الفصل الثالث

فك شفرة الواجهة

كيفية إدراك نظام الطيار الآلي لنقاط التفاعل الخاصة بالمنتجات

الإدراك الحسي هو البوابة التي تدخل منها أنشطتنا التسويقية إلى عقل المستهلك؛ فإدراك الإشارات التي تشكل الواجهة بين العلامة التجارية والمستهلك هو الحاجز الأول الذي يجب اجتيازه، سواء تَمثَّلت تلك الواجهة في عرض ترويجي أو منتج أو غلاف منتج أو موقع ويب أو إعلان تليفزيوني. هذا ما جعل كانمان يدمج تلك الواجهة الأساسية مع العالم الخارجي في إطاره العام لعملية اتخاذ القرار. يعرض هذا الفصل كيف تتم عملية الإدراك هذه وكيف يمكن استخدام الرؤى الأساسية المستخلصة من ذلك في تطوير أنشطتنا التسويقية.

قوة الإدراك

دعونا نلقِ نظرة على المثال التالي لنعرف مدى قوة الإدراك وكيف يؤثر على قراراتنا. انظر شكل ٣-١، وحدِّدْ أيٌّ من السيدات الثلاث أكثر جاذبية بالنسبة إلى الرجال، ولماذا؟
fig21
شكل ٣-١: أي من السيدات الثلاث يجدها الرجال أكثر جاذبية؟

إن نحو ٧٠ بالمائة من كل الذين يتم سؤالهم من الرجال يختارون الصورة «ب»، بغض النظر عن الترتيب المعروضة به الصور الثلاث. لكن ما سبب هذا التفضيل؟ وما الفرق بين الصور الثلاث؟ يكمن السبب في العلاقة بين حجم الوسط والوركين؛ ففي جميع أنحاء العالم، النسبة الأكثر «تقديرًا» بين الاثنين هي ٠٫٦٧. وكلما بعدت النسبة عن تلك النسبة المثالية، قلَّت الجاذبية بالنسبة إلى الرجال (النسبة في الصورة الأولى ٠٫٨ والصورة الثالثة ٠٫٩). ويوضح هذا قدرة الجهاز الإدراكي على تحديد حتى الاختلافات الدقيقة، وأن يقيم القرارات على أساسها. ويوضح أيضًا أنه حتى على المستوى الأكثر آلية، تُستمد القيمة من أكثر الإشارات دقة.

تتضح أهمية تلك العلاقة المباشرة بين الإدراك وتحديد القيمة بالنسبة إلى التسويق من خلال المثال التالي. انظر لشكل الزجاجتين في شكل ٣-٢ وحدد أيُّهما تَسَع كمية أكبر.
يتوقع معظم الناس أن الزجاجة الأولى حجمها أكبر، في حين أن الاثنتين لهما نفس الحجم. لماذا هذا التوقع من جانب الناس؟ أرادت بِريا راجابير، أستاذة التسويق في جامعة نيويورك، أن تفهم على نحو أفضل أي سمة أو أي عنصر من عناصر التعبئة يحدد إدراك حجم المنتج ومن ثَمَّ يؤثر على إدراك القيمة المالية له. ووجدت أن المستهلكين يستخدمون ارتفاع العبوة باعتباره الإشارة الأهم ويرتبط إدراك كبر حجم العبوات بناءً على الطول بمزيد من عمليات الشراء وسرعة الاستهلاك؛ من ثَمَّ، ربما تمثل العبوات الطويلة رأسيًّا موقفًا مربحًا لمديري العلامات التجارية وللمستهلكين؛ فهو لن يزيد فقط احتمال شرائها، وإنما أيضًا سيجعلها تُستهلك على نحو أسرع. لكن لماذا الارتفاع وليس العمق أو العرض؟ ألقِ نظرة على شكل ٣-٣.
fig22
شكل ٣-٢: أيُّ الزجاجتين تَسَع كمية أكبر؟
fig23
شكل ٣-٣: إن لهذين الخطين الطول نفسه، بغض النظر عن الطريقة التي ندركهما حسيًّا بها.

عندما نقارن بين الخطين، فإن الخط الرأسي سيبدو على نحو واضح أطول من الخط الأفقي. لكن هذا ليس صحيحًا في واقع الأمر؛ فالخطان متماثلان في الطول؛ إذن، كيف لهما أن يبدُوَا لنا غير ذلك؟ السبب هو أن إدراكنا لا يقدم لنا تمثيلًا دقيقًا للعالم حولنا؛ فما نراه هو تفاعل بين الإشارة الموضوعية والتجارب المخزنة في ذاكرتنا والتوقعات المستمدة من تلك الذكريات. لماذا إذن ندرك أن العبوات الطويلة رأسيًّا تحتوي على كمية أكبر؟ لقد تعلمنا ضمنيًّا أن الأشياء الأطول هي عادة الأكبر (على سبيل المثال، الفيل في مقابل الفأر)، ونحن نستخدم حكم الخبرة هذا للحكم على الحجم؛ حيث إن الأشياء الأكبر حجمًا لها سعة أكبر. من ثَمَّ، بالنسبة إلى المثال الموضح في الشكل، فإن شكل الزجاجة الأولى يتم إدراكه على أن للزجاجة حجمًا أكبر بسبب ارتفاعها الأكبر، حتى على الرغم من أن الزجاجتين تسعان بالفعل نفس الكمية. إذا فكر المستهلكون على نحو صريح في هذا الأمر، فربما يذكرون العمق أيضًا، لكن في وضع اتخاذ القرار المؤتمت، فإن الخبرة الضمنية هي التي تهيمن على الحكم.

من بين النقاط المستفادة من هذا الأمر أن القرارات الخاصة بتقليل الحجم (أيْ تقليل حجم المنتج مع الاحتفاظ بسعره كما هو) يجب أن تضع في الاعتبار عمليات الإدراك الخاصة بالحجم. باعتبارنا مسوِّقين، تتيح لنا معرفة القواعد والآليات التي تحدد ما ندركه تصميم واجهاتنا بالطريقة المثلى التي تتماشى مع تلك المبادئ. فإذا كان علينا الاختيار بين خيارات العبوات السابقة، فإن اختيار العبوة الأطول سيؤدي إلى زيادة إدراك الحجم؛ ومن ثَمَّ، زيادة إدراك القيمة.

