَّل إلى كارثةٍ إلا بفضل التهديد القوي بالتدخُّل من جانب الاتحاد السوفييتي — لم يحقِّق النتائج المنتظرة، وانتقل إلى سياسةٍ انتهازية صريحة كانت نتيجتها الشلَل الكامل لكل مبادرةٍ مصرية جديدة في المجال العسكري؛ فسياسة الخطوة خطوة أضعفَت التضامُن العربي والمقاومة الفلسطينية، واستطاعت سوريا بذلك أن تُهاجمها بلا عقاب … يجب العودة إلى سياسةٍ مبدئية:
  • (١)

    الاعتراف بحق الوجود لدولتَين.

  • (٢)

    إقامة تحالفٍ حقيقي بين القوى التقدُّمية للمعسكرَين ضد التوسعيِّين الإسرائيليين وحلفائهم الطبيعيين من المتطرِّفين العرب.

  • (٣)
    النضال من أجل تحقيق تكامُل الأراضي المصرية؛ لهذا بدلًا من سياسة الخطوة خطوة التي ينادي بها الأمريكيون، يجب الدفاع عن سياسة الحل الشامل؛ أي الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلَّتها إسرائيل عام ١٩٦٧، وهذا الحل لا يمكن تحقيقه إلا بدعم الوحدة العربية من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى باشتراك القوى العالمية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي والبلاد الاشتراكية الأخرى، وأن يتم النضال بالتحالُف مع قوى السلام في إسرائيل وعلى أساس الاعتراف بحقوق الشعبَين العربي واليهودي في التواجد القومي.»
في ١٩٧٥ تأسَّس «المجلس الإسرائيلي للسلام الإسرائيلي الفلسطيني». ودعا المجلس إلى اجتماع بمبعوثين فلسطينيين. وأبدى ياسر عرفات استعداده لمقابلة الإسرائيليين. وحسب ما يقوله بيرو فإن اجتماعًا تمهيديًّا لهذا اللقاء عُقد في أثينا في مايو ١٩٧٦ بين جوزيف حزان ورفعت السعيد ومندوب فلسطيني. تمَّت الموافقة على عقد مؤتمرٍ فلسطيني إسرائيلي في باريس يوم ٣٠ يوليو ١٩٧٦. وفي منتصف يونيو وصل الطبيب عصام سرطاوي (المقرَّب من ياسر عرفات وينتمي إلى الجناح المعتدل في منظَّمة التحرير الفلسطينية) إلى باريس معلنًا عدم الموافقة على عقد المؤتمر. يجتمع في مكتب جوزيف حزان مع كورييل وجويس بلاو وريمون إسطمبولي ومندوب إسرائيلي، ويقترح كورييل لقاءً بين عصام والجنرال بيليد رئيس اللجنة الإسرائيلية، الذي لعب دورًا هامًّا في حرب ٦٧. وفي ٢١ يوليو التقى الاثنان. وكانت أوَّل مرة يلتقي فيها بيليدبجويس بلاو التي صارت صديقته الحميمة حتى وفاته في منتصف التسعينيات.
يقول بيرو: «هذا الرجل الصهيوني المعادي للشيوعية (بيليد) بدأ يتغير بعد احتلال إسرائيل لقطاع غزة في ٥٦. في ذلك الوقت كان مسئولًا عن القطاع ثم اكتشف الحقيقة الفلسطينية. الخطوة الأولى أنه تعلَّم اللغة العربية. ثم شُغِف بثقافة الشعب الذي كان يُحارِبه بضراوة؛ الأمر الذي جعلَه يشغل كرسي الأدب الحديث بجامعة تل أبيب بعد اعتزاله العمل في الجيش. وكانت حرب ٦٧ واحتلال الضفة الغربية تحوُّلًا حاسمًا بالنسبة له. لقد اقتنَع باستحالة هضم إسرائيل للجماهير العربية في الأراضي المحتلة، وأصبح يؤمن بإمكانية التعايش السلمي بين بلاده وبين دولةٍ فلسطينية. وقد كرَّس حياته بعدها للسلام بعزيمة وإيمان مثلما فعل في الحرب.»
(في عام ١٩٩١ حضر بيليد إلى القاهرة وطلب مقابلتي فاعتذرتُ عن عدم لقائه. وأرسل لي بضع أسئلةٍ عن أعمالي الأدبية بلغةٍ عربية ركيكة للغاية فلم أرُدَّ عليها. واتصلَت جويس تليفونيًّا من باريس بصديقٍ لها في القاهرة تُلحُّ عليه أن يُقنِعني بالإجابة، فاعتذرتُ مرةً أخرى.)
في نفس وقت وصول سرطاوي إلى باريس نشرَت مجلة لوبوان الفرنسية في ٢١ يونيو ١٩٧٦ مقالات تتهم فيه كورييل بأنه إرهابي. استغرق الحوار بين بيليد وسرطاوي عشرين ساعة، ورجع بعده كلٌّ منهما إلى مُوكلِه. وافق عرفات على إصدار بيان يدين اختطاف الطائرات، لكن البحرية الإسرائيلية حاصرَت القوات الفلسطينية في بيروت، بينما اشترك المستشارون العسكريون الإسرائيليون في محاصرة معسكر تل الزعتر وقتل سكانه.
عُقِد اجتماعٌ جديد في باريس في أكتوبر ٧٦ بفضل همَّة كوريي». وفي ٢٤ أكتوبر نشرَت دير شبيجيل الأسبوعية الألمانية مقالًا اتهمت فيه كورييل من جديد بالإرهاب (وقد اعتذرَت عن هذا الاتهام علنًا بعد اغتياله)، وفي فجر اليوم التالي أُبلغ كورييل بقرار طرده من فرنسا وتحديد إقامته في مدينة بجبال الألب.
وفي نوفمبر ١٩٧٧، علَّق على زيارة السادات إلى القدس قائلًا: «هذا حسن بشرط أن يكون لدى الشيوعيين المصريين الذكاء لكي يركبوا معه الطائرة.» وأبلغ حزانرفعت السعيد: «كنا نتمنَّى لو شاهدنا خالد محيي الدين نازلًا مع السادات من الطائرة.»

•••

ثم حلَّت النهاية.
في ٣ مايو ٧٨ حضر هنري اجتماعًا لسكرتارية «التضامن». وفي المساء التقى الرئيس السابق لجماعة شتيرن الصهيونية الإرهابية. في اليوم التالي تقابل مع سرطاوي في الساعة الحادية عشرة بمكتب جوزيف حزان، ثم ذهب إلى منزله القريب ليتناول غَداءً خفيفًا من ساندوتش ليس به أثَر للحم وفنجان قهوة. وفي تمام الساعة الثانية غادر شقته إلى موعد تمرينات اليوجا ورافقته زوجته روزيت كعادتها حتى ركوبه المصعد. وبينما كان يهبط أخرج من جيبه مفاتيح سيارته ومفكرة ذات غلافٍ أسود، وأمسك بيده اليمنى قلمه وفتح المفكِّرة على صفحة يوم ١٦ مايو حيث وُجدَت فيما بعدُ كلمةٌ وحيدة هي «الدكتور»، وفي هذه الأثناء وصل المِصعَد إلى الدور الأرضي. فتح رجلٌ باب المصعد وأطلق آخرُ الرصاص على كورييل.
وبعد ساعةٍ تلقَّت وكالة الأنباء الفرنسية مكالمةً تليفونية من مجهولٍ أملى عليهم بيانًا من منظَّمة دلتا: «في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم توقف عن النشاط تمامًا عميل المخابرات السوفييتية والمناضل من أجل القضية العربية خائن فرنسا التي تبنَّته. لقد تم إعدامه تخليدًا لذكرى أمواتنا.»
يقول بيرو إن دلتا هي فرع من منظَّمة الجيش السري الفرنسية التي ارتكبَت أهوالًا في الجزائر من أجل المحافظة على الاستعمار الفرنسي. ولم يسمع أحدٌ عنها شيئًا طيلة ١٥ سنة، وفجأةً قتلَت الحارس الليلي للرابطة الجزائرية في ديسمبر ١٩٧٧، وقامت بسلسلة من الاعتداءات على أهدافٍ جزائرية وشيوعية، وأخيرًا كورييل. وأوضحَت تحقيقات البوليس الفرنسي أن المسدَّس الذي قُتل به هنري هو نفسه الذي استُخدم في اغتيال الحارس الليلي للرابطة الجزائرية. ويعطي بيرو الإيحاء بأن موضوع دلتا ليس سوى غطاءٍ لإخفاء القتلة الحقيقيين. ويقول إن التفسيرات قد تعدَّدَت فيما بعدُ وتراوحَت بين اتهام المافيا والمخابرات الفرنسية مع الإسبانية، كتائب الجمَيِّل اللبنانية بالتعاون مع دلتا واليمين الفرنسي، مخابرات الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا، الموساد التي تعارض أي اتفاق مع الفلسطينيين، مجموعة أبو نضال الفلسطينية التي اغتالت سرطاوي في ١٩٨٣ … «فقد أزعج نضالُه الكثيرين.»

•••

إن الصورة التي ينقلها إلينا بيرو عن كورييل مثيرة حقًّا: رومانسي يحفظ أشعار هوجو وأراجون. يتحدث بإيمان ورقَّة. يُخفي نقاط الخلاف ويُظهر نقاط الالتقاء. صرامتُه الأخلاقية أعجبَت المسيحيين. ربما كان معقَّدًا بسبب الحياء ومغلقًا على ذاته. يدخل قلوب الناس بسهولةٍ بينما يُناوِر. يستخرج الحقائق من النفوس عن طريق توجيه الأسئلة. يجعلُك تكتشف ذاتك. شيوعيٌّ تقليدي كما وصف نفسه. «رغبة في السلطة؟ كانت لديه بلا شك مثلما هي لدى كل إنسان. ماكيافيلية؟ لم يكن خاليًا منها «…» بالنسبة للجيل الجديد الذي هو الابن اليتيم للآمال الثورية يمثِّل كورييل تجسيدًا حيًّا للملاحم البطولية لعهد الكومنترن؛ فهو وكيلٌ متجوِّل للثورة … إنه إنسان جاء من مكانٍ مجهول ليُشعِل في كل مكانٍ نيران الثورة الأممية.»
وككل حياةٍ فعالة لا تخلو حياة كورييل من الأخطاء. وليس منها إيمانه بأن الثورة المصرية تتحقَّق عَبْر التحرُّر الوطني ولهذا تصنعُها طبقاتٌ عديدة، وبأن العمل الثوري يجب أن يتم وسط الناس لا في الغرف المغلقة (في ١٩٨٣ اعترف فؤاد مرسي، أستاذ الاقتصاد الذي أنشأ منظمة «الراية»، اعترف لبيرو: نعم كان كورييل على حق ونحن كنا مخطئين «…» من سوء حظه أنه كان أجنبيًّا ويهوديًّا).
لقد بدأ كورييل نضاله رافضًا للصهيونية. لكن كانت لديه قناعة بمشروعية الوطن القومي لليهود، وبأن المستقبل هو للكفاح المشترك بين الشعبَين العربي واليهودي ضد المستغلِّين والقاهرين وضد الاتجاهات «القومية» المتعصِّبة في الجانبين. وهي فكرةٌ رومانسية قامت على المساواة بين أصحاب الأرض والمستعمرين. وعلى أية حالٍ دحضَتْها التطوُّرات.
ولا شك أن تخلِّي المصريين عنه قد آلمه. وحملَه على توسيع مجال نضاله بحيث يشمل العالم بأَسْره، فوضع نفسه في مهب النيران. وبالنتيجة اجتذب اهتمام أجهزة مخابراتٍ دولية عديدة. كما أنه اضطُر للاعتماد على تمويل مؤسساتٍ مختلفة من بينها «مجلس الكنائس العالمي» الذي لم يكن بريئًا من التعاون مع المخابرات الأمريكية. لكن لينين كان على حق عندما قال: من لا يعمل لا يخطئ.

