العصارة الخارقة!

في مدينة «هايدلبرج»، كانت مُهمة رقم «صفر» قد اقتربت من الانتهاء؛ فقد استطاع الوصولَ عن طريق عميل سابق للمخابرات الروسية إلى مدير أحد مراكز البحوث العاملة في مجال «الهندسة الوراثية»، والتي تعتمد على الطلبات الخاصة؛ أي أنهم يُؤجِّرون عملهم وموهبتهم لمن لديه المال ليدفع.

وعرف من خلالهم معلومات كثيرةً عن الشِّحنة الراقدة في قناة السويس، ومن أصحابها، وقد أسرع بعدها بالاتصال بالشياطين في مقر «الهرم»؛ لعقد اجتماع عاجل، فلم يجد «أحمد»، وعرف أنه في أعماق مياه «البحر الأحمر»، فأسرع بالاتصال به … فلم يجد في الغواصة الصغيرة إلا «إلهام» و«ريما»، فطلب منهما تحذير «أحمد» ومن معه من خطورة الحيوانات البحرية في المنطقة التي غرقت فيها شِحنة السماد … لاحتواء هذه الشِّحنة على هرمونات ومادة مُخلَّقة … تُغيِّر من سلوك هذه الحيوانات وتجعلها دمويةً وشرسة.

فانتاب الفتاتَين قلقٌ شديد على «أحمد» وزملائه … وزاد من هذا القلق عدم تمكُّنهما من الاتصال بهم منذ صباح ذلك اليوم … ولم يكن ذلك بسبب عطب أصاب أجهزة الاتصال … بل كان قرارًا اتخذه الشياطين في غابة الشعاب المرجانية؛ حتى لا تثير الموجات الصادرة من الأجهزة أعصاب أسماك القرش المحيطة بهم. وقد كانت تتحرَّك حولهم في عصبية … ممَّا أصاب الأسماك الصغيرة بالتوتر …

ولم يعرف الشياطين سبب ثورة أسماك القرش … إلا عندما رأَوا جسد إحداها وقد التصقت به نجمة البحر.

وكانت هذه الملاحظة، بمثابة اتفاق على العودة إلى الغواصة لعقد اجتماع عاجل ومناقشة ما يجري.

وقد أثارت الجلَبة الصادرة من مؤخرة الغواصة انتباه «إلهام»، وقبل أن تلجأ إلى أجهزة الاستطلاع، كان «أحمد» يناديها … طالبًا منها مشروبًا ساخنًا عاجلًا … وسمعته «ريما» من غرفة القيادة، فملأت له كوبًا من ماكينة صنع الشاي … وذهبت إليه لتجدهم وقد ازدادوا عددًا … وأصبحوا ثلاثة، فبادرتهم قائلة: «عثمان» هنا أيضًا.

عثمان: و«فهد» أيضًا؛ أي إن الشاي المطلوب لثلاثة.

فالتفتت إليهم «إلهام» حاملةً صينية عليها بعض أكواب الشاي وهي تقول: الحمد لله على سلامتكم. لماذا لم تُجيبوا على اتصالنا؟ … هل لم يصلكم؟

أحمد: لا … بل استقبلناه بوضوح … ولكن كانت الظروف لا تسمح بالإجابة.

ريما: لقد اتصل الزعيم من «ألمانيا».

عثمان: هل هناك جديد؟

إلهام: لقد كان قلقًا عليكم جدًّا.

فنظر لها «أحمد» في تساؤل ودهشة … فكيف عرف رقم «صفر» ما يحدث تحت مياه البحر. فأكملت كلامها وأخبرتهم بما قاله رقم «صفر».

فردَّ عليها «أحمد» قائلًا: أولًا ما رأيناه يثير أعصاب أسماك القرش حقيقة … هو ذلك السلوك الذي أصبحت تسلكه «نجمة البحر»؛ فمن المعروف أنها حيوان مُسالم وغير دموي … أمَّا عن سلوكها مع الشعاب المرجانية؛ فهي وسيلتها للحصول على الطعام.

إلهام: وما الجديد؟

أحمد: الجديد أنها أصبحت تلتصق بجسد أسماك القرش، ومن الواضح أنها تسلك معها نفس سلوكها مع الشعاب المرجانية.