***

هناك علاقة مباشرة بين الإدراك والفعل؛ يمكن أن يؤثر الإدراك على نحو مباشر في المبيعات.

العين ليست كاميرا

كلنا نعرف مقولة «الرؤية خير برهان»، لكننا لا نكلِّف عادةً أنفسنا حتى عَنَاء التفكير في أهمية الإدراك أو كيفية حدوثه. ولماذا علينا هذا؟ إننا نمرُّ عبر طرق المدينة على نحو آمن، فلماذا نهتم بالإدراك؟ إننا لا نستيقظ ونقول في أنفسنا: «يجب أن أنتبه للإدراك اليوم.» لكن، بالنسبة إلينا نحن المسوقين، الإدراك مهم لأنه منفذ الدخول للتأثير على قرارات الشراء. ولأن الإدراك يبدو طبيعيًّا وبسيطًا جدًّا بالنسبة إلينا باعتبارنا بشرًا، فمن السهل الافتراض أن كل شيء ننقله للمستهلكين سيتم إدراكه بالطريقة نفسها التي نريدها. لكن اتضح لنا من المثال الذي يوضح كيف يتغير الانطباع عن الحجم من خلال شكل الزجاجة أن عقل المستهلك لا يقوم بالإدراك على نحو سلبي، وإنما على نحو نشط.

يوضح التدريب التالي أن عقلنا ينشئ على نحو نشط ما ندركه على نحو ذاتي. في شكل ٣-٤، نرى نجمة على اليسار ونقطة كبيرة على اليمين. ضع يدك على عينك اليسرى وانظر إلى النجمة بعينك اليمنى. ثم اقترب أكثر من الكتاب. عند نقطة معينة، ستختفي النقطة الموجودة على اليمين (وإذا اقتربت أكثر، فستظهر ثانيةً).
fig24
شكل ٣-٤: وهم النقطة المختفية.

المثير للاهتمام أن مخك يملأ الفراغ الذي كانت فيه النقطة، في هذه الحالة، بلون الخلفية الرمادي. وإذا كانت عينك لم ترَ النقطة السوداء، فكيف رأت الخلفية الرمادية؟ إنها لم تفعل؛ وإنما المخ هو من أكمل الصورة. فإذا كانت الخلفية بلون آخر، لنقل الأخضر، فإن المخ سيكمل الصورة «غير المكتملة» باللون الأخضر.

***

الإدراك عملية نشطة: تبني أمخاخنا ما ندركه على نحو نشط.

***

كيف إذن تبني أمخاخنا إدراكنا للعالم؟ دعونا نبدأ بالسؤال التالي: ما «الصورة» التي ترسلها أعيننا لمناطق الدماغ المسئولة عن الإدراك البصري (المثير أن تلك المناطق توجد في الجزء الخلفي من الدماغ، رغم أن أعيننا توجد في الأمام)؟ يوضح شكل ٣-٥ ما يحدث في هذا الشأن. إن الصورة الموجودة على الجانب الأيسر هي صورة لشارع كما ندركه حسيًّا على نحو ذاتي. إننا نرى كل شيء بدقة وضوح عالية وألوان كاملة. إن هذه هي الرؤية الذاتية للعالم؛ يبدو الأمر كما لو أن لدينا كاميرا في أعيننا. لكن الواقع يمكن أن يكون أكثر اختلافًا.
fig25
شكل ٣-٥: في الصورة اليسرى، ما نعتقد أننا نراه. في الصورة اليمنى، هذا ما نحصل عليه بالفعل باعتباره مدخلًا.

توضح الصورة الموجودة على الجانب الأيمن المدخل الموضوعي الذي تستقبله عقولنا. إننا نرى فقط جزءًا صغيرًا بتركيز شديد وبألوان، في حين أن الباقي يظهر على نحو غير واضح أكثر فأكثر ويقل لونه أكثر فأكثر باتجاه محيط مجال رؤيتنا. إن المدخل الموضوعي يتكون من جهاز إحساس صغير عالٍ من حيث دقة الوضوح (وهو ما يسمى بمركز الشبكية)، إلى جانب إدراك محيطيٍّ ذي دقة وضوح منخفضة. يغطي جهاز الإحساس فقط جزءًا صغيرًا من المدخل الإجمالي، أما الباقي، فيتم تعتيمه ويكون ضبابيًّا. ماذا يعني لنا هذا باعتبارنا مسوقين؟

إن الإدراك المحيطي مهم لتعظيم فاعلية أنشطتنا التسويقية: فعَبْره، يتنقل عقلنا كي «يقرر» ما سيركز عليه بعد ذلك. إننا نريد للمتسوقين في السوبر ماركت أن يكونوا قادرين على اكتشاف علامتنا التجارية عبر الإدراك المحيطي قبل أن يكتشفوا تلك الخاصة بمنافسينا؛ يعني هذا أننا يجب أن نستخدم إشارات ضمنية لنوصِّل على نحو فريد العلامةَ التجارية والقيمة التي تقدمها إذا أردنا للمستهلكين تركيز انتباههم بالكامل على منتجاتنا. بالنسبة إلى الإعلان، يشير هذا إلى أننا إذا استطعنا توصيل العلامة التجارية وقيمتها، حتى عبر الرؤية المحيطية «الضبابية»، فإننا سنكون مؤثرين أكثر؛ حيث إن إعلاناتنا ستوصِّل ما نريد حتى عندما يكون تركيز المستهلك على شيء آخر؛ كالقيادة (في حالة الإعلانات الخارجية) أو محتوى مُحرَّر (في الصحافة والإعلان على الويب)، في هذه الحالة لن توصل إعلاناتنا رسالتها وحسب، بل ستزيد أيضًا من احتمال تركيز المستهلك عليها في المقام الأول.

***

يعتمد الإدراك الحسي فقط على المدخل الضبابي من المحيط الذي يتم إكماله عن طريق بقعة صغيرة ذات دقة وضوح عالية.

***

دعونا نلقِ نظرة على رف في أحد متاجر البيع بالتجزئة عبر عدسات نظام الطيار الآلي (انظر شكل ٣-٦). إن شكل المنتجات ضبابي، ولا يمكن قراءة أيٍّ من أسمائها؛ ومن ثَمَّ، لا يمكن استحضار أي رسائل لفظية. إن الإشارات التي علينا التعرف عليها وأن نجد من خلالها المنتج، أو المزايا، التي نبحث عنها هي في الغالب الألوان والأشكال والأحجام.
fig26
شكل ٣-٦: تلك هي الكيفية التي يرى بها المستهلكون أي رف في سوبر ماركت عبر الإدراك المحيطي.