•••

بعد تسع سنواتٍ من مصرع هنري وصلتُ باريس، فسعيتُ إلى لقاء ما تبقَّى من جماعته. ذهبتُ إلى جوزيف حزان في دار النشر التي أسَّسَها. كان يستخدم للقراءة نظَّارةً مكبِّرة يمسكها بيده الضخمة. وكنتُ أعرف أنه في السبعين من عمره. قدَّمني إلى زوجته التي تصغُره بعشرين عامًا. ودعاني — أنا وأسرتي — إلى غداء في مطعم «الدار» اللبناني الفخم. اعتذرَت زوجته عن مرافقتنا بسبب موعدها مع درس اللغة الصينية. وكانت هذه أول إطلالةٍ لي على «العالم الكورييلي» وشعاره هو التطوير المستمر للقدرات والمهارات والتعامل بجديةٍ شديدة مع الوقت، ولعلها من الخصال التي زرعها يسوعيو الفجالة في هنري. وفيما بعدُ وجدتُ مثلًا لهذه الكورييلية في ابنه ألان جريش، رئيس تحرير اللوموند ديبلوماتيك وأستاذ العلوم الرياضية، الحائز على دبلوم في العربية من معهد باريس للدراسات الشرقية وعلى دكتوراه في العلوم السياسية. (كان راءول — شقيق هنري — يدرس الكيمياء العضوية وهو في السبعين).
انسالت دموع حزان وهو يتذكَّر مصر ويُخبرني بأنه كان مسئولًا عن الرقابة في حدتو واسمه الحركي «كوكو». ثم قال إنه كان يتمنى أن يرى خالد محيي الدين مع السادات عند هبوطه في القدس، وإنه قال ذلك لرفعت السعيد، ثم قال إن المهمة الأساسية لشعوب المنطقة الآن هي التعاون معًا ضد الجوع، وهو مضمون المشروع الذي عُرف في ذلك الحين باسم مشروع بيريز-خليل.
التقيتُ أيضًا جويس بلاو (كنتُ قد تعرَّفتُ عليها قبلًا في عام ٧٠ في مؤتمر للطلاب الأكراد أُقيم في استكهولم ودُعيتُ إليه مع بهيج نصار — مندوب وكالة الشرق الأوسط في برلين وقتها.)
وفي مسكنها الصغير المتواضع المليء بالكتب والملفَّات تحدَّثنا عن كورييل بينما كنت أتأمل تلك الفتاة الغريبة التي أخلصت لهنري طُول حياته، وقامت بدور الصديقة والسكرتيرة الأمينة. كانت في الثالثة والخمسين وأستاذةً للغة الكردية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس.
(وصفها جيل بيرو عندما التقت بهنري لأول مرة في القاهرة بأنها كانت شقراءَ جميلة في الواحدة والعشرين من بيئةٍ متواضعة ولا تعرف العربية. انضمَّت إلى منظمة «إسكرا» في ١٩٤٧ بعد سماع محاضراتٍ سياسية لمدرسين فرنسيين ماركسيين في الليسيه. عَمِلَت موظَّفة آلةٍ كاتبة بمكتب استيراد وتصدير. وصلت باريس في زيارةٍ قصيرة مع خطيبها الذي قال لها إنه سيقدِّمها إلى كورييل فصاحت: الصهيوني. صفعها على وجهها. لامه كورييل على ما فعل، ثم وافقَت على أن تعمل معه. بعد عودتها إلى مصر قُبض عليها وسُجنَت في القلعة ثم وضعها البوليس على مركبٍ متجه إلى فرنسا. سألها كورييل عما تريد أن تفعل. قالت: أتمنى دراسة الكيمياء. قال لها يجب أن تجدي عملًا نصف الوقت. تتعلَّمين اللغة العربية وتناضلين باقي الوقت. حصلَت على دبلوم في مدرسة اللغات الشرقية بباريس وعلى دبلوم من بروكسل في اللغتَين الإيرانية والكردية. وأصبحَت الآن من الخبراء العالميين في القضية الكردية. قالت لبيرو: «كان يدفعنا للدراسة. القاعدة الوحيدة كانت أن النضال من أجل الآخرين يجب ألا يؤثِّر على الاستثمار الذاتي. كان يريد منا أن نتقدَّم دائمًا وأن نُصلِح ونُحسِن أحوالنا. وكان هذا أمرًا مُضنيًا بسبب الطاقة الهائلة النابعة من هذا الرجل الهزيل. كنتُ أعيش في قلقٍ أني لستُ على المستوى اللائق، وأنني لا أعمل بما فيه الكفاية.»)
سألتُها في ذلك اللقاء الذي تم عام ١٩٨٦: ماذا كان كورييل يعتبر نفسه عند وفاته؟ توقَّعتُ أن تقول ماركسي أو شيوعيٌّ عالمي (أو شيوعي تقليدي كما ألِف أن يقول في الستينيات حسب بيرو)، أو مواطنٌ فرنسي أو مصري، أو أي شيء، لكنها ردَّت عليَّ في شيء من التحدي: يهودي!
تحدَّثنا في السياسة وردًّا على ملاحظةٍ لها قلت: إن إسرائيل تابعة للولايات المتحدة. هنا أشاحت بيدها ومالت برأسها نحوي قائلةً في حدَّة: إسرائيل هي التي تقول للولايات المتحدة ما ينبغي عليها أن تفعل. وخُيِّل إليَّ أن هناك شيئًا من الفخر في لهجتها.
ووقع اللقاء الثاني بيننا بعد ست سنوات، في أواخر شهر أبريل عام ٩٤ عندما كنتُ أقوم بتدريس سيمنار عن الأدب العربي الحديث في جامعة بوردو؛ ففي اتصالٍ تليفوني من هناك بحزان عرض عليَّ أن أتولَّى تحرير سلسلة للأدب العربي المترجم مقابل واحدٍ بالمائة من الدخل. قلتُ له إن فرنسيَّتي ضعيفة ولن تُسعِفني. فقال إن هذا لا يهم، وإن المهم أن أحصُل على بعض الدخل الذي يعينني في تفرُّغي التام للكتابة. تواعدنا على اللقاء في باريس مع صاحب دار النشر التي ستتولى إصدار السلسلة. التقينا في مطعم على الغداء؛ هو وجويس، بالإضافة إلى رجلٍ ثلاثيني أو أربعيني ذي شَعرٍ مجعَّد. كان لقاءً غريبًا؛ فلم يَجرِ أي حديث عن السلسلة المزعومة، وظل الرجل الذي افترضتُ أنه صاحب دار النشر أو ممثِّلها صامتًا يتطلع خلفي ساهمًا وعلى وجهه ظِل ابتسامةٍ وفجأة ردَّد: «في العام القادم سنذهب إلى أورشليم» (وهي عبارةٌ عرفتُ فيما بعدُ أنها من النشيد الصهيوني) فنهرَته جويس. وقالت إن ذكرى كورييل تحلُّ بعد أسبوع. فعرضتُ الذهاب معها إلى مقبرته. وفي اليوم التالي تذكَّرتُ أن لديَّ ارتباطًا ما في ذلك التاريخ فاعتذرتُ لها. وبعد سنواتٍ التقيتُ حزان في معرضٍ للكتاب الفرنسي، فحثَّني على الكتابة عن يوسف حلمي. وقد تُوفي في ٢٠٠٤، وانطوت صفحةٌ أخرى من تاريخ الرجل الفريد.
(٥)
كان مكرم عبيد باشا في أحد الأوقات مرشحًا لأن يكون زعيم الأمة المصرية بفضل جماهيريته ومقدرته الخطابية التي أهَّلَته لأن يُصبِح سكرتير «الوفد» عند اختيار مصطفى النحاس بك لزعامته إثر وفاة سعد زغلول في أغسطس ١٩٢٧. وطَوال عشرين عامًا كان أقرب صديق للنحاس وشديد الالتصاق به حتى إنه لم يكن يناديه إلا بلقب «سيد الناس» ويُلازِمه طُول اليوم ويرافقه حتى باب الحمَّام وينتظره أمامه، حسب ما يقول إبراهيم طلعت. وخلال ذلك الوقت كان نفوذه قد ازداد وصارت الآلاف تخرج لاستقباله في أي بقعة من البلاد يذهب إليها، وصار أهم مركزٍ للقوة في «الوفد»، خاصة وأنه بحكم ديانته كان يُعبِّر عن الوحدة الوطنية في أجلى صورها. ولا بد أنه أصبح مستهدفًا من جانب قوًى كثيرة — على رأسها الإنجليز والملك — تعمل على تجنُّب ظاهرة سعد، زعيم الأمة. هكذا كانت الأرض ممهَّدة للعامل الشخصي.
فقد ظل النحاس عزبًا حتى بلغ الخمسين، وأراد أن يتزوج فعهد إلى مكرم وزوجته بأن يبحثًا له عن عروس، فاختارا له الآنسة زينب هانم الوكيل ابنة أحد زعماء البحيرة وأثريائها (١٥٠٠ فدان من أجود الأراضي). وسرعان ما تبرَّمَت من إصرار مكرم على ملازمة النحاس ونفوذه عليه؛ فقد نشب الصراع على الزعيم الكهل.
وحدَث ذات يومٍ أن فوجئَت الزوجة الجديدة — وهي بملابس النوم — بمكرم واقفًا في الممر المؤدي إلى حمَّام منزلها. وكان زوجها لم يستيقظ بعدُ فأسرعَت إلى غرفة نومها وارتدَت ملابسها ثم صارحَت مكرم بأنه يُسبِّب لها حرجًا بتصرُّفاته، ورجَتْه في أدب أن يستأذن قبل صعوده إلى الطابق الأعلى من المنزل. وتمتَم مكرم قائلًا إنه يعتبرها بمثابة أخته أو ابنته لكنها كرَّرَت قولها في حزم. وغادر مكرم المنزل غاضبًا.
وأعطى النحاس أذنًا صاغية لأعداء مكرم والمتضررين من نفوذه وعلى رأسهم الزوجة وحليفها الشاب الصاعد فؤاد سراج الدين. وحانت الفرصة للقصر والإنجليز؛ فسرعان ما تفجَّر الصراع بين الرجلَين بعد عودة «الوفد» إلى الحكم في ١٩٤٢. وخرج مكرم من «الوفد» مع مجموعة من أنصاره غاضبًا ممرورًا. وفي يوم ٢٩ مارس ١٩٤٣ قدَّم عريضة إلى الملك تتضمَّن وقائعَ فساد منسوبةً إلى الحكومة الوفدية. وبعد اثنتين وثلاثين سنة اعترف ساعده الأيمن وقتها، جلال الحمامصي، في كتاب «وراء الأسوار»، بأن إعداد هذه العريضة تم بالاتفاق سرًّا مع الديوان الملكي.
يقول إبراهيم طلعت في مذكِّراته عن أيام الوفد الأخيرة (التي نشرتها مجلة «روز اليوسف» ابتداءً من ٢٢ أغسطس ١٩٧٦): إن العريضة وُزِّعَت على هيئة كتابٍ عُرف ﺑ «الكتاب الأسود» وأحدثَت ضجةً عنيفة في جميع الدوائر؛ فقد كانت الاتهامات الواردة فيه ضد النحاس وزوجته تبدو في تلك الأيام — رغم تفاهتها — بالغة الخطورة؛ لأن نزاهة الحكم كانت شيئًا حسَّاسًا بالنسبة للناس جميعًا خاصة وأنها تمس زعيم الأمة. ومن أمثلتها: أن وزيرًا حابى أحد أقاربه فرقَّاه من الدرجة الثالثة إلى الثانية بزيادة في راتبه لم تتجاوز بضعة جنيهات، وأن رئيس الحكومة وبعض الوزراء أقاموا أسبوعًا في باخرة تملكها الحكومة بالرغم من أنهم سدَّدوا الإيجار الرسمي لذلك، وأن حرم النحاس اشترت من إنجلترا فراءً بأقل من مائة جنيه وتبنَّت — طبقًا للتقليد الذي سارت عليه حتى اليوم كل سيدةٍ أولى — ما عُرف وقتئذٍ باسم «مشروع البر» فجمعَت تبرُّعاتٍ للفقراء لم تذهب إليهم، وأن أحد أشقائها تعاقد على صفقة تصدير أو استيراد ربح فيها بضع مئات من الجنيهات، وأن وزير الزراعة — فؤاد سراج الدين — تلقَّى الزهور من مزارع الوزارة لتزيين منزله ومنزل رئيس الحكومة المجاور له. وبالطبع فإن الجنيه وقتها كان يساوي ألفًا اليوم، ومع ذلك لا يملك المرء إلا أن يُدهَش من تفاهة فساد ذلك العصر بالمقارنة بفساد العهد الحالي.
(٦)
وفيما بعدُ حملتُ إليه مخطوطة رواية «تلك الرائحة» سنة ١٩٦٥ فتحمَّس لنشرها في مجلة «الكاتب» التي كان عضوًا في مجلس تحريرها، لكنه لم يتمكَّن من ذلك، فقرَّرتُ نشرها على نفقتي. عندئذٍ عرض عليَّ أن يكتب لها مقدمةً أشار فيها إلى قصتي عن خليل بيه.
(٧)
كان اثنان من أعضائها في قيادة تنظيم «الضباط الأحرار» وهما يوسف صديق وخالد محيي الدين، في حين كان عضوان آخران هما القاضي أحمد فؤاد (عضو اللجنة المركزية) واليوزباشي أحمد حمروش على اتصالٍ وثيق بجمال عبد الناصر. وحسمَت مبادرة يوسف صديق بالاستيلاء على مقر قيادة الجيش مصير الانقلاب في اللحظات الأولى؛ فقد كان مكلَّفًا من قِبَل الضباط الأحرار بالتحرُّك ليلة الثورة مع قُوَّاته. وحدَث خطأ في التبليغ فتحرَّك قبل ساعة الصفر، وخلال تحرُّكه المبكِّر اعتقل كل من قابله في الطريق من رتبة اللواء فما فوق باعتبارهم القادة الذين خرجوا من منازلهم إلى وحداتهم لقمع الانقلاب بعد أن تَسرَّب خبره. وفي الطريق التقى بجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر اللذَين ناقشاه في التراجع على أساس أن خبر الانقلاب قد تسرَّب، فردَّ بأن التراجُع خطر ولن يُنجيَ الثوار من العمل الانتقامي، وأن الأسلم هو الاستمرار، وأنه شخصيًّا يتحمل المسئولية عن ذلك. وفعلًا توجَّه إلى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في القبة، واعتقل كل الموجودين من كبار الضباط فانتصر الانقلاب.
(٨)
لم يبقَ مصطفى طويلًا في حدتو؛ فقد تركَها بعد شهور إثْر التحاقه بجريدة «الجمهورية». ولم يلبث أن تركها إلى صحف أخرى. وقد أكمل دراسته في كلية الحقوق وصار صحفيًّا بارزًا. وتميَّز بمقالاته التحليلية. واعتقل لفترةٍ قصيرة في الستينيات، وأظن أنه كان عضوًا في التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي، وكان دائم التنقُّل بين الصحف والمواقع، ولازمه هذا القلَق حتى اليوم.
(٩)
ترك لي أبي معاشًا شهريًّا من ستة جنيهات، كان أخي — بصفته وصيًّا عليَّ — يعطيها لي بصعوبة. وكان قد ترك شركة الجابري وافتتَح مكتبًا صغيرًا للاستيراد فوق أمريكين سليمان باشا. وكنتُ أذهب إليه كل شهر لآخذ المعاش فيعطيني جزءًا منه، وأتردَّد عليه عدة مرات قبل أن تكتمل الجنيهات الستة. وفي إحدى المرات عرض أن يعطيني بدلًا منها حبوب تغذيةٍ أمريكية استوردَها تحلُّ محلَّ وجبات الطعام بعضها بطعم الفانيليا والبعض الآخر بطعم الشكولاتة. وقد جرَّبتُها لكنها لم تفلح في إشباع جوعي.
(١٠)
شاعت عبارتُه الشهيرة التي جابه بها الدجوي قائلًا: «شطا وشطيطة عليك وعلى الاستعمار.» وقد صار الدجوي فيما بعدُ حاكمًا لمدينة غزة، وعندما أسَره الإسرائيليون في ١٩٦٧ انهار وهاجم مصر.
(١١)
استطاع فيما بعدُ أن يتعرَّف برمسيس نجيب ويُشارِكه في الإنتاج السينمائي مقابل تسهيل تصوير ثلاثية أفلام إسماعيل ياسين (في الجيش والأسطول والطيران).
(١٢)
وُلِد شهدي عطية الشافعي سنة ١٩١٣، وحصل على ليسانس الآداب ودبلوم المعلمين واشتغل بالتدريس، ثم تقدَّم لمسابقة اللغة الإنجليزية، وكان أول الناجحين فاستحق بعثةً إلى بريطانيا، حيث حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من كامبريدج وبدأ التحضير لدرجة الدكتوراه في الفلسفة. وعند عودته في نهاية الحرب العالمية الثانية شغل وظيفة مدرس أول اللغة الإنجليزية بمدرسة التجارة، ثم تدرَّج في مناصب وزارة التربية والتعليم حتى وظيفة مفتِّش أول اللغة الإنجليزية، ويُعَد من أوائل المصريين الذين شغلوا هذا المنصب. وفي ذلك الوقت أسَّس دار «الأبحاث العلمية» ثم شارك في قيادة «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» سنة ١٩٤٦. وقُبض عليه في العام التالي وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة لمدة سبع سنوات، فصار أول سجينٍ سياسي يدخل الليمان ويُقيَّد بالسلاسل الحديدية. وظل الشيوعي الوحيد به. وخلال ذلك نظَّم مدرسة لمكافحة الأمية، ونجح في تنظيم أول إضرابٍ من نوعه في السجون المصرية للمطالبة بتحسين الطعام وظروف المعيشة. وفي أعقاب الثورة أُفرج عنه بثلاثة أرباع المدة، وظل خاضعًا للمراقبة القضائية حتى اعتقاله مرةً ثانية في أول يناير ١٩٥٩. وكان المتهم الأول في قضية حدتو التي قُدِّمَت إلى المحاكمة العسكرية في مارس ١٩٦٠.
(١٣)
كان شهدي يتميَّز ببساطةٍ آسرة ومقدرةٍ على عقد أواصر العلاقات الوثيقة مع مختلف النوعيات من الناس. وخلال عملي معه كان يتردَّد على مكتبه بعض نزلاء السجون السابقين الذين دخلوها في جرائم الاختلاس والثأر والقتل، وتعرَّفوا عليه خلال إقامته معهم. وظلوا يلجئون إليه في مشاكلهم بعد خروجهم من السجن. وقد ساعد الكثيرين منهم على استئناف حياتهم الطبيعية، بل وألحق أحدَهم بمكتبه، وهو سليمان عزيز الذي كان قد تورَّط في اختلاس بسبب غرامه بالممثلة كاميليا.
(١٤)
كُسرَت ذراع الشاعر فؤاد حداد في حفل التعذيب الذي نظَّمه إسماعيل همت في أبي زعبل سنة ١٩٥٤. وكان معه يوسف إدريس ورسَّام الكاريكاتير زهدي.
(١٥)
وصَف كثيرٌ من الكتاب الذين مَرُّوا بتلك التجربة تفاصيل ذلك التعذيب الذي استمر بالنهار والليل، وامتد من الضرب والتجويع والإهانة المستمرة إلى العمل في تكسير البازلت، وكان يتم تصعيده بالتدريج حتى بلغ جرعة الحد الفاصل بين الحياة والموت.
ولم يُصِب الإرهاقُ المعتقلين وحدهم، بل امتَد إلى الحراس أنفسهم، حتى إن السجان عبد الصادق الذي لُقِّب بنخَّاس العبيد من جَرَّاء قسوته، أُصيب بالإعياء ذات يومٍ فصرخ في ضحاياه قائلًا: يا اولاد الكلب يا للي ما فيش في قلوبكم رحمة!
ولا ريب أن المنوط بهم التعذيب — والذين لمسوا من قبلُ ما هو معروف عن الشيوعيين من صلابة وقدرة على المقاومة — قد دُهِشوا من تقاعُس قادة المعتقلين عن المقاومة وسماحهم بتدهور الوضع حتى وصل إلى درجة الهزل. وقد وصف السيد يوسف في «مذكرات معتقل سياسي» (الهيئة العامة للكتاب، ١٩٩٩) كيف استوحى القائمون على التعذيب في البداية تجربتهم مع الإخوان المسلمين، فأمروا المعتقلين بأن يهتفوا للجمهورية في طابور الصباح، وعندما لم يعترض أحد أمروهم بالهتاف بحياة جمال عبد الناصر وترديد نشيد «الله أكبر». وقد امتنَع إسماعيل صبري عن النشيد فتعرَّض للضرب، وأثار هذا بلبلةً واسعة في صفوف الحزب، وتعدَّدَت الاقتراحات بالهُتاف أو الامتناع عنه أو التمتمة؛ أي إظهار الهُتاف دون أدائه. واقترح البعض أن تهتف الصفوف الأولى وتمتنع الصفوف الخلفية، أو تُترك الحرية لكل فرد يتصرَّف حسب ما يراه. واتخذت القيادة قرارًا بالرأي الأخير فثارت الاعتراضات، فعدلَت عنه إلى القرار الأول، ثم عادت إلى الأخير. وقد تخلَّت الإدارة عن النشيد والهُتاف لعبد الناصر واستمر الهتاف للجمهورية.
ويُفسِّر السيد يوسف تقاعُس القيادة بأن المعتقل ضم نوعياتٍ مختلفة؛ من أول المستقلين الذين لم يرتبطوا بأي تنظيم، والمتعاطفين مع هذا التنظيم أو ذاك، إلى الأعضاء المنظمين في حدتو والحزب. وقال إن أي مقاومةٍ جادة كانت منوطة بقرار قيادة مجموعة «الحزب» باعتبارها الأغلبية لكنها تقاعسَت عن ذلك لرغبتها في عدم تعريض عناصرها لمستوًى من التعذيب الجسماني قد يؤدي إلى انهيارهم؛ أي تجنُّب المغامرة التي قد تؤدي إلى الموت.
ويَستشهِد السيد يوسف بقول نبيل صبحي إن القيادة رفضَت رفضًا صريحًا أي موقفٍ مضاد بحجة أن الظرف غير مناسب، وأن التمرُّد يمكن أن يؤدِّي إلى مجزرة تذهب ضحيتَها خيرةُ عناصر الحزب؛ مما يؤثِّر على مسيرته سنواتٍ طويلة، «ولم يصدر عن القيادة المركزية أي احتجاج في مواجهة السخرة أو التعذيب أو التنكيل أو مقتل فريد حداد … فتصاعد الإرهاب … لقد سيطر الخوف على هذه القيادة فكان أن سرى الخوف إلى المعتقل كله.»
والحق أن التنظيم الآخر، حدتو، قد اقترب من هذا الموقف من منطلقٍ آخر تمامًا هو تجنُّب استفزاز الحكومة، على أمل أن تقتنع بجدية موقف التأييد الذي التزمَت به.
وفيما بعدُ وجَّه فخري لبيب السؤال عن ذلك إلى فؤاد مرسي، الذي كان المسئول الأول عن قيادة المعتقلين في أبي زعبل، ونشر ردَّه في كتابه «الشيوعيون وعبد الناصر». قال فؤاد مرسي: «استولى عليَّ أن هذا المعسكر معسكر تعذيب، وأن الغرض منه ألا يخرج الشيوعيون أحياءً سالمين، فكان تفكيري هو كيف أخرج بهؤلاء الكوادر أحياءً إلى مصر؛ وبالتالي استقر عندي أن نقبل قَدْرًا معينًا من التعامل مع هؤلاء الناس، ولا نُجابههم بالرفض الكامل الذي كان يعني الاستمرار في التعذيب حتى يسقط الناس الواحد بعد الآخر موتى أمامنا … من هنا يمكن الحكم على هذه الفلسفة ذاتها لا في تفاصيلها.»
وفي رأيي أن الأمر لم يكن خوفًا بقَدْر ما هو الهوس النرجسي الذي لم يبرأ منه الزعماء في أي مكان وزمان، وصوَّر لهذه القيادة أن حياتها مستهدفة، وأن الحفاظ على هذه الحياة بأي شكل هو مسئوليتها أمام الشعب المصري؛ وبالتالي يتعيَّن عليها عدم الدخول في مواجهاتٍ خطرة. وقد قابلتُ فؤاد مرسي في نهاية ١٩٧٤، وكنتُ قد تولَّيتُ مسئولية التحرير بدار «الثقافة الجديدة»، بعد عودتي من موسكو، وعرضتُ عليه أن يكتب لها دراسةً اقتصادية (تقاضى عنها أربعين جنيهًا). وكان يسكُن شقة في الشارع الرئيسي لحي الزمالك وفوجئتُ به يستقبلني في بهوٍ فخم، وبأن سفرجيًّا بالحزام الأحمر يقدِّم لي القهوة. وكان ذلك في الغالب من مخلَّفات الفترة التي قضاها وزيرًا في بداية عهد السادات، لكني أبديتُ دهشَتي فضحك ضحكةً هستيرية. وكان مبعث دهشتي وضحكته أني أعرف بأمر نشأته المتواضعة في حي كرموز الشعبي بالإسكندرية. وعادت بي الذاكرة إلى عام ١٩٥٨ عقب وحدة الحزب، عندما زرتُ زميله إلهام سيف النصر — الذي صار مسئولًا لي بعد الوحدة — في مسكنه بالطابق العلوي من عمارة إسماعيل صدقي الفخمة، وقدَّم لي القهوة سفرجيٌّ مماثل.
ويمثِّل إلهام سيف النصر حالةً درامية بارزة؛ فهو واحد من أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين قادهم تمرُّدُهم ضد آبائهم وطبقتِهم إلى صفوف الحركة الشيوعية. وقد تميَّز أغلبهم بالإخلاص والتضحية. والقليل منهم مَن تصوَّر أن امتيازاته الطبقية تُعطيه امتيازاتٍ خاصة داخل الحركة الشيوعية. وكثيرٌ منهم بذلوا مجهوداتٍ خارقة لتربية أنفسهم بالتصور الجديد، وتحمَّلوا بشجاعة ظروف القهر والتعذيب والسجن، بل وتحَّملوا أيضًا سخرية زملائهم ذوي الأصول الطبقية الأخرى واستخفافهم بهم. ويبدو أن الأخيرين لم يصدِّقوا في أعماقهم التحول الذي قام به الأولون. وقد تعرَّض إلهام بالذات لمحنةٍ هائلة عندما نقله المصيلحي من الواحات إلى مستشفى قصر العيني بالقاهرة ليمارس عليه ضغوطه. ووضع بعد خروجه واحدًا من أجمل الكتب وأكثرها أمانةً عن تجربة الاعتقال والتعذيب، فضح فيه علاقة المصيلحي بالأجهزة الأجنبية، ودور مايلز كوبلاند، عميل المخابرات الأمريكية ومؤلِّف كتاب «لعبة الأمم» الشهير — الذي كان مستشارًا أمنيًّا لزكريا محيي الدين، وزير الداخلية، في خطة تصفية الشيوعيين.
وقبلَه قام أبو بكر حمدي سيف النصر بأدوارٍ مرموقة في نشاط حدتو السري واستغل مشابهته التامة للملك فاروق في تهريب عناصرها من السجون والمعتقلات قبل الثورة. وقدَّم محمد يوسف الجندي وإنجي أفلاطون وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم ومحمود المناسترلي ومحمد عباس أحمد وشريف حتاتة وغيرهم — رغم التبايُن في مصائرهم — تضحياتٍ ضخمة وأمثلةً بارزة على الصمود.
(١٦)
من المؤكَّد أنه كانت هناك توصيةٌ ما بشأننا؛ فقد كان شقيقا كلِّ من عبد الحميد السحرتي وإبراهيم المناسترلي من الضباط، بل إن محمود المناسترلي كان مساعدًا لإسماعيل همت عندما كان الأخير قائدًا للسجن الحربي، وذلك قبل أن يصبح شيوعيًّا مثل شقيقه. وكانت لسعد بهجت علاقاتٌ عائلية واسعة. أما اللغز الحقيقي فهو حالتي الشخصية. حقًّا أن شقيقَيَّ اللذَين يكبرانني بعقدَين قد خدَما في صفوف الجيش أو قريبًا منه (أحدهما كان ضابطًا في الاحتياط، والثاني كان سكرتيرًا لمدرسة الضباط العظام التي صارت بعد ذلك كلية أركان الحرب) إلا أنهما نفيا لي فيما بعدُ أية علاقة بالأمر. وربما كان ضعف بنيتي هو ما سوَّغ لهمت استخدامي كغطاءٍ يبرِّر به لسادته تقاعُسَه عن تأديب الثلاثة المُوصى عليهم بحُجة أوضاعهم الصحية، كما جاء في التحقيقات. ومن الممكن أيضًا أن يكون هناك خطأٌ ما وقع لصالحي، خاصة وأن لقبي يُعطي انطباعًا كاذبًا بأني أنتمي لأُسرةٍ إقطاعية من أصلٍ أجنبي مثل المناسترلي.
(١٧)
لم نكن نعرفُ وقتَها أنه هو الذي قتل الطبيب فريد حداد في ٢٨ نوفمبر ١٩٥٩؛ إذ استفزَّه عند وصوله قائلًا: إنت شيوعي يا ولد؟
وردَّ فريد حداد: أنا مصري أُومن بالاشتراكية.
فصاح به: بترُد عليَّ يا ابن الوسخة.
وهنا بصق فريد حداد في وجه يونس مرعي، فانتابه الجنون وصاح في الجنود: اقتلوا ابن القحبة ده.
فانهالوا عليه بالضرب حتى سقط فاقد الوعي، وكتب طبيبُ الليمان أحمد كمال في تقريره أنه أُصيب بهبوط في القلب. وهو نفسُ ما ذكَره في تقريره عن وفاة شهدي عطية.
(١٨)
تعدَّدَت الروايات بشأن الحوار الذي جرى بين شهدي ومعذِّبيه لحظة مصرعه؛ فهي تستند إلى شهاداتٍ سماعية لا تعتمد على الرؤية المباشرة، وأقرب هذه الشهادات إلى الدقة سجَّلَتها النيابة ووردَت في مذكرة الدفاع (أحمد الخواجة المحامي) في دعوى التعويض التي أقامَتْها أرملته سنة ١٩٧١:
محمد نور سليمان: «وبعدين جرَّونا ثلاثة ثلاثة، وكنتُ وشهدي الذي تُوفي، والثالث مش متذكره، وبعدين جرُّونا مسافة حوالي ألف متر، وأنا كانت شيلتي ثقيلة؛ كيس وبطانية، ومكنتش قادر أجري. وكان الضرب شغال واحنا بنجري، وبعدين وقعت مني البطانية رجعوني أجيبها، فدُخت ووقعت حوالي ست مرات، وبعدين وصلت البوابة وقلَّعوني الملابس وحلقوا شعري وكتبوا اسمي وكله ده بالضرب. وشفت شهدي قدامي دايخ وحطينه في حفرة فيها ميه وعسكري يملا ويدلق عليه …»
عبد الحميد هريدي: «أنا كنتُ في غرفة الملاحظة (الطبية) بالقرب من الباب العمومي للأوردي، ونظرتُ من نظَّارة باب الملاحظة فشاهدتُ شهدي عاريًا تمامًا من الملابس، وعندما مَرَّ أمام الباب بخطوة سقط على الأرض، وذهب إليه عبد اللطيف رشدي وقال: إنت بتقع؟ وقال (لأحد الجنود) أعطِني كتفه، وكان في يد عبد اللطيف رشدي عصايا جريد وسميكة نسبيًّا، ونزل عليه ضرب حوالي خمس ست مرات على كتفه من الخلف، فقام شهدي بصعوبة ومشى. بعدين سمعت عبد اللطيف رشدي بيقول لواحد لا أعرفه إن وقع الولد ده تاني افتح قرنه. واختفى الصوت.»
عبد العزيز يوسف الصباغ: «أنا كنتُ بالملاحظة الطبية من ثلاثة شهور، وفي يوم حضور المعتقلين دول سمعنا وهم بيقولوا أسماءهم وسمعنا صوت ضرب، وسمعتُ شهدي وهو عالي يقول اسمه ويقول: شهدي عطية الشافعي، واللي كان بيسأله عن الاسم مع عملية الضرب هو اليوزباشي عبد اللطيف رشدي بصوت عالي جدًّا، وكان يطلب منه باستمرار أن يرفع صوته، وسمعت صوت المأمور حسن منير بيقول: اضربوا الولد ده ربع ساعة … وبعد كده بشوية سمعنا صوت شيء يسقط على الأرض كجسم إنسان بالقرب من باب الملاحظة، وكان الضرب مستمر فيه، وصراخ بصوت ضعيف، وبعدين ابتعد الصراخ للناحية البحرية، وسمعت صوت المأمور يقول: لو وقع الولد ده تاني مرة افتح له قرنه …»
عبد العظيم أنيس الأستاذ بكلية العلوم: «… طلب منا أحد السجانة أن نقف داخل العنبر ووجوهنا للحائط في سكون تام، وفعلًا كان الأوردي كله في هدوءٍ تام، وبعد حوالي نصف ساعة بدأنا نسمع أصوات صريخ واستغاثة وصوت جهوري هو صوت النقيب عبد اللطيف رشدي … وهو يقول بأعلى صوته: شهدي إيه؟ ففهمتُ أنه يطلب من شهدي أن يذكر اسمه بالكامل، ولم أسمع إجابة شهدي على هذا السؤال بوضوح …»
إسماعيل صبري عبد الله (وزير التخطيط وقت الدعوى): «… سمعنا صوت اليوزباشي عبد اللطيف رشدي وهو يصرُخ ويزعق، وصوتٌ آخر يجيب بكلمةٍ واحدة: شهدي، ثم رد اليوزباشي رشدي: يعني عليَّ يا ابني. واستمر الضرب ثم خفتَت الأصوات كلها … ومرَّت فترة لم نسمع فيها إلا أصواتًا متباعدة بعضها ينادي: فين أمين؟ وهو الشاويش التومرجي، والآخر: فين الحقنة يا أمين؟ …»
وقد انفرد سعد الدين عبد المتعال، وهو من بين القادمين من الإسكندرية، والشخص الثالث الذي أشار إليه نور سليمان، بشهادة قال فيها: «هو كان ورايا … وسمعت وأنا بيسحبوني داخل الباب إن هو بيزعق: أنا في عرض جمال عبد الناصر
وذكر السيد يوسف — وكان من بين معتقلي الأوردي وقتها وهو من أعضاء حدتو — الرواية التالية في كتابه:
«بادره حسن منير عندما رآه: إنت بقى شهدي عطية؟ عمللي عَلَم؟! إنت شيوعي يا وله؟ قول أنا مرة. فقال شهدي: عيب أسلوبك هذا؛ فأنتَ تُسيء للنظام بهذا التصرُّف، ونحن قوًى وطنية ليست ضد الحكومة، وحتى لو كنا ضد الحكومة فليس من حقك أن تسلك هذا السلوك الوحشي؛ فنحن أصحاب رأي، ونحن من أنصار الثورة، والرئيس جمال نفسه يعلم ذلك.»
ثم تسلَّمه عبد اللطيف رشدي عند بوابة الأوردي بعد أن أنهكوه بالضرب والإغراق (في … مياه ترعةٍ قريبة) وتمزيق ملابسه حتى أصبح عاريًا تمامًا. وسأله عبد اللطيف رشدي والضرب مستمر: اسمك إيه يا ولد؟
– أنا مش ولد.
– اسمك إيه؟
شهدي عطية.
قال عبد اللطيف رشدي: ارفع صوتك. فلم يرفع صوته، وكرَّره بنفس النبرة. وعاد السؤال مرةً أخرى: اسمك إيه؟
أجاب شهدي: إنت عارف أنا مين.
– إنت شيوعي؟
قال شهدي: أنا شيوعي، وإنت عارف يا عبد اللطيف يا رشدي أنا مين.
– كده يا ابن الكلب؟! اضربوه. قول أنا مرة.
قال: «أنا شهدي عطية وإنت عارف.»
ومضى السيد يوسف قائلًا: «وصمد شهدي لكل هذا العذاب فلم يصرخ أو يتأوَّه، ودفعوه ليلُف حول العنابر حتى كان في الطرقة بين عنبري ٢ و٣ أمام نافذة الجدار الذي أقف وراءه داخل عنبر ٣، وهنا سمعتُ صوت جسم يرتطم بالأرض لا يفصل بيني وبينه سوى الجدار … قال أحد الجنود لزميله: شيله. قال لا. شيله انت. فين التومرجي. ثم سمعنا صوتًا: راح فين التومرجي ابن الكلب؟ ثم صوت أقدامٍ تجري لإحضار التومرجي، ثم صوت التومرجي أمين وهو يخبطُ على جسمه ويقول: قوم يا وله، خليك جدع يا وله، قوم يا وله. ثم سمعناه يقول: يظهر إنه خلاص خلص. جاء مرجان وقال هو ما له؟ إديله حقنة «كورامين» … بعد فترة صمت قال التومرجي: أعطيتُه يا فندم «كورامين» لكن مفيش فايدة …»
ويُخيَّل إليَّ أن السيد يوسف استعان في روايته بما ذكره حسن المناويشي (الذي كان من أعضاء التنظيم المناوئ لحدتو) في كتابه الذي صدر سنة ١٩٩٥ حيث قال:
«سمعناه يرُدُّ على أسئلة عبد اللطيف رشدي: اسمك وسنك؟
شهدي عطية الشافعي، مدرس لغة إنجليزية.
– إنت شيوعي؟
– نعم أنا شيوعي.
– إنت بتتحدَّاني يا ابن …
– لا أنا لم أتحدَّك، وعيبٌ أسلوبك هذا …
– عندما تخاطبني قل: أفندم …
– لماذا ولمن أقول أفندم؟
– علشان تتعلم الأدب.
– أنتَ تُسيء للنظام بهذا التصرُّف، ونحن قوًى وطنية ليست ضد الحكومة، وحتى لو كنا ضد الحكومة فليس من حقِّك أن تسلُكَ هذا السلوك الوحشي؛ فنحن أصحاب رأي، ونحن من أنصار الثورة، والرئيس جمال نفسه يعلم ذلك …» ولا أتصوَّر أن شهدي كان قادرًا على إلقاء هذه المحاضرة. كان على أبواب الخمسين منهكًا جسديًّا (بفترات السجن الطويلة وبالتدخين المتواصل)، ومرهقًا نفسيًّا بسبب الاختبار العسير لخطه السياسي؛ فها هو النظام الذي يُؤيِّده يسعى إلى قتله. وكان ملتزمًا بسياسة تقوم على عدم الاستفزاز ومحاولة تفويت الفرصة على الجانب الآخر، ويعي في الوقت نفسه مكانته ويعتز بها؛ ولهذا أعتقد أنه لزم الصمت ولم ينبِس بشيءٍ سوى — ربما — محاولة تأكيد موقفه من عبد الناصر.
وقد رثاه رءوف نظمي (الذي عُرف بعد ذلك باسم محجوب عمر) بعد أيام من مصرعه (وكان داخل أحد العنابر على مبعدة خطواتٍ من مكان سقوطه) بقصيدةٍ جاء فيها:
والبطل آه على البطل!
له في البطولة تَملِّي دور،
شهدي اللي مات ولا قلش آه.
ووضع عبد العظيم أنيس الذي كان في عنبرٍ قريب من الواقعة هو الآخر، قصيدة بنفس المعنى في نفس التاريخ. وكان الاثنان من خصوم شهدي السياسيين وينتميان إلى المجموعة التي اعتبَرَت شهدي عميلًا للنظام الناصري.
وعاد محجوب عمر سنة ٢٠٠٣ ليؤكد في «سبع شهاداتٍ تأخرَت، العربي للنشر والتوزيع» وبعد أن تغيَّر موقعه السياسي كلية: «الناضورجي بتاعنا كان واقف بجوار الباب، شاف شهدي وقال لنا إن فيه واحد بينضرب ووقع … واحنا سمعناه (عبد اللطيف رشدي) بيسأله عن اسمه فردَّ شهدي الله يرحمه وقال: إنت عارفني … وبعدما ردَّ عليه ضربوه على رأسه فوقع على الأرض … وأمره بالقيام لكنه لم يستجب، فحملَه العساكر ووضعوه في زنزانة …»
وقد أورَد رفعت السعيد في كتابه «الجريمة» (دار شهدي للنشر، ١٩٨٤) تفاصيل التحقيق الذي أجرته النيابة وانتهى في التاسع من يوليو ١٩٦٠. وقال إن يدًا امتدَّت لتسرق أجزاءً هامةً وأساسية منه، وعلى رأسها تقرير الطبيب الشرعي الذي قام بتشريح جثة شهدي، والذي أمرَتْه النيابة بتوقيع الكشف الطبي على المصابين التسعة والثلاثين، ومنها أيضًا العرض القانوني للضباط والجنود على المصابين. وحتى اليوم لم يُستكمل التحقيق ولم يُحفظ ولم يجرِ التصرُّف فيه!
(١٩)
ذكَرَت بعض الكتابات أن عبد الناصر فُوجئ بأعضاء البرلمان اليوغوسلافي يقفون حدادًا على مصرع شهدي عطية. وقال السيد يوسف: «أُحرِج عبد الناصر وهو يتلقَّى احتجاجًا من بعض النواب، خاصة وأنه كان يُعلِن لهم أن مصر في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية ستتجه إلى نوعٍ من الاشتراكية الديمقراطية، فقالوا له: كيف تتحدث عن الاشتراكية وأنتم تقتلون قادتها في مصر؟! فردَّ الرئيس: لم نقتل أحدًا، لم نقتل أحدًا. ومن يخرج على النظام يقدَّم للقضاء العادل. فتقدَّم إليه أحدهم بالبرقية القادمة من مصر والتي تعلن موت شهدي من جرَّاء التعذيب …» وذكَر الكاتب الفرنسي جيل بيرو في كتابه عن كورييل، أن تيتو دعا عبد الناصر إلى حضور مؤتمرٍ شيوعي. وفي المؤتمر وقف مندوبٌ يوغوسلافي وسط الجلسة المهيبة ووجَّه التحية إلى «ذكرى الشهيد الذي قُتل في مصر بسبب التعذيب».
(٢٠)
تألَّف من ملعقةٍ من العسل الأسود أو قطعة من الجبن المتحجِّر في الصباح، والفول المُسوَّس أو العدس عند الظهر، ثم سائل لا طعم له من أليافٍ وشحوم وقطعة من الجلد في المساء.
وكان أهالي الواحات يحسُدُوننا على أننا ننام في غرفٍ مبنية من الطوب، ونتناول العسل الأسود في الإفطار مع خبزٍ أبيض أسمَوه ﺑ «الفطير الميري». وأطلقوا على السجن اسم «القصر الأبيض». وكانوا يُعانون من تضخُّم الغدة الدرقية بسبب نقصان اليود، ولا يعرفون السمك، ولا يصل أغلبهم إلى سن الأربعين.
(٢١)
شهد سجن الواحات نشاطًا مسرحيًّا ازداد حجمه تدريجيًّا مع تحسُّن الظروف؛ فقد بدأ بخيال الظل الذي قدَّمه صلاح حافظ في طرقة العنبر، واختارني مساعدًا له في الإخراج، ولم تتجاوَز مهمَّتي مناولتَه الأوراق المقصوصة التي أعدَّها ليصنع بها الظل أمام شمعة. وتطوَّر هذا النشاط إلى تقديم مسرحياتٍ مصرية وعالمية، وعندما تحسَّنَت الظروف بدأ التفكير في بناء مسرحٍ في حوش السجن، ووافقت إدارة السجن، فأعدَّ المهندس فوزي حبشي التصميم؛ مدرَّجات في شكلٍ نصفِ دائري تُحيط بخشبة المسرح التي كانت على هيئة قوس وعلى طرفيها حجرات الممثلين وتبديل الملابس. وساعد في إعداد التصميم محمد حمام طالب العمارة النوبي (الذي صار مهندسًا معماريًّا ومطربًا معروفًا فيما بعدُ)، واعتمد فوزي حبشي على استخدام الصلصال الذي تتكون منه التربة أسفل الرمال. فجرى خلطه بالماء و«ضربه» ثم تجفيفه على مسطَّح من الأرض. وتطوَّع الجميع من مسجونين ومعتقلين لإعداد مليون طوبة.
وأصدر حسن فؤاد مجلة حائط متوسطة الحجم أسماها «مجلة المسرح» تُقدِّم تقريرًا يوميًّا عن كمية الطوب التي أُنجزَت، إلى جانب أخبار المسرح المحلية والعالمية. ووحَّدَت عملية البناء بين جميع التنظيمات على اختلاف مواقفها السياسية، فتنافس أعضاؤها على «ضرب» الطوب اللازم للبناء، وأطلقَت مجلة الحائط شعارًا هو «لننتهِ من بناء المسرح قبل يوم ٢٧ مارس ١٩٦٣، يوم المسرح العالمي.»
يقول فوزي حبشي في مذكِّراته: «كنا نضرب آلاف قطع الطوب يوميًّا دون توقُّف. وكما هي الحال في كل الأعمال الكبيرة فإن الأمور لا تخلو من دناءةٍ صغيرة.» فذاتَ صباحٍ وجد العاملون «مفرش» الطوب الذي رصُّوا فيه عشرات الآلاف من القطع خاليًا تمامًا. واتضح أن مأمور السجن نقلَها بالليل إلى موقع العمل في فيلَّته الخاصة. يقول فوزي حبشي «استشاط المعتقلون غضبًا … وتعالت صيحات بعضهم بوقف العمل نهائيًّا … فاتجهتُ إلى مكتب المأمور ووقفتُ أمامه أعنِّفه بشدة، وشبَّهتُ له عمله بعمل طفلٍ ألقى بحفنة من تراب على مكنةٍ منتجة تعمل بسرعة فعطَّلها … وتضاءل الرجل أمامي خجلًا وأخذ يعتذر … ثم عرض أن يساعدنا بالسماح لنا باستخدام عربة السجن الحكومية لنقل الطوب من المفرش إلى موقع البناء بدلًا من حمله على الأكتاف كما كنا نفعل.»
وفي أول يناير ١٩٦٣ خرجَت مجلة الحائط بمانشيتٍّ كبير تُعلِن فيه انتهاء «الأزمة» وعودة العمل. واستغرق هذا العمل نحو أربعة شهور، ارتفع بعدها البناء، وقام البعض بطلائه بالجير، وأصبح مكانًا لتلاوة نشرة الأنباء الصباحية «واس» وإلقاء المحاضرات العامة، ومنها محاضرةٌ قيمة للدكتور فايق فريد عن علم «السبرناطيقا» الحديث الذي تأسَّسَت عليه تطبيقاتٌ ثورية مثل الكمبيوتر.
وقُدِّمَت عروض من المسرح المصري على رأسها «حلاق بغداد» التي كتبها ألفريد فرج أثناء وجوده بالمعتقل، ثم «عيلة الدوغري» لنعمان عاشور. وترجم لويس بقطر مسرحية «ماكبث» وقام بإخراجها. وتألَّق البعض في التمثيل مثل أحمد نبيل الهلالي المحامي، وأحمد حجازي وخالد حمزة، وعلي الشريف الذي تخصَّص في الأدوار النسائية رغم ملامحه الغليظة. وقد صار الثلاثة بعد ذلك من نجوم السينما والتليفزيون.
وقبل بناء المسرح كانت تُقام كل ليلة في شهر رمضان — ابتداءً من عام ١٩٦١ سهراتٌ يومية في طرقة العنبر، وكان نجم هذه السهرات شاعر العامية الفذ فؤاد حداد الذي قدَّم ملحمة «الشاطر حسن» ثم «المسحراتي». وقُدمَت الملحمتان فيما بعدُ في الإذاعة والتليفزيون.
(٢٢)
ترجمَها كاملةً عن الفرنسية حليم طوسون، ونُشرَت بعد الإفراج في أكتوبر ١٩٦٧ عن دار «الكاتب العربي» التابعة لوزارة الثقافة.
(٢٣)
يحمل غلافه رسمًا لقُبَّة جامعة القاهرة والعبارات التالية: «نوتة محاضرات الجامعة». وأسفل الغلاف الخلفي هذه البيانات: «٦٠ ورقة، وسعر البيع للمستهلك ٤٥ مليمًا، من إنتاج مصانع الدفراوي
(٢٤)
في سجن إسكندرية سنة ١٩٦٠ انشغلتُ بتأليف قصة عن فتاةٍ رأيتها في قاعة المحكمة وأعطيتُها عنوان «الضفيرة السوداء».
وكانت هناك قصةٌ أخرى بعنوان «روميو وجولييت في القفص» تتناول أزمة اليهودي المصري. وكنتُ قد أقمتُ بعض الوقت في زنزانةٍ واحدة مع زميلٍ يهودي من المدينة هو روبير جاك جرانسبان. كان يكبرني في السن بعام أو اثنَين ومثقفًا ثقافةً فرنسية. ومن أحاديثه تعرَّفتُ على الكتاب الفرنسيين المحدَثين، مثل أراجون (١٨٩٧–١٩٨٢) رائد الاتجاه السوريالي في الأدب مع بول إيلوار (الذي صار بعد ذلك عضوًا باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي)، وزوجته إيلزا تريوليه وسيلين وباريوس.
وعندما قضت المحكمة ببراءته خيَّرَته المباحث بين مغادرة البلاد أو الاعتقال، فاختار المغادرة، واستقر في باريس حيث استكمل دراسته في الهندسة، ثم عمل في إحدى الدول الأفريقية، وانقطعَت صلتي به إلى أن زارتني ابنته في منزلي بالقاهرة في ٢٠٠٢ بصدد فيلمٍ تسجيلي تُعِده عن أبيها. وعرفتُ منها أنه يرفض الحديث عن الجزء المصري من ماضيه تمامًا، ويعيش مع جويس بلاو بعد وفاة صديقها بيليد. وفي العام التالي ألقيتُ محاضرة في معهد العالم العربي في باريس ودعوتُه لحضورها. وفي هذه المحاضرة أشرتُ إلى علاقتي به، ثم تحدَّثتُ عن أن القمع الوحشي الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وتنصُّلِها المتكرِّر من اتفاقيات السلام ورفضِها لمشاريعه قد يُعيدُنا إلى المربع الأول، وهو أن السلام والعدل لن يتحقَّقا في ظل وجود الدولة الإسرائيلية. ولا يبدو أنه قد سمِعني أو فهِم ما قلتُه؛ خاصة وأن من ترجم حديثي إلى الفرنسية أغفل هذه العبارة. وعلى العموم فقد قام معلقًا على حديثي بالعربية مستهلًّا بقوله: «شكرًا لفلان على ما قاله.» وهو التقليد الذي كان متبعًا في اجتماعات حدتو.
أما سجن القناطر عام ٦١ فقد وُلِدَت فيه فكرة قصة عن السد العالي، أعطيتُها عنوان «الحائط العظيم»، ومن أهم ما سجَّلتُه من مشاريع وخواطر تعود إلى تلك الفترة:
«السيدة الصغيرة (ز). التأمل. من أنا. كيف يكتشف المرء نفسه من خلال التوقُّف لحظة والتأمُّل (أَثر السجن) ما معنى الحياة. التأمل الداخلي والتركيز عالم ينبض بالأضواء والمشاهد والألوان والأصوات والحركة ورؤية الجمال في كل شيء (حفلات الشاي اليابانية؛ يجتمع فريق من الأصدقاء ليقنعوا بالجلوس معًا وتأمل الجمال المحيط بهم في هدوء في صورةٍ طبيعية أو طائرٍ محلق أو تغيُّر الضوء مع مرور الوقت).»
«ثلاث قصصٍ معًا: «فرن الحديد والصهر»، «اليد على الحبل» (عالم السيرك)، «الرصاصة الثانية» (قصة مخابرات)». وكنتُ في تلك الفترة مغرمًا بروايات الكاتب الإنجليزي بيتر شيني عن معارك التجسَّس خلال الحرب العالمية الثانية.
«أقدام على السلم»، «قمر ونجمتين»، «صباح الخير يا رب» والعنوان الأخير مأخوذ من صيحة كان يردِّدُها أحد المساجين العاديين كل صباح.
«الحصوة. الكلى — صحة اليوم — مجلة «المختار» ١٢–٦١. الأشياء الصغيرة التي تنزل.»

