مقدمة

لقد قضيت ٢٥ عامًا من حياتي في شركات يونيليفر وَدياجيو وَتي-موبايل وأنا أحاول التأثير على سلوك المستهلكين لصالح العلامات التجارية والمنتجات التي أسوِّق لها. وفي سبيل ذلك، نجمع — نحن المسوقين — قدرًا هائلًا من المعلومات ونقوم بعدد كبير من التحليلات المعقدة عن عملائنا. في واقع الأمر، إن شركات مثل تلك التي عملتُ بها تطوِّر نماذج وعمليات تكون نتيجة سنوات من الخبرة الجماعية. وتوجِّه تلك النماذجُ استثماراتِنا التي تقدَّر بعدة ملايين من الجنيهات الاسترلينية في مجال تطوير وابتكار المنتجات والتواصل والبحث. لكن الأسباب الحقيقية وراء قيامنا نحن البشر بما نقوم به ما زالت أمرًا غامضًا. وإلا فإن معدل فشل المنتجات الجديدة كان سيصبح بعيدًا كل البعد عن النسبة التي وجدتها الإحصائيات، والتي تتراوح بين ٨٠ و٩٠ بالمائة، وكانت الميزانيات الإعلانية ستصبح فعالة وملائمة على نحو تام.

لكن مجال التسويق ليس كذلك؛ فأحيانًا يكتب لجهودي النجاح، وفي أحيان أخرى لا، وبناءً على تجربتي الشخصية وتجارب العديد من المسوقين التي شاركوني إياها، وضعت نموذجًا عقليًّا خاصًّا بي لكيفية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم. أُدرِكُ أن هذا النظام المعرفي بعيد كل البعد عن الكمال، لكن لم يقدِّم أحد حتى الآن نموذجًا أفضل منه؛ فكلٌّ منا لديه نظامه المعرفي الذي أدى بالطبع إلى كم كبير من المناقشات (أو المجادلات!) الداخلية، وكانت النتيجة هي قرارات معتمدة على التفضيلات الشخصية التي يتم عادةً إملاؤها من خلال التسلسل الوظيفي.

هذا يشير لنقطة أكثر عمومية تهم كل المسوقين؛ فقد ذكرتْ دراسة حديثة أجرتها مجموعة فورنيز للتسويق على ١٢٠٠ مدير تنفيذي لشركات في أمريكا الشمالية وأوروبا ودول آسيا المطلة على المحيط الهادئ أن ٨٠ بالمائة من المديرين التنفيذيين يعتقدون أن المسوقين «منفصلون» عن نتائج الشركات ويركزون على أمور غير مطلوبة. وعلى نحو أكثر تحديدًا، قال ٧٨ بالمائة من هؤلاء المديرين إن المسوقين «كثيرًا ما ينسون مهمتهم الفعلية»؛ التي هي زيادة الطلب على المنتجات والخدمات على نحو كمي. وخَلَصَتِ الدراسة إلى أن المسوقين عليهم أن يغيروا من أنفسهم وأن يصبحوا أكثر تركيزًا على زيادة عائد الاستثمار لشركاتهم، إذا أرادوا أن ينالوا ثقة مديريهم التنفيذيين وإذا أرادوا أن يكون لهم تأثير أكبر في قرارات مجالس إدارات شركاتهم. وإلا، فسيظلون للأبد حبيسي ما أسماه ٦٥ بالمائة من المديرين التنفيذيين المشاركين بالدراسة «عالم التسويق المنعزل».