إنه لَتدريب مفيد (وعادةً ما يكون كاشفًا) أن نجعل الإعلانات أو تصميمات العبوات أو الأرفف أو مواقع الويب تبدو ضبابية ونسأل أنفسنا ما الشيء الذي يمكن إدراكه في هذا «الوضع الضبابي»؟ هل بالإمكان إدراك العلامة التجارية؟ ما مدى تميزنا؟ ما العناصر القابلة للإدراك في كل الأحوال؟ هل التغيير البسيط الذي أدخلناه على الصورة يمكن إدراكه حسيًّا؟ هل العبوة تبدو مختلفة بعد إعادة إطلاق المنتج؛ ومن ثَمَّ هل يوجد بالفعل أي نوع من التجديد؟ يمكننا الإجابة عن تلك الأسئلة بحكم الخبرة، لكن هناك أيضًا طرقًا لاختبارها على نحو تجريبي. يمكن القيام بهذا بتحديد مستويات مختلفة للضبابية وجَعْل المشاركين في الاختبار يتعرفون على فئة المنتج والعلامة التجارية والرسالة الأساسية بأقصى سرعة ممكنة. وإذا أدرجنا إعلانات المنافسين أو العبوة الخاصة بهم، يمكن أن ننشئ خريطة توضح كيف يمكن مقارنة تصميماتنا في مقابل معيار التصميم السائد في مجالنا.

في دراسة تم فيها تنفيذ هذا بالنسبة إلى الإعلانات المطبوعة، ظهر أن الإعلانات الخاصة بكلٍّ من جارنييه ودوف هما الأكثر فاعلية في توصيل رسالة المنتج والعلامة التجارية، حتى في صورها الأكثر ضبابية. إن تلك الإعلانات العالية الأداء استطاعت توصيل رسالة المنتج والعلامة التجارية بعد مشاهدتها لأقل من ١٠٠ ملِّي ثانية؛ أيْ أقل من واحد على عشرة من الثانية أو نحو ربع طرفة عين. إن لِهذا مزايا واضحة عندما ثبت أن متوسط الوقت الذي تقضيه للاطلاع على إعلان مطبوع في أي مجلة شهيرة أقل من ثانيتين.

إن أكثر عمليات إعادة إطلاق المنتجات شيوعًا تكون تكتيكية، وهي تتضمن إجراء تعديلات صغيرة فقط على طريق تقديم المنتج. فربما يكون لرائحة المنتج اسم جديد، أو ربما تضاف ميزة جديدة. وإذا لم يكن الإعلان عن تلك التغييرات يمكن إدراكه حسيًّا من خلال «الرؤية الضبابية»، فيجب ألا نتوقع وجود أي تأثير كبير على المبيعات من تلك التغييرات. إن عملية إعادة الإطلاق قد يكون الغرض منها إعطاء متاجر البيع بالتجزئة الانطباع بأننا ما زلنا نستثمر في العلامة التجارية، لكن نادرًا ما يكون لهذا أي تأثير على إدراك المستهلك للمنتج. يوضح المثال التالي الذي يستخدم عبوتَي منتجَي المناديل المطهرة، ديتول وَتيسكو، أنه بالنسبة إلى رؤيتنا المحيطية، تبدو العبوتان متشابهتين جدًّا، وهو أمر مفيد بالنسبة إلى العلامات التجارية الخاصة ولكن ليس للمنتج ذي العلامة التجارية.

fig27
شكل ٣-٧: حتى يكون شكل العبوة مميزًا بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي، يجب أن يتم إدراكه على نحو مختلف من خلال الرؤية المحيطية.

يصعب تمييز الشكل؛ فالألوان الغالبة هي الأبيض والأزرق والأخضر. يحتوي التصميمان على عنصر دائري مائل للزرقة. إن اسم العلامة التجارية ليس واضحًا. والعلامة المميزة هي الشكل الدائري والشفرة اللونية لشعار ديتول. التعرف الفعال على علامة ديتول التجارية يمكن أن يعتمد فقط على تلك العلامات المميزة. هناك مغزًى مباشر لهذا؛ هو أنه في عمليات التواصل — سواء كانت إعلانات تليفزيونية أم عرضًا للمنتجات — يجب أن تكون العلامات المميزة للعبوة موجودة وبارزة من أجل إقامة علاقة ارتباطية قوية بين تلك الإشارات والعلامة التجارية والرسالة. ومن دون تلك العلاقة، فإن تمييز علامتنا التجارية ومنتجنا سيكون في خطر. وأسوأ من ذلك أنه إذا لم يكن هناك أي اختلاف قابل للإدراك الحسي، ومن ثَمَّ ملموس بين تغليف العلامة التجارية والعلامة التجارية الخاصة، فستقل القيمة المدركة المضافة للعلامة التجارية؛ مما ينفي عنها أي ميزة محتملة لكونها علامة تجارية.

***

يجب على وسائل التواصل التسويقية الفعالة والمميزة أن تأخذ في اعتبارها منظور نظام الطيار الآلي: هناك حاجة لأنْ تكون الرسائل قابلة للإدراك حسيًّا حتى في «الرؤية الضبابية»؛ وذلك كي تكون فعالة.

تدريب

قُمْ بجعل شكل عبوة منتجك وإعلاناتك ضبابيًّا. واسأل نفسك: ما العناصر التي يمكن إدراكها منها الآن؟ وما الذي توصله؟ وما الذي يمكن التعرف عليه على نحو مميز؟ العلامة التجارية أم فئة المنتج أم المنتج أم الرسالة؟

التعرف على العلامة التجارية

إننا نريد أن يجد المستهلكون منتجنا ونريد أن يدركوا الرسالة التي ننشد توصيلها لهم، كما نريد أن يتعرفوا على علامتنا التجارية والمزايا التي نقدمها. لكن كيف يمكن أن يحدث كل هذا عندما لا يعتمد إدراكنا الحسي إلا على المدخلات الضبابية من المحيط الخارجي إلى جانب بقعة صغيرة ذات دقة وضوح عالية؟ فيما يتعلق بالمخ، حتى نقيِّم أي منتج، يحتاج المخ أولًا الإجابة عن السؤال التالي: «ما هذا الشيء؟» بغض النظر إن كان كوبًا من الخمر أو سيارة أو شخصًا أو منتجًا، فنحن لا نستطيع أن نقيِّم الأشياء إذا لم نستطع أولًا التعرف عليها. إن التعرف على المنتجات (والأشياء بوجه عام) يحدث سريعًا جدًّا (في أقل من طرفة عين)، كما أنه عملية آلية على نحو كبير، ولا يمكننا إدراكها على نحو صريح؛ فهي تحدث وحسب. السؤال الآن: كيف يتعرف المخ على العلامات التجارية والمنتجات والرسائل؟