يوميات

١٩٦٢

(١)
أبديتُ في تلك الفترة اهتمامًا شديدًا بتجارب الآخرين في الحياة. وأثارتني حكايةٌ رواها لي العامل رشاد الشلودي عن سائقي سيارات النقل الكبيرة على الطريق الزراعي الذين يقودون وهم نيام اعتمادًا على خبرتهم الطويلة بهذه الطرق.

(٢) أي إني لن أكتبها لأنها تصُب في العالم الرومانسي للكاتب الروسي.

(٣)
الأشخاص الذين ورد ذِكرُهم في نهاية الفقرة هم من نزلاء الطابق الأرضي في سجن القناطر، المخصَّص لسجناء الجرائم العادية، والذين تعرَّفتُ عليهم أو عرفتُ قصصهم أثناء وجودي في ذلك السجن سنة ١٩٥٦.

(٤) تعكس الصورة مشاعري عندما كان مُعذِّبونا يُمعِنون في قسوتهم، فيُديرون الراديو العمومي فجأةً للحظاتٍ قصيرة.

(٥)
شارع «مسعود» هو أحد الشوارع المجاورة للشارع الذي سكنَت به أُسرتي في حي الدقي عندما بلغتُ الثالثة عشرة من عمري. والقصصُ الثلاث — التي لم أكتبها أبدًا — مستوحاة من تجارب في شارعي وهو شارع السبكي. وكان يقيم في المنزل المقابل لمنزلنا رجلٌ أربعينيٌّ مصاب بمرضٍ عقلي. لم تكن له تصرفاتٌ شاذَّة أو ضارَّة فيما عدا اهتمامه الخاص بالبنات الصغيرات، وقد ألقى مرةً خطابًا إلى أختي التي كانت في العاشرة من عمرها. وفي المنزل المجاور كان يسكن لطفي الذي تعرَّفتُ به عندما التحقتُ بكلية الحقوق واشتركتُ معه في أولى مغامراتي في الصحافة والنشر. وفي عمارةٍ حديثة بنهاية الشارع أقام مواطنٌ عراقي جرت له حادثةٌ لا أذكُر تفاصيلها مع إحدى المومسات اللاتي كن يتردَّدن عليه.
لكن مركز الثقل في ذلك الشارع هو البيت الذي سكَن فاروق منيب في طابقه الأرضي، حيث كانت «مجموعتنا» تلتقي ليلًا للاستذكار، وقبل الفجر بقليل كنا نشعر بالجوع فيُحضِر لنا فاروق خفيةً من المطبخ طبقًا من المكرونة، ثم نغادر المنزل لنتجول في الشوارع الهادئة. لم نكن نعرف الحشيش أو الخمر أو «البانجو» لكنَّ نشوَتَنا كانت بغير حدود. كنا ملوك المكان لا يشاركنا فيه غير جندي الدورية الذي يمُر على الحوانيت المغلَقة فيجذب أقفالها مطلِقًا صيحته المعتادة. ونرُد عليها بهتافٍ مدوٍّ: «كبد وكلاوي ومخاصي رجالي عال.»
(٦)
الإشارة في الغالب إلى القاصِّ المعروف محمد صدقي الذي شاركنا فترة الواحات، وكان مجايلًا ليوسف إدريس ويعتبر نفسه جوركي مصر.

(٧) كنتُ مدركًا للتغيُّر المتسارع في شخصيَّتي بسبب الخبرات المتراكمة وعلى رأسها التعذيب والاحتكاك المباشر برجال كانوا بالنسبة إليَّ في مصافِّ الأبطال، ثم تبيَّنتُ أنهم بشرٌ مثلي لهم عيوبهم الإنسانية. والأمر الثاني هو العلاقة المركبة بالسلطة الناصرية، التأييد التام من جانبنا، والاضطهاد والقتل من جانبها، وهي علاقةٌ جديدة تمامًا في مضمار العمل السياسي، ولها انعكاساتٌ فكرية وسيكولوجيةٌ عديدة.

(٨)
لم يتوقَّف التعذيب بعد مصرع شهدي عطية في «أبي زعبل» وإنما اتخذ شكلًا جديدًا علي يد متخصصين تدرَّبوا في الولايات المتحدة؛ فقد تلقَّى البعض خطاباتٍ من أهاليهم تُطالبهم بالخروج و«سماع الكلام». وهدَّدَت زوجاتٌ بطلب الطلاق. وكتبَت طفلة إلى أبيها: «اخرج من أجلي ومن أجل ماما … قالوا لي إنكَ لا تريد أن تخرج لأنكَ تكرهُنا … أنا أكرهُك.»
وفي يناير ١٩٦١ نقل ٧٥ من المعتقلين إلى الفيوم. وكان بعضهم قد أرسَلوا للسلطات يُبدون استعدادهم للكف عن أي عملٍ سياسي. وساد الواحات جَوٌّ من الترقُّب. فهل الأمر إفراج أو هو مساومة أم تعذيب؟ ولقي المعتقلون المنقولون معاملةً جيدة؛ سرائر نظيفة وجرائد وراديو يذيع أغاني الشوق والحنين، ثم زيارات مفاجئة من الابن أو الأب أو الزوجة التي تُهدِّد بالطلاق أو الخطيبة التي تُهدِّد بفسخ الخطوبة. وبعد أسبوعٍ وصل المصيلحي وضباطه، وأخذوا يستدعون كل معتقل على انفرادٍ ويعرضون عليه الخروج مقابل ورقةٍ صغيرة يعترف فيها بأنه كان مخطئًا في أفكاره، ويتعهَّد بأنه لن يعمل بالسياسة بعد الآن.
وبعد أسابيعَ قليلة عاد الزملاء من الفيوم وقد خلَّفوا وراءهم ٣٣ ممن استسلموا تمامًا لكل ما طُلب منهم مقابل الإفراج.
وتكرَّر الأمر بعد خطاب عبد الناصر في يوليو ١٩٦١.
وتُشير الكلمتان المقوَّستان إلى نظرةٍ مختلفةٍ عن الموقف التقليدي من إدانة المنهارين والمعترفين والمرتدِّين، تقوم على محاولة تقدير الظروف الخاصة بكلٍّ منهم.
(٩)
إبراهيم عبد الحليم هو أحد العناصر القيادية في تنظيم حدتو (وهو الشقيق الأكبر لمسئولها السياسي بعد انفصال المسئول السابق سيد سليمان رفاعي). أنشأ دار «الفكر» التي قدَّمَت عددًا من أبرز الكُتاب والفنانين، وكان لها فضلٌ كبير في تطوير صناعة الكتاب والاهتمام بغلافه. وأنجز بالواحات في نهاية سنة ١٩٦٠ الرواية التي حملَت هذا العنوان، وهي أولى الروايات التي كتبَها في السجن. وزاملتُه في زنزانةٍ واحدة بعض الوقت استعان بي خلاله في إعداد نسخةٍ منها. وهو شخصيةٌ بالغة التعقيد؛ فقد أشاع منذ اليوم الأول لاعتقاله روحًا انهزاميةً نابعة من قناعته بالدور القيادي لعبد الناصر وصمد في الوقت نفسه للتعذيب رغم ضعف صحته. وقد آمن هو وشقيقه بأن لهما — بحكم النضال والقيادة — حقوقًا على الآخرين.

(١٠) الإشارة إلى روايةٍ ألمانية عن الحرب العالمية الثانية صدرَت ترجمتُها في سلسلة «روايات عالمية».

(١١)
إشارة إلى روايتَي الشاعر الإنجليزي روبرت جريفز (١٨٩٥–١٩٣٥) اللتَين قرأتُ أولاهما في سجن مصر سنة ١٩٥٩. وتتناول الروايتان شخصية الإمبراطور كلوديوس الروماني زوج ميسالينا الشهيرة، وملك اليهود هيرود، وفترة ظهور المسيحية في فلسطين.
(١٢)
كانت «روايات الجيب»، قد نشَرَت في الأربعينيات مجموعةً من القصص التاريخية القصيرة للروائي الإنجليزي رفائيل ساباتيني (١٨٧٥–١٩٥٠) تدور كلها حول أشهر المذابح التاريخية، وأعطتها عنوان «ليالي الدم».
(١٣)
«المعبود الأسمر» هو نهر النيل، وكوزمين هو كبير الخبراء السوفييت الذين أشرفوا على بناء السد العالي.
(١٤)
حاول جراهام جرين (١٩٠٤–١٩٩١) الانتحار عدة مرات أيام المدرسة التي كان أبوه ناظرها. وتلقَّى علاجًا نفسيًّا في سن الخامسة عشرة شجَّعه الطبيب خلاله على الكتابة. التحق بكلية لدراسة التاريخ الحديث ثم انضم للحزب الشيوعي، وأنهى أولى رواياته عام ١٩٢٥. تحوَّل إلى الكاثوليكية في العام التالي، والتحق بجريدة «التايمز» وكتب روايةً سياسية رفضها الناشرون ثم نجح أخيرًا في نشرها، وقرر أن يتفرَّغ للكتابة. لكن روايتَيه التاليتَين لم تُحقِّقا نجاحًا فبدأ يكتُب عروضًا للكتب في الصحف. ووضع رواية تسلية تقوم على التشويق هي «قطار إستانبول» ومن هذه اللحظة لم يتردَّد في كتابة هذا النوع من الروايات إلى جانب الأخرى الجادة.
أُغرِم بالسفر بحثًا عن مادة لرواياته. وعمل خلال الحرب العالمية الثانية لصالح المخابرات البريطانية في سيراليون التي جعلها مكان روايته «جوهر الأمر». ودفعَته المذابح الدينية التي نظَّمها الكاثوليك في المكسيك عام ١٩٣٨ إلى كتابة أقوى رواياته في عام ١٩٤١ وهي «القوة والمجد» التي تعرَّضَت لهجوم الفاتيكان. وكتب بعد ذلك عن الحرب في الهند الصينية وعن ثورة «ماوماو» في كينيا، وعن بولندا الستالينية، وهايتي تحت حكم دوفالييه. اعترف بأنه كان صديقًا لكيم فيلبي، الذي تجسَّس للاتحاد السوفييتي من موقعه في قمة جهاز المخابرات البريطاني. هاجم العدوان الأمريكي على فيتنام في رواية «الأمريكي الهادئ»، وتوثَّقَت علاقته بكلٍّ من كاسترو ونورييجا، وعمر توريوس، رئيس باناما، الذي فقد حياته في حادثِ طائرةٍ غامضٍ بعد أن أمَّم قناة بلاده. قضى سنواته الأخيرة في سويسرا.
(١٥)
في نوفمبر ١٩٦٣؛ أي بعد سنة ونصف، أضفتُ إلى هذه الفقرة العبارة التالية: «وفي التعبير عن نفسه». وتعكس هذه الإضافة التطوُّر الذي لحق نظرتي للموضوع.

(١٦) سنلحظ بعد قليلٍ أن هذه اللهجة الحماسية قد اعتراها تغيُّر تدريجي.

(١٧)
تُعبِّر هذه المقتطفات من الكلمات التي أُلقيَت في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عن الصراع الدائر داخله في أعقاب الانتقاد الذي وُجِّه إلى ستالين وعبادة الفرد. وكانت جبهة الأدب والفن أحد المجالات الرئيسية لهذا الصراع. وفي المؤتمر، عبَّر شولوخوف عن وجهة النظر المحافظة للمؤسَّسة الرسمية بينما اتخذ الشاعر العجوز تفاردوفسكي الموقف المضاد.
وتفاردوفسكي شاعرٌ قديم وعضو في اللجنة المركزية للحزب، وارتبط اسمه منذ المؤتمر العشرين بالاتجاهات الجديدة في الأدب والفن وبالشعراء والكُتاب الشبان. وكان يرأس تحرير مجلة «نوفي مير» (المجلة الأدبية الشهرية) ذات التاريخ الحافل؛ ففي عام ١٩٢٠ كانت تنشر لجوركي وألكسي تولستوي وبابل وباسترناك وإيزنين وماياكوفسكي ونخبة كُتاب ذلك العَقْد الذين اختفى معظمهم في حملات التطهير الستالينية. وبلغ توزيع المجلة ٢٨٠٠٠ ألف نسخة في عام ١٩٢٨ (وحتى بداية السبعينيات — أثناء إقامتي في الاتحاد السوفييتي — كان الحصول عليها صعبًا للغاية؛ إما لقلة المطبوع منها، أو لشدة الإقبال عليها). وقد بدأَت محنة المجلة عام ١٩٣٣ عندما أصبحَت «الواقعية الاشتراكية» النظرية الرسمية للأدب، وأصبحَت صورة ستالين تتصدَّر كل عددٍ ومعها ملحمةٌ شعبية عن ستالين وأغانٍ شعبية عن ستالين.
وفي العدد الفضي من المجلة الصادر بعد خمسة شهور من استقالة خروشوف سنة ١٩٦٥ وصفَت «الواقعية الاشتراكية» بأنها كانت غطاءً لجرائمَ كبيرة. وجاء في إحدى مقالاته: «لا شيء يبعث على الأسى اليوم مثل أن نقرأ ما نشرَته المجلة، في سبتمبر ١٩٣٦، عن اجتماعٍ عُقد بمكتب التحرير اعترف فيه أعضاؤه بأنهم لم يكونوا يقظين بما فيه الكفاية ﻟ «النشاط المعادي من جانب بعض المحرِّرين». وبعدها مباشرة جرى اعتقال جرونسكي رئيس التحرير مع عددٍ من المحررين والكُتاب. وعندما صدر عدد ديسمبر ١٩٣٧ كان خاليًا من الفهرس السنوي العادي؛ ذلك أن عددًا كبيرًا من الكُتاب لم يعُد من الممكن نشر أسمائهم.» إنها «تلك الأعوام المرحة التي ألغي فيها نظام البطاقات التموينية لأول مرة منذ الثورة، ووُضعَت حاملات الأيس كريم في كل مكان، وكتب دوناييفسكي الأغنية السعيدة: «لا أعرف بلدًا أخرى يتنفَّس فيها الإنسان بحريةٍ أكثر»، وشارك الشباب — حتى مَن فقدوا آباءهم وأعمامهم في هذه الحملات — في هذا المرح والتفاؤل وهو الجيل الستاليني الذي حارب ومات في الجبهة.»
صارت المجلة منذ وفاة ستالين ترمومترًا للتطوُّرات الأدبية. وسجَّل هذا الترمومتر أعلى درجة حرارة عام ١٩٦٢ عندما نشرَت رواية «يوم في حياة إيفان دنيزوفتش» لألكسندر زولجينيتسين التي تُصوِّر فظاعة الحياة في معسكرات الاعتقال الستالينية، ومذكِّرات إيرنبورج التي منع خروشوف نشر الجزء الثاني منها (ويتحدَّث عن أيامِ ما بعد الحرب عندما التقى ستالين مع لجنة الجوائز المسماة باسمه. وفي ذلك اليوم أصَر ستالين على إعطاء الجائزة الأولى لرواية إيرنبورج «العاصفة» رغم أن بطلها يقع في حب فتاةٍ فرنسية. وقال ستالين: «إن هذه الأشياء تحدُث في الحياة وليس من خطأ فيها.» ولم تمضِ أيامٌ قليلة حتى أصدر مرسومًا يحظر الزواج بين السوفييت والأجانب ولو كانوا من الديمقراطيات الشعبية!)، ومقالات فيكتور نيكراسوف عن رحلته إلى إيطاليا والولايات المتحدة. وهي المقالات التي هاجمَتها الدوائر الرسمية للحزب في حينها واتهمَتها بأنها دعوةٌ للتعايُش الأيديولوجي مع الغرب. وتحوَّلَت المجلَّة بالتدريج إلى منبر للمعارضة. وكُتب تفاردوفسكي، رئيس تحريرها — وكان أحد مندوبي المؤتمر الثاني والعشرين للحزب — مسرحية بعنوان «تيوركين في العالم الآخر» ينتقد فيها المؤتمر.
(١٨)
لا أذكُر الحادثتَين المشار إليهما. أما ف. حبشي فهو فؤاد حبشي، وكان من قادة حدتو البارزين، وشارك في تنظيم إضراب صولات الطيران الشهير في الأربعينيات. وكان يتصف بالصلابة والجرأة وبالصلف النابع من خجلٍ شديد واعتزاز بالذات، كما يتصف بالتعالي على المثقَّفين لأنه يفضِّل الحركة والنشاط العملي ولا يميل إلى القراءة والنقاش.
(١٩)
إبراهيم هو إبراهيم عبد الحليم، وكانت تدور بيننا مناقشاتٌ طويلة سرعان ما كشفَت عن تعارضٍ واضح في الآراء المتعلِّقة بالأدب والفن.
(٢٠)
لا أذكُر جيدًا كثيرًا من التفاصيل التي تضمَّنَتها هذه الفِقرة ولا بعض الأشخاص الذين أُشير إليهم بالحروف الأولى من أسمائهم أو برموزٍ خاصة.
لكني أتذكَّر الخطوط العريضة للموضوع، ويمكنُني تمييز بعض مَن ذُكروا بالحروف الأولى من أسمائهم، مثل عادل حسين، رفعت السعيد، عطية الصيرفي وآخرين. ولعل «ص» ترمز إلى اسمي أنا. كما أذكر بعضَ من أعطيتُهم رموزًا مثل أحمد الرفاعي، الذي اشتُهر باسم «العمدة»، وأحمد القصير. ويبدو أنه كان ثمَّة اجتماعٌ نُوقش فيه الاتهام الذي وجَّهَه ع إلى ش بأنه تعمَّد إهمال علاج ط لكي يقضي على حياته.
ولا أذكُر بالمثل كيف تم التوصل إلى طبيعة مرض ط ولا ما أسفرَت عنه القصة في النهاية. لكن هذا الاتهام فجَّر عددًا من التناقُضات والخلافات المزمنة، بعضها سياسي، والبعض الآخر من الأمور الطبيعية في الحياة الإنسانية، ونتاج لظروف السجن.
والمعروف أن الحركات السياسية تهتم عمومًا بتربية أعضائها وفقًا لمبادئها. وقد انفرد الإسلاميون والشيوعيون برؤيةٍ متكاملة للشخصية تتفق وعقيدة كلٍّ من الفريقين. ورسمَت أدبيات الأخيرين صورة «الإنسان الشيوعي» الذي يسمو فوق الأمور الذاتية والصغيرة، ويقدِّم قدوةً في السلوك الإنساني الرفيع، فيرتفع على الانحيازات العنصرية والطبقية والعائلية والإقليمية، ولا يكلُّ لحظة عن تثقيف نفسه وتطوير قدراته وانتقاد أخطائه. هكذا كان الاتهام صاعقًا؛ أن يفكِّر أحدٌ من هؤلاء في إهمال علاج رفيقٍ له ليدفع به إلى الموت، أو أن يخطر على بال أحدٍ مثل هذا الاتهام، القريب من حبكات الروايات البوليسية. ولم يكن الصراع السياسي بين الشيوعيين قد وصل إلى درجةٍ من الحدَّة التي تُفرِز هذه السلوكيات، كما حدث مثلًا في روسيا الستالينية.
تكشف هذه الحادثة أيضًا ما يفعله السجن الذي يحصُر عددًا من الناس في حيِّزٍ ضيِّق لمدةٍ طويلة من الزمن؛ وبالتالي يخلق بينهم توتراتٍ وتحالفاتٍ ومنافسات من الصعب أن تتواجد خارجه، أو ربما تتواجد لكن الفضاء الواسع الذي يتحركون خلاله في الحرية ينجح في التغطية عليها والتقليل من أثَرها.
هناك أيضًا خلفيةٌ سياسية للموضوع؛ ففي مطلع عام ١٩٦٠ توعَّد عبد الناصر الرأسمالية المصرية إذا لم تُسهِم في عملية التنمية، وهاجمَها بشدة، وبالفعل أقدم على تأميم بنك مصر والبنك «الأهلي» والصحافة. وعقدَت حدتو بسجن الإسكندرية كونفرنسًا استمر بضعة شهورٍ ناقش هذه الإجراءات. وظهر فيه رأي بأن مصر في مرحلة الثورة الاشتراكية وأن هناك مجموعةً في السلطة — بزعامة عبد الناصر — لها أفكارٌ اشتراكية لكنها غيرُ علمية. وأن عملية القبض والسجون والتعذيب إنما هي من تدبير القوى اليمينية والاستعمار للوقيعة بين القوى الوطنية. وانتهى الكونفرنس بإصدار قرار «المجموعة الاشتراكية» الذي صاغه بهيج نصار وطالب بتحقيق وحدة العمل مع هذه المجموعة.
وفي يوليو من العام التالي أصدر عبد الناصر فجأةً «القوانين الاشتراكية» التي تضمَّنَت تأميم ١٤٩ شركة وتحديد الحد الأقصى لملكية الأراضي الزراعية بمائة فدان والحد الأقصى للمرتبات بخمسة آلاف جنيه في السنة. وتبِع ذلك بعد شهور تحديد إيجارات المساكن.
وأثارت هذه القرارات زوبعةً من المناقشات بين الشيوعيين، فقالت مجموعة «الحزب» إن التأميمات نوعٌ من رأسمالية الدولة الاحتكارية وهي تدعم النمو الرأسمالي. بينما هلَّلَت لها حدتو واعتبرَتها تأكيدًا لتحليلها. واستمر داخل صفوفها النقاش الذي بدأ في سجن الإسكندرية حول طبيعة الحكومة وضرورة تحقيق وحدة العمل بين الشيوعيين والمجموعة الاشتراكية؛ الأمر الذي يجعل مصير الوجود المستقل للحزب الشيوعي مطروحًا للنقاش.
وعارض البعض الآخر — داخل حدتو — هذا الاتجاه بالرغم من تسليمه بقيادة عبد الناصر للعمل السياسي، ودعمه لها، وقبوله لمبدأ وحدة العمل بين الجانبَين.
وكان قد جرى — عند وصولنا إلى الواحات — اختصار قيادة حدتو إلى خمسة أشخاص لتسهيل عملها. ومن الطبيعي أن ذلك أثار بعض الحساسيات لدى من استُبعدوا من التشكيل الجديد. وكان «ط» و«ع» من هؤلاء. وتردَّد أن هناك حوارًا سريًّا مع عناصر في الحكم. وانتعشَت الآمال في إفراجٍ قريب تعقُبه مشاركة في السلطة بدرجة أو بأخرى. ولعل المعارضين شعروا بالخوف أن يتم الاتفاق من وراء ظهورهم، وخشي العمال منهم أن يؤدي الاتفاق المتوقَّع إلى تهميشهم لحساب المثقَّفين و«الدكاترة»، أصحاب الألسنة الذلِقة.
وكان «ع» من بين هؤلاء، وهو عاملٌ نقابي معروف وعلى درجةٍ عالية من الثقافة، ولا يُخفي نفوره من المثقَّفين. ولعله وجد في توجيه الاتهام إلى «ش» — بشأن التدهور الصحي ﻟ «ط» — وسيلةً للنيل من القيادة وتأليب الآخرين ضدها؛ حيث كان «ش» من رموزها. وربما كان المريض هو المبادر بهذا الاتهام؛ فهو يتصف — فضلًا عن الطيبة والتفاني — بقدرٍ واضح من العُصابية والإعجاب بالذات، ولا أستبعد أن يكون قد اعتقد بوجود مؤامرة على حياته.
ومن ناحيةٍ أخرى لم يكن الإهمال مستبعدًا بسبب النقص في إمكانات التشخيص الدقيق، وأيضًا لأن «ش» لا يملك خبرةً كافية بالطب العلاجي. كما أن السجناء ينزعون عادةً إلى الشكوى وتخيُّل أمراضٍ وهمية بل وادِّعاء بعضها من أجل استدرار الاهتمام أو الحصول على بعض الامتيازات (أذكر أني أنا نفسي أُصبتُ بإنفلونزا وكنتُ راقدًا بمفردي في الزنزانة، ولم أكن في حاجة إلى شيء ولا أشكو إلا من قليل من الارتفاع في درجة الحرارة، وأتلقَّى العلاج المناسب، لكني بدأتُ أئنُّ في صوتٍ مرتفع عندما مَرَّ أحد الزملاء لأجتذب اهتمامه وأحصل على شيءٍ من التعاطف).
كان «ش» أيضًا متحفظًا في علاقته بالآخرين، ويتبع برنامجًا يوميًّا صارمًا من التمرينات الرياضية والقراءات يجعله بمنأًى عنهم، ربما لكي يتجنَّب ما يعانيه كل طبيبٍ من الأسئلة التي يوجِّهها إليه القريبون منه حول ما يعِنُّ لهم من مشاكلَ صحيةٍ أغلبها خارج تخصُّصه. ولعله لم يكن واثقًا من قدراته العلمية التي لم تُتَح له فرصة ممارستها في الحرية، أو أنه لم يُحب المهنة من الأساس (فلم يمارسها أبدًا بعد خروجه). وأيًّا كان الأمر فإن ما يشبه الرأي العام تكوَّن ضده، وساهمَت فيه الأوضاع الخاصة بالحياة العامة.
و«الحياة العامة» هي النظام الذي وضعه الشيوعيون لحياتهم المشتركة داخل السجون. ويقضي بمصادرة كل الإمكانيات التي تَرِد إلى كلٍّ منهم (من نقود وطعام وسجائر وملابس أحيانًا) وإعادة توزيعها على الجميع، يتساوى في ذلك من تصلُه إمكانياتٌ مهما بلغَت قيمتها ومن لا يصلُه شيء على الإطلاق. ونجح هذا النظام في توثيق العلاقات الإنسانية بين الجميع، وفي توفير حياةٍ معقولة لهم، وفي دعم قدرتهم على الصمود. وكان أصحاب الإمكانيات يُضاعِفونها من تلقاء أنفسهم إذا تطلَّب الأمر. وتميَّز الشيوعيون بهذا النظام فلم يطبقه غيرهم؛ إذ كان الإخوان المسلمون يعيشون بشكلٍ فردي تمامًا؛ فيحتفظ كل واحدٍ بما يصله من أموال و«يتصدق» أحيانًا على أخٍ له بشيء من المأكولات. وبعضهم كان يدفع لأخٍ آخر كي يخدمه ويغسل له ثيابه وينظِّف له مكان نومه. وفي شهر رمضان يُخرج الغني منهم زكاة الشهر الفضيل بواقع قرشَين ونصف قرشٍ عن كل جنيه يُعطيها للفقراء من زملائه.
وفي منتصف الخمسينيات طبَّقَت مجموعة من الشيوعيين (من تنظيم «الراية») في سجن القناطر نظامًا مختلفًا يقوم على أساس مصادرة ٥٠٪ فقط من الإمكانيات لصالح الجميع. وفي ١٩٥٧ وصلوا إلى الواحات بهذا النظام ودافعوا عنه بحجَّتَين؛ الأولى أن الإمكانيات خارج السجن لا تُصادَر لصالح الجميع، والثانية أن لكل إنسانٍ احتياجاته الخاصة؛ فهناك مريض يحتاج إلى طعامٍ معين، أو شخصٌ يدخِّن ٤٠ سيجارة في اليوم مثلًا يصعب تحديدُها بثلاث من أجل توفيرها للجميع. وكان الرد على ذلك هو أن السجن يخلق وضعًا استثنائيًّا يتعرَّض فيه الجميع إلى ضغوطٍ متساوية. أما الاحتياجات الخاصة فقد عُني نظام المصادرة الكاملة بتوفيرها. وفي النهاية تم التوصُّل إلى نظامٍ مرن جوهره المصادرة لكن مع استثناء بعض الأشياء، والتنازل عن ١٥٪ من الدخل الفردي، ترتفع إلى ٢٠٪ إذا زادت عن عشرة جنيهات (انفردَت حدتو بنسبة تبدأ ﺑ ٥٪). والحق أن النظام الجديد الذي اعتمَد على الحافز المادي أدى إلى زيادة الدخل العام، لكن كان له مردودٌ سلبي على العلاقات الإنسانية، والحالة المعنوية للسجناء.
وعندما وصلتُ إلى الواحات كان بها — من تنظيم حدتو — مجموعةٌ صغيرة من المسجونين الذين حُوكموا في بداية الخمسينيات وصدرَت ضدهم أحكامٌ طويلة بمتوسط عشر سنواتٍ لكلٍّ منهم، وفوجئتُ مع زملائي بأنهم يُطبِّقون نظام الخمسة في المائة. وكان من بينهم «ش»، الذي ضمَّتني معه واثني عشر زميلًا زنزانةٌ واحدة. وعشنا لبعض الوقت في حالة مجاعةٍ بسبب قلة الأنصبة التي قرَّرَها لنا السجن من العدس والفول وحَسَاء الشوائب. ولم تكُن إمكانيات «الحياة العامة» كافيةً لتعويض ذلك، فلم نكن قد تلقَّينا بعدُ أية طرودٍ من أهالينا، واعتمدنا كليةً على إمكانيات زملائنا القدامى. وبلغ بي الجوع ذات ليلة أن صرختُ مطالبًا بملعقة من السكر — الذي كنا نحتفظ بكميةٍ منه للشاي — لآكلها بلقمة من الخبز.
هكذا كان أغلبنا يتضوَّر من الجوع بينما يحتفظ «ش» — الذي ينتمي إلى أسرةٍ غنية — بصندوقٍ صغير من الكرتون يضُم نسبته المئوية المقرَّرة. وبعد أن نتناول عشاءنا الضئيل نستلقي على فرشاتنا بينما يتربَّع هو فوق فرشته ويستخرج من صندوقه طبقًا صغيرًا للغاية وعلبةً من العسل يأخذ منها قَدْر ملعقتَين يضعُهما في الطبق ويضيف إليهما ملعقةً من الطحينة البيضاء، ويبدأ في التهام المزيج في استغراق واستمتاع وهو حريص على ألا ينظر إلى أحدٍ منا، بينما نحن نحاول بشقِّ الأنفس تجاهُلَه. وبعد أن ينتهي يُعِد لنفسه كوبًا من الشاي يستخرجه من عُلبة من الشاي الإنجليزي الفاخر، ثم ينام بينما نظل نحن ساهرين نغالب الجوع. ويتكرَّر الأمر في الليلة التالية مع بعض التغيير؛ إذ تحل قطعة من الحلاوة الطحينية — منتزعة من كوزٍ مخروطيٍّ ساحرٍ مغلَّف بورقٍ مفضَّض ذي ألوانٍ متعددة — أو المُربَّى محل العسل بالطحينة، وهكذا.
كنتُ أقول لنفسي مغالبًا شعور المرارة — والجوع بالطبع — إن ما يفعله حقٌّ له طبقًا للقواعد المقررة، كما أنه قد ضحَّى بسنواتٍ طويلة من عمره، ويستحق شيئًا من «البغددة». ثم لا ألبث أن أتساءل عن قيمة هذه القواعد وكيف أن هذا المنطق يمكن أن يُستخدَم لتبرير من يستغلُّون أوضاعهم للحصولِ على بعض الامتيازات بحكمِ ما قدَّموه من تضحياتٍ خلال الثورة أو الحرب (كما فعل تيتو مثلًا وحقَّق لنفسه حياة الرفاهية الأسطورية التي عاشها في سنوات حياته الأخيرة، وشاركَه في ذلك بدرجةٍ أو أخرى قادةُ الأحزاب الشيوعية الحاكمة؛ مما أدى إلى انفصالهم عن جماهير شعوبهم وانهيار نُظمِهم في النهاية). وأعود فأقدِّر أن الأمر كله يرتبط بقضيتَي الوفرة والوعي، وعندما تُحل هاتان القضيتان ستتلاشى النزعات الأنانية، ويتحقق مستوًى أعلى من العلاقات الإنسانية.
هكذا لعبَت الميول الشخصية دورًا في دعم الاتهام الموجه ﻟ «ش». وإذا أخذنا في الحسبان أيضًا عنصر الخطأ في أي تشخيصٍ طبي لوجدنا أن تبيُّن الحقيقة في هذه الشبكة المعقَّدة من التناقُضات والدوافع والاحتمالات (وبينها بالطبع أمورٌ أخرى أجهلها) أمرٌ بالغ الصعوبة، وهو ما دفعَني للاهتمام بالحادثة بينما كنتُ في حالة تأمُّل للدوافع الإنسانية، أو ربما أكونُ قد وجدتُ فيها موضوعًا جيدًا لعملٍ درامي.
والطريف أن المريض ما زال — حتى لحظة إعداد هذه الصفحات للطباعة في خريف ٢٠٠٤، على قيد الحياة وقد قارب الثمانين — وهذه الحقيقة وحدَها ربما تدحض الاتهام الذي وُجه إلى «ش». ولكنَّه مع ذلك لم يُفلِت من العقاب!
فبعد ذلك بعامَين انتقل «ش» إلى زنزانة يسكن بها معتقلٌ من بورسعيد هو إبراهيم هاجوج. وكان هاجوج قد شارك بدورٍ بارز في المقاومة الشعبية للعدوان الثلاثي، وبه كثير من صفات الولد الشقي، ويُغرم بتدبير المقالب. وكان على علاقةٍ وثيقة بصديقي كمال القلش، فشكَّل ثلاثتنا «كوميونة» للتدخين؛ أي صندوقًا مشتركًا يضم ما تُوزِّعه علينا الحياة العامة — ٣ سجائر يوميًّا للفرد — بالإضافة إلى ما قد يحصُل عليه أحدنا من نصيبٍ في طردٍ يأتيه من أهله، وإلى ما يمكن أن تأتي به شطارة الأول وخفة دم الثاني من محصول. وفي أحد الأيام اشتقنا إلى شرب الشاي، ولم يكن لدينا شيءٌ منه فاقترح هاجوج تجريد «ش» من بعضِ ما يملكُ منه، وانضَم إليه القلش في جذلٍ طفولي، ووجدتُ أنا في الاقتراح نوعًا من تحقيق العدالة، فانتهزنا لحظةً خلت منها الزنزانة من نزلائها وقمت بدور «الناضورجي» عند باب العنبر حتى تمَّت العملية بنجاح، ولا شك أن «ش» حدَس شخصية اللصوص أو بعضَهم لكنه لم يعلِّق بشيء.
(٢١)
تُوفي شعبان حافظ (٧٥ سنة) إثر أزمةٍ قلبية داهمَته بعد وداعه لأحد السجناء، مصطفى طيبة، الذي أنهى مدة سجنه وهي عشرُ سنواتٍ بدأَت في ١٩٥٢ (وقد عاد معتقلًا بعد أيامٍ وبرفقته الشاعر سمير عبد الباقي). وصنع صبحي الشاروني لوجهه قالبًا من المصيص، وعكف حسن فؤاد على نحت تمثالٍ للوجه، بينما أعَد كلٌّ من داود عزيز، وليم إسحق (الملك)، سعد عبد الوهاب، المهداوي، الجريدلي، بورتريهًا له. وانتظم الجميع في صفوفٍ يُلقون عليه النظرة الأخيرة، ثم حمل أربعةٌ من الحراس جثمانه الذي لُف ببطانيةٍ حمراء، وساروا في جنازةٍ صامتة دارت بالسجن وخلفهم بقية النزلاء — من الشيوعيين وممثلي الإخوان والحراس والضباط والمأمور. وتردَّدَت كلماتُ نشيدٍ جنائزيٍّ معروف، ثم وُضع في سيارة شرطة تمهيدًا لترحيله إلى أهله في الإسكندرية.
وقد بدأ شعبان حافظ نشاطه السياسي في العشرينيات، فشارك مع حسني العرابي، سلامة موسى، عبد الله عنان، الشيخ صفوان أبو الفتح، الشيخ عبد اللطيف نجيب من مدرسة القضاء الشرعي وأنطون مارون في أول تنظيمٍ سياسي مصري يتبنَّى الاشتراكية العلمية، ويدعو إلى إلغاء الفوارق بين الطبقات، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وخلقِ مجتمعٍ يعطي لكلٍّ حسب عمله، ويأخذ من كلٍّ على قدْر طاقته. وفي يوليو ١٩٢٤ تم القضاء بوحشية على إضرابٍ عام، وتولَّت حكومةٌ وفدية برئاسة سعد زغلول السلطة وضربَت اليسار. وفي أكتوبر ١٩٢٤ أصدرَت محكمة الإسكندرية حكمها بسجنه هو وزملائه. وفي سنة ١٩٣٠ هرب إلى فلسطين على ظهر فرس، ومنها سِرًّا إلى الاتحاد السوفييتي حيث التحق بمدرسة الكادر التابعة للحزب. ولمَّا عاد إلى مصر سنة ١٩٣٢ كانت الحكومة قد قضت على الحزب؛ إذ تُوفي زعيمه أنطون مارون في سجن الحضرة بالإسكندرية، إثْر إصابته بمرض السل، وامتناع السلطات عن علاجه، واعترف محمود العرابي على زملائه ووافق على العمل مع أجهزة الأمن، فتوقَّف شعبان عن أي نشاطٍ سياسي. وفي أواخر الخمسينيات انضم إلى تنظيمٍ شيوعي وقُبض عليه في أول يناير ١٩٥٩.