ريما: تقصد أنها تُخرج جهازها الهضمي … وتُفرز عصاراتٍ هاضمة على جسم سمك القرش وتمتصه بعد ذلك بواسطة مماصاتها؟!

عثمان: أوه … مسكين سمك القرش هذا.

أحمد: لا معنى لالتصاقها به غير ذلك.

إلهام: ولكن كيف لحيوان في حجم هذه النجمة أن يلتهم سمكة قرش في حجم غواصتنا؟

فهد: البحر ليست به نجمة واحدة، بل الآلاف.

ريما: معك حق.

أحمد: الموقف جد خطير … فكل ما يحدث يدل على أن هناك طفرةً كبيرة حدثت ﻟ «نجمة البحر» … وشِحنة السماد الغارقة هذه تحتوي على البيئة المساعدة لنجاح هذه الطفرة.

إلهام: معنى ذلك أنها تحوَّلت عن التهام الشعاب المرجانية إلى الحيوانات البحرية الكبيرة، ولم تعد هناك خطورة على الحديقة المرجانية.

فهد: ولكن هناك خطورة على الكائنات البحرية النادرة التي تزخر بها المنطقة.

إلهام: ومن قال لكم إنها تحوَّلت عن الشعاب المرجانية ولم تصبح أكثر نهمًا لالتهامها؟

التفت الجميع ينظرون لها في دهشة وعدم تصديق، ثم ما لبثوا أن انتفضوا من مجلسهم يجرون في اتجاه مؤخرة الغواصة … فاستوقفتهم «إلهام» قائلة: إلى أين؟

فهد: سنعود للعمل.

إلهام: إنه ميعاد الغداء.

عثمان: ومن سيرغب في الطعام وهذه المهام تنتظره.

إلهام: النظام نظام. الآن ميعاد الطعام.

أحمد: لنبقَ للغداء والتشاور.

كانت شبابيك الغواصة الصغيرة تبدو كأحواض السمك التي تزخر بأجمل ما خلق الله من أسماك وحيوانات بحرية … وكانت عيون الشياطين تتابعها في شغف وهي تقترب من زجاج النوافذ إلى حد الالتصاق به … وكأنها ترغب في مشاهدة الشياطين وهم يتناولون غداءهم.

وشعرت «ريما» أن الأسماك جائعة، وتمنَّت لو أنها ألقت في الماء ببعض طعامهم دون فتح نافذة أو النزول إلى الماء، فقال لها عثمان: أولًا حتى لو رغبت في فتح نافذة من النوافذ … فلن تتمكَّني لأن الغواصة لديها أمرٌ ذاتي … بإغلاق جميع المنافذ وهي تحت الماء … ثانيًا … من قال لك إن هذه الأسماك جائعة … إنها فقط تشاهد فيلمًا علميًّا. وهنا انفجر الجميع ضاحكين … وقد أحالت خفة دم «عثمان» كآبة المكان إلى ابتسامة كبيرة … أضفت على الطعام مذاقًا رائعًا.

إلى أن ظهرت خلف زجاج إحدى النوافذ نجمة من نجوم البحر … تلم أذرعها وتمدها في حركات متتالية بطيئة … وكأنها تتأمَّل ما بداخل الغواصة … وهنا صاح «فهد» قائلًا: أهذا الحيوان يُرى؟

عثمان: على قدر علمي … لا يوجد حيوان لا يُرى … انظر انظر.

التفت الجميع على أثر صيحة «عثمان» ينظرون إلى النافذة، فرأوا أن «نجمة البحر» قد التصقت بزجاجها … وشرعت تأتي بحركات غريبة … فصاحت «ريما» قائلة: إنها تُخرج جهازها الهضمي.

أحمد: غير معقول! … هل ستُفرز عصارتها الهاضمة على الزجاج؟!

إلهام: ما أعرفه أنها تفعل ذلك مع الأجسام الرخوة فقط!

ريما: ألم نتفق على أن صفاتها الوراثية اختلفت؟

عثمان: يجب أن نفعل شيئًا … فقد تستطيع إذابة زجاج النوافذ … ويغمر الماء الغواصة ونموت جميعًا بداخلها.

أحمد: لن نستطيع عمل شيء لإبعادها، ولكن علينا تأمين أنفسنا من الغرق.

إلهام: كيف؟

أحمد: بالصعود إلى سطح الماء.