دعونا نلقِ نظرة أخرى على الحاسة البصرية لنتعرف على الآلية الأساسية في هذا الشأن (تنطبق مبادئ مماثلة على الحواس الأخرى، لكن الرؤية مهمة بوجه خاص؛ حيث إنها تتعامل مع نحو ٩٠ بالمائة من ١١ مليون بت في الثانية يعالجها نظام الطيار الآلي). لقد أوضحنا أن العين ليست عبارة عن كاميرا، وأن المخ لا يحصل على صورة باعتبارها مدخلًا، وأن الإدراك الحسي من ثَمَّ لا يمكن أن يعتمد على الصور. يوضح شكل ٣-٨ ما يحدث في واقع الأمر.
fig28
شكل ٣-٨: ما ندركه على مستوى الوعي هو عملية بناء نشطة معتمدة على مستويات مختلفة من المعالجة في المخ.

بالنسبة إلى المخ، بادئ ذي بدء، المنتجات ليست سوى خطوط أو حواف أو أركان أو منحنيات أو ألوان أو حركات. يفكك المخ أي منتج إلى مكوناته الفردية التي تتجمع معًا بعد ذلك على نحو تدريجي في «صورة جشطلتية» أو نمط كلي. بعبارة أخرى، الإدراك الصريح والواعي للمنتجات عملية بناء تحدث داخل رأسنا. فقد ترى سيارة على مستوى الوعي، لكن بالنسبة إلى أدمغتنا، تتكون السيارة أساسًا من خطوط وحواف وأركان ومنحنيات وألوان، ولا شيء آخر.

وحيث إن المخ لا يرى صورًا، فمن الواضح أنه لا يخزن صورًا أيضًا. فلا توجد مكتبة للصور داخل الرأس. يسمح هذا للمخ بأن يصبح أكثر مرونة؛ فيمكن أن ندرك أن شيئًا ما يمثل سيارة حتى وإن لم نرَ موديلها هذا من قبل، أو إذا كانت تسير بجوارنا بلون جديد؛ ففي النهاية، نحن نريد أن نعرف ماهيتها، لكن لا نحتاج لتخزين كل التفاصيل حتى نفعل هذا؛ حيث لن يكون هذا مجديًا وسيحتاج لسعة تخزين هائلة. لكن إذا تعرفنا على الأشياء فقط على أساس الصور المخزنة سابقًا، فلابد أن يكون قد سبق لنا رؤية نفس الشيء بالضبط. يجب أن تكون كل حافة وكل ركن وكل لون مطابقًا لما رأيناه من قبل. إن أي اختلاف — كاختلاف اللون مثلًا — سيجعل عملية التعرف مستحيلة؛ حيث سيجعل الشيء غير مطابق. لحسن الحظ، ليس هذا هو الوضع؛ فنحن نتعرف على الموديلات الجديدة من السيارات على أنها سيارات، ويمكن أن نتعرف على أصدقائنا القدامى حتى ولو لم نكن قد رأيناهم منذ عدة سنوات ورغم حقيقة أن ملامحهم قد تغيرت (على سبيل المثال، لديهم تجاعيد أكثر أو شعر أقل أو حتى شعر رمادي). لحسن الحظ، مرونتنا في التعرف بهذه الطريقة تنطبق أيضًا على المنتجات والعلامات التجارية، وذلك كما يتضح من شكل ٣-٩.
fig29
شكل ٣-٩: العلامة التجارية واضحة رغم عدم دقة الكتابة.

أيُّ علامة تجارية هذه؟ ليس لديك أي صعوبة في إدراك أن تلك العلامة هي لكوكاكولا، على الرغم من أنك لم ترَ تلك الصورة الفعلية من قبل ورغم حقيقة أن الشعار قد تغير على نحو كبير. السؤال الآن: كيف حدثت عملية التعرف على العلامة التجارية هذه؟ إن أدمغتنا مصممة بحيث تتسم بالكفاءة والمرونة في ذات الوقت. هذا هو السبب وراء كون عملية التعرف هذه ليست معتمدة على أيِّ بت من ١١ مليون بت من المدخل الذي نستقبله عن طريق حواسنا. بدلًا من ذلك، هي تعتمد على العلامات ذات القيمة التمييزية الأعلى؛ على سبيل المثال، إن السمة الأساسية لأي كرسي هي أن له أربع أرجل وظَهرًا. فإذا نزعنا الظهر من الكرسي، فسيصبح مقعدًا بلا ظهر. إننا فقط من خلال هذا المبدأ (السمات الأساسية التي لها قيمة تمييزية أعلى) نستطيع التعرف على أصدقائنا القدامى، حتى إذا لم نكن قد رأيناهم منذ فترة طويلة، سواء كانوا يرتدون نمطًا مختلفًا من الملابس أو غيروا من طريقة تصفيف شعرهم؛ فيمكن للصورة الإجمالية أن تتغير على نحو كبير، لكن ما دامت العلامات المميزة ما زالت موجودة، فسنستطيع التعرف على الشيء في النهاية.

الرسوم الكاريكاتورية خير مثال في هذا الشأن؛ فرغم إدخال الكثير من التغييرات على الأصل، فإن السمات الأساسية التي توفِّر العلامات المميزة الرئيسية يتم الإبقاء عليها (على سبيل المثال، طريقة تصفيف مارجريت تاتشر لشعرها، وكذلك أسنانها وأنفها)؛ ومن ثَمَّ، نحن لا نجد أي صعوبة في التعرف على الشخصية.

***

ليست لدينا ذاكرة خاصة بالصور، لكن قدرتنا على التعرف على الأشياء تعتمد على العلامات ذات القيمة التمييزية الأعلى.