١٩٦٣

(١)
إلزا تريوليه، كاتبةٌ فرنسية شيوعية، زوجة لويس أراجون الشاعر الشهير الذي كتب عنها واحدةً من أشهر قصائده بعنوان «عيون إلزا».
(٢)
تعكس هذه الفِقرة وفِقراتٌ غيرها نبرة التفاؤل بالتغييرات التي أحدثَها عبد الناصر. ورواية «النيل» المشار إليها ظلَّت مجرَّد فكرة وإن جرت محاولتان لتحقيقها؛ الأولى سنة ١٩٦٥ — بعد عامٍ من الإفراج عني — في رحلة «السد العالي» التي تمخَّضَت عنها رواية «نجمة أغسطس»، ١٩٧٤. والثانية في رحلة إلى السودان وأوغندا وبحيرة تنجانيقا في إطار مشروعٍ سينمائي فرنسي عام ١٩٩٥.

(٣) بداية الفقرة مشطوبةٌ بعناية وبقلمٍ مختلف، ويبدو أن ذلك تم تحرُّزًا عند إخراج الأوراق من السجن، وهي المرة الأولى التي يتم فيها التعبير بصراحة عن موقفٍ انتقادي من السلطة رغم التأييد السياسي لها. وبالمثل شُطبَت الكلمات التي تشير إليها النقاط بين قوسَين في منتصف الفقرة.

(٤)
احتفل مصطفى سويف، أحد روَّاد الدراسات النفسية العربية، الذي أغنى المكتبة العربية بدراساتٍ مبتكرة، بعيد ميلاده الثمانين في ١٧ يوليو ٢٠٠٤. والكتاب المشار إليه هنا هو «الأسس النفسية للإبداع الفني»، ويمثِّل أطروحتَه للماجيستير التي نشرَتْها دار المعارف سنة ١٩٥١.
(٥)
كريستوفر كودويل هو الاسم المستعار لكريستوفر سانت جورج إسبريج، الذي وُلد في إنجلترا في أكتوبر ١٩٠٧. وقد انقطع عن الدراسة في الخامسة عشرة من عمره، وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين عمل صحفيًّا مدة ثلاث سنوات، وشُغف بالهندسة والملاحة الجوية، وعمل محررًا ثم مديرًا لدارِ نشرٍ متخصصة في علوم الطيران، واخترع جهازًا خاصًّا بتعشيق التروس الآلية، ونشر خمسة كتبٍ مدرسية حول الطيران وسبع رواياتٍ بوليسية. وفي سنة ١٩٣٤ اهتم بالفكر الماركسي، وفي العام التالي انضم إلى الحزب الشيوعي وعمل وسط عمالِ حوض السفن، وعندما نَشبَت الحرب الأهلية في إسبانيا اختير ليسوق سيارة إسعافٍ اشتراها فرع الحزب بالتبرُّعات التي جمعها، وبعد توصيلها للجمهوريين انخرط جنديًّا في «الفرقة الدولية». ولقي مصرعه خلال إحدى الغارات الجوية الفرانكوية في فبراير ١٩٣٧ ولم يكن قد أتمَّ الثلاثين من عمره. وترك عدة مخطوطات نُشر معظمها بعد موته. وفي مقدمتها «أزمة في الفيزيقا» و«دراسات في ثقافةٍ تُحتضر» و«دراسة في الأدب الإنجليزي البرجوازي». وعُدَّت كتاباته رغم قلتها من أُولى المحاولات للوصول إلى حلولٍ ماركسية لمشكلات علم الجمال الأساسية، كما يقول الدكتور إبراهيم حمادة (مجلة فصول ١٩٨٥). ويضيف: إن أبرز إسهامٍ له في علم الجمال الماركسي هو نظريته في وظيفة الأدب؛ فعنده أن الأدب يعمل كي يزيد من حرية الإنسان، وهو عندما يقوم بمهمته على الوجه الصحيح يزيد من تحرُّر الإنسان وتحرُّر المجتمع. والأدب الذي لا يزيد من حرية الإنسان أو ينقص منها لا يؤدي مهمَّته على الوجه الصحيح، بل هو أدبٌ سيئ.
وأعتقد أن الكتابات النقدية الأولى للويس عوض قد تأثَّرَت بأفكاره، كما تأثَّرَت بها أيضًا مقالات عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم في الخمسينيات عن الشكل والمضمون ووظيفة الأدب، وهي التي جُمعَت بعد ذلك في كتاب «في الثقافة المصرية».
(٦)
لا أذكُر موضوع «البار» المذكور في الجزء المعنون بدراسةٍ تطبيقية. وربما كانت الكلمة ترمُز إلى الحزب أو مؤتمره. أما حادثة ٦١ فأذكُرها جيدًا لأني تعلَّمتُ منها الكثير؛ فقد توثَّقَت علاقتي في سجن القناطر بشابٍّ في سني كان يستمع لي في صمت واهتمام وانبهار وأنا أُحدِّثه عن تجربة المحاكمة والتعذيب، وأروي له كل الروايات التي قرأتُها ثم أذكُر له المشروعات التي أنوي تحقيقها. وكنا نُهرع إلى بعضنا البعض بمجرد فتح الزنازين للاغتسال أو الفسحة. ونسير أثناء الطابور متماسكَي الأيدي. وأدرك زملائي طبيعة هذه العلاقة التي تُعتبر غالبًا مؤشرًا على تدهور الروح المعنوية، وتخلُقها ظروف العزلة عن الجنس الآخر، فعالجوا الأمر برهافةٍ شديدة ودرجةٍ عالية من الوعي. وأتاحت لي هذه التجربة رؤيةً أعمقَ لنفسي وللآخرين وتفهُّمًا للنزعات الإنسانية المختلفة.
وبالرغم من أن قضية الجنس — في رأيي — هي أوَّل ما يطرحه احتجاز الجسد وراء القضبان من قضايا فإن من كتبوا ذكرياتهم عن تلك المرحلة تجاهلوها تمامًا، فيما عدا علي الشوباشي الذي ذكر في كتابه «مدرسة الثوَّار» (العربي للنشر، ٢٠٠١) أن الأطباء من المعتقلين كانوا ينصحون زملاءهم بالاستمناء مرةً كل شهر على الأقل حفاظًا على توازُنهم النفسي والعصبي. ولا أظن أن أحدًا كان في حاجة إلى هذه النصيحة أو التزم بالتحديد الذي تضمَّنَته! وكان من المألوف أن تجد من يطلب إحدى المجلات الأجنبية التي كانت تصل مُهرَّبة من الخارج، بدعوى اهتمامه بمقالٍ معين بها بينما هو في الحقيقة يريد أن يتمعَّن مقالات من نوعٍ آخر أو بالأحرى صورة!

(٧) «الحائط العظيم» هو العنوان الذي سبَق أن أطلقتُه على مشروع «السد العالي».