عثمان: لا داعي، سأنزل أنا إلى الماء الآن … وسأبعدها عن النافذة.

ريما: لا يا «عثمان»؛ فلن تتركك حيًّا … لقد تحوَّلت إلى وحش من نوع جديد.

عثمان: يجب أن نُكمل مهمتنا.

وعندما نظر ﻟ «أحمد»، أجابه بنظرة عينه موافقًا … ولكن ليس على الخروج وحده … بل على أن يخرج ثلاثتهم.

وانزعجت الأسماك حول الغواصة … وابتعدت عنها في فزع … وهي ترى الشياطين الثلاثة يخرجون تباعًا من مؤخرتها … ويدفعون الماء بزعانفهم … ويدورون حولها، حتى اقترب «عثمان» من «نجمة البحر» الملتصقة بالنافذة، فدفعها بعصاه الكهربائية … فلم تتحرَّك، فأطلق من العصا شَحنةً كهربائية … فلم تؤثِّر فيها، ففرد ذراعه قاصدًا الإمساك بها … وإذا ﺑ «أحمد» يدفعه بعيدًا عنها خوفًا من أن تلتصق به، ولا تتركه فنظر له من وراء نظارته في حيرة، فأشار له «أحمد» بحربة حادة، فابتسم له … فاندفع شاهرًا الحربة وغرسها في ظهر النجمة … ثم شدَّها إلى الخلف … فخرجت من ظهرها دون أن تترك هي النافذة … وخرج من جرحها سائل أبيض، وسبح في الماء كخيط رفيع.

ولم تمضِ دقائق إلا وتجمَّعت عشرات النجمات حول الغواصة … فالتصقت بعضها بنوافذها … ودارت الأخرى حولها، وأذرعها تتقلَّص وتتمدَّد بعصبية، وما لبثت أن أحاطت بالشياطين … تسبح معهم أينما يذهبون، وكلما اقتربت من بذلتهم انتفضوا بشدة ليدفعوها عنهم.

غير أن «عثمان» كان مشغولًا بإبعادها عن جسده … فقد فاجأته إحداها بالتصاقها على زجاج خوذته … فأربكته … وشلَّت تفكيره، ولم يعد يرى ما حوله، ولم يشعر إلا وأصابعه تُمسكها بقوة، وتنتزعها من على زجاج الخوذة، فتكسَّرت بين أصابعه … وسالت خيوط السائل الأبيض فانتشرت من حولهم لتجذب المزيد منها … وتُحوِّلها إلى كائن متوتر شرس، مُهاجم.

ولم يكن من العقل الاشتباك مع هذا العدو الضخم … وهم لا يعرفون عنه شيئًا … ولا عن هذا السائل الأبيض ومدى خطورته … فقد اكتفَوا بالابتعاد عنه، وأصبح الحل الوحيد في هذه الظروف … هو الاحتماء بالغواصة … والارتفاع بها فوق سطح الماء، والابتعاد عن شِحنة السماد الغارقة؛ فهي البيئة التي يستطيع هذا الحيوان العيش فيها.

وبإشارة عن عصاة «أحمد»، تبعه «عثمان» و«فهد» يشقون طريقهم بصعوبة … محاولين الوصول إلى مؤخرة الغواصة … وكانت «إلهام» تُتابع كل ذلك على شاشة المراقبة في كابينة القيادة … وفي محاولة منها لمساعدتهم بقتل عدد غير قليل من «نجمة البحر» … فمزَّقتها … وانتشر السائل الأبيض حول الغواصة … ولم يعد الشياطين يرَون شيئًا من الأعداد الكبيرة من «نجمة البحر» التي جذبها هذا السائل.

وازداد الأمر تعقيدًا … ولم يعد أمام «أحمد» غير الاتصال ﺑ «إلهام» لتقود الغواصة بعيدًا عن هذا المكان.

ولم يكن «عثمان» يعلم عن هذا القرار شيئًا؛ لذا … فقد فوجئ هو و«فهد» باختفاء الغواصة التي انسحبت في هدوء … ومن خلفها جموع هائلة من حيوان «نجمة البحر»، ولم يبقَ حولهم غير عدد قليل منها.

ومرةً أخرى تمكَّنوا من رؤية بعضهم البعض … فرفعوا أصابع السبابة والوسطى علامة النصر.