***

بالنسبة إلينا نحن المسوِّقين، يعني هذا، من جانب، مزيدًا من الحرية، لكن في نفس الوقت يجب أن نكون حذرين أكثر بشأن ما نقوم به من تغيير. فإذا أطلقنا عملية توسيع حصرية لخطوط المنتج ونريد أن تظهر أكثر تميزًا، فربما نفكر في تغيير لون الشعار من الأزرق إلى الذهبي أو الفضي. وإذا افترضنا أن المستهلكين يخزنون صورًا كاملة في ذاكرتهم ويستخدمونها للتعرف على العلامة التجارية، فلن تنجح مساعينا. لكن إذا وضعنا في اعتبارنا ما عرفناه لتوِّنا فيما يتعلق بكيفية تعرف المخ على المنتجات والعلامات التجارية، فيمكن أن نبدأ في مناقشة هذا الموضوع على نحو منهجي أكبر. فإذا كانت القيمة التمييزية للَّون منخفضة بالنسبة إلى علامتنا التجارية، فإن المستهلكين لن يجدوا أي صعوبة في التعرف عليها رغم حدوث تغير في اللون. لكن إذا كان لون العلامة التجارية مهمًّا في التعرف عليها، كما في حالة شعار كوكاكولا، يجب ألا نغيره. وفي حين أن تعديل شعار المنتج قد يُحدِث مشكلات لأسباب داخلية (على سبيل المثال، ربما يكون إشارة للآخرين للبدء في محاولات تعديل غير بارعة لهوية الشركة المنتجة)، فإن مبدأ العلامات المميزة يمكن أن يكون مفيدًا جدًّا في تحديدِ إن كان يمكن تغيير سمة معينة، مثل ميزة بصرية أو شكل العبوة أو لون الخلفية أو إن كان من الأفضل تركها كما هي دون تغيير.

المهم أن نعرف العلامات المميزة، وفيما وراء ذلك لدينا درجة من الحرية في التغيير. لكن ما يجب أن نتجنبه تمامًا هو تغيير عدة علامات مميزة أساسية في وقت واحد.

مع وضع هذا في الاعتبار، دعونا نلقِ نظرة على عملية إعادة إطلاق العلامة التجارية لعصير البرتقال تروبيكانا (انظر شكل ٣-١٠). لقد جذبت إليها قدرًا كبيرًا من الانتباه في الصحافة التسويقية عندما أدت العبوة الجديدة — رغم إطلاق حملة إعلانية قيمتها ملايين الجنيهات الاسترلينية للدعاية لها — إلى خسارة تكبدها المنتج قدرها ٣٠ مليون يورو في شهرين فقط. ولا عجب أن هذا أدى إلى سحب العبوة الجديدة من السوق.
fig30
شكل ٣-١٠: غيرت تروبيكانا عدة علامات مميزة أساسية تساعد في التعرف على علامتها التجارية في عملية إعادة الإطلاق.

إن عصير البرتقال نفسه لم يتغير وكان طعمه رائعًا مثلما كان من قبل، كما أن اسم العلامة التجارية — وكل ما تمثله — لم يتغير، إضافة إلى ذلك، فإن العبوة الجديدة بالتأكيد بدت أكثر حداثة (الأمر الذي أكده البحث السوقي) وقد تبدو أفضل على طاولة الإفطار، لكن فيما يتعلق بالتعرف على العلامة التجارية، فإن خصائص العبوة تغيرت على نحو كبير: فرمز البرتقالة وبها شفاطة حل محله كوب زجاجي، وقد تغير حجم الخط المستخدم وكذلك مواضع كل العناصر الأساسية. إن صورة البرتقالة وشكل الشعار في التصميم القديم كانا لهما قيمة تمييزية عالية في التعرف على العلامة التجارية والمنتج، وبتغييرهما أصبحت عملية التعرف الآلية، خاصة في ظروف ذات دقة وضوح منخفضة (أيْ في الرؤية المحيطية) شبه مستحيلة.

لذا، فمعرفة العلامات والعناصر التي لها قيمة تمييزية مرتفعة أو منخفضة مهمة جدًّا عندما يتعلق الأمر بإدارة عمليات إعادة طرح المنتجات وإحداث تغييرات في تصميم العبوات. لكن كيف يمكن لنا أن نتعرف على تلك العلامات والعناصر؟ وما المقصود بالقيمة التمييزية لأي علامة؟ دعونا نلقِ نظرة على المثال التالي. يعرض شكل ٣-١١ منتجات من فئات مختلفة. حدد أيًّا من تلك المنتجات منخفض السعرات الحرارية.
fig31
شكل ٣-١١: من العلامات المميزة للمنتجات المنخفضة السعرات الحرارية اللون الأزرق الفاتح لعبواتها.

ليست لدينا صعوبة في تحديد هذا؛ إذن، ما العناصر التي تشير إلى تلك النوعية من المنتجات؟ وما السمة ذات القيمة التمييزية الأعلى؟ تأتي الإجابة عما سبق من المقارنة بين كل المنتجات التي في تلك الفئة وتحديدِ ما تشترك فيها جميعًا. ما الزوايا والألوان والأشكال وغير ذلك من العناصر المشتركة فيما بينها؟ في هذه الحالة، الإجابة واضحة: كل المنتجات المنخفضة السعرات تشترك في اللون الأزرق الفاتح. وهذا بالضبط المبدأ الذي يستخدمه المخ عند تحديد العلامات المميزة الأساسية من مجموعة هائلة من المعلومات المتداخلة. واعتمادًا على التعلم الارتباطي وبناءً على مبدأ «الخلايا العصبية التي تنطلق معًا ترتبط معًا»، نعلم أن هناك احتمالية كبيرة أن يكون المنتج الذي يستخدم اللون الأزرق الفاتح في عبوته منخفض السعرات.