إن هذا تحدٍّ كبير في واقع الأمر، غير أن المسوقين لديهم المفتاح لزيادة دخل شركاتهم؛ والمتمثل في فهم المستهلكين وتحويل هذا الفهم إلى عروض جذابة خاصة بالمنتجات والخدمات. فباعتبارنا قائمين على العلامات التجارية، نعرف دائمًا أن تلك العلامات لها سمة غير ملموسة على نحوٍ ما، بالإضافة للجانب الوظيفي للمنتج أو الخدمة الخاصة بتلك العلامات التجارية. هذا ما نطلق عليه «قيمة» العلامة التجارية، لكن دائمًا ما يكون من الصعب تحديدها وشرحها وجعلها ملموسة. فلا عجب إذن أن المديرين التنفيذيين للشركات يرون أن عمل قسم التسويق «هلامي» ينقصه التحديد والدقة ويثقون في مديريهم الماليين أكثر من مديريهم التسويقيين. وللخروج من عالمنا المنعزل والحصول على ثقة رؤسائنا، علينا أن نجعل قيمة العلامة التجارية ملموسة وقابلة للفهم، وأن نفسر على نحو أفضل لماذا هي ليست بأي حال من الأحوال أمرًا تافهًا. فهي ما تمكِّن العلامات التجارية من فرض فارق سعر مقارنةً بالجوانب الأخرى المتعلقة بالمنتجات؛ فالمستهلكون مستعدون لدفع جنيهين أو ثلاثة جنيهات استرلينية للحصول على فنجان قهوة من مقاهي ستاربكس، مع أنهم يعرفون، على نحو موضوعي، أنهم يمكنهم بثمن فنجانين من القهوة في تلك المقاهي أن يشتروا إناءً كاملًا من القهوة من أي سوبر ماركت؛ لذا، لا بد أنهم يشترون شيئًا آخر؛ شكلًا ما من القيمة إلى جانب المنتج الفعلي، لكن ما تلك القيمة؟ وكيف يدرك العقل تلك القيمة؟ باختصار، كيف يتخذ المستهلكون قراراتهم؟

عندما يدخل العلم مجالًا، يضيف قيمة كبيرة له، لكن للمفارقة ما زال النموذج العقلي الذي نطبقه في مجال التسويق اليوم معتمدًا على طريقة تفكير سبعينيات القرن العشرين؛ أي منذ نحو نصف قرن! لكن الآن حدثت تطورات هائلة في فهمنا لجوانب علم اتخاذ القرار، وهذا يدفعنا لتحديث الطريقة التي نفكر بها في كيفية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم. من وجهة نظري، رد الفعل المتسرع غير العقلاني من جانب مجال التسويق في الأعوام القليلة الماضية تجاه هذا هو إسناد مهمة هذا التطور العلمي للباحثين السوقيين، مع استخدام طرق جديدة للقياس مثل التصوير الدماغي. لكن هل نحن نعتقد بحق أننا حتى بحاجة لمزيد من البيانات؟ وماذا إذا أنتجت تلك الطرق المنهجية الجديدة نتائج مماثلة؛ وهو أمر محتمل؛ حيث إن معظمها يتم التحقق من صحته باستخدام النماذج وطرق القياس الحالية؟ أو ماذا إذا أظهرت نتائج مختلفة؟ أيها سيكون الصحيح حينئذٍ وأيها سيكون الخطأ؟ وكيف يمكننا تحديد هذا؟ فما دمنا نستمر في طرح نفس الأسئلة ولا نُحدِّث نموذجنا العقلي الخاص باتخاذ المستهلكين لقراراتهم، فلن نكون قادرين على الاستفادة من الرؤى الرائعة التي يقدمها علم اتخاذ القرار؛ لذا، يتطلب هذا تحولًا فكريًّا في مجال التسويق، وليس فقط تغييرًا في الأدوات.