(٨)
سيطرَت هذه الفكرة عليَّ، وكانت وراء اتجاهي إلى محاولة دراسة السينما في عام ١٩٧١ بمعهد «فجيك» الروسي الشهير بمنحةٍ من منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي.
(٩)
اشتُهر الكاتب الروسي إيليا إيرنبورج (١٨٩١–١٩٦٧) بعمودٍ يومي في جريدة «البرافدا» أثناء الحرب العالمية الثانية. ثم صار مراسلًا لها في باريس، وكتب عدَّة رواياتٍ عن تجاربه أشهرُها رواية «ذوبان الجليد» التي صارت عنوانًا على مرحلة القضاء على عبادة الفرد. وفي أوائل الستينيات نشر مذكِّراته التي أرجع فيها إفلاتَه من الإرهاب الستاليني واستمراره في الكتابة حتى ذلك الحين إلى «الحظ الحسَن»!
(١٠)
يبدو أنه كانت هناك إشارةٌ في الصحف إلى أزمةٍ نفسية يمر بها يوسف إدريس. وفي هذه السطور الوجيزة محاولةٌ للربط بينها وبين الإفراج عن صلاح حافظ. وكان الاثنان زميلَين في كلية الطب في بداية الخمسينيات، ويشتركان في تعلُّقهما بالكتابة والسياسة. وبسرعة اشتُهر الأول بقصصه القصيرة التي هزَّت الوسط الأدبي بلغتها الحية وشخصياتها الواقعية واحتلَّ بها مكانًا بارزًا في جريدة «المصري» ثم مجلة «روز اليوسف». بينما انتقل الثاني من صحف دار «النداء» إلى روز اليوسف بمقاله الأسبوعي الشهير «انتصار الحياة» الذي مزج فيه بين العلم والسياسة بأسلوبٍ شيِّق يتميز بخفة الظل. وانضم الاثنان أيضًا إلى حدتو في ١٩٥١، وهو العام الذي بلغ فيه التنظيم أَوْج نشاطه الجماهيري.
وكنتُ قد سعيتُ أنا وأصدقائي في بداية دراستي الجامعية القصيرة إلى التعرُّف بالاثنَين وبغيرهما من الكُتاب التقدُّميين، ودعَونا صلاح إلى ندوة نظَّمناها في كلية الحقوق في مطلع ١٩٥٤ وتوثَّقَت علاقتنا به، وتردَّدنا على منزله في العجوزة حيث تعرَّفنا بزوجته هدى زكي الممثلة الشابة وابنة الممثل المعروف أنور زكي، وبأخته إجلال التي كانت تدرُس في كلية الآداب، كما تعرَّفنا لديه بكمال القلش الذي كان ملازمًا له معظم الوقت.
ونجح صاحبا «أخبار اليوم» — مصطفى وعلي أمين — في ضم صلاح إلى صحيفة «الأخبار» ليقوم بصياغة بعض موضوعاتها بأسلوبه الجذَّاب دون ذكر اسمه. وبدأ العمل بمبلغٍ ضخم حسب مقاييس ذلك الزمان وهو ستون جنيهًا في الشهر، كما استفاد من النظام الذي قامت بمقتضاه «أخبار اليوم» بتزويد العاملين لديها بالأجهزة الكهربائية الحديثة التي تحصل عليها من الشركات المُعلِنة ثم تبيعها للعاملين لديها بالتقسيط. وظهرَت ثلاجةٌ كهربائية في منزل صلاح.
كانت «أخبار اليوم» قبل تأميمها في الستينيات معروفةً بعلاقتها بالقصر الملكي والسفارة الإنجليزية ثم الأمريكية، ويشترك في تحريرها كبار الكُتاب من أمثال أحمد الصاوي محمد، سلامة موسى، جلال الحمامصي وكامل الشناوي. وعرف عبد الرحمن الخميسي من الأخير بانضمام صلاح إليها فاندفع يُهاجِمه بمقالٍ على الصفحة الأخيرة من جريدة «المصري» بعنوان «العالم الحر والكُتاب الأحرار»، ندَّد فيه بالكُتاب الذين يتظاهرون بمواقفَ وطنيةٍ وتقدُّمية بينما يتعاونون في السر مع رموز الاستعمار والرجعية.
لكن صلاح لم يهنأ طويلًا بامتيازات «أخبار اليوم»؛ فسرعان ما قُبض على قيادة حدتو، وتكوَّنَت قيادةٌ سرية مؤقَّتة للتنظيم كان صلاح واحدًا من أعضائها الأربعة (ومنهم الشاعر محمود توفيق شقيق زوجة يوسف صديق التي لم تُفلِت هي الأخرى من السجن). وتقرَّر أن تتفرَّغ القيادة الجديدة تمامًا للعمل السري فاختفى صلاح تحت الأرض. ونقل إلى العمل السري روحه الابتكارية؛ إذ ابتدع أساليبَ جديدة في الدعاية؛ منها عمل ملصقاتٍ صغيرة في حجم علبة الكبريت ومن ألوانٍ مختلفة تحمل شعاراتٍ معادية للدكتاتورية العسكرية يمكن لصقُها بسهولة في الأماكن العامة، أظن أنه كان يطبعُها بنفسه، في مسكنٍ جديد بالدقي يُواجه وزارة الزراعة، على جهازٍ بسيط يتألف من إطارٍ خشبي صغير في حجم المجلة الأسبوعية.
ولم يلبث أن تمَّ القبض على القيادة الجديدة، ونُشر الخبر في جريدة «الجمهورية» بعنوان «القبض على طالب الطب الذي يشتغل بالصحافة» وحُكِم عليه بعشر سنواتٍ قضاها كاملةً دون استفادة من قاعدة الإفراج بربع المدة. وكان الإفراج عنه في أوائل ٦٣ مؤشرًا على تغيُّر موقف الحكومة من الشيوعيين؛ إذ كانت العادة أن ينتقل المسجون الشيوعي عند انتهاء مدته إلى صفوف المعتقلين في الحال.
وتَبِع اعتقال القيادتَين الأولى والثانية من حدتو حملةٌ شملَت عددًا كبيرًا من المثقَّفين اليساريين منهم عبد الرحمن الخميسي ويوسف إدريس وتعرَّضوا لعلقة همَّت الأولى في «أبي زعبل» عام ١٩٥٤ (التي كسر فيها ذراع فؤاد حدَّاد). وأُفرج عنه في العام التالي بطريقةٍ مسرحية مع إبراهيم عبد الحليم وزهدي (رسام الكاريكاتير) وفتحي خليل (الصحفي) عندما استدعاهم صلاح سالم بملابس المعتقل المُهلهَلة — التي تمزَّقَت أثناء التعذيب — وطلب منهم السفر إلى السودان للمساهمة في تحسين العلاقات بين شطرَي البلاد والحيلولة دون قرار الاستقلال الذي اتخذه السودان بعد ذلك في ١٩٥٦. ورفض الأربعة أن يكونوا أداة في سياسة النظام العسكري كما كانوا يعتبرونه، وفقد صلاح سالم اهتمامه بهم، ولم يُصدِر أية تعليماتٍ بشأن مصيرهم، فانصرفوا إلى بيوتهم.
وعاد يوسف إدريس بعد قليل إلى «روز اليوسف». وعندما بدأَت اعتقالات الشيوعيين من جديدٍ عام ١٩٥٩ نشَر على حلقات في جريدة الجمهورية رواية «البيضاء» التي قدَّمَت صورة سلبية لهم، وأشاد حسن المصيلحي، رئيس مكتب مكافحة الشيوعية في وزارة الداخلية، في شهادته أمام محكمة الإسكندرية في ربيع ١٩٦٠، بكلٍّ من يوسف إدريس وعبد الرحمن الخميسي على أساسِ أنهما تنصَّلا من علاقتهما بالحركة الشيوعية، وبذلك لم تشملهما قوائم الاعتقال.
وخلال سنوات الاعتقال حقَّق يوسف إدريس شهرةً هائلة في القصة والمسرح والمقال الصحفي، وفُتحت له كافَّة الأبواب، أو هو الذي فتحها بما تميز به من غرام بالنجومية وثقة بالنفس. ولعل خروج صلاح قد حرَّك بعض المواجع وأثار كثيرًا من القلق. وقد تعرَّض صلاح جاهين — الذي كان على علاقةٍ وثيقة بحدتو قبل حملة الاعتقالات — لأزمةٍ مماثلة. وكان إبراهيم شعراوي من الشعراء النوبيين المتميِّزين بطريقة إلقائه، وظهرَت آثار النظرة الصوفية فيما نشر من شعره بعد الإفراج عنه.
أما لويس عوض فكان من الكُتاب البارزين في جريدة «الجمهورية» الحكومية، وكان معروفًا بأفكاره اليسارية دون أن تكون له علاقةٌ عضوية بالتنظيمات الشيوعية. ولم يشفع له هذا؛ إذ شملَته اعتقالات مارس ١٩٥٩، وكان مِن بين مَن تعرَّضوا لحملة التعذيب الدموية التي استمرَّت ثمانية شهور في معتقل «أوردي أبو زعبل».
ولم تُتَح لي فرصة الالتقاء بالدكتور لويس عوض خلال الأيام القليلة التي قضيتُها بذلك المعتقل؛ إذ نُقلتُ بعد مصرع شهدي إلى سجن القناطر عقب تدخُّل النيابة بأيام. وقد أُفرج عن لويس عوض بعد قليل والتحق بصفحة «الرأي» في «الأهرام». وتابعتُ من وراء أسوار الواحات مقالاته التي عكسَت الشكوك التي ساورَته، وقدَّم من خلالها هنري ميلر وألكسندر تروخي، اللذَين اشتُهرا بكتاباتٍ اعتُبرت داعرة، وقد غيَّرتُ رأيي فيها فيما بعدُ وإن كنتُ ما أزال أعتقد في سطحيَّتها.
وقد سجَّلَت الكتب التي صدرَت عن تلك الفترة صلابة لويس عوض في مواجهة التعذيب، فذكر إلهام سيف النصر في كتابه الممتاز «في معتقل أبو زعبل» (دار الثقافة الجديدة، ١٩٧٧) أنه تحمَّل يوم «الأربعاء الدامي» ١٦ فبراير ١٩٦٠، الذي بلغ فيه التعذيب أوجَه، بشجاعةٍ فذَّة. وعندما دخل العنبر في نهاية اليوم خاطب زملاءه ونظارتُه المهشَّمة مربوطة في أُذنه بفتلة وعلائم الجد والأستاذية تعلو وجهه قائلًا: «لقد اكتشفتُ اليوم أن مصر لا تحترم «الهيبيس كورليس»!» وكان يقصد بذلك المبدأ الروماني المقرَّر في القوانين، والذي ينص على أن جسد الإنسان مقدَّس ولا يجوز المساس به.
وروى حسن المناويشي، وكان عاملًا بشركة مصر للحرير الصناعي لا يحمل مؤهلًا دراسيًّا، جانبًا آخر من قصة لويس عوض في المعتقل، بأسلوبه البسيط المؤثِّر، في كتابه «أوردي ليمان أبو زعبل» (العربي للنشر والتوزيع، ١٩٩٥) بادئًا بأول لقاءٍ بينهما في معتقل «القلعة»:
«… كنتُ ينتابني شعورٌ غريب هو خليط من النكد واللهفة والسعادة الحزينة؛ فقد كنتُ أتمنى أن ألتقي بهؤلاء الأساتذة الذين كنتُ أقرأ لهم وأسمع عنهم، وخاصة أصحاب التيارات الفكرية المتعددة … وكان هؤلاء الرجال الشرفاء يمثلون ضمير الأمة، وكم كانت لهفتي شديدة في التعرُّف على أكبر عدد من ضيوف القلعة! وبدأت أتجول منفردًا للقاء بعض الشخصيات التي طالما اشتقتُ إلى التعرُّف عليها، فتقابلتُ أوَّل ما تقابلتُ مع الدكتور لويس عوض رحمه الله، ولقد حسبتُه خطأً الأستاذ عبد الرحمن الخميسي؛ حيث التبس عليَّ الشكل؛ فأنا لم أرَ أيًّا منهما من قبلُ؛ فقد كنت أعرف شكلَهما من صورهما التي تُنشر في الصحف، فتقدَّمت من الدكتور لويس بشكلٍ ساذجٍ وعبيط وقلتُ له: أهلًا أهلًا بالأستاذ العظيم.
«ابتسم الدكتور وتجاوَب معي في حضن وطبطبة على الظهر بكل حماس؛ فقد كنتُ في حالةٍ نشوى بلقائي مع الأستاذ الذي اعتقدتُ أنه عبد الرحمن الخميسي، الذي أثَّر في العبد لله بعد نشر قصَّته الرائعة بجريدة «الأهرام» في الخمسينيات بعنوان «الساق اليمنى».
قال لي الدكتور: مَن حضرتك؟
– أنا حسن المناويشي، أحد قُرائك.
– ماذا قرأتَ لي؟
– قصَّة «الساق اليمنى» الرائعة.
فنظر إليَّ بدهشة وقال لي: إنت فاكرني مين؟ قلت وأنا كلي ثقة: الأستاذ الخميسي طبعًا؟
«صُعق الرجل ودفعَني في صدري دفعةً قوية وقال لي: غور، داهية تفرقك! وتبدَّلَت حالتي من النشوة إلى الخجل الفظيع من فَرْط غباوتي. وما زالت عبارات الدكتور لويس عوض تطنَّ في أذني إلى اليوم بعد أن أسرع في الابتعاد عني وهو يُردِّد: خميسي في عينك يا متخلف. وهذه الغلطة جعلَتني أحاذر في اندفاعي نحو الآخرين بعد أن دُستُ بقدمي في طاولة العجين … فقد كان درسًا قاسيًا تعلَّمتُ منه الكثير حتى اليوم، ولقد قاومتُ رغبتي الشديدة في الاقتراب من الأساتذة بنوعٍ خاص.»
لكن المناويشي لم يصمد لإغراء الاقتراب من لويس عوض؛ فقد حضر الاثنان «يوم الأربعاء الدامي» في «أبو زعبل». يقول المناويشي: «وفي هذا اليوم وجدتُ العسكري أبو الوفا دنجل وصادق المجنون يضربان الدكتور لويس عوض عند سفح الجبل، وكان بمفرده والمجنون يقول له: إنت يا واد يا لويز. إنت دكتور في إيه يا وله؟ وردَّ الدكتور: دكتور في الفلسفة. قال العسكري: طب وما له؟ عالج لي فلسفتي. أنا فلسفتي بتوجعني يا واد يا لويز. وتصادَفَ مرور الزميل عبد المنعم درويش فاتفقتُ معه على إخراج الدكتور لويس من هذا المأزق، فدخلنا بينه وبين العساكر لنشغلَهم عنه، وذهب إلى مكانه ثم جرينا …»
وفي موضعٍ آخر من كتابه الجميل روى المناويشي موقفًا آخر مع الدكتور لويس عوض؛ فقد كان التعذيب يبدأ بوجبةٍ صباحية داخل العنابر، ثم يتم إخراج المعتقلين للعمل في تكسير الحجارة وتحميلها في مقاطف ثم نقلها جريًا تحت الضرب. ويتعيَّن على كل معتقل أن يُورِد ما يملأ أربعة مقاطف، فإذا لم يتمكن تعرَّض للضرب المبرِّح على قدمَيه. يقول المناويشي: «… وذات يومٍ كنتُ أقوم بتوريد الكمية المطلوبة، وكنت أمرُّ من جوار الدكتور لويس فسمعتُه ينادي عليَّ بقوله: من فضلك يا زميل تعال ساعدني. فقلتُ له: سوف أعود إليك فورًا يا دكتور. سلَّمتُ آخر مقطفٍ من مقطوعيتي وعُدتُ إلى الدكتور وجلستُ بجواره دون أن يلحظني الحارس، ودار بيننا هذا الحوار الفريد من نوعه، وقد رحل عنا الدكتور لكنني أحكي هذه القصة للأمانة والتاريخ؛ لكي يرى من يقرأ هذا الكتاب كيف كان يُعامَل عظماء مصر على أرض مصر. جلستُ وقلتُ: تحت أمرك يا دكتور. فقال بلهفة: أرجوك ساعدني في إنهاء المقطوعية التي لم أنتهِ منها حتى الآن، واليوم يُوشِك على الانتهاء، وأخشى الضرب بالشوم على باب «الأوردي»؛ فما زالت قدماي جريحتَين من المرة السابقة. ثم أراني أصابع يدَيه المجروحتَين من حافة البازلت التي تشبه شفرات الحلاقة. قلتُ له: لا تخشَ شيئًا. وبسرعةٍ كنتُ أجهِّز أوَّل مقطفٍ في المقطوعية، وكنتُ أحملُه وأذهب به إلى السجَّان الذي يتسلَّم المقطوعات، وأُبلغ عن الدكتور، وبعد أن قدَّمنا المطلوب دار بيننا مرةً أخرى هذا الحديث. سألَني الدكتور لويس عن اسمي فعرَّفتُه بنفسي … ثم قلتُ له: أين نظَّارتُك يا دكتور؟ فأخرجها من بين طيات ملابسه وهي محطَّمة تمامًا عدا العدستَين فهما ما زالتا سليمتَين، فأحضرتُ له قطعةً من الكهنة القديمة من الأرض وقمنا بربط العدستَين على ما تبقَّى من الشمبر المحطَّم … ثم قلتُ للدكتور: أرجو منكَ أن تُسامحني عن خطئي معك في سجن «القلعة» إذ حسبتُك عبد الرحمن الخميسي. التفَت إليَّ ثم قال: هو انت؟
– نعم يا دكتور.
ثم قال وهو يضحك ضحكةً خفيفة: أنا أُنادي عليك بكلمة زميل؟ لقد حسبتُكَ زميلًا في الجامعة لذلك قلتُ لكَ يا زميل. فقلتُ له عمومًا نحن زملاء في الجبل فعلًا؛ بدليل أني ساعدتُك عن طيب خاطر. فقال لي: ماذا تعمل؟ قلتُ عامل في كذا.
– تفتكر أننا سوف نخرج من هنا؟ قالها بمرارةٍ شديدة. فقلتُ له: طبعًا سوف نخرج من هنا، وسوف نقرأ لك، وسوف تُشفى جروحُ أصابعك الذهبية، فلا تحمل أيَّ هم.»
وفعلًا خرج لويس عوض بعد مصرع شهدي عطية بشهورٍ قليلة، ونُقل إلى معتقل الفيوم مع لطفي الخولي ويوسف حلمي وعبد الرازق حسن وسعيد خيال ثم أفرج عنهم في يوليو ٦١. وتَولَّى لويس عوض رئاسة القسم الأدبي بجريدة «الأهرام». ولهذا لم تسنح لي فرصة مقابلته داخل السجن وإنما تعرَّفتُ عليه في ٦٥ عندما ذهبتُ إليه بنسخة من روايتي الأولى «تلك الرائحة» في مكتبه بمبنى «الأهرام» القديم، ووجدتُ في انتظاره ألفريد فرج الذي سألَني في برود: إيه هو الجديد في اللي انت كتبته؟ ثم استقبلَني لويس عوض وتصفَّح الرواية وتوقَّف عند اقتباس عن جيمس جويس في الصفحة الأولى فسألَني: إنت تخرَّجت من فين؟ فقلتُ له إني لم أتخرَّج من أي مكان لأني لم أكمل دراستي في الحقوق. وانتهى اللقاء في الحال.
وفيما بعدُ، في سنة ٦٩ أو ٧٠، التقيتُ به في برلين أثناء إقامتي بها، ودعوتُه إلى منزلي هو وبهيج نصار، الذي كان مُراسلًا لوكالة أنباء «الشرق الأوسط» المصرية. ولم نلتقِ بعد ذلك سوى مرة عند مدخل جريدة «الأهرام» قبل وفاته بشهور.
وفي ١٩٧٥، أثناء إشرافي على التحرير في دار «الثقافة الجديدة» بالقاهرة، أصدرتُ سلسلة من الروايات الجديدة كنت أذيِّلها بتعليقٍ صغير في الشأن الثقافي. وفي العدد الثالث من السلسة (الذي احتوى على ترجمتي لروايةٍ أمريكية) انتقدتُ سلسلة مقالاتٍ كتبها في «الأهرام» قائلًا: «وقد كان من المحزن حقًّا، أن ناقدًا كبيرًا مثل الدكتور لويس عوض، قضى عامًا في الولايات المتحدة عكف فيه — كما يقول — على متابعة ما فاته من الإنتاج الحديث، ثم عاد، لا ليشغل قُراءه بشيءٍ مما تابع وقرأ ودرس، وإنما ليُحدِّثهم في صفحاتٍ طوال عن مأساة الملكتَين السابقتَين نازلي وفريدة، والأميرة السابقة فتحية التي لم تنسَ اللغة العربية، وما زالت — وا فرحتاه — تتكلَّمها بطلاقة رغم أنها لا تملك كتابتها.» وسمعتُ أن هذا الانتقاد أغضبه. لكنا لم نتبادل الحديث إلا في بداية الثمانينيات عندما وجَّهَت إليَّ السفارة الأمريكية دعوة لزيارة الولايات المتحدة، واعتذرتُ عن عدم قبولها برسالةٍ مفتوحة نشرَتها جريدة «الأهالي»؛ فقد تلفَن لي قائلًا: إيه اللي انت عملته ده يا صنع الله؟ السفير الأمريكي اتصل بي الآن وهو منزعج جدًّا.»
(١١)
أوك هو الاسم الذي أطلقتُه على شابٍّ رقيقٍ مهذَّب ذي ملامحَ سمراء وسيمة وعينَين خضراوَين ويمتهنُ المحاماة. وقد توطَّدَت علاقته ﺑ «ر. م.» الذي كان في عمر والده وصارا لا يفترقان، وكالعادة في مثل هذه الحالات بذل الزملاء جهدًا للحد من هذه العلاقة. وكنتُ قد لمحتُه واقفًا خلف باب العنبر بعد إغلاقه ذات مساءٍ وقد أمسك بقضبان كَوَّته الصغيرة، وأخذ يتطلَّع إلى الفِناء الخالي في الخارج ثم فرَّت دمعةٌ من عينه.
وكان «ر. م.» من الذين تعرَّضوا لضغوطٍ شخصية كبيرة، ضاعفَت منها التطوُّرات السياسية التي جعلَت استمرار الحبس بلا معنًى. وقد بذل جهدًا خارقًا في مقاومة إغراء الاستسلام. وأدَّى به هذا الصراع — كما حدث لاثنَين آخرَين — إلى المرض العقلي. وكان يمضي في فناء السجن أو في طرقات العنبر وهو يردِّد: «أخرج أو لا أخرج، عملت إيه؟ ولا حاجة، كل الخير لكل الناس، كفاية قتل، كفاية ضرب. مراتي وأولادي … أنا جاي … استنوا اصبروا … ها ها. يحيا الوفد … يحيا كل حاجة ويسقط السمك في الماء ها ها …» وعلم المصيلحي بأمره فاستدعاه لمقابلته، وقدَّم إليه العرض التقليدي، فثار وحاول الاعتداء عليه واصفًا إياه بأنه كلبٌ مسعور يجب التخلُّص منه.
(١٢)
هذا رأيٌ متعجِّل وغير دقيق يقصد بالطبع الأعمال السطحية لمدرسة الواقعية الاشتراكية الرسمية؛ فلا يمكن تجاهل قيمة أعمال جوركي ومايكوفسكي وبابل وسيمونوف وباسترناك وبلجاكوف وغيرهم.
(١٣)
تُصوِّر هذه القصة القصيرة تجربة حبٍّ رومانسية في الجامعة. وكان لي — ككل كاتبٍ محترم! — قُرائي الخاصِّين الذين أُهرع إليهم بكل ما أكتبه قبل أن أعرضه على الكافَّة! وعلى رأس هؤلاء كان كمال القلش وإبراهيم المناسترلي (منس)، والصحفي فتحي خليل (ف. خ.).
(١٤)
كان لويس عوض قد احتفى في مقالٍ نقدي كبير بجريدة «الأهرام» بمسرحية توفيق الحكيم الجديدة التي حاكي فيها مسرح «العبث» وأعمال إيوجين يونسكو بالتحديد، واستخرج منها مدلولات وإيحاءاتٍ فلسفيةً عميقة.

(١٥) ربما تشير علامةُ الاستفهام في بداية الفقرة الثانية إلى تساؤلٍ عن مصدرها.

(١٦)
في بداية ١٩٦٣ كنتُ في حاجة إلى جراحة في الحاجز الأنفي. ونُقلتُ تحت حراسةٍ مشدَّدة إلى مستشفى أسيوط. ركبنا الأتوبيس من أمام السجن، وقطع المسافة في الطريق الصحراوي الجديد في أربع ساعاتٍ بدلًا من ١٢ ساعة بالقطار البطيء. وما زلتُ أذكُر ضابط الحراسة الذي جلس بجواري وشاركَني القيد الحديدي. كان صعيديًّا ضخم الجثة. وكان يتطلع إليَّ بين الفينة والأخرى غير مُصدِّق ويهزُّ رأسه متعجبًا. وأدركتُ أنه يحمل تعليماتٍ صارمة تحذره من أني سجينٌ شديد الخطر، لكن منظري وحجمي الضئيل لم يتفق مع الصورة التي نُقِلتُ إليه.
أودعَني الضابط مستشفى أسيوط العام حيث وُضعتُ تحت الحراسة في غرفةٍ خاصة أشبه بالزنزانة، ذاتِ نافذة تتخلَّلها القضبان ويغطِّيها سِلكٌ حديديٌّ مُحكَم، كنتُ أقضي وقتي معلَّقًا بها أتأمل ما يجري خارجها، وأُتابع الفتيات اللاتي كن يرتدين الميني جوب. وأُجريَت لي الجراحة في نفس الزنزانة، رقدتُ بعدها في مواجهة النافذة أتأمُّل خروم السلك الحديدي الذي يُغطِّيها، وأفكِّر في رواية تتناوَلُ الأشخاص الذين رأيتُهم والحكايات التي سمعتُها من الحراس والممرضات.
ولا أذكُر إذا كان عبد الحكيم قاسم قد انضم إليَّ في زنزانة المستشفى أم وجدتُه بها عند وصولي. وكان قادمًا من سجن الواحات مثلي بعد أن قُبض عليه في قضية ضمَّت رءوف مسعد وشوقي خميس وسامي خشبة الذي اعترف على زملائه. ولأننا — أنا وعبد الحكيم — كنا ننتمي إلى تنظيمَين مختلفَين قضينا الوقت شبه متخاصمَين ولم تنشأ علاقةٌ بيننا إلا بعد ذلك بشهورٍ طويلة بعد أن غيَّر موقفه السياسي وانتقل إلى «حدتو». وتكوَّنَت شبه مجموعة بين أربعتنا: هو وكمال القلش ورءوف مسعد وأنا، لم يكن لها شأنٌ بالسياسة. وإنما كانت العلاقة بيننا تقوم على أساس المناقشات المستمرة حول الكتابة والمحاولات التي يقوم بها كلٌّ منا. وكنا نعبِّر عن معارضتنا للمفاهيم الجامدة لمدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن، ونسخر من تصريحات خروشوف حول الفن التجريدي. وهذا ما خلق حساسيةً في علاقتنا بمحمود أمين العالم. وقرأ لنا عبد الحكيم في تلك الفترة أولى قصصه القصيرة وكانت بعنوان «الصندوق» واحتفلنا بها.
وتواصلَت علاقتي به بعد الإفراج عنا، وخلفَني في العمل بحانوتٍ للكتب الأجنبية في الزمالك كانت تملكه أرملة شهدي عطية، عندما غادرتُه إلى السد العالي، ثم سافر إلى ألمانيا للدراسة وعمل في البداية حارسًا لمنزل. والتقينا في برلين سنة ١٩٧٨ وكان يُعِد دكتوراه في الأدب، واختلفنا بشأن علاقته بالبعثيين العراقيين، ثم التقينا في مؤتمر ««الرواية العربية» بمدينة فاس المغربية سنة ١٩٧٩. وعاد إلى مصر نهائيًّا بعد عدة سنوات، وبدأ يكتب أسبوعيًّا لجريدة حزب «العمل»، وتقدَّم للانتخابات العامة على قائمته، ثم أصيب بجلطةٍ دماغية في ١٩٨٧ وتُوفِّي عام ١٩٩٠. وخلال ذلك قدَّم للأدب العربي الحديث مجموعةً متميزة من الأعمال القصصية والروائية تدور أغلبها حول المشهد الريفي بدأَت ﺑ «أيام الإنسان السبعة»، ١٩٦٧.
وفي بداية التسعينيات عهد إليَّ حسني سليمان باختيار عدد من الأعمال القصصية يفتتح بها دار النشر التي أزمع إقامتَها في مصر باسم «شرقيات»، فجمعتُ عددًا من النصوص غير المنشورة لعبد الحكيم تضُم فصولًا من رواية لم تكتمل، وذلك بمساعدة قريبه محمد صالح، نُشرَت تحت عنوان «الديوان الأخير».
(١٧)
لم أكتب أبدًا الرواية المقترحة عن سجن أسيوط، وإنما كتبتُ قصةً قصيرة باسمِ «الثعبان» من وحي الرحلة، نُشرَت بعد خروجي في جريدة «الجمهورية»، ثم في المجموعة الصادرة عام ١٩٨٦ بعنوان «تلك الرائحة وقصص أخرى» وتُرجمَت إلى عدة لغات. وأعتقد أني عندما كتبتُها كنتُ متأثرًا بشكلٍ ما برواية كامي «الطاعون».
وكانت كتابة القصة قد انتشرَت بين النزلاء. وعُقدَت لها مسابقة تألَّفَت لجنة تحكيمها من أستاذ الرياضيات عبد العظيم أنيس والمفكِّر محمود أمين العالم، وزميلٍ ثالث هو على ما أظن الكاتب المعروف محمد صدقي الذي اشتُهر باسم جوركي مصر بسبب نشأته العمالية. تقدَّمتُ إليها بقصة «الثعبان» فحصلَت على الجائزة الثانية، بينما ذهبَت الأولى إلى قدري شعراوي.
وكان قدري في الأصل عامل نجارة، وتردَّد عدَّة مرات على المعتقلات والسجون. ولا بد أنه كان يحمل في أعماقه أشواقًا عديدة ترجمَها بكتابة قصةٍ أسماها «القط مشمش». وكان يحفظ القصَّة عن ظهر قلب، وفي كل مرةٍ يُعتقل فيها يسعى للحصول على الورق والقلم، ثم يُدوِّن القصة ذاتها ليقرأها الآخرون. وهي نفس القصة التي فازت بالجائزة.
ومن الطبيعي أن يتم اختياره للجائزة الأولى، من باب تشجيع وإبراز مواهب أبناء الطبقة المهضومة التي يؤمن المُحكِّمون بدورها الطليعي. كما أن قصته بدت أقرب إلى النماذج المألوفة من قصتي.
(١٨)
واضحٌ أني فكَّرتُ في رواية عن مصرع الزعيم الأفريقي باتريس لومومبا.
(١٩)
هو الفنان حسن فؤاد الذي كان دينامو النشاط الثقافي.
(٢٠)
ما زلتُ حتى الآن أتذكَّر هذه الرواية عندما أتأمل ما يجري من أحداث؛ فقد كان تأثيرها فيَّ بالغًا بالرغم من ضعف الترجمة التي نُشرَت، على ما أظن، ضمن مشروع «الألف كتاب». كما أتذكَّر صدمتي عندما علمتُ أن كامي شرب نخب العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦.
(٢١)
وُلِد يفجيني يوفتوشنكو، سنة ١٩٣٣، ودرس في معهد جوركي للأدب بين ١٩٥١ و١٩٥٤. ونشَر أول قصيدةٍ له في ١٩٤٩. وبعد سنتَين صدر له أول كتابٍ تميَّزَت قصائده بمحاكاة ماياكوفسكي. وصار بسرعة مُعبِّرًا عن الجيل الذي وُلِد في الثلاثينيات ولم يشارك في الحرب. حقَّق شهرةً عالمية في ١٩٦١ بعد سفره للخارج وزيارته كوبا. وكانت موضوعاته متنوِّعة للغاية، تمتد من زراعة الأرض البور، والسدود، إلى عبادة الشخصية، والحرب الفيتنامية، والرياضة العالمية. وفي عام ١٩٦٣ كتَب سيرتَه الذاتية الشهيرة لمجلة «الإكسبريس» الفرنسية التي نشرَتها على حلقاتٍ ثم صدرَت بعد ذلك في كتابٍ بعنوان «سيرة ذاتية مبكرة».
وفي مارس ١٩٦٣ انتقده خروشوف في اجتماع للأدباء والفنانين السوفييت، كما اتهمه عدد من زملائه بالغرور ومحاولة تسليط الضوء على شخصه بأسلوبٍ رخيص وعلى حساب سمعة بلاده. واعترف يوفتوشنكو بخطئه، وقال أمام ذلك الجمع من الأدباء والفنانين إنه تورَّط فيما أقدَم عليه، واتهم مجلة «إكسبريس» بتعمُّد تشويه كلامه.
وقد قابلتُه عندما زار مصر في ١٩٦٧، وكنتُ أعمل وقتها في وكالة «أنباء الشرق الأوسط» وأسعى للانتقال إلى جريدة «الجمهورية» بعد أن تولَّى رئاستها فتحي غانم، وأشرف على صفحتها الثقافية عبد الغني أبو العينَين، فاتفقتُ مع الأخير على متابعة الزيارة وإجراء حديثٍ معه.

(٢٢) هل كنتُ واعيًا ساعة أن سطَّرتُ هذه الكلمات بمدى انطباقها على وضعنا في الواحات؟

(٢٣)
تل أولينشبيجل هو بطل كتابٍ شعبي ألماني مجهول المؤلِّف ترجع أقدم نسخة منه إلى عام ١٥١٠. وهو مُغرَم بإعداد المقالب التي تفضح عيوب معاصريه ومساوئ عصره، وتعتمد على نقل العبارة التصويرية بما فيها من مجاز وكناية إلى الواقع. وهو في ذلك أقرب إلى شخصية «جحا». وأعتقد أن يوفتوشنكو اختار هذا المثال لأن مذكِّراته كُتبَت في الأصل لجريدةٍ ألمانية.
(٢٤)
آخر كتاب لشتاينبك وهو انطباعات رحلة قام بها حول «الولايات المتحدة» مع كلبه.
(٢٥)
مرةً أخرى نقطة الانطلاق هي العناوين المثيرة. وكانت القاهرة وقتها تضُم أربعة ملايين نسمة فقط!
(٢٦)
هو أصغر أخويَّ غير الشقيقَين ويكبرني بعشرين عامًا. وقد ربطَتني به علاقةٌ جيدة. وكان حنونًا ودودًا. وعندما نظَّم عملُه رحلةً للعاملين إلى عدة أماكن اختار الواحات وزارني في السجن.
(٢٧)
من أُولى الكتابات الماركسية التي انتقدَت الواقعية الاشتراكية. و«نوفيل كريتيك» مجلةٌ فكرية يُصدِرها الحزب الشيوعي الفرنسي.

(٢٨) نصٌّ آخر لم يكتمل. وفي السطور السابقة عليه محاولةٌ لتفسيره أو تبريره.

(٢٩) هذه المحاولة أيضًا لم يُقيَّض لها أن تتم.

(٣٠)
لا أعرف هل كانت هذه السطور فكرةَ قصَّة أم محاولةً لتحليل جوانبَ في شخصيتي؛ فهناك إشارات إلى تجاربَ معيَّنة في طفولتي المبكِّرة ثم مراهقتي؛ فالست التركية تزوَّجها أبي بعض الوقت بعد انفصاله عن أمي. وإبراهيم هو ابن أخي وكان في سني، ويبدو أنه كانت هناك محاولة لإعطائي بعض ملابسه. وفي أحد الأيام ذهبت إلى مدرسة السعيدية الثانوية مرتديًا سترةً كبيرة الحجم لأخي وأحد أحذية أبي. و«ف» هي أول فتاةٍ أحببتُها، وكان ذلك سنة ٥٥ وعمري وقتها ١٨ سنة. وكانت زميلةً لي في الحزب. ولعلها أول فتاةٍ أقترب منها ولم أكن أعرف حتى اسمها الحقيقي. وسجَّلتُ مشاعري نحوها في قصةٍ قصيرة للغاية أردتُ أن أنشُرها في المجلة السرية للتنظيم التي كنتُ عضوًا في مجلس تحريرها (كان يرأسه إبراهيم المناسترلي). وبالطبع لم يكن المجال يسمح بذلك. وفيما بعدُ، عندما عرفتُ اسمها وعنوان منزلها، تجرَّأتُ وذهبتُ إلى المنزل وسلَّمتُها رسالةً أصف فيها مشاعري لم ترُدَّ عليها. وكنتُ أتحدَّث في هذه التفاصيل مع زميلي منير المغربي.
وكانت التجربة التالية سنة ٥٨ وبطلتها «ر» فتاةٌ قريبة لأحد أصدقائي. وتعلَّقتُ بها عندما وجَّهَت لي بضع كلمات مجاملة حرمَتني من النوم عدة ليالٍ.
(٣١)
لا أظن أني أُقر اليوم هذا الحكم على الكاتب الإنجليزي سومرست موم (١٨٧٤–١٩٦٥) رغم سطحية أغلب قصصه. وربما كان شعوري بالكآبة مبعثه تناول موم الواقعي لعملية الإبداع إذ جرَّدَها من كل رومانسية.
(٣٢)
الأسماء الكاملة هي عبد العظيم أنيس، فتحي خليل، إبراهيم عبد الحليم.
(٣٣)
روايةٌ ضخمة من عدة أجزاء لكازاكيفتش عن الحرب العالمية الثانية، تُعتبَر نموذجًا صارخًا على الفن الدعائي. وقد جلبَت لمؤلفها جائزة ستالين في الأدب.

(٣٤) تعوَّدتُ الالتجاء بعد تناول طعام الغداء إلى أقصى مكانٍ في فِناء السجن، بجوار السور الخارجي مباشرة، هربًا من صخب العنبر وضجته، لأحصل على قيلولةٍ قصيرة. وكنتُ أحمل معي بطانيةً أبسطها فوق الرمال وفوطةً أغطِّي بها وجهي لأحميه من الذباب. وعندما أستيقظ أذهب إلى العنبر سعيًا وراء قليلٍ من الشاي، أعود به إلى مكاني بجوار السور لأشربه في كوبٍ من البلاستيك الأصفر أحرص على نظافته فأغسله دائمًا بالتراب. وكانت أختي تبعث لي بشاي «التموين» ماركة «الجمهورية»، لم أجد منذ خروجي من السجن حتى الآن مذاقًا مثله في أي مكانٍ على كثرة الأماكن التي سافرتُ إليها.
وفي هذا الموقع الذي تهبُّ عليه أحيانًا نسمةٌ رطبة تخفِّف من حرارة الصيف كنتُ أحصل على درجةٍ عالية من التركيز الذهني. وفيه كتبتُ بعض القصص القصيرة والصفحات الأولى من قصة «منزل النوافذ الزرقاء» التي لم تكتمل.
وتُعبِّر هذه الفِقرة الموجزة عن الحالة التي سادت السجن في الشهور الأخيرة؛ فقد وُضعَت أغلب الأفكار السائدة موضع المساءلة إثر التطورات المحلية والعالمية العاصفة.