عندما نحصل على مدخل بصري من مستقبلاتنا، يطابق عقلنا تلك المعلومات مع أي شيء مخزَّن في ذاكرتنا الارتباطية. وبمجرد أن نجد ارتباطًا كافيًا مع علامات مميزة مخزنة، تكتمل عملية التعرف. وتتم تلك العملية على نحو ضمني بالكامل وتحدث في خلال ملِّي ثوانٍ. والسبب في أنها تحدث بسرعة هكذا أن المخ لا يكون عليه الاعتماد في تلك العملية على كل المعلومات، وإنما بدلًا من ذلك يركز على العلامات المميزة الأساسية، والتي تم تحديدها من قبل. فإذا كنا بحاجة للتركيز على كل التفاصيل، فلن يكون هذا مجديًا تمامًا. ويمكننا تقييم القوة التمييزية لكل سمة من السمات الخاصة بعلامتنا التجارية. ويمكن تحقيق ذلك، على سبيل المثال، بتغيير بعض عناصر تصميمنا ثم اختبار أدائه فيما يتعلق بالتعرف على العلامة التجارية. عندما يتم حذف السمات المميزة الأساسية، فستقلُّ كفاءة عملية التعرف هذه. هناك أسلوب آخر يتمثل في تحديد العلامات المميزة الأساسية في فئة المنتج. وبالحذف الانتقائي لعلامات تجارية من رف عادي وبسؤال المشاركين في الاختبار عن اسم الفئة بأسرع ما يمكن، يمكننا تحديد العلامة التجارية التي لها القيمة التمييزية الأعلى لفئة معينة.

هناك طرق عدة للتعرف على العلامات المميزة، لكن علينا دائمًا التأكد من أننا نقيس استجابات نظام الطيار الآلي بجعل المشاركين يستجيبون بأقصى سرعة وتلقائية ممكنتين؛ أيْ دون أن يتدخل نظام الطيار البشري.

اعتماد عملية التعرف أيضًا على العلامات السياقية

على الرغم من أن قاعدة أن «المنتج المنخفض السعرات يكون لون عبوته أزرق فاتحًا» تبدو واضحة هنا، ثمة شيء ناقص. ماذا لو رأينا سيارة أو قميصًا أو حذاءً له هذا اللون؟ من غير المحتمل أن نرى أن تلك الأشياء عبارة عن منتجات منخفضة السعرات، أليس كذلك؟ فإلى جانب العلامات المميزة، هناك خطوة أخرى مطلوبة لعملية التعرف الفعالة. خذ باعتبارك مثلًا التقاءك مصادفة بزميل لك في العمل ظللتَ تعمل معه لمدة عشر سنوات في حمام بخار أو أي مكان آخر لم تلتقِه به من قبل. إنك تستغرق برهة من الوقت حتى تتعرف عليه وتحدد المكان الذي عرفته فيه؛ يرجع السبب في ذلك إلى أن عملية التعرف هذه تعتمد على السياق على نحو جوهري. تخيل زهرة أو كرة قدم أو بيتًا؛ من الصعب عليك تخيُّل رؤية أيٍّ من تلك الأشياء دون خلفية و/أو أشياء أخرى. إن خبرتنا التي استقيناها من العالم المرئي تُمْلي علينا توقعاتنا فيما يتعلق بالأشياء الأخرى التي نتوقع وجودها في أي مشهد وتكوينها المكاني؛ فرؤية عجلة قيادة داخل سيارة تكوِّن لدينا توقعات بشأن مكان وجود المذياع وطفاية السجائر والمرايا. إن تلك الخصائص المتوقعة لبيئتنا تساعدنا في عملية التعرف على الأشياء؛ فالتعرف على يد شخص، على سبيل المثال، يقلل على نحو ملحوظ التأويلات المحتملة للشيء الموجود على رسغ هذا الشخص إلى ساعة أو سوار؛ فمن غير المحتمل أن يكون حزامًا أو إطار سيارة. هكذا يتضح أن تضمين السياق في عملية التعرف أمر مهم جدًّا.

وجد عالِم الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا موشيه بار وفريقُه أن هناك تيارَيْن عاملين في العقل وهما معًا يقومان بعملية التعرف على الأشياء. فتلك العملية تتطلب دائمًا تيارين: الأول يركز على الشيء الذي ننظر إليه، والثاني — وعلى نحو موازٍ — يعالج المعلومات الخاصة بالسياق الذي نوجد فيه. يوضح شكل ٣-١٢ مدى أهمية السياق بالنسبة إلى المخ حتى يستطيع التعرف على شيء معين. إن مجفف الشعر الموجود في الصورة اليمنى والمثقاب الموجود في الصورة اليسرى يبدوان متطابقين من الناحية المرئية: تنهي المعلومات السياقية على نحو فريد الغموض في كل حالة. وهكذا، فإن السياق مهم على نحو مماثل في عملية التعرف على شيء معين مثل الشيء نفسه.
fig32
شكل ٣-١٢: يحدد السياق إن كان الشيء مجفف شعر (كما في الصورة اليمنى) أو مثقابًا (كما في الصورة اليسرى).

هذا يعني أننا عادة لا نتعرف على أحد الأشخاص في الأماكن التي غالبًا ما لا نراه فيها لأن ذاكرتنا لا تخزن فقط الخصائص المحدِّدة لهذا الشخص وإنما أيضًا السياق الذي عادة ما نراه فيه باعتباره سمة محدِّدة. يفسر هذا السبب وراء تعرفنا بسهولة كبيرة على المنتجات المنخفضة السعرات؛ فالمنتجات التي ألقينا نظرة عليها كلها منتجات غذائية ومن فئة المنتجات المنخفضة السعرات، واللون الأزرق الفاتح لعبواتها أو أغلفتها هو السائد؛ ومن ثَمَّ فهو علامة مميزة.

إذن تعتمد عملية التعرف على الشيء وعلى السياق الذي يوجد فيه هذا الشيء. ويمدنا هذا بإمكانية استخدام السياق في التأثير على «الحيز» العقلي الذي يضع فيه المستهلكون منتجنا. وجدت شركة يونيليفر أن مبيعات منتجها بيبرامي — الذي هو عبارة عن وجبة خفيفة من اللحوم — قد زادت على نحو كبير عندما غيرت المكان الذي يوضع فيه المنتج في متاجر البيع بالتجزئة. في السابق، وتحديدًا في ثمانينيات القرن العشرين، حاولت الشركة البناء على مزايا المنتج، والتي من بينها أنه لا يحتاج إلى حفظه في الثلاجة، وكانت تضعه إلى جانب الأطعمة الخفيفة الأخرى مثل منتجات رقائق البطاطس. لكن المستهلكين لم يتوقعوا وجود منتجات اللحوم في أي مكان غير أماكن عرض الأطعمة المبردة؛ ومن ثَمَّ انخفضت المبيعات بعض الشيء. بالنظر لسياق وضع المنتج داخل المتاجر في ذلك الوقت، كان احتمال أن يكون هذا المنتج أحد منتجات اللحوم منخفضًا جدًّا. وعندما تم تغيير مكان وضعه في متاجر البيع بالتجزئة ووُضِع إلى جانب الأغذية الخفيفة المبردة الأخرى، زادت مبيعاته على نحو كبير.