ربما تسأل عن سبب تأليفي لهذا الكتاب. وردِّي أن نظامي المعرفي قد تعرض لهزة عنيفة منذ أربعة أعوام، حينها كنت نائب رئيس قسم تطوير العلامة التجارية بشركة تي-موبايل، المعنيِّ بالتعامل مع التغيرات التي تحدث في التصميم البنائي للعلامة التجارية ووضعها التنافسي. صادفت نموذجًا عقليًّا جديدًا تمامًا للتسويق وكيفية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم، وكان قائمًا على علم اتخاذ القرار؛ أي نتائج أحدث الدراسات الجماعية في مجالات العلوم العصبية والاقتصاد السلوكي وعلم النفس الاجتماعي والمعرفي. وجدتُه رائعًا لأنه قدم لي تفسيرات لسلوك المستهلكين، وهو ما كان يحيرني في السابق، لكنه كان مزعجًا في الوقت نفسه لأنه دحض بعضًا من أهم افتراضاتي الأساسية عن عملية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم. لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أشهد فيها قوة نموذج لم يكن يعتمد على معتقدات وافتراضات، وإنما كان يعتمد على أحدث النتائج العلمية. إن استخدام تلك المعرفة لم يقدم فقط مفردات جديدة كانت مهمة جدًّا لفهم سبب سلوك المستهلكين، وإنما قدم في الوقت نفسه إطارًا عامًّا عميقًا للتسويق؛ بدءًا من وضع استراتيجية العلامة التجارية وبناء الصورة الذهنية لها، وحتى الابتكار والإعلان واستخدام الوسائط التفاعلية.

وهذا النموذج الجديد لم يكن مدهشًا ومختلفًا فقط، وإنما أثبت أيضًا أنه كان سببًا لتحقيق نجاح مالي كبير للعلامة التجارية التي كنت أديرها، ومصدر إلهام لحملة «ارقص» الإعلانية الشهيرة في المملكة المتحدة؛ ففي ظِل سوق شديدة التنافسية، كانت نتائج استخدامه مذهلة:
  • ١٤٦ بالمائة عائد استثمار.

  • زيادة المبيعات بنسبة ٤٩ بالمائة.

  • زيادة الحصة السوقية بنسبة ٦ بالمائة.

  • انخفاض تكاليف اكتساب عملاء جدد للنصف.

  • زيادة ثلاثة أضعاف في نسبة العملاء الذين يفكرون في العلامة التجارية في أي عملية شراء.

  • تضاعُف نسبة الحصول على الخدمات الخاصة بكُرة القدم من متاجر البيع بالتجزئة، وزيادة التحول للعلامة التجارية بنسبة ٢٠ بالمائة.

  • زيادة العملاء الحاليين لاستخدامهم للخدمات وإنفاقهم ١١ بالمائة أكثر من السوق.

  • ٣٦ مليون مشاهدة على موقع يوتيوب وإنشاء ٦٨ مجموعة على موقع فيسبوك.

(المصدر: شركة تي-موبايل ومعهد ممارسي الإعلان)

نتيجةً لذلك، تم تطبيق هذا النموذج على كل «نقاط التفاعل» الأخرى بين علامة تي-موبايل التجارية والمستهلكين، مثل تطوير العروض وتصميم متاجر البيع بالتجزئة والخدمات المقدمة للعملاء. وطبقًا لما تقوله لايسا هاردي، التي كانت حتى وقت قريب نائبة رئيس شركة تي-موبايل في المملكة المتحدة، فإن التأثير المجمع لتلك التغييرات، والحملات الإعلانية اللاحقة المعتمدة على نفس نظام التواصل، هو انخفاض معدل فقدان العملاء (أي نسبة العملاء الذين أوقفوا التعامل مع الشركة) للنصف. وقد تحولت الشركة الآن من الأسوأ في سوق شبكات الهاتف المحمول البريطاني فيما يتعلق بمعدل فقدان العملاء إلى الأفضل، ولن تتأخر ثانيةً. وقد تم بعد ذلك تطبيق هذا النموذج على العلامة التجارية عبر أوروبا بالكامل؛ مما أدى إلى مزيد من الاعتراف من قبل الصناعة بالإنجازات التي حققتها العلامة، بما في ذلك حصول الشركة على جائزة لأفضل عملية إعادة إطلاق للعلامة التجارية.