(٣٥)
سجَّلتُ القائمة المذكورة باللغة الإنجليزية، ويبدو أني كوَّنتُها من عروض الكتب في المجلات الأمريكية. وحرصتُ على ذكر اسم الناشر بل وعنوانه أحيانًا وسعر البيع؛ مما يوحي بعزمي على اقتنائها. والحاصل أني لم أتمكَّن من تحقيق ذلك العزم بعد الإفراج عني. وحالت ظروف الحياة حتى الآن دون قراءة معظم هذه الكتب وإن كنتُ قرأتُ غيرها لسيمون دي بوفوار وللروائي الأمريكي جون أوبدايك ولنادين جوديمر، كما قرأتُ أغلب روايات سيمنون الذي أعتبره من أعظم كُتاب القرن العشرين، ومقتطفاتٍ من الكاماسوترا، الموسوعة الإيروتيكية الهندية. وحرصتُ بمجرد خروجي إلى الحرية على قراءة رواية «يوم في حياة إيفان دنيزوفيتش» للكاتب السوفييتي ألكسندر سولجينتسين، وأعددتُ عرضًا لها حملتُه إلى يحيى حقي الذي كان يرأس وقتها مجلة «المجلة». وكان قد نشر لي بضعة عروضِ كُتبٍ عقب خروجي من السجن مقابل عشرة جنيهات لكل واحد. لكنه امتنع عن نشر مقال سولجينتسين. وربما كانت هناك تعليمات في ذلك الوقت بعدم المساس بالاتحاد السوفييتي بأي شكلٍ حرصًا على إتمام السد العالي، أو أنه ظن ذلك. لكنه من ناحيةٍ أخرى حذَّر أحمد هاشم الشريف من الاشتراك في الرحلة التي قمتُ بها مع كمال القلش ورءوف مسعد إلى السد العالي في صيف ١٩٦٥. وكنا قد شرحنا لأحمد هاشم الشريف المشروع، وكيف أن مراسل جريدة أزفستيا في مصر، كونستانتين فيشينفسكي وعد بتقديم تسهيلاتٍ لنا. وذهب الشريف إلى يحيى حقي يستشيره في الأمر فنصحه بعدم التورُّط فيه.
وقد رويتُ في مقدمة الطبعة الكاملة لرواية «تلك الرائحة» التي صدرَت عام ١٩٨٦، كيف استقبلها عندما حملتُها إليه فور صدورها في فبراير ١٩٦٦؛ فقد رحَّب بها ترحيبًا أبويًّا قائلًا إن عطرها قد ملأ المكان. ولم يلبث أن انتقد ما رآه فيها من ابتذالٍ في عموده الأسبوعي بجريدة «المساء». ولم تتأثَّر علاقتنا بذلك. ونشر لي فيما بعدُ عدة ترجماتٍ قبل سفري إلى الخارج، ثم استأنفنا العلاقة بعد عودتي، وكنتُ أتردَّد عليه، وداومتُ السؤال عنه خلال مرضه الأخير، ولعلي كنتُ واحدًا ممن تحدث إليهم قبل وفاته بساعات قليلة؛ فقد تلفن لي وعندما استفسرتُ منه عن صحَّته قال في انفعال: «حتسمع خبري بكرة في الجرايد.» وقد كان.

(٣٦) بسبب لحظات التأمُّل الطويلة ومتابعة جحور النمل بين الرمال شغلَني في ذلك الوقت التفكير في أشكال الحياة الأخرى والجوانب المختلفة من الوجود المحيط بالإنسان. ووجد كل ذلك تعبيرًا عنه أولًا في مشروعي عن العنكبوت، ثم في الروايات العلمية التي كتبتُها في الثمانينيات.
وعند إعداد هذا الكتاب وجدتُ بين أوراقي صفحة من جريدة «الحياة» بتاريخ ٢٥ أبريل ١٩٩٥، عن دراسة لعالمٍ إنجليزي في العدد الأخير من مجلة «سميثسونيان» الأمريكية تتناول ما يحتويه الهواء المحيط بأجسامنا من أمواجٍ غير مرئية تحمل كلمات ومعزوفاتٍ موسيقية وصورًا تبثُّها الإذاعات والتليفزيونات. ويقول العالم إن المكان المحيط بنا تحتل مُعظمَه فراغاتٌ يمكن أن تتسع لأحياءٍ سكنية بأكملها، وهي مليئة بجزيئات لعناكب وفراشات وبشر عاشوا قبل آلاف الأعوام، وغبار وإشعاعاتٍ قادمة من مجرَّاتٍ فضائية استغرقَت رحلتها ملايين السنين قبل أن تُلامسنا.
وفي نفس الصفحة عرض لكتابٍ إنجليزي آخر عنوانه «الحديقة الخفية»، يتضمَّن مستويَين من السرد؛ أحدهما يصوِّر الحياة اليومية المألوفة لأُسرةٍ بشرية، بينما يتغلغل الثاني في البيئة الطبيعية الخفية داخل الحديقة المنزلية؛ فعدد الكائنات الحية الموجودة في حَفْنة طينٍ صغيرة قد يتجاوز مجموع سكَّان الأرض، وهذه الحَفْنة هي في الواقع مدينةٌ عملاقة تتكوَّن من آلاف الطوابق، في كل طابق جدرانٌ تفصل بين مئات الألوف من المنازل والدروب، وتتكوَّن هذه الجدران من قراميدَ مجهريةٍ من الطين مثبَّتة بواسطة ملاطٍ مصنوع من بقايا صمغية لفطريات. وتعمل على هذا المستوى المجهري قوًى ذرية تُساعد القرميد على أن ينبض ببطء مُولدًا مجالاتٍ كهربائية تشُد الجدران الطينية إلى بعضها.

(٣٧)
أحببتُ رواية هيمنجواي القصيرة هذه. ويبدو أني تأثَّرتُ بشكلها في رواية «تلك الرائحة» عندما اعترضتُ السرد الرئيسي بمقاطعَ في أسلوبٍ مختلف تعتمد على الذكريات.
(٣٨)
عادل ح. هو عادل حسين — نائب رئيس حزب «العمل» فيما بعدُ — الذي كان من نُزلاء الواحات وزاملَني في زنزانةٍ واحدة بعض الوقت. وكنتُ أعرفه من أيام الدراسة، وشاهدتُه أول مرة وأنا في مدرسة «السعيدية» الثانوية يقود مظاهرة أمام الجامعة وكان وقتها طالبًا في كلية «العلوم». وعندما أصبحتُ من أنصار «الحزب الاشتراكي» ذهبتُ إلى مقرِّه في الجيزة ووجدتُه هناك يلعبُ كرة المائدة، وكنتُ فخورًا بأني قد التقيتُ الشقيق الأصغر ﻟ «الزعيم» أحمد حسين، وجهًا لوجه. وشعرتُ وقتَها أنه يتظاهر بالاهتمام باللعب. وقد انضم بعدها إلى حدتو، ثم انقسم عليها في ٥٣ (وعاد إليها فيما بعدُ)، وتعرَّض للتعذيب في السجن الحربي وأبو زعبل، وأوشك أن يفقد حياته يوم مصرع شهدي. وأظُن أنه وقع تحت تأثير الرغبة في تَكرار الدور الزعامي الذي لعبه أخوه غير الشقيق، وانعكس ذلك على علاقاته بالآخرين ومحاولة توطيدها بشكلٍ مفتعل. وقد التقينا بعد خروجنا عدة مرات في مناسباتٍ مختلفة، كانت إحداها في منزل أختي في نهاية السبعينيات، وكان يرتدي جلبابًا وقد أرسل لحيةً خفيفة وأمسك بمسبحة.

(٣٩) الفِقرات المذكورة من رواية «إلى الفنار» كانت في الأصل بالإنجليزية، وقمتُ بترجمتها عند إعداد هذا الكتاب.

(٤٠) علامة التعجُّب طبيعية؛ فلم أفكِّر أبدًا حتى اليوم في كتابة الشعر.

(٤١) ما زلتُ أردِّد لنفسي هذا الشعار حتى اليوم في كل مرةٍ أقفُ فيها حائرًا أثناء الكتابة؛ من خلال العمل، الكتابة نفسها، ستتكشَّف حلول مشاكلها.

(٤٢) هذه هي الإجابة التي أُقدِّمها اليوم أيضًا بعد أكثر من أربعين عامًا.

(٤٣) لم يتضمَّن النص مصدر هذا الاقتباس.

(٤٤)
كلمةٌ واحدة فقط لا أعرف المقصود منها؛ فلم تخطُر على بالي أبدًا فكرة الهرب؛ أولًا لاستحالته، وثانيًا بسبب الرؤية السياسية. ولعلها تُشير إلى حادث هروب إبراهيم هراري ومحمد عويضة. لكن مصطفى طيبة في كتابه «رسائل إلى حبيبتي» يحدِّد تاريخ هذا الحادث بليلة أول يوم من عام ١٩٦٤. وترجِّح كافَّة الملابسات هذا التحديد؛ لهذا أجَّلتُ الإشارة إلى الموضوع حتى ذلك اليوم.

(٤٥) كنتُ قد أقبلتُ على دراسة مرجعٍ أكاديمي روسي بالإنجليزية عن هذا العلم، وشرعتُ في إعداد قاموس لمصطلحاته في أوراقٍ صغيرة، وقد استثارَتْني الإمكانيات الروائية لتركيب الجسم الإنساني وتفاعلات وظائفه. وهو اهتمام بقي معي وقتًا طويلًا واتسع ليشمل عالم الحيوان بصفةٍ عامة، ووجد أحد تجلِّياته في ست رواياتٍ وأكثر من أربعين قصةً قصيرة كتبتُها عن سلوك الحيوانات والحشرات. وربما كانت هذه العبارة من مقدِّمة المرجع.

(٤٦)
ألكسندر فادييف (١٩٠١–١٩٥٦) من أبناء الرعيل الأول من الكُتاب السوفييت. تولَّى رئاسة اتحاد الكتاب السوفييت في الخمسينيات. وصدرَت «الهزيمة» عام ١٩٢٧، وتروي بأسلوبٍ واقعي تجربة فصيلة من فصائل الأنصار الحمر تشُقُّ طريقها فوق تلال وغابات ومستنقعات التاييجا هربًا من قوات القوزاق المعادية. ويقول فادييف: «إن هزيمة الفصيلة لا يعني هزيمة القضية التي كافح من أجلها الأنصار؛ فهم يبنون بالتدريج معنوياتٍ أقوى خلال المعارك.»
(٤٧)
مالكولم لوري (١٩١٩–١٩٥٧) كاتبٌ إنجليزي من جيل هيمنجواي وفيتزجرالد، تأثَّر عمله بإدمانه للكحول.
(٤٨)
قصة القِدْر قرأتُها في الطفولة، وأثارت إعجابي بعدل عمر بن الخطاب وتعاطُفه مع الفقراء. وتدور القصة، أو النادرة، حسب ما أتذكَّر، حول لقائه بأعرابية تُطعِم أطفالها من قِدْرٍ فارغ وُضع فوق النار. أما قصة «الوفاء» فتدور حول أعرابي حُكم عليه بالموت لأمرٍ ما، وافتداه آخر بحياته حتى يقوم بشأن من شئونه ويعود في نهاية اليوم. وغربَت الشمس دون أن يظهر أثَر للأعرابي الأول. وعندما أيقن الثاني أنه فقد حياته نتيجة شهامته، انتشر الغبار في الأفق. وسرعان ما ظهر الأعرابي وهو يقترب مسرعًا. ولم أكن أملُّ قراءة هذه النادرة، ولم تبرَح ذهني حتى اليوم صورة الأعرابي وهو يقترب لاهثًا، مثيرًا الغبار من حوله، مُعرِّضًا نفسه للموت في سبيل الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه.
(٤٩)
في يوليو ١٩٦٣ صرَّح عبد الناصر لمندوب جريدة اللوموند الفرنسية إيريك رولو (الذي وُلد ونشأ بمصر) بأنه ينوي الإفراج عن الشيوعيين وأنه يدعوهم للانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي العربي ليُسهِموا بنشاط في بناء الاشتراكية. وكان هذا التصريح أوَّل اعترافٍ رسمي منذ سنوات بوجود معتقلين؛ فقبل ذلك بشهور وفي مؤتمرٍ صحفي عالمي أنكر عبد الناصر وجودهم متجاهلًا أكثر من ٦٠٠ معتقل غير مائتَي مسجونٍ سياسي.
وأثار هذا التصريح مناقشاتٍ واسعة في الواحات، وضاعف من حالة التوتُّر السائدة لدى المعتقلين، بالذات الذين يمكنُ الإفراج عنهم في أية لحظة على عكس المسجونين المحكومين بمددٍ محددة، فصاروا في حالة هياجٍ دائم انعكس على إهمالهم لنظافة عنبرهم (الذي أُطلق عليه اسم عنبر «الطلاينة»)، ولملابسهم التي أصبحَت شبه ممزَّقة، كما انعكسَت على المعنويات المُضعضَعة للبعض، والتي عبَّرَت عنها الصيحة الشهيرة ﻟعبد الملك خليل — الذي صار فيما بعدُ المراسل الدائم لجريدة «الأهرام» في موسكو — «أي حاجة زي أي حاجة». وصار من العسير عليَّ الاستمتاع بنوم القيلولة أو الحصول على فرصة للتركيز الذهني في الكتابة أو القراءة. وفي تلك الفترة تمثَّلَت لي فكرة الحرية في شيءٍ واحد فقط هو القدرة على التحكُّم في الضوء والصوت.

(٥٠) مجموعة من كتب مشروع «الألف كتاب» العظيم التي قرأتُ إعلانًا عنها في الصحف. لاحظ الأسعار الغريبة!

(٥١)
أغلب الظن أن جان بارازان كاتب سوفييتي من الموجة الجديدة. أما الإضافة التي أشرتُ فيها إلى سومرست موم فلعلها تعني أيضًا بعض التغيُّر في نظرتي إليه.
(٥٢)
لا تقتصر عبقرية السينمائي السوفييتي سيرجي أيزنشتاين (١٨٩٨–١٩٤٨) على الإخراج فهو أيضًا مخترع ومنظِّر. وقد شهد مرحلة ازدهار الفنون والسينما في بداية العهد السوفييتي. كما شهد تدهورها بعد عام ١٩٢٥ وتأثَّر به. ابتكر مع تسيجا فيرتوف وبودوفكين مفهوم المونتاج، مستلهمين المادية الجدلية في عملية تركيب الفيلم، وطبَّقه لأول مرة في فيلم «المدرعة بوتومكين» (١٩٢٥) الذي يعتبر إلى اليوم على رأس أعظم الأفلام في تاريخ السينما. وهو آخر فيلم كانت له عليه السيطرة التامة؛ فقد تدخَّلَت الرقابة في فيلم «أكتوبر» (أو «عشرة أيام هزت العالم») الذي تلاه لحذف بعض الشخصيات مثل تروتسكي، وبعض الأحداث مثل خطبة لينين التي أزالها ستالين بنفسه لأنها «ليبرالية لا تُناسِب اليوم»، كما قال.
وبعد زيارةٍ فاشلة لهوليوود تعاقد مع أبتون سنكلير على تصوير فيلم عن المكسيك. لكنهما اختلفا فشكاه الكاتب الأمريكي لستالين. وبدأ يتعرض للهجوم بحُجة اهتمامه بالشكل على حساب المضمون في فيلمَي «بوتومكين» و«أكتوبر». وفي عام ١٩٤١ بدأ العمل في فيلم «إيفان الرهيب» عن القيصر الروسي الذي وحَّد روسيا في أمةٍ واحدة في القرن السادس عشر، بعد أن قضى على طبقة النبلاء بوحشيةٍ بالغة. عُرض الفيلم في عام ١٩٤٥ وبدأ يعمل في جزءٍ ثانٍ منه، صوَّر فيه إيفان كشخصيةٍ مأساويةٍ ممزَّقة بين إنسانيتها ووحشيَّتها؛ الأمر الذي يصيبه بجنون الخوف فيزداد اعتماده على الأجهزة الأمنية. وكانت الإشارة إلى ستالين واضحة، فأصدرَت اللجنة المركزية قرارًا بإدانة الفيلم وحظر عرضه. وبعد ذلك بسنتَين أُصيب بأزمةٍ قلبية قضت على حياته.

(٥٣) لا أعرف مصدر هذا الاقتباس. وهل أضفتُ إليه شيئًا بالعبارة الأخيرة عن السجن؟

(٥٤) ربما كان «تقارير» كتابًا سوفييتيًّا.

(٥٥)
لا أتذكَّر من هو «ع» هذا الذي أعطاني هذا الشعور الرائع، ومكَّنَني من التعبير عن سذاجة البدايات!
(٥٦)
تميَّز الكاتب الأمريكي أبتون سنكلير (١٨٧٨–١٩٦٨) بغزارة الإنتاج الذي تبدَّى في رواياتٍ ملحمية دارت أحداثها في بلدانٍ عديدة وتناولَت التطورات العالمية قبل وخلال الحربَين. وكان يتمتَّع بالثراء وتأثَّر بالأفكار الاشتراكية في بداية عمله.

(٥٧) لا أعرف ما إذا كان هذا القول اقتباسًا أم يعبِّر عن إحدى شطحاتي الفكرية! فعصر الثورة الاجتماعية لم يَنتهِ حتى الآن ولا يبدو أنه سينتهي في يوم من الأيام! ثم إنه لا معنى لاستبعاد إمكانية التعايُش بينه وبين «عصر كشف الكون»!

(٥٨)
بدأ جورج لوكاتش (١٨٨٥–١٩٧١) حياته فيلسوفًا هيجيليًّا ثم أصبح شيوعيًّا بعد ثورة ١٩١٧. انضم إلى الحزب الشيوعي المجري، وعكف على تطوير أفكار لينين الفلسفية. تميَّز أول كتابٍ له بعنوان «التاريخ والوعي الطبقي» بالتطرف اليساري الذي حذَّر منه «لينين». وفيما بعدُ تخلى عن هذه الأفكار. وقضى فترة الحرب العالمية الثانية لاجئًا بالاتحاد السوفييتي ثم اشترك في تشكيل الحكومة المجرية الجديدة بعد الحرب كعضو في الحزب الشيوعي المجري، وتعرض للانتقاد الشديد من الحزب في ١٩٤٨ ثم رُدَّ إليه اعتباره في الخمسينيات. وفي ١٩٥٦ أصبح وزيرًا في الحكومة الشيوعية التي رأسها إيمري ناجي وعارضَت الاتحاد السوفييتي. وبعد أن سحقَت القوات السوفييتية هذه الحكومة أعلن نقدًا ذاتيًّا لموقفه، وحافظ على عضويته بالحزب حتى وفاته، بالرغم من انتقاده للاتحاد السوفييتي بعد أحداث ربيع براغ ١٩٦٨.
ساهم في النقد الأدبي بكتابٍ مبكِّر عن نظرية الرواية. ثم بكتاب «كافكا أم توماس مان» الذي اعتبر فيه عمل الأخير محاولةً متميزة لتناول إشكالية الحداثة. وعارض الكُتاب الحداثيين من أمثال كافكا وجويس وصامويل بيكيت مفضِّلًا الجماليات التقليدية للواقعية. وفي كتاب «الرواية التاريخية» دافع عن الطابع الثوري لمؤلَّفات والتر سكوت وبلزاك لأنهما عارضا صعود البرجوازية (ولو من منطلقٍ رجعي).
(٥٩)
حقَّق إرسكين كالدويل (١٩٠٣–١٩٨٧) شهرةً واسعة بأولى رواياته «فدان الله الصغير» بسبب واقعيَّتها التي أفرزَتها سنوات الأزمة الاقتصادية الأمريكية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وبرز خلالها كُتاب تأثَّروا بالأفكار الاشتراكية مثل شتاينبك ودرايزر ودوس باسوس وأبتون سنكلير.
(٦٠)
يتناول هذا الكتاب إبداع كلٍّ من جون سان برس وكافكا وبيكاسو من خلال نظرةٍ نقدية تتسم بالرحابة وسَعة الأفق. وقد ترجمه حليم طوسون في السجن بالتعاون مع فؤاد حداد الذي راجع الترجمة. ونشرَته الهيئة العامة المصرية للكتاب سنة ١٩٦٨.
وكان جارودي (وُلِد ١٩١٣) من زعماء الحزب الشيوعي الفرنسي وأيَّد حركة اليسار الجديد في ١٩٦٨. ثم تخلى تمامًا عن شيوعيته وتحوَّل إلى الكاثوليكية ثم الإسلام. وخلال ذلك وضع خمسين مؤلَّفًا. وفي عام ١٩٩٨ قُدِّم للمحاكمة طبقًا لقانون جاسيو بسبب ما ورَد في كتابه «الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية» وحُكم عليه بغرامةٍ مقدارها خمسون ألف دولار. وقد صدَر هذا القانون عام ١٩٩٠ ونصَّ على تجريمِ ما سمَّاه بالتشكيكِ فيما انتهت إليه محاكمة نورمبرج من تحديد عدد ضحايا النازية من اليهود بستة ملايين يهودي.
وكان كتابه «الاقتصاد مُحرِّك التاريخ» من الكتب الأُولى المترجمة التي اشتُهرَت في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية باسم «سلسلة الكتب الخضراء» وهي أول جهدٍ مكثَّف في الوطن العربي لترجمة الأدبيات الماركسية (البيان الشيوعي، بعض مؤلَّفات ماركس وإنجلز ولينين ومؤلَّفات ستالين حول التنظيم والمادية الجدلية) وقامت بها «الحركة المصرية للتحرُّر الوطني» (حدتو فيما بعدُ) التي خصَّصَت قسمًا كاملًا من أعضائها لهذه الترجمة بإشراف الدكتور فؤاد الأهواني وفوزي جرجس. وكانت الترجمة دقيقة وتُراجع بدقة بواسطة متخصصين في اللغتَين العربية والإنجليزية، بل وبعض أعضاء مجمع اللغة العربية.

١٩٦٤

(١)
كانت ليلةً حافلة حقًّا، بلغ فيها التوتُّر أقصاه. في الصباح وصلَت السجن — لزياراتٍ عائلية — خمس سيدات أُفرج عنهن منذ أيام من سجن القناطر من بين حوالي ٤٠ واحدة من المعتقلات يمثِّلن إحدى الظواهر المضيئة في التاريخ المصري الحديث. وكان الإفراج عنهن مؤشرًا هامًّا على سير الأحداث؛ إذ إنها المرة الأولى التي يُفرَج فيها عن مجموعةٍ كاملة مرةً واحدة دون قيد أو شرط.
وفي الصباح أيضًا وافق مأمور السجن على فتح الأبواب داخل العنبرَين حتى منتصف الليل. وكان الجميع قد استعدُّوا للاحتفال بالسنة الجديدة بالسكر والشاي والسجائر. وأعد البعض في تكتُّم عدة زجاجاتٍ من اﻟ «هوبهوب» (مشروب من العسل الأسود والمياه أُذيبَت فيه بضعة أقراصٍ من خميرة البيرة، ثم عُبِّئ في قنيناتٍ أُغلقَت بإحكام ودُفنَت في الأرض عشرة أيام. ويصبح المزيج بعد هذا الوقت نوعًا رديئًا من الخمر لا يُحدث أثرًا كبيرًا) لكن الجميع كانوا سكارى فعلًا بجو الترقُّب.
وفي الساعة الثامنة مساءً جرى «التمام» كالعادة؛ إذ دخل كل النزلاء إلى زنازينهم، وأُغلقَت أبوابها، ثم قام مندوبوهم بإحصاء عددهم نيابةً عن الحراس والضباط، وبعد إبلاغ المأمور بالنتيجة أبلغها لرؤسائه في القاهرة. وعندئذٍ فُتحَت الأبواب من جديد وغادر النزلاء العنابر واتجهوا إلى المسرح.
بدأ الاحتفال بمسرحية عن روزنبرج وزوجته أثيل، العالِمَين الأمريكيَّين اللذَين أُعدما في بداية الخمسينيات بتهمة نقل أسرار الذرة إلى الاتحاد السوفييتي، تبِعَتها رقصاتٌ نوبية أدَّاها زكي مراد ومحمد مختار وخليل قاسم ومحمود شندي بمصاحبة طبلة وغناء محمد حمام.
وفي الثانية عشرة مساءً أُطفئَت أنوار المسرح دقيقةً أُضيئَت بعدها على الشاعر محمود شندي فألقى قصيدة أعقبها نشيد «بلادي بلادي»، واستعد الجمهور لمشاهدة مسرحية «حلاق بغداد» كما هو مقرر، لكن الستار أُسدل وأُعلن انتهاء الحفل الرسمي وبداية الحفلات الحرة داخل العنابر.
وكانت هناك مسرحيةٌ من نوعٍ آخر تدور في الخفاء طيلة الساعات الأخيرة؛ فأثناء «التمام» اكتشف المندوبون نقصًا في العدد. وأُعيد الإحصاء فتأكَّد الأمر. وفي المرة الثالثة تبيَّن اختفاء اثنَين، هما الدكتور المحامي إبراهيم أرنست هراري وعامل النسيج محمد عويضة. واستبعد الزملاء أن يكون الاثنان قد هربا من السجن. فأخفَوا الأمر عن الحُراس، وبدأ البحث عنهما قرب السور الخارجي وفي المزرعة و«حمَّام السباحة»، دون أن يُعثر لهما على أثَر.
اجتمعَت القيادات لبحث الأمر؛ فلا مفر من إبلاغ الإدارة بالحادث، وعندئذٍ ستُفرض حالة الطوارئ ويتم «تكدير» السجن؛ أي عقاب كل نزلائه وتأديبهم وتجريدهم من أي امتيازاتٍ يتمتَّعون بها. وعُهد إلى مجموعةٍ محدودة من الزملاء بجمع وإخفاء الكتب والأوراق وأجهزة الترانزستور، وغير ذلك من الممنوعات الرسمية، استعدادًا للمحنة القادمة، فقضَوا الليل بطوله في تنفيذ هذه المهمَّة الشاقة، بينما واصل الباقون الذين لم يعرفوا بما حدث احتفالاتهم، وألَّفوا مظاهراتٍ صاخبة في طرقات العنابر تردَّدَت فيها أغاني سيد درويش. وحملوا فؤاد حداد فوق أكتافهم وهو يُردِّد قصيدته الساخرة القصيرة عن الطاقية الشقيَّة التي «من شقاوتها بقت طرطور» … «كان ليَّه طاقية شقية … من شقاوتها بقت طرطور … طارطور. اعرضِّ العرض وطال الطول … طارطور». ونفَّس المتظاهرون عن مشاعرهم فحوَّلوا كلمة «طرطور» إلى «مأمور»! ثم تولَّى آخرُ إنشاد الزجل المذكور في المتن «ليه تيجي هنا في جهنم …» وهو على ما أظُن من تأليف عاملٍ بسيط من بورسعيد يُدعى رجب سيخا. وكان قد أُفرج عنه قبل هذا التاريخ مع أفراد المجموعة الصغيرة التي نجح المصيلحي في إقناعها بتوقيع إقرار بعدم الاشتغال بالسياسة.
وعندما ذاع النبأ في اليوم التالي اكتشف الجميع فجأةً أنهم لا يعرفون الكثير عن هراري، ليس أكثر من أنه مصريٌّ يهودي ومحامٍ معروف للشركات الكبيرة، يعمل في مكتبه أربعون محاميًا، بالإضافة إلى معرفته العميقة بالحضارة الفرعونية وآثارها. وكان في العقد الخامس، شديد الانطواء، لا يسمح لأحد بالاقتراب منه أو الحوار معه فيما عدا أفرادًا قلائل للغاية بينهم عادل مائير (الذي يعيش الآن في فرنسا بعد أن التحق بالعمل في المجلة التي تُصدِرها منظمة اليونسكو). ورغم أنه كان يسكن في الغرف المخصَّصة لأحد التنظيمات إلا أنه احتفظ باستقلاليته، ولم يُبدِ أبدًا ما يدل على مشاركته لهذا التنظيم في أفكاره أو نشاطاته، فيما عدا إلقاءه لبعض محاضراتٍ عامة في التاريخ الفرعوني والاقتصاد المصري فسَّر فيها الإجراءات الاقتصادية الناصرية بأنها تدعيم لسلطة الرأسمالية الاحتكارية. وكان حريصًا على أن يؤكِّد فقره وأن يبدو معتوها. فكان يُصِر على القيام بالأعمال غير المحبَّبة مثل إحضار الخبز من الفرن وإلقاء القمامة خارج سور السجن. وتصوَّر الجميع أنه يفعل ذلك ليحصل على أفضل الأرغفة وعلى النصيب الإضافي المخصَّص لهذه المهمَّة بينما كان في واقع الأمر يخطِّط لهروبه منذ أول لحظة.
وقد وصف حسن المناويشي في كتابه الشيِّق برنامج هراري اليومي في الشهور الأخيرة من الحبس، فقال إنه كان يذهب وحيدًا إلى المزرعة وقد ارتدى ملابسَ غيرَ نظيفة ومهلهلةً جدًّا تكشف عن بعض أجزاء من جسده، وحمل تحت إبطه لفَّة قَذِرة من القماش يستخرج منها أثناء سيره قطعةً من الخبز يأكل منها وهو يسير ببطءٍ شديد في خطٍّ متعرج. وفي المزرعة يختار مكانًا معينًا يجلس فيه بمفرده بعد أن يحصل على كمية من الخضراوات الطازجة (الطماطم والفول والبصل والفجل). وعندما تنطلق صفارة الحراس إيذانًا بانتهاء العمل يبدأ في التحرك في تكاسُل صوب حوض المياه فيطيل الاستحمام، ثم يغتسل في مياه القناة الصغيرة القادمة من ماكينة البئر مباشرة، ثم يعود وحده إلى السجن دون أن يعبأ به أحد، بعد أن اعتاد الجميع منه هذا السلوك اليومي. وكان هذا البرنامج يشتمل أيضًا على تمريناتٍ سويدية ورفع أثقالٍ يمارسها خلف مبنى المسرح، بل إنه ابتكر عدة أوزان بواسطة صفائح الجبن الخالية التي صَبَّ فيها كمية من الصلصال. وكان يهتم كثيرًا بتقوية عضلات ساقيه وبطنه.
وقال مصطفى طيبة في مذكِّراته عن تلك الفترة إن أحد الحراس أعطاه ذات يومٍ ورقةً قصيرةً ملفوفة وطلَب منه توصيلها إلى الدكتور هراري؛ لأنه مسافر حالًا وليس لديه وقت للبحث عنه أو انتظاره حتى يحضر كعادته لاستلام الخبز. وكانت الورقة تحوي ١٠٠ جنيه وقصاصةً مكتوبةً بلغةٍ غير مفهومة.
تم إبلاغ المأمور في مساء نفس اليوم، وأصدر الإجراءات المعتادة في هذه الظروف؛ إعلان حالة الطوارئ، وإغلاق الزنازين، وإخطار مصلحة السجون لاسلكيًّا، وتعبئة قوة لمطاردة الهاربين وإطلاق تكديرة للنزلاء تحرمهم من كل ما استطاعوا الحصول عليه من امتيازات. وفي العادة تتضمَّن هذه «التكديرة» تأديب جميع النزلاء بالضرب والجلد.
واتضح بعد قليل أن الهاربَين دبَّرا مشروعهما بمعزل عن بقية النزلاء. ولم يكن من العسير تفسير العلاقة بينهما؛ فالمحامي ذو ملامحَ أجنبية ولا يُجيد الحديث بالعربية؛ ولهذا كان في حاجة إلى رفقة زميله ذي الملامح المصرية الصميمة. ولم يكن الأخير ذا شأن في النشاط السياسي والحزبي فرحَّب بالاشتراك في المغامرة. وتعدَّدَت التفسيرات لكيفية الهروب؛ منها أنه تم بسيارة كان يجري تبديلها في كل مرحلةٍ من الطريق إلى القاهرة ثم الإسكندرية حيث استقل هراري الباخرة إلى فرنسا بجواز سفرٍ فرنسي. وذهب إلهام سيف النصر في كتابه إلى أن أُسرة هراري الثرية دبَّرَت له — في الغالب — طائرةً خاصةً صغيرة حملَته خارج البلاد.
لكن اللغز الحقيقي ليس هو كيفية الهرب وإنما الدافع إليه؛ فقد كانت كل المؤشِّرات تبشِّر بقرب الإفراج عن الجميع، بل إن أول دفعة من معتقلي الواحات المُفرَج عنهم دون شروط وكانت من خمسين معتقلًا لم تلبث أن غادرت المعتقل قبل أن ينصرم الشهر. وأذكر أن هراري استوقفَني في اليوم الذي ذاع فيه نبأ حديث عبد الناصر مع الصحفي الفرنسي إيريك رولو في شهر يوليو ٦٣؛ أي قبل ستة أشهر من هروبه، والذي وعد فيه بالإفراج في القريب العاجل عن كافة المعتقلين الشيوعيين. وسأَلني عن تفاصيل الخبر ثم ابتَعد وهو غارق في التفكير. وحتى الآن لا يعرف أحدٌ الإجابة على هذا السؤال: لماذا يتجشَّم واحدٌ كل هذا العناء لتحقيق أمرٍ صار مؤكدًا وتحقَّق بالفعل بعد شهورٍ قليلة من الهرب؟ وفي بداية التسعينيات وجَّهتُ هذا السؤال إلى زوجته بوليت في مسكنها الأنيق بأحد أحياء باريس البرجوازية فادَّعَت أنها لا تعرف شيئًا عن الأمر كله.
(٢)
وُلِد يوجين يونسكو (١٩٠٩–١٩٩٤) في رومانيا، ونشأ في فرنسا ثم استقر بها بعد الحرب العالمية الثانية. وفي عام ١٩٥٠ بدأ يتعلم الإنجليزية، وسرعان ما لاحظ أن الحوارات التعليمية البسيطة التي سجَّلها فقدَت بتكرار القراءة هويتها الأصلية وتحوَّلَت بعد قليل إلى شكلٍ من «البارودي»، فنقل هذه التجربة إلى أولى مسرحياته «المغنية الصلعاء» في ١٩٥٠ التي رحَّب بها جان أنوي. وتَبعَتها «الخراتيت» و«الكراسي»، وغيرها من المسرحيات التي تخلَّى فيها عن الحبكة المنطقية وتطوُّر الشخصية وكل قواعد الدراما التقليدية خالقًا شكلًا فوضويًّا من الكوميديا. ووصَف النقادُ عملَه في ذلك الحين بأنه يعبِّر عن «خلو الوجود الإنساني الحديث من المعنى في عالمٍ تحكُمه الصدفة.»
وقد ترجمتُ له بعد خروجي مباشرة «الكاتب ومشاكله» التي نُشرَت في مجلة «المجلة» (يناير ١٩٦٥) ثم «ملاحظات وملاحظات مضادة»، ونُشرَت في نفس المجلة (سبتمبر وأكتوبر ١٩٦٥).
(٣)
الحديث مرةً أخرى عن الموضوع الذي تناولَته رواية «نجمة أغسطس» (صدرَت عام ١٩٧٤ عن اتحاد الكُتاب العرب في دمشق).