إن حقيقة أن عملية التعرف معتمدة على السياق تعني أيضًا أننا لا نحتاج لتضمين قدر كبير من المعلومات في تصميم غلاف أحد منتجاتنا، إذا كان بإمكاننا استخدام البيئة التي يباع فيها هذا المنتج للتعريف به. ويفسر هذا أيضًا لماذا عادةً ما نتذكر رؤية أشياء في أحد الإعلانات رغم أنها في واقع الأمر غير موجودة فيه. مثال على ذلك علامة تجارية خاصة بفرش الأسنان، والتي استَخدمت لسنوات عديدة شهادة تزكية من رجل كبير السن في وسائل التواصل الخاصة بها، ثم استبدلت بتلك الشهادة شهادة تزكية لامرأة أصغر سنًّا. على الرغم من أن الاختلاف بين المرأة الصغيرة والرجل الكبير السن يبدو واضحًا، فإن أكثر من نصف المشاركين في أحد الأبحاث تذكروا رؤية شهادة الرجل عندما رأوا في الحقيقة إعلانات تظهر شهادة المرأة. يحدث هذا لأن العلامة التجارية تعمل بمنزلة السياق الذي تستقبل في إطاره القصة. تم ربط شهادة الرجل في الشبكة العصبية لتلك العلامة الخاصة لدى كل مشارك، وتم تنشيطها عندما تم التعرف على العلامة التجارية، ثم غطى توقع رؤية شهادة الرجل على كل التفاصيل الأخرى للإعلان.

***

يَستخدم نظام الطيار الآلي العلامات المميزة والسياق للتعرف على العلامات التجارية والمنتجات.

المفاهيم والمقصود بها

إن لشركة إنتاج الجعة المتعددة الجنسيات أنهايزر بوش إنبيف علامة تجارية لجعة ألمانية ضمن منتجاتها تسمى هاسراودر (انظر شكل ٣-١٣). أنفقت العلامة التجارية هذه مؤخرًا ٣٠ مليون جنيه استرليني لتحديث زجاجتها التي سعتها نصف لتر. ما غيرته هو شكل عنق الزجاجة: من عنق مكون من مقاطع دائرية إلى آخر مكون من مقاطع سداسية. لكن محتوى الزجاجة نفسه لم يتغير.
fig33
شكل ٣-١٣: قدمت العلامة التجارية الألمانية للجعة هاسراودر شكل عنق زجاجة جديدًا.

حتى يؤدي هذا التغيير لزيادة المبيعات، يجب أن يرفع القيمة المدركة للمنتج. لكن كيف يمكن لشكل عنق الزجاجة أن يغير القيمة المدركة؟ إن مسألة «ما هذا الشيء؟» التي طرحناها قبل ذلك ليست كافية للإجابة عن هذا السؤال لأنه لم يختلف أيٌّ من العلامة التجارية والشعار والمنتج. ولفهم العملية التي يمكن أن تؤثر من خلالها تلك التغييرات على القيمة المدركة للمنتجات ومن ثَمَّ مبيعاتها، دعونا نلقِ نظرة على دراسة رائعة قام بها كريستوف كوك من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. استعان كوك وفريقه البحثي بمرضى يعانون من الصرع في تجربة غير عادية. تم زرع أقطاب كهربية في أدمغة هؤلاء المرضى لتحديد مركز الصرع. ثم عرض الباحثون على المرضى صورًا لشخصيات شهيرة، بدءًا من بارت سيمبسون إلى بيل جيتس وهالي بيري. ماذا كانت النتيجة؟ لكل شخصية شهيرة، حدث تنشيط لمجموعة مختلفة من الخلايا العصبية، والنتيجة الأكثر إدهاشًا تمثلت في أن الخلايا العصبية المرتبطة بشخصية هالي بيري كان يتم تنشيطها سواء كانت هالي تُرى من اليسار أو اليمين، وسواء كانت ترتدي قبعة أو نظارة شمس أو لا، وسواء كانت مبتسمة أو لا، وسواء كانت ترتدي زي المرأة القطة أو لا، وحتى عندما كان اسمها يظهر فقط؛ في كل تلك المواقف، كانت الخلايا العصبية نفسها يتم تنشيطها. ما الذي يعنيه هذا؟ يشير هذا إلى أنه من غير المهم للمخ كيف تشفر العلامة التجارية هالي بيري، سواء كصورة أو مجرد نص؛ فما دام معنى «هالي بيري» يمكن التعرف عليه، فسيتم تنشيط الخلايا العصبية المرتبطة بتلك العلامة. إن المخ لا يجيب فحسب عن السؤال «ما هذا الشيء؟» وإنما يحدد أيضًا معنى الإشارة وما ترمز له. هذا هو السبب وراء أنه بإمكاننا التعرف على العلامة التجارية لشركة أو تو اعتمادًا على الفقاعات والخلفية الزرقاء فقط؛ لذا، فإن الأمر الثاني الرئيسي الذي يقوم به المخ عند إدراك أي شيء هو تحديدُ ما يرمز إليه. دعونا نلقِ نظرة أعمق على تلك الخطوة الثانية المهمة في عملية فك شفرة العلامات التجارية والمنتجات.