ألهمني هذا وجعلني أبدأ التعمق في المراجع الخاصة بعلم اتخاذ القرار. وكما ظننت، كان النموذج العقلي الذي طبقته على مدى سنوات حياتي السابقة بعيدًا عن الكمال، وفي الكثير من الحالات خاطئًا؛ فأصبحت معجبًا أكثر فأكثر بما تعلمته وقِيمته في بناء العلامات التجارية وزيادة العائد. وكانت تلك التجربة عميقة ومثيرة جدًّا لدرجة أنها جعلتني أغيِّر مساري المهني؛ فقد تركت وظيفتي في شركة تي-موبايل وانضممت لشركة ديكود، وهي شركة الخدمات الاستشارية المسئولة عن التغير الكبير الذي مررتُ به في شركة تي-موبايل، والتي أخضعتني لتدريب متطور على مدار السنوات الثلاث الماضية.

تم تأسيس شركة ديكود على يد علماء سابقين من مجالات علم اتخاذ القرار، وهؤلاء هم أيضًا طاقم عملها. وحتى تظل الشركة مواكبة لأحدث التطورات، تعاونت مع الهيئات العلمية الرائدة المتخصصة في مجال الاقتصاد العصبي، مثل معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، فإن مستشاريها ما زالوا أكاديميين يدرسون في الجامعات، سواء كأساتذة أو حَمَلَة دكتوراه. وقد تم توظيف اختصاصيين في مجال الإعلان وإدارة العلامات التجارية من أجل تكوين فريق متعدد التخصصات من الخبراء بتوليفة فريدة من الإمكانيات لتحويل أحدث المعارف العلمية إلى برامج تسويقية عملية وملموسة. وهذا التحول من العلم إلى الممارسة التسويقية اليومية هو موضوع كتابنا هذا.

إن هدف هذا الكتاب هو عرض ما تعلمته خلال رحلتي عن تحويل معارف علم اتخاذ القرار إلى طرق عملية للتسويق وكذلك الرؤى الرائعة التي توصلت إليها عن أسباب قرارات المستهلكين؛ فنحن لدينا الآن إطار عام ومفردات وقدر متزايد من المعرفة لنمكِّن المسوقين من التعامل مع الدوافع الحقيقية للاختيارات الخاصة بالعلامات التجارية. وأهم من ذلك، أسعى من خلال هذا الكتاب إلى تمكين القارئ من استيعاب تلك المعرفة القيمة وتطبيقها في الأنشطة التسويقية اليومية التي يقوم بها. إن مزايا فعل هذا تتوافق مع تجربتي الشخصية ويتردد صداها بثبات من خلال التعليقات التي نتلقاها من العملاء ووكالاتهم: قدرة تنبُّئية وتفسيرية أكبر من خلال مستوًى جديد وأعمق من التبصر، وعروض ترويجية أقوى، وموجزات تسويقية أكثر دقة وفاعلية، ومستوى كفاءة أعلى في العلاقة ما بين العميل والوكالة الإعلانية التي يتعامل معها، وثقة أكبر وقدرة محسنة على الارتقاء بالمعرفة والتدريب. هذا إلى جانب أن العملاء من الشركات المتعددة الجنسيات قد تحرروا من التوتر والإحباط المتضمَّنين في النقاشات «المركزية» في مقابل «المحلية» حول تحديد بناء الصورة الذهنية للعلامة التجارية والتطوير الإبداعي. وأخيرًا وليس آخرًا، فإن علم اتخاذ القرار يساعد المسوقين على أن يكون لهم تأثير أكبر على قرارات مجالس إدارات الشركات التي يعملون بها وعلى أن يتركوا عالمهم المنعزل.

أتمنى أن تستمتع بهذه الرحلة كما استمتعت بها.

ملحوظة أخيرة: هناك العديد من دراسات الحالة والتجارب المعروضة في هذا الكتاب، وقد أشرت لمصادرها في قسم منفصل في نهاية الكتاب، ويمكن إيجاد مزيد من التفاصيل عنها وعن موضوعات أخرى ذات صلة بهذا الكتاب في موقع الكتاب على الإنترنت على العنوان التالي: www.decoded-book.com.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