(٤) المؤرخ الأمريكي الشهير (١٨٨٥–١٩٨١) صاحب موسوعتَي «قصة الحضارة» و«قصة الفلسفة».

(٥) قسٌّ وشاعرٌ ميتافيزيقي من القرن السابع عشر.

(٦)
يُعتبَر أندريه تاركوفسكي (١٩٣٢–١٩٨٦) أشهر سينمائيٍّ سوفييتي. وقد كان فيلمه الأول «طفولة إيفان» من علامات «ذوبان الجليد» في الاتحاد السوفييتي.

(٧) المحاولة الشعرية الثانية البائسة. ويبدو أني علَّقتُ عليها أهميةً ما لأني ذيَّلتُها بتاريخ اليوم الذي كتبتُها فيه!

(٨) الحديث مرةً أخرى عن «الرجل والصبي والعنكبوت» التي كتبتُ منها عدة فصولٍ ولم أُتمَّها، وإن ظل الموضوع يُخايلني حتى الآن بعد أربعين سنة.

(٩) لم أُنجز من رواية «عن الأغاني والشكولاتة» غير بضعة فصول نُشرَت عقب الإفراج عني كقصصٍ قصيرة.

(١٠) الإشارة في الغالب هي إلى رواية «الرجل والصبي والعنكبوت» التي قام الزملاء بتهريبها، وسُلِّمَت إلى أختي التي تصغرني بخمس سنوات. ويبدو أن الرسالة كانت تشير بعد ذلك إلى طلباتي منها؛ وهي علبة حلاوة طحينية وكيس شاي وبضع علب سجائر (كنتُ أحدِّد هذه الطلبات طبقًا لتعليمات «الحياة العامة»). ولَقِيَت رسائلها رواجًا كبيرًا بين النزلاء لأنها كانت أشبه بالمجلة؛ إذ احتوت على رسومٍ كاريكاتورية من مجلة «صباح الخير» و«حواء»، ونكات وحكايات.

(١١)
تشير الرموز الأولى إلى أحد زعماء الطلبة أيام الملك. وقد سِرتُ خلفه في المظاهرات المعادية للملك أمام جامعة القاهرة سنة ١٩٥٢. وكانت له طريقةٌ شهيرة في الهتاف، واكتسب هيئةً زعامية في الحديث والسلوك. ويبدو لي أنه كان في «الطليعة الوفدية» في ذلك الحين، أو في التنظيم الشيوعي الذي ارتبط بها. وكان بين المعتقلين، لكنه كان منزويًا تمامًا رغم احتفاظه بهيئته الزعامية. ويُخيَّل إليَّ أنه فقد وضعه الزعامي داخل المعتقل؛ إما لقدراته الذهنية أو لسببٍ آخر. وفي الشهور الأخيرة عندما صارت الزنازين مفتوحة طُولَ الليل تعوَّد أن يتجه إلى دورة المياه في ساعة متأخرة من الليل، ثم ينظِّف حوضًا ويغسل فيه ثيابه الداخلية، ويتركها منقوعة في المياه حتى الصباح. وعندما جاء ذات صباح لاستعادتها فُوجئ بها مُلقاةً على الأرض. وتكرَّر الأمر في المرة التالية. وربما كانت صيحته «حاتجنن. حاتجنن» نتيجة هذا الموقف أو لسببٍ آخر.
أما «قصة مشمش» فلعلَّها تكون قصة قدري شعراوي التي سبقَت الإشارة إليها. ولا أذكر المقصود بالعبارة الأخيرة، وربما تشير إلى شخصيته.
(١٢)
«عالمٌ غريب» هي العبارة التي بدأتُ أستخدمها — هنا وفي فِقراتٍ أخرى — للتعبير عن فكرة سيطرَت عليَّ بالنسبة للكتابة الروائية؛ وهي إمكانية استخدام مواقفَ واقعيةٍ بعد تجريدها من الزمان والمكان. مثلًا الحديث عن سكان زنزانة فوق أسرَّتهم الحديدية التي يتألَّف كلٌّ منها من ثلاثة طوابق دون الإشارة إلى أن هذه الأَسرَّة في زنزانة سجن. وما زالت هذه الفكرة تُطارِدني حتى الآن وكانت هي نقطة الانطلاق في رواية «اللجنة»، ١٩٧٩.
وتناقش هذه الفقرة فكرة «النقد الذاتي» التي يُمارِسها الشيوعيون بجدية من أجل تطوير شخصياتهم ونضالهم وأحيانًا ما يتم ذلك بمبالغةٍ شديدة تصل إلى درجة التطهُّر المسيحي. ومن الواضح أنها تتضمَّن كلمةً لأحد المشاركين في اجتماعٍ حزبي. وربما كانت في اجتماعٍ عام بمناسبة انتقال أحد أعضاء التنظيمات الأخرى إلى حدتو (وهي ظاهرةٌ انتشرَت في الشهور الأخيرة نتيجةَ تفكُّك التنظيمات الأخرى وتخبُّطها السياسي من ناحية وتأكيد التطوُّرات لسلامة خط حدتو السياسي من ناحيةٍ أخرى) إذ جرى التقليد على أن يُلقي بكلمةٍ عامة يتحدَّث فيها عن أسباب الخطوة التي اتخذها، والتي تكون أشبه بميلادٍ جديد. وأنا أرجِّح الاحتمال الأول؛ فواضح أنني سجَّلتُها من ورقةٍ لعلَّها كانت جزءًا من تقريرٍ حزبي داخلي.
(١٣)
فهيم العابد هو الشخصية الرئيسية في مسرحية «الخبر» التي كتبها صلاح حافظ في السجن. أعتقد أني وضعتُ علامة التعجُّب في نهاية المقتطف تعبيرًا عن عدم اقتناعي بهذا الحكم. وقد كتب صلاح حافظ أيضًا في السجن بعض القصص القصيرة وروايتَي «الترحيلة» و«المتمردون». وتروي الأولى قصة رحلة السجناء من القاهرة إلى الواحات. أما الثانية فتدور أحداثها في مصحة لأمراض الصدر.
وكان صلاح بالرغم من حجمه الضئيل وبنيته الرقيقة شحنةً من النشاط والإبداع المتواصلَين، ولعب دورًا بارزًا في دعم الروح المعنوية للسجناء بابتكاراته المتواصلة من خيال ظل ومسرحيات وصحفٍ هوائيةٍ جدية وفكاهية. وفي الفترة الأخيرة من الحبس امتنَع عن التدخين، ومارس التمرينات الرياضية اليومية استعدادًا للصراع المتوقَّع في الخارج.
انتهت مدة حبسه وهي عشر سنواتٍ في نهاية عام ١٩٦٣، فلم يَجرِ اعتقاله أوتوماتيكيًّا كالعادة، وإنما خرج مباشرةً إلى الحرية دون شروط، وكان هذا من المؤشرات الأولى على تقدُّم الحوار السياسي مع الحكومة. ولم يلبث أن التحق بجريدة «أخبار اليوم» ونشر بعض القصص القصيرة التي كتَبَها في بداية الحبس منذ سنواتٍ طويلة؛ ولهذا لم تعكس — فكريًّا أو تقنيًّا — ما طرأ على الواقع من تغيُّر. وأثارت واحدةٌ منها تساؤلاتٍ كثيرة؛ وهي عن تلاميذ مدرسة يتعرضون للعقاب على يد الناظر القاسي ثم يكتشفون في النهاية أنه كان يهدف إلى مصلحتهم!
ولا شك في أن مساندة زوجته له طيلة السنوات العشر قد لعبَت دورًا في دعم روحه المعنوية. وكانت رسائلها المنتظمة إليه حتى اللحظة الأخيرة تبدأ بهذه العبارة: «زوجي العظيم»؛ لهذا تعرَّض لهزةٍ شخصيةٍ عنيفة عندما اكتشَف عقب خروجه أن المدة التي فصلَت بينهما جسديًّا خلقَت مشاكلَ كثيرةً عسيرة الحل.
وربما كانت هذه الصدمة مسئولةً عما وقع له من تغيير؛ فقد انغمس كلية في العمل الصحفي الذي عشقه طيلةَ حياته، وصار رئيسًا لتحرير «روز اليوسف» بعد أحداث يناير ١٩٧٧. وألِف أن يأخذ موضوعات المجلة إلى منزله ويُعيد تحريرها بنفسه. وتوصَّل هو وعبد الرحمن الشرقاوي في تلك الفترة إلى صيغة فذة ﻟ «المعارضة المؤيدة». (فمثلًا عند مصرع الملك فيصل صديق السادات الذي قاد التحالف الرجعي ضد الحركة الوطنية العربية كتب عبد الرحمن الشرقاوي افتتاحية في ٣١ مارس ١٩٧٥ بعنوان «سلام على فيصل في الخالدين» متحدثًا عن «فيصل أكتوبر» وفيصل ما بعد ١٩٦٧). ثم اشترك صلاح في تأسيس جريدة «الأهالي» الناطقة باسم حزب «التجمع» وتولَّى رئاسة مجلس تحريرها. ولم يلبث أن انسحب منها قبل صدور العدد الأول في أول فبراير ١٩٧٨ عندما قرَّر الحزب معارضة زيارة السادات للقدس، وأسر إلى أصدقائه أن الرئيس السادات يتصل به كل صباح وأنه لا يستطيع أن يكون ذا وجهَين. وبعد ذلك فقَد توازُنه تمامًا وتولى الإشراف على تحرير المجلة النسائية التي أصدرَتها من روما سميرة خاشوقجي، شقيقة تاجر السلاح السعودي الشهير وأحد مهندسي الخطط الأمريكية للمنطقة العربية.
(١٤)
يبدو أن رءوف مسعد، عضو مجموعتنا الرباعية، قد كتب نصًّا مسرحيًّا استخدم فيه ما أسميتُه بتقنية «القفزة إلى المستقبل» (عكس الفلاش باك). ونبع هذا التعليق المفعم بالغرور من رغبتنا في تأكيد ذواتنا وابتداع «رؤية جديدة»، جاهلين أو متجاهلين أن الكاتب الإنجليزي ج. ب. بريستلي سبق أن تصوَّر عدة مصائر متنوِّعة لأبطاله.
أما «أ. ر.»، فهو في الغالب أحمد الرفاعي (١٩٢٠–١٩٩٩) الذي كان من قادة الحزب الشيوعي والمقاومة الشعبية السرية في بورسعيد، ونظَّم هو وعبد المنعم شتلة وسعد رحمي وآخرون، بالتعاون مع عدد من الضباط القريبين من عبد الناصر مثل كمال رفعت، ولطفي واكد ومحسن لطفي السيد، تهريب الأسلحة إلى داخل المدينة عن طريق بُحيرة المنزلة، وعمليات المقاومة داخلها التي تُوِّجَت بمظاهرةٍ حاشدةٍ تحدَّت الوجود البريطاني. ولم يحُل هذا دون القبض عليه في يناير ١٩٥٩ وتقديمه للمحاكمة، وظل في السجن حتى الإفراج عنه في العفو العام في منتصف ١٩٦٤، وكان يتميز بمزيجٍ جميل من الدهاء السياسي والنزعة العملية والعواطف الإنسانية والشهامة الريفية، ولا يميل — مثلي — إلى المناقشات النظرية المستفيضة والعقيمة في أغلب الأحيان.
والتعليق الأخير يعكس بعض القضايا الفكرية التي طرحَتها تجربة السجن والتعذيب، والتي دارت في أذهان الجميع دون أن يتمَّ التوصُّل إلى صياغةٍ واضحة لها.
وقد سبق أن أثار الوجوديون والشيوعيون هذه القضايا (رواية «الهزيمة» لفادييف وقصة «الحائط» لسارتر). وبينما تحصَّن الشيوعيون بفكرة الانتصار الحتمي في النهاية، دافع بعضُ الوجوديين عن فكرة المسئولية والكرامة الإنسانية في اللحظة الآنية بصرف النظر عما قد يحمله المستقبل من مفاجآت (ربما تبين أن ما أكافح الآن من أجله وأتحمَّل في سبيله العذاب كان وهمًا أو تغيَّرَت نظرتي إليه أو أن الشخص الذي أرفض الإدلاء بمعلومات عنه — وأتعرض في سبيل ذلك إلى ما لا يُطاق — خائن أو ليس له وجود، أو أن تحرير الوطن من العدو الخارجي قد أسفر عن وقوعه في يد طغمةٍ داخلية فاسدة وشريرة. ويمكن استعراض عشرات الأمثلة ومنها العمليات الانتحارية في حرب أكتوبر في ضوء النتائج المأساوية لهذه الحرب. ومنها أيضًا العمليات الاستشهادية للمقاومة الفلسطينية والتي يمكن معارضتها بالمقولة التالية: إن المعركة الحالية ليست نهاية المطاف؛ فهي طويلة ومتعددة الأشكال، وليس تحرير الأراضي الفلسطينية أو إقامة الدولة سوى إحدى مراحلها، لكن من ناحيةٍ أخرى قد يصبح الاستشهاد في لحظةٍ معينة الخيار الوحيد الضروري). وقد كان موضوع الحقيقة المطلقة والإيمان العقائدي محل اهتمامٍ كبير في هذه المذكِّرات كما سنتبيَّن في فقراتٍ تالية. (وقد أثار شي جيفارا بعض هذه القضايا في حواره مع مجلة «الطليعة» أثناء زيارته للقاهرة في ١٩٦٧ قائلًا إنها لم تُحسم بعدُ، وضرب مثالًا بالقائد الشيوعي وهل يكون موقعه في المعركة في مقدمة الصفوف أم في مؤخرتها من أجل الحفاظ عليه).
العبارة الأخيرة تصوِّر اتجاه تفكيري في ذلك الحين. وما زلتُ أعتقد أن التخلَّص من وهم الحقيقة المطلقة يساعد الإنسان على تعميق قناعاته وعلى سلامة اختياراته، ويعطيه قوةً أكبر على الحياة. ولا يحتاج اتخاذ موقفٍ ما إيمانًا أعمى بقَدْر حاجته لعمق الوعي بالحالة الإنسانية.
(١٥)
الأسماء الكاملة هي صلاح حافظ، فكري الخولي، حمزة البسيوني، رءوف مسعد.
(١٦)
بحكم إعادة تقويم النظام الناصري بعد باندونج والعدوان الثلاثي، وجد الشيوعيون فرصة لتأكيد موقفهم الجديد بالاشتراك في موكب للزهور في إحدى المناسبات سنة ٥٧ أو ٥٨ بعربة تمثِّل باندونج. وكنتُ بين الشباب الذي ساهم في تثبيت الزهور على هذه العربة المركونة في جراج بحي الزمالك. واشترك معنا محمود أمين العالم. وبعد سنة أو أكثر كان الجميع داخل السجن وتغيَّرَت مصائرهم جميعًا.
(١٧)
ألكسندر ألفريدوفيتش بك (١٩٠٢–١٩٧٢) كاتبٌ روسي شارك في الحرب الأهلية، وبدأ النشر وهو في السابعة عشرة من عمره. انضم عام ١٩٣١ إلى هيئة تحرير مجلة «تاريخ المصانع» بناءً على مبادرة أطلقها مكسيم جوركي تحت عنوان «لجنة لصيانة الذاكرة». نشر أُولى قصصه القصيرة عام ١٩٣٤. وتُعَد رواية «طريق فولكولامسك» (١٩٤٣) أشهر أعماله وأكثرها شعبية، وتميَّزَت بأسلوبها الدرامي المتوتِّر الذي يعتمد على العبارات القصيرة والحوار المقتضب ويتجنَّب الإسهاب، فوصفُ الطبيعة لديه لا يتجاوز عبارةً واحدة. وقد تمَّت ترجمتُها إلى لغاتٍ عديدة منها العربية التي قام بها محمد المعصراني (ويبدو من لغته أنه من عرب المشرق) وصدرَت عن دار «التقدُّم» السوفييتية في عدة طبعات. وهناك ترجمةٌ أخرى وزِّعَت على الجيش المصري في سنوات حرب الاستنزاف وخلت من اسم المؤلف وتاريخ النشر، ويبدو أثَر الطابع المصري في لغتها.
وتبدأ طبعة ١٩٧٥ من الترجمة العربية بمقدمة للمؤلف يشرح فيها ظروف كتابتها.
فعندما بدأَت الحرب صار مراسلًا حربيًّا. وشهد اختراق الألمان للجبهة الروسية واقترابهم من مشارف موسكو في أكتوبر ١٩٤١ إلى أن تصدت لهم فرقة الجنرال بانفيلوف ونجحَت في وقف تقدُّمهم عند قرية فولوكولامسك.
قرَّر بك أن يكتب القصة، فالتحق بفرقة الجنرال بانفيلوف في يناير ١٩٤٢، وتعرَّف على من اشتركوا في الموقعة وبينهم الضابط الشاب — من كازاخستانباورجان ماميش أوغلي. الذي تجري أحداث القصة على لسانه، والذي كان يكرِّر للكاتب: أنت لن تكتب الحقيقة.
بدأ بك الكتابة في صيف ١٩٤٢ فأخذ إجازة من عمله كمراسلٍ حربي، واستأجر غرفة في قرية بيكوفو قرب موسكو اعتكف فيها لهذا الغرض.
وذات يومٍ عرضَت له حاجة للذهاب إلى موسكو. وخوفًا على يوميات الكتابة وملاحظاتها ومسوَّداتها وعلى المخطوطة ذاتها التي أصبحَت شبه جاهزة، وضع كل هذه المواد في كيسٍ حملَه على كتفه وهو يقول لنفسه: هكذا آمن.
وفي موسكو عرَّج على البيت. وعندما ودَّعَته زوجته وهو عائد إلى البيت الريفي أعطته وعاءً من الصفيح به حَساء ونبَّهَته بصرامة: «إني أعرفك … ستغرق في التفكير وتنسى الوعاء في القطار.» فأقسم لها بألا يفعل.
يقول بك في مقدمة الطبعة العربية: «ركبتُ قطار الضواحي الذي انطلق بي إلى بيكوفو. وضعتُ بجانبي كيس الحوائج وعند رجليَّ الوعاء. وبالفعل غرقتُ بقوة في التفكير ورحتُ أفكِّر ولا أستطيع أن أهتدي إلى حل في كيفية صياغة الفصلَين الأخيرَين من القصة. وفجأةً سمعتُ فوق رأسي مباشرةً صوتَ مرافق الحافلة يقول: بيكوفو.
كان القطار قد توقَّف وتذكَّرتُ أن عليَّ ألا أنسى شيئًا ما … آه نعم، الوعاء، فأخذتُه وقفزتُ إلى الرصيف وتحرَّك القطار. وعندئذٍ فقط تذكَّرتُ الكيس الذي بقي في الحافلة. … لقد ذهب القطار بكل شيء؛ بالتسجيلات والمواد والمسوَّدات ومخطوطة الكتاب شبه الجاهزة.»
فشِلَت محاولات بك في العثور على كيسه، ولم يعُد أمامه سوى أن يكتب القصة من جديد. ولكنَّها الآن فقدَت طابعها الوثائقي بعد أن ضاع الأرشيف «فكان لا بد من إطلاق العنان للخيال، وكانت صورة البطل الرئيسي تزداد اكتسابًا لطابع الصورة الفنية وحقيقة الواقع تُخلي المكان لحقيقة الفن.»
احتفظ بك باسم البطل الحقيقي للقصة وهو ماميش أوغلي. وعرضَها عليه عندما انتهى منها.
أبدى أوغلي عدة ملاحظات؛ أنه لا يُحس في القصة بجو معركة موسكو، باللحظة التاريخية، وأن القصة لا تذكُر شيئًا عن الهزائم، وأنها تتحدَّث عن الخوف كأنه هولٌ مفاجئ يتخلَّص منه الجنود تمامًا، وهو ما يعتبره أوغلي غير صحيح.
ومرَّت سنواتٌ كثيرة تلقَّى أوغلي خلالها العلم في أكاديمية الأركان العامة، وأصبح معلمًا لفن العمليات في إحدى الأكاديميات العسكرية، ثم مرض مرضًا خطيرًا بسبب جرحٍ قديم أُصيب به في عموده الفِقري، وأخيرًا تقاعَد واستقر في موطنه كازاخستان وتفرَّغ للكتابة!
التقى الاثنان بعدها صُدفة. يقول بك: «رأيتُه لأول مرة بلباسٍ مدني … كان الزمن والمرض قد تركا أثرهما فيه. … وسألني: لماذا لا تكتب تكملةً لقصة «الرعب والجرأة»؟»
لكن بك كان يعمل فعلًا — منذ سنوات — في روايةٍ أخرى عن الشخصيات نفسها تتناول الهجوم الألماني الثاني الذي وقَع بعد شهور من توقُّف الهجوم الأول. وعلى العكس من الرواية الأولى التي كتبَها في بضعة شهور، استغرق العمل في الثانية قرابة عشرين عامًا إلى أن صدرَت عام ١٩٦٠ بعنوان «عدة أيام»،
(١٨)
المقصود المؤتمر الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفييتي في عهد خروشوف الذي أدان عبادة الفرد، وأطلق عملية ذوبان الجليد في المجتمع السوفييتي والفكر الماركسي.
(١٩)
الشخصية الرئيسية في رواية «الحرب والسلام» للكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي.

(٢٠) القائد الروسي الشهير الذي واجه نابليون وأرغمه على الانسحاب.

(٢١)
اشتُهِر الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك (١٨٩٨–١٩٧٠) بروايته الخالدة «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» (١٩٢٩)، التي استوحى فيها تجربته كجندي في الحرب العالمية الأولى، وقد كتبَها ببساطةٍ آسرة دون أن يلجأ إلى الكليشيهات التقليدية في موضوع الحرب. وكانت هذه الرواية بين الكتب التي أحرقها النازيون في ١٩٣٣. بعد نجاح روايته التالية «قوس النصر» (١٩٤٦)، هاجر إلى الولايات المتحدة وحصل على الجنسية الأمريكية، كتب رواياتٍ عديدةً أخرى مثل «وقت للحياة ووقت للموت»، و«ليلة لشبونة»، و«المسلَّة السوداء»، لكنها لم تحظَ بنجاحِ وشُهرة روايته الأولى.
(٢٢)
كتاب الشيوعية اليسارية واحد من أشهر كتب لينين التي يهاجم فيها الانحرافات اليسارية في الحركة الشيوعية.

(٢٣) وهي نفس نظرية التدريب المتَّبَعة في كل الجيوش؛ فالطريقة التي يعامل بها المجنَّدون الجدد تهدف إلى كسر الروح المدنية حتى تتم إذابتهم وإعادة تشكيلهم من جديد. وفي أحيانٍ كثيرة يتم ذلك عن طريق تقويض الإحساس بالكرامة الشخصية.