إلا أن «أحمد» خفض ذراعه بسرعة، ونظر إلى ساعته … وقد لاحظ «فهد» ذلك وعرف أنها رسالة … فأشار إلى «عثمان» الذي قام بالاتصال ﺑ «أحمد» … فوجده مشغولًا بتلقِّيها … فانتظر أن يتصل به هو … وقد حدث؛ فبمجرَّد انتهاء الرسالة اتصل به وﺑ «فهد» وأخبرهم أن المقر يطلبهم في الغواصة … فهناك أخبار جديدة هامة … وقد يكون من الضروري عقد اجتماع.

وسبحوا خلف بعضهم حتى اتخذوا طريق الصعود إلى سطح الماء … مهتدين بالبوصلة الإلكترونية المزوَّدة بها ساعاتهم … والتي تُطلِق بين الحين والآخر … صفيرًا لتعديل مسارهم في اتجاه الغواصة.

وعندما أصبحوا تحتها تمامًا … أطلقت أجهزة المتابعة في كابينة القيادة … صفيرًا حادًّا، فضغطت «ريما» بعض الأزرار … أصبحت الغواصة بعدها مستعدةً لاستقبالهم. وعبر نفس الفتحة في مؤخرة الغواصة … انتقل الشياطين إلى سطحها.

في نفس اللحظة كانت «إلهام» تتلقَّى تقريرًا على جهاز الكمبيوتر من المقر … وعندما انتهت منه، لم تجد للشياطين أثرًا … وكانت قد عرفت أنهم موجودون، فبحثت عن «ريما» لتسألها، فلم تجد لها أثرًا … فاستخدمت كل أجهزة الاستدعاء لتحصل عليهم … فلم يُجبها أحد … فقامت بتفتيش الغواصة تفتيشًا دقيقًا وهي في غاية الدهشة … ﻓ «أحمد» و«فهد» و«عثمان» في حاجة ماسة للراحة، غير أنهم يعرفون أن المقر يطلبهم، فأين ذهبوا ومعهم «ريما» التي تلقَّت بنفسها استدعاء المقر.

ولم يخطر ببال «إلهام» أن تبحث عن الزورق المطاط الذي يسكن صندوقًا بلاستيكيًّا في حجم حقيبة اليد.

ولو ألقت نظرةً على سطح الماء لوجدت «ريما» تعتلي ذلك الزورق، ومن حولها الشياطين الثلاثة، يفحصون جسم الغواصة؛ خوفًا من التصاق إحدى نجوم البحر بها، وهم حتى الآن لا يعرفون هل أصبح لعصارتها الهاضمة تأثير على الألياف التي يتكوَّن منها جسم الغواصة أم لا؟

وشعرت «ريما» بوخز في رسغها من ساعتها … فضغطت زرًّا تحت الشاشة … وتلقَّت رسالةً من المقر … أثارت لديها رغبةً في الضحك … فقد طلبوا منها في هذه الرسالة أن تخبرهم أين هي وبقية الشياطين؟ … وأن تتصل إن استطاعت ﺑ «إلهام». وفور ما تلقَّت الرسالة … اتصلت ﺑ «إلهام» من تليفونها المحمول … وحادثتها على أن تكلِّمها من المقر.

وثارت «إلهام» جدًّا عندما سمعت ذلك … وأنَّبتها تأنيبًا شديدًا على أنها لم تترك لها خبرًا بذلك ولم تتصل بها، فطلبت منها «ريما» أن تُلقي نظرةً على سطح الماء … في الوقت الذي كان «أحمد» يتسلَّل فيه إلى داخل الغواصة هو و«فهد» و«عثمان» وقد شعرت بهم، إلا أنها فعلت كما طلبت منها «ريما»، فلم تجد شيئًا، فعادت إلى «أحمد» تسأله أين كانوا، فأخبرها، وعندما سألته عن «ريما» أخبرها أنها ما زالت في الزورق المطاطي بجوار الغواصة، فقالت له «إلهام»: لقد ألقيت نظرةً على سطح الماء حول الغواصة فلم أجد شيئًا.

أحمد: إنها هناك يا «إلهام»، أرجوكِ ألقي نظرةً أخرى.

جرت «إلهام» إلى كابينة قيادة الغواصة، وأدارت أجهزة المراقبة وأجهزة المسح … فلم تجد ﻟ «ريما» أثرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