(٢٤)
ليست قضية الانضباط قاصرة على الجيش؛ فهو أيضًا العمود الفقري لأية جماعةٍ سياسية، خصوصًا إذا كانت سرية؛ إذ يصعب في هذه الحالة أن تُتاح لأعضائها المطارَدين من جانب السلطة مناقشة قرارات القيادات والاعتراض عليها. وفي حالة الثورة يصبح الأمر كالحرب؛ فالمستويات القيادية هي التي ترى الصورة الشاملة في كافة الأماكن؛ وبالتالي هي وحدها القادرة على اتخاذ القرار المناسب، ولا يتسع المجال أو الوقت لأي نقاش.
وتُلزم لوائح الأحزاب الشيوعية المستويات الدنيا بالخضوع إلى المستويات العليا فيما يُسمَّى بمبدأ «المركزية الديمقراطية». ويضمن هذا المبدأ أن تتم عملية اتخاذ القرار بديمقراطيةٍ كاملة أي بالأغلبية، ويصبح ملزمًا لمعارضيه. هذا من الناحية النظرية؛ ففي الممارسة كان الأمر مختلفًا في كثير من الأحيان؛ لأننا أولًا نتحدَّث عن بشر قد يتميزون عن زملائهم بثقافة أكبر وخبرة أكثر لكنهم في نهاية الأمر عرضة بدرجاتٍ متفاوتة للأهواء الشخصية. وكثيرًا ما تخضع عملية التصويت لضغوطٍ متعددة منها قوة شخصية أحد الأعضاء، أو سعيه وراء تأكيد سلطته وذاته بالالتجاء إلى وسائلَ غيرِ شريفة (من قبيل اختيار شخص لمهمةٍ خطرة — حسب تقليد أرساه النبي داود في «العهد القديم» — أو إرساله بعيدًا عن مدينته وأُسرته).
وقد عرفَت الحركة الشيوعية المصرية حالاتٍ مشابهةً في بداية نشأتها عندما كان قادتُها شبانًا في العشرينات من أعمارهم. وفي إحدى هذه الحالات قرَّرت قيادةُ منظمةٍ متطرفة في نهاية الأربعينيات — عُرفت باسم م ش م — أن يُطلِّق أحد الأعضاء زوجته بزعم أنها شُوهدَت مع شخصٍ مريب، في نظر هذه القيادة التي رأسَتْها أوديت حزان وزوجها سولومون (وقد غادر الاثنان البلاد إلى أستراليا بعد نجاح السلطة في تصفية المنظمة بالكامل وحامت حولهما شكوكٌ كثيرة).
واستخدم ستالين قانون «المركزية الديمقراطية» في تصفية خصومه. وتعرَّض هذا المبدأ للنقاش داخل الحركة الشيوعية العالمية في الستينيات بعد انتقاد ظاهرة عبادة الفرد. وكان الحزب الشيوعي الإيطالي مبادرًا بالدعوة إلى السماح بتكوين منابر داخل الحزب.
(٢٥)
تصوِّر حادثة بارامبايف الوضع في الجبهة السوفيتية بعد الاجتياح الألماني الصاعق في خريف ١٩٤١، الذي أوصل الجيش النازي إلى مشارف موسكو. وامتلأَت الطرق المؤدية إلى العاصمة بآلاف الجنود الهاربين والمتراجعين؛ فقد سيطر الخوف على الجيش الروسي وتولَّدَت لدى أفراده صورة العدو الذي لا يُقهر (وهو ما حدث أيضًا للجيش المصري في أعقاب هزيمة ١٩٦٧. ولم يتحقَّق انتصار أكتوبر ١٩٧٣ إلا بعد أن تغيَّرت صورته عن العدو).
جاء ماميش أوغلي من ألما-أتا عاصمة كازاخستان. وكان أول من التقاه في الجبهة هو جنرال اسمه «الخوف». وكان أول أمر له هو اعتقال الهاربين وتجريدهم من أسلحتهم.
يقول أوغلي: «كنتُ أقابل الهاربين وأنا صامت … كنتُ أعرف أن الخجل يعذِّبهم الآن … فكيف أُنقذهم من العار؟ هل أنا موقن أنهم لن يهربوا مرةً ثانية … ماذا أفعل معهم؟ هل أُقنعهم؟ أحدِّثهم؟ أصرُخ فيهم؟ أحبسُهم؟»
وبينما هو غارق في التفكيرِ دخل من أبلَغه أن الرقيب «بارامبايف» أطلق النار على يده.
يقول أوغلي: «كنتُ كثيرًا ما أمتِّع نظري برؤية الكازاخي بارامبايف وهو يفك الرشاش ويركِّبه بمهارة … وكنتُ أقول لنفسي …: «ها أخيرًا نحن الكازاخ نصبح كالروس شعبًا يفهم في الميكانيك!» وهكذا إذن … ظهر في كتيبتي أول خائن، أول شخصٍ يهرب من المعركة بجرح نفسه.»
ويسأل أوغلي نفسه: كيف يمكن أن ينهار جنديٌّ شجاع ونموذجي فجأة؟ ويُجيب: إنه الخوف، الرعب الذي شلَّ قدرته على التفكير.
(نفس الرعب الذي عرفتُه في معتقل أبي زعبل وشل قدرتي على التفكير وأنا واقف، مطرق الرأس، في حضرة، نعم في حضرة، الضابط يونس مرعي، أستمع إليه وهو يأمرني، نعم يأمرني، في غطرسةٍ أن أُدلي بشهادةٍ كاذبة.)
اتخذ أوغلي قراره في الحال. كان لا بد من درسٍ قاسٍ يؤكد «أننا جيش، وحدةٌ عسكرية».
أصدر أمره بتشكيل فصيلة إعدام وبجمع الكتيبة، وأعلن للجنود أمره بإعدام «الجبان الخائن لوطنه» رميًا بالرصاص.
«صحتُ: خائن در!
ونظر إليَّ بارامبايف للمرة الأخيرة بضراعة وتوسُّل، واندار على عقبَيه.
– على الجبان، خائن الوطن، الناكث بالعهد … فصيلة …
فارتفعَت البنادق إلى الأكتاف …
وشعرتُ فجأةً بشعور طاغٍ من الإشفاق على بارامبايف
في سنة ٤٢ عندما عكف بك على كتابة القصة كان يلتقي بالشاعر ألكسندر تفاردوفسكي (راجع الهامش رقم ٣٦) الذي كان حينذاك برتبة رائد ويعمل في الصحافة. وكان يقيم في شقته بموسكو ويكتب بحماسة كل صباح روايته الشعرية «فاسيلي تيوركين» التي أثارت له فيما بعدُ المشاكل مع الجناح المحافظ في الحزب والدولة.
قرأ عليه مسوَّدة الفصل الذي يصف فيه إعدام الجندي، فأصغى تفاردوفسكي بانتباه ثم قال: «نعم … كان من الواجب طبعا إعدامه … لكني أشعر بالشفقة على الجندي … إني أشفق على من يُعدَم …»
يقول بك وهو يروي الواقعة: «لم يقل أكثر من هذا. لكن كلمته حملَتني على التفكير … ماذا أفعل حتى لا يشعُر القارئ بالشفقة على الخائن أو الجبان؟
ولمعَت في خاطري هذه الفكرة: ماذا لو ضلَّلتُ القارئ بعض الشيء بأن جعلتُ بطلي باورجان يصفح عن الخائن؟ بذلك سأُعطي متنفَّسًا لشعور الشفقة، وعندما أُعيد القارئ إلى الواقع يتقبَّل حكم الآمر القاسي بهدوء وبلا شعور بالشفقة.
وهذا ما فعلتُ. كتبتُ صفحة «الصفح» — وهي صورة مرت مرورًا فقط في ذهن ماميش أوغلي. وأصبح الفصل غير ما كان. أصبح، كما أعتقد، أقوى.»
ونلاحظ أن بك لم يناقش صحة قرار الإعدام من عدمه.
(٢٦)
قال بريخت يومًا: «تَعِسةٌ هي الأمة التي تحتاج إلى أبطال.» أي لمن ينوب عن الغالبية في القيام بفعلٍ خارق لمصلحتها. وفي رأيي أن البطولة (السوبرمان) وضعٌ استثنائي ساهمَت المخيِّلة الشعبية في خلقه. إن فكرة البطل الذي لا يُقهر في دفاعه عن الحق والعدالة تستجيب لرغبة كلٍّ منا في أن يفعل ما هو صائب دفاعًا عن مصالحه ومعتقداته وانتصافًا لحقوق أقرانه من المظلومين والمستبعدين. لهذا نمجِّد من يصمد أمام التعذيب وهو أمر يعجز عنه أغلبنا. بالطبع هناك في التاريخ أمثلةٌ عديدة للبطولة (أقربها إلينا في فيتنام وفلسطين والعراق) تستحق كل تقدير، ويجب السعي للاقتداء بها، لكن يجب ألا نبتئس عندما نفشل في ذلك؛ فالوضع الأمثل هو أن يشترك الجميع في عملٍ جماعي ضد الطغيان لا أن يتركوا الأمر في ذلك لمندوبين عنهم (لا تلغي هذه النظرة دور الطليعة التي تشكِّل أكثر أقسام الجماعة وعيًا بما يجب عمله لكنها لا تنوب عنها).
(٢٧)
بدأ الكاتب الفرنسي أندريه مالرو (١٩٠١–١٩٧٦) حياته بدراسة اللغات الشرقية، وقضى بعض الوقت في آسيا منتقدًا سلطات الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية. وعند عودته إلى فرنسا نشَر روايته الأولى في ١٩٢٦، وتبِعَتها «الفاتحون» في ١٩٢٨، و«الطريق الملكي» في ١٩٣٠، و«مصير إنسان» في ١٩٣٤.
ساند حكومة الجبهة الشعبية في إسبانيا، وعندما نَشبَت الحرب بينها وبين قوات فرانكو توسَّط لبيع الطائرات الفرنسية إليها، وشكَّل سربًا من الطيارين الفرنسيين للقتال في صفوف الجمهورية، وطاف الولايات المتحدة في محاولة لجمع التبرُّعات لها، وفي ١٩٣٧ صدرَت روايته الشهيرة «الأمل».
حارب في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، ووقع في الأسر سنة ١٩٤٠، فهرب وانضم إلى المقاومة الفرنسية. وقبض عليه الجستابو الألماني في ١٩٤٤، وأخضعوه لعملية إعدامٍ وهمية ثم أنقذه أعضاء المقاومة. وبعد الحرب ارتبط بالنشاط الثقافي الذي موَّلَته ونظَّمَته المخابرات الأمريكية، وعيَّنه ديجول وزيرًا للإعلام ثم صار وزيرًا للثقافة من ١٩٦٠ حتى ١٩٦٩.
(٢٨)
فيشنسكي هو المدَّعي العام السوفييتي في المحاكمات التي نظَّمها ستالين لأعضاء الحزب الذين كانوا يتعرَّضون للتعذيب كي يعترفوا بالخيانة. وهذا المنطق هو نفسه الذي استخدمه بوش الابن بعد احتلال العراق بذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل؛ كون أننا لم نجد أثرًا لهذه الأسلحة فهذا يؤكِّد وجودها وأنه تم إخفاؤها ببراعة!
(٢٩)
جاءت هذه السطور في شكل تعليقٍ على الفقرة السابقة. وكان عبد الكريم قاسم قد انفرد بالحكم بالتعاون مع البعثيين والشيوعيين ثم انقلب عليهما. وفي ١٩٦٣ أسقطه انقلابٌ عسكري تمخَّض عن إعدامه. وعاد عبد السلام عارف إلى السلطة، ولم يلبث أن انقلب على حزب البعث وحل جميع الأحزاب. وتواصلَت عمليات التنكيل بالشيوعيين في السجون. ويبدو أنه كانت هناك حوادث انتحار بينهم.
(٣٠)
وجدتُ مثالًا للغرائبية التي تنشأ عن وصف حدثٍ ما أو شخصٍ ما، واقعيَّين، دون تحديد المكان والزمان الواقعيَّين، في هذه السطور للفنان حسن فؤاد عن تجربة مشاركته في تمثيل وإخراج مسرحية صلاح حافظ التي قُدِّمَت على مسرح سجن الواحات بممثِّلين من النزلاء. ويستهل حسن فؤاد هذه السطور — التي كتبها داخل السجن — بوصف البروفات التي كان يتم من أجلها تجميع أعضاء الفرقة من ممثلين وفنيين فضلًا عن المؤلف والمخرج في زنزانةٍ خاصة يُصرف لها نصيبٌ مميَّز من الشاي والسكر والسجائر. وفي الفقرات التالية نماذجُ أخرى من «العالم الغريب».

(٣١) الزنزانة الكبيرة.

(٣٢) فوق الأَسِرَّة الثلاثة العمودية.

(٣٣)
في مايو ١٩٦٢ صدر «الميثاق الوطني» الذي قدَّم تحليلًا علميًّا لنضال الشعب المصري منذ ثورة عرابي. وتحدَّث عن الصراع الطبقي وضرورة حله لصالح الجماهير العاملة وعلى رأسها العمال والفلاحون، كما أكَّد الدور الطليعي للطبقة العاملة، وأشار إلى أن الاشتراكية هي الطريق الحتمي للتقدم.
ورحَّب الجميع في الواحات بهذه الخطوة لكنهم اختلفوا بشأن تفسيرها. فرأت حدتو في «الميثاق» تأكيدًا لفكرة «المجموعة الاشتراكية» وتواصلَت المناقشات الحادة حول قضية الوحدة مع هذه المجموعة ومصير الوجود المستقل للشيوعيين. وانعقد مؤتمرٌ حزبي لهذا الغرض طرح فيه إبراهيم عبد الحليم بعض أفكار بهذا الشأن وأيَّدَه علي نجيب وعادل حسين. وكتب أحمد الرفاعي ردًّا بعنوان «حزبنا ضرورة تاريخية» معارضًا الفكرة القائلة بحل الحزب والالتحاق بعبد الناصر.
وتكوَّن المؤتمر من أغلب الأعضاء واستُبعد منه قلةٌ من الأعضاء القاعديين والمستقلين والمتخاذلين، كما لم يُدعَ أحد من مجموعتنا الرباعية إليه؛ فقد فُسِّرَت انتقاداتنا المستمرة للمفاهيم السائدة بالنسبة للأدب والفن تفسيرًا سياسيًّا، واعتُبرنا من المتخاذلين. ودافع كمال القلش عن حقه في الاشتراك بالمؤتمر أمام مبارك عبده فضل فضُم إليه. ونشأ بعض الجفاء في علاقتنا به. وعُهد إليَّ بالاشتراك في تأمين المؤتمر بالتواجد قرب الزنزانة التي عُقد بها وتحذير المجتمعين عند اقتراب أحد من الحراس أو الضباط. وأتاح لي ذلك فرصة النظر إلى الداخل.
وفيما بعد عُهِد إلى محمود أمين العالم بإبلاغنا بنتائج المؤتمر فتجمَّعنا بضعة أفرادٍ قليلين ومعنا شوقي جلال (الذي جلس متربعًا خلف قِمَطْره الخشبي الصغير) ورشاد الشلودي. تحدَّث عن الخطوط العامة للمؤتمر دون أن يتطرَّق إلى تفصيل الخلاف حول فكرة إنهاء الوجود المستقل، وهي قضية كانت معروفة للجميع بشكلٍ أو آخر. وكنا نستمع إليه في وجومٍ وعند فتح باب المناقشة لم يُعلِّق أحد.
والفِقرة كلها عبارةٌ عن محاولة لدراسة إحدى الشخصيات التي اشتركَت في مناقشات المؤتمر والتي تابعتُها من خلال وجودي في الرَّدهة.

(٣٤) لقطةٌ أخرى من المؤتمر.

(٣٥) تعرَّض أغلب المسجونين والمعتقلين بعد الإفراج عنهم لصعوباتٍ جمة في استئناف حياتهم الطبيعية.

(٣٦)
على ما أظن فإن ع هو عبد الحميد السحرتي الذي كان مسئولًا عن الحياة العامة؛ وبالتالي عن توزيع السجائر، ويملك التساهُل مع البعض لاعتباراتٍ معينة. ولا بد أنه كان قد غادر السجن للعلاج، وعند عودته استقبله أحمد القصير بحرارةٍ بالغة فسَّرتُها بأنها طمع في أن يحصل منه على سيجارة أو اثنتَين عندما ينتهي نصيبه المقرَّر. كانت تلك فترة استولى عليَّ فيها اهتمامٌ بالغ بالتدقيق في الدوافع الحقيقية للعواطف والسلوكيات الإنسانية.
(٣٧)
لم يكن كرسيًّا وإنما قِمَطْرًا صغيرًا من الخشب قريبًا من الأرض يُستخدَم في الكتابة ويجلس صاحبه أمامه في وضع «الكاتب المصري». وقد صمَّمه مسجونٌ قديم هو محمد حسن جاد الذي اشتهر باسمِ برق. وكان يصنعه حسب الطلب، مقابل كميةٍ محترمة من السجائر تجعله في غير مقدرة الكثيرين. وقد حرص إبراهيم عبد الحليم، على أن يقتني واحدًا، حملَه معه إلى جلسات المؤتمر، وجلس فوقه مؤكدًا تميُّزه عن الآخرين، فكان المقعد الوحيد؛ إذ توزَّع الآخرون بين الأَسرَّة والأرض. ولوموند هي الجريدة الفرنسية التي نشرَت تصريح عبد الناصر عن تصفية المعتقلات.
(٣٨)
عم سليم هو الاسم الذي أطلقتُه على محمود السكران. وهو خرَّاطٌ ماهر من الزقازيق، خمسيني، يعاني مشاكل في الرؤية وأمراضًا أخرى، ويتميز بضيق الصدر؛ ولهذا كان دائمَ الشجار مع الشبان. وكان يتمتَّع بأصابعَ ذهبية في يدَين سمينتَين استخدمهما منذ اللحظة الأولى في صناعة قطع الشطرنج من لبابة الخبز ثم من عظام الحيوانات التي تمُد السجن باللحم. وصنع من الأخيرة تُحفًا صغيرة مثل الملاعق وفتَّاحات الخطابات والمسابح. وكان منهمكًا في هذا النشاط ويجمعُ له أشياءَ كثيرةً طول النهار يضعها في صناديق أسفل فراشه. وبالطبع كان نومه صعبًا فإذا جافاه النوم فكَّر في فنِّه ثم غادر فراشه والتجأ إلى صناديقه، وبدأ ينقِّب بين محتوياتها في الظلام.
(٣٩)
أخيرًا بدأَت الإفراجات عن المعتقلين في مجموعاتٍ صغيرة. وفي نفس الوقت استمرَّت محاولات وقف هذه العملية وتعطيلها. وكان يوم ٣ أبريل موعد الإفراج عن البعض، وتجمَّع زملاؤهم وأصدقاؤهم عند باب الإدارة لوداعهم. وفجأةً افتعل أحد الضباط، ويُدعى صبحي الذي انضم حديثًا إلى قوة السجن، شجارًا معهم. وكان قد مهَّد لذلك بتعبئة حُراس السور وأصدر إليهم الأوامر بإطلاق النار عند حدوث أي اضطراب. وبالفعل انطلقَت رصاصةٌ عشوائية أصابت لويس إسحاق، أحد القياديين البارزين، خاتمًا سلسلةً من الضحايا بدأَت بمحمد عثمان الذي لقي مصرعه تحت التعذيب في قسم شرطة ثانٍ بمدينة طنطا عشية الاعتقالاتِ ولم يُعثَر على أثَرٍ لجثَّته حتى الآن (وقد فقدَت أمه عقلها بعد اختفائه، وظلَّت حتى وفاتُها تعتقد أنه غادر المنزل في مشوارٍ بسيط ولا يلبث أن يعود).
(٤٠)
جنازة لويس إسحاق.

فذلكة ختامية

(١)
عثرتُ بين أوراقي على صفحةٍ بدأَت فيها محاولة لتسجيل أحداث تلك الأيام ولم تتجاوز السطور التالية:
«كنا في العيد. وكان السجناء يقولون لبعضهم البعض: كل سنة وأنت طيب. وقفنا خارج الزنازين. وكان هناك مسجون يروح ويجيء أمامنا في الناحية الأخرى بملابسَ ممزَّقة يُحاول أن يتدفَّأ ولم يكن يرى جيدًا وكان حافيًا يرتعش من البرد (خمس سنوات). ونادَوا علينا وقالوا خذوا حاجياتكم معكم. وقال لي إبراهيم لا بد وأن تذهب إلى الأولاد. وأخذ حمدينو الحلل والوابور وهبطنا إلى المأمور. وفككنا حاجياتِنا أمامه. وكان حمدينو جافًّا وظللتُ أبتسم طول الوقت والمأمور متجهِّم. لم يكن فيَّ نفَس للنقاش أو العراك، وكان الجزار يدخل ويخرج؛ فقد رفض المأمور لحومه لكنه كان يترجَّى وكان المأمور يسمع له وقال له الجزار: أُحضر لك كوب شاي. ولم يرُدَّ المأمور وأسرع الجزَّار وجاء بكوب الشاي ووضع فيه شيئًا من جيبه. وقلتُ لا بد أنه قطعة حشيش أو أفيون وأراد المأمور أن يأخذ مني تمثالًا من الخشب وأخذه، وكان هناك برغوث يقرصني في فخذي، وأخذتُ أتلوَّى في مكاني، وأخذونا إلى المحطة وكانت هناك سيدةٌ عجوز تخطو ببطء وهي تبكي. سألَتني عن ابنها وقلتُ لها إنه في الإسكندرية. وفي المحطة وضعونا في غرفة وكنا أربعةً، وطردوا الناس من الغرفة ليُبعِدوا الناس، وجاء القطار وركبنا، وأراد طبيبٌ يرتدي رداءً أبيض أن يجلس معنا لكن رجلًا بجلابية قال له أن يذهب إلى مكانٍ آخر، وتطلَّع إليه الطبيب في دهشة فقال الرجل: قلتُ لك اذهب إلى مقصورةٍ أخرى. وقال الطبيب: كيف؟ وقال الرجل في لهجةٍ خاصة: ممنوعٌ تقعُد مع هؤلاء. وتطلَّع إلينا الطبيب في عجبٍ وكنتُ أتطلَّع إليه في استسلام. وكأنما فهم فقام على الفور وقال للرجل: متأسف، لم أُدرِك منذ البداية. وخرج وجلسنا مقيَّدين وطلبنا من الضابط أن يفُكَّ قيودنا فهمَس لنا أنه لا يستطيع فالمباحث معه. وقلتُ لا بد أن أُحاوِل أن أنام قليلًا. وأردتُ أن أذهب إلى الدورة. وذهبتُ مع العسكري وكان الناس ينظرون إليَّ وإلى القيود في دهشة، ووقف العسكري بجانبي بينما فتحتُ بنطلوني وجعلتُ أُطرطِر وأنا أهتزُّ مع حركة القطار.»
والملاحظ أن الأسلوب المستخدم في هذه القطعة هو نفسه الذي كتبتُ به «تلك الرائحة» بعد عام ونصف عام. والطريف أني سبق أن تخيَّلتُ موقف الجزار والمأمور في قصة «الثعبان» التي كتبتُها قبل ذلك بسنة ونصف عقب رحلة أسيوط.
وخلال عملية الإفراج استولى ضباط السجون والحراس لأنفسهم على كثيرٍ من متعلقاتنا. وفقدتُ أنا شخصيًّا التمثال الخشبي المشار إليه ونسخةً فاخرةً مذهبة من الإنجيل كانت أختي قد أرسلتها إليَّ بناءً على طلبي.
(٢)
استقال حسن المصيلحي رئيس قسم مكافحة الشيوعية بوزارة الداخلية بعد فترة، ونُقل إلى مصلحة الجوازات، ثم ترك الوزارة نهائيًّا، ورأس شركةً أجنبيةً غامضة في جنيف.
(٣)
كان عبد الناصر يشرح في خطبه بعباراتٍ بسيطة واضحة نظرية فائض القيمة، عامود الفكر الماركسي. وتَبارى كتَبة الصحف ووسائل الإعلام في إعلان ثوريتهم وإيمانهم بالاشتراكية.
(٤)
ذكر كمال عبد الحليم لبعض رفاقه أن شريف حتاتة حذَّره من أنه قد يتعرَّض لحادث سيارة إذا لم يتمَّ حل الحزب في الحال. وقال فخري لبيب إنه كانت هناك تهديداتٌ من بعض الماركسيين السابقين الذين كانوا أكثر إلحاحًا على فكرة الحل من رجال النظام نفسه والذين «كانوا يُهدِّدوننا صراحة إما الحل وإما السجن.»
(٥)
رئيس حزب «التجمع». وكان عضوًا في حدتو وقضى سنواتٍ طويلة في سجن الواحات. ودخله ببنطلون التلاميذ القصير.
(٦)
حازت قصيدته «إصرار» على شهرةٍ واسعة في أواخر الأربعينيات بعد أن نشرتها صحيفة «الجماهير». وقد كتبها سنة ١٩٤٥ وهو طالب بكلية الحقوق، واعتبَرها النقاد بداية للشعر الحديث المتحرِّر من الموضوعات والقوالب التقليدية الجامدة. وتبدأ بهذَين البيتَين؛
أخي هل نحن تحت الأرْ
ضِ أعشابٌ وديدانُ
أخي يا أيها الإنسا
نُ هل في مصر إنسانُ
وقد تلا إسماعيل صدقي أبياتًا من هذه القصيدة في البرلمان للتدليل على ضرورة إصدار قانون مكافحة الشيوعية (أُغلقَت «الجماهير» في مايو ١٩٤٨ بناء على هذا القانون).
انضم مبكرًا لحدتو وقام بدورٍ هام وسط الكُتاب والفنانين، ازدادت أهميته مع الصعود الجماهيري لها في بداية الخمسينيات. وسرعان ما نشب الصراع بينه وبين قائد حدتو ميكانيكي الطيران سيد سليمان رفاعي حول أسبقية العمل الجماهيري على التنظيمي. وانتهى هذا النزاع بأن انفصل رفاعي عن التنظيم مع عدد من أنصاره وصار كمال عبد الحليم هو المسئول السياسي لحدتو. وكان من أنصار تأييد الانقلاب العسكري. وعندما انتقلَت حدتو إلى المعارضة تم القبض على قادتها. ووضع هو وزكي مراد وأحمد الرفاعي وعادل حسين وشريف حتاتة وآخرون في زنازينَ انفراديةٍ بالسجن الحربي، تعرَّضوا فيها لتعذيبٍ وحشي. وذات مساءٍ تلا عليهم أحد الضباط أمرًا بالإعدام تحدَّد له صباح اليوم التالي. وفي الصباح أبلغهم الضابط أن الإعدام تأجَّل إلى العصر. وتكرَّرَت هذه التمثيلية — المقتبسة من النازي — عدة أيام، ثم نُقلوا إلى مبنًى آخر، وأُفرج عن كمال عبد الحليم بعد تعرُّضه لانهيارٍ عصبي أصابه بالفصام (الشيزوفرينيا) (ربما لعبَت دورًا فيه حبوب الميتدرين المنشِّطة التي انتشرت بين الكُتاب والفنانين في ذلك الحين ونُسبَت إليها القدرة على حفز ملَكات الإبداع) بينما نُقل رفاقه إلى معتقل أبي زعبل. وتم إيقافه عن النشاط السياسي من قِبل قيادة حدتو الموجودة في السجن إلى أن تم الإفراج عن المعتقلين في ١٩٥٥، فاستأنف نشاطه في الحزب الموحَّد ومثله في الوحدة الشاملة التي تحقَّقَت عام ٥٨. ولم يلبث أن قاد الانقسام على هذه الوحدة. وعندما بدأَت الحملة على الشيوعيين تمكَّن من الاختفاء أكثر من خمس سنواتٍ عاد بعدها ليتولى المسئولية السياسية للتنظيم.
(٧)
ذكَر فخري لبيب أن فؤاد مرسي، المسئول السياسي لمجموعة «الحزب» قال له في السبعينيات: «كان الحزب محلولًا من الناحية العملية قبل خروجنا من السجن.»
وقد ظهر ردُّ فعل النظام على قرار الحل في تقريرٍ سري للأمانة العامة للرقابة والنشر بالاتحاد الاشتراكي بتاريخ ١٨ أبريل ١٩٦٥ وقَّعه عبد الفتاح أبو الفضل، ضابط المخابرات السابق الذي اشترك مع الشيوعيين في تنظيم المقاومة الشعبية ببورسعيد أيام العدوان الثلاثي؛ فقد وصف التنظيمات الشيوعية بأنها «لم تكن في يومٍ من الأيام معترفًا بها من جانب الحكومة، كما لم تكن موضع احترام واعتراف الدوائر الشيوعية الدولية!» وقال إن الحزب لم يُوقَف نشاطه أو يُعلَن حلُّه رسميًّا ولكنه يقف عند حد إعلان انتهاء الشكل التنظيمي المستقل. وإن الشيوعيين «يشعرون بالحرج والضعف بالنسبة لأخطائهم الكثيرة وماضيهم المشين الذي لا يخلو من غدر وخيانات؛ ولهذا يُلحُّون في الدعوة إلى نسيان الماضي.»
(٨)
وفي هذه المناقشات أبدى كمال عبد الحليم رغبته في الانسحاب من العمل السياسي بسبب تورُّطه في تصرفاتٍ مالية ملتبسة من ناحية واتجاهه إلى التديُّن من ناحيةٍ أخرى. وبالفعل انتهت علاقته بالعمل السياسي منذ ذلك الحين حتى وفاته عام ٢٠٠٤.

(٩) يمكن مقارنة مفهوم الشيوعيين المصريين للعمل الجماهيري باليساريين المحدَثين الذين يعملون من مكاتبَ مكيَّفة ويقتصر نشاطهم على إعداد «ورش عمل» ذات تمويلٍ أجنبي.

(١٠)
بالرغم مما لحق بهم من اضطهاد يفوق الوصف، حافظ الشيوعيون المصريون على موقفهم من جمال عبد الناصر واضعين مصلحة البلاد فوق كل اعتبارٍ ذاتي، واتهمهم خصومهم بأنهم «مازوكيون» يستعذبون التعذيب والقهر.
(١١)
ذكر السيد يوسف من واقع تجربته الذاتية: كانت خطَّة الحكومة لإعادة المعتقلين والمسجونين إلى أعمالهم وتوفير أماكن عملٍ لمن فقدوا أعمالهم تقوم على المماطلة والمراوغة لتركِ الناس فترةً طويلة في حالة بطالةٍ وضياع؛ حتى يصلوا إلى درجة الاستسلام والرضا بأي وضعٍ يُلقى إليهم. وكانوا يعيَّنون في غير تخصُّصاتهم، وفي أدنى الدرجات دون مراعاةٍ لمدة الخدمة السابقة والخبرة. وكان هذا مقصودًا حتى تُفرَض عليهم الغربة في أعمالهم وتستنزف جهودهم لسنواتٍ أخرى في السعي لتسوية حالاتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