تخيل أنك مدعو لحفلة عيد ميلاد إحدى زميلاتك في العمل وأنك أحضرت لها طاقة ورد كهدية. إن مجرد تخيُّل هذا الآن قد يجعلنا نشعر بعدم الراحة. لكن ما السبب في هذا؟ فالوردة زهرة جميلة مظهرها رائع ورائحتها بديعة وهكذا. إن الوردة جميلة مثل زهرة عباد الشمس في واقع الأمر، لكن استجابة من سيحصل على الهدية (ومن يشهد تقديمها) ستكون مختلفة جدًّا بالتأكيد؛ والسبب وراء شعورنا بعدم الراحة مع الورد عندما يقدَّم كهدية، بخلاف شعورنا مع زهور عباد الشمس، هو المعنى الذي تنقله في هذا السياق؛ فالورد يرمز للحب والرومانسية — على الأقل في ثقافتنا — أما عن عباد الشمس، في المقابل، فيرمز للسعادة (انظر شكل ٣-١٤). فالاثنان يعنيان أشياء مختلفة، وهذا المعنى هو الذي يحدد القيمة المدركة في سياق معين. فإذا كانت زميلتك تحبك، فالقيمة المدركة ستكون عالية، في حين إذا كانت زوجة سعيدة في حياتها الأسرية، فإن إعطاءك لها الورد سيسبب لها على الأقل بعض الإحراج.
fig34
شكل ٣-١٤: تُنشِّط الزهرتان مفهومين عقليين مختلفين. في ثقافتنا، عباد الشمس يرمز للسعادة، في حين ترمز الوردة للرومانسية.
في العصور القديمة، كنا نتنافس على الزعامة والمكانة بالقتال والنزال، أما اليوم فنحن نفعل نفس الشيء، إنما بطرق أكثر مرونة وأقل إيلامًا؛ فيُرمز للتسلسل الوظيفي في الشركات من خلال المسافة بين مكان انتظار السيارة المنفصل ومدخل الشركة، وحجم المكتب أو المكاتب، ومكان جلوس المدير في غرف الاجتماعات، أو من يتحدث أولًا في معظم الأحيان في الاجتماعات. إننا نستطيع ليس فقط قول «أحبك» بالكلمات، وإنما أيضًا التعبير عنها على نحو ذي دلالة من خلال تقديم طاقة ورد وخاتم من الماس. إننا نحضر حساءً للشخص المريض أو نصنع القهوة من أجل الاندماج مع الآخرين. يمكن للبشر فقط أن يفهموا على نحو بديهي أن اللون الأزرق الهادئ له علاقة بالإنجاز، وأن اللون الأزرق الدافئ له علاقة بالتغذية والرعاية. إن الطريقة التي يمكننا من خلالها فعل هذا شيء فريد خاص بالبشر. وفي حين أننا نشترك في العديد من السمات مع الحيوانات، مثل العاطفة والفضول والسلوك الاجتماعي، فإن القدرة على ترجمة الإشارات إلى شيء أكثر تجريدًا، أو بعبارة أخرى إلى مفهوم عقلي، لا يتمتع بها سوانا نحن البشر. في ورقة بحثية نشرت في دورية «أنيوال ريفيو أوف سيكولوجي»، أشار عالم الاقتصاد السلوكي المعروف دان أريلي لهذا بأنه «استهلاك مفهومي»:

إن أسلافنا في فتراتِ ما قبل التاريخ كانوا يقضون معظم أوقات يقظتهم في البحث عن الطعام وأكله، وهي غريزة لها مردود واضح. واليوم، تلك الغريزة لم تَقِلَّ قوتها، لكن بالنسبة إلى أعداد هائلة منا، يتم إشباع هذه الغريزة في غضون دقائق نقضيها في زيارة متجر وتسخين وجبة في الميكروويف. ومع إشباعنا لاحتياجاتنا المادية وزيادةِ ما لدينا من وقت، نجد المزيد من المنافذ النفسية لهذا الدافع، وذلك عن طريق السعي الحثيث وراء المفاهيم واستهلاكها.

ما يحدث في المخ كالآتي: بعد أن نتعرف على ماهية الشيء، يتم تحويل تلك المعلومة إلى مفهوم عقلي حيث يُعطى لها معنًى إضافي. فنحن نرى الوردة وندرك أنها وردة ثم تنشِّط ذاكرتنا الارتباطية الأشياء المعتادة التي تعلمناها بالفعل عن الوَرْد، مثل المواقف المعتادة التي صادفنا فيها الوَرد. من خلال تلك العملية، نحن نطبق المعنى الإضافي. إن استخدامنا للسيارات الرياضية المتعددة الأغراض في الطرق الخاصة يرجع جزئيًّا لحاجتنا لوسيلة للتنقل، لكن المفهوم المطبق متعلق بالمكانة الاجتماعية. أوضحت عشرات الدراسات الطرق العديدة التي يمكن لتلك المفاهيم أن تؤثر من خلالها على شراء أو استهلاك الناس، بالإضافة إلى المنتج المادي نفسه. نستطيع القول إننا نحوِّل الشيء المادي «س» إلى مفهوم عقلي «ص»؛ على سبيل المثال، طاقة وَرْدٍ إلى مفهوم الحب أو سيارة رياضية متعددة الأغراض إلى مفهوم المكانة الاجتماعية. إن هذا التحول «الذي تتساوى فيه «س» مع «ص»» يسمى إعادة التشفير (على سبيل المثال، السيارة الرياضية المتعددة الأغراض تساوي المكانة الاجتماعية). يتم إدراك العناصر البصرية، مثل الشكل واللون والشعار والخط، ليس فقط فيما يتعلق بخصائصها الشكلية أو الفنية، وإنما أيضًا فيما يتعلق بالمفاهيم العقلية التي تنشطها.

***

يعاد تشفير الإشارات التي نرسلها — بدايةً من الألوان إلى الأشكال وحتى شعارات العلامات التجارية — إلى مفاهيم عقلية اعتمادًا على الارتباطات الموجودة في الذاكرة. تعتمد القيمة المدركة على المفاهيم العقلية التي يتم تنشيطها من خلال العلامة التجارية والمنتج. وتقوم قرارات الشراء على تلك المفاهيم وليس على الإشارات في حد ذاتها.

***

الشعارات المستديرة، على سبيل المثال، يتم إدراكها عمومًا باعتبارها أكثر تناغمًا وأقل عدوانية من الشعارات حادة الزوايا. بالمثل، أثبتت الدراسات وجود علاقة بين الطول النسبي للمنتج والهيمنة المدركة. يمكن تفسير تلك النتيجة فيما يتعلق بالخبرة؛ فكون الشخص في موضع عالٍ يرتبط بتمتعه بسيطرة أكبر (على سبيل المثال، السيطرة البصرية على من تحته) أو قوة أكبر (على سبيل المثال، يكون من الأسهل التعامل مع الأشياء من أعلى). ولأننا جربنا العلاقة بين التفاعل الرأسي ومفاهيم مثل الهيمنة أو الكبرياء أو السيطرة في حياتنا اليومية، فسنجد أن الاختلافات في الطول النسبي ستؤثر على المدى الذي تدرك فيه المنتجات باعتبارها معبِّرة عن تلك المفاهيم المرتبطة بها (على سبيل المثال، الكبرياء أو الهيمنة).

مثال على ذلك شركة تبيع أَوْناشًا عملاقة لصناعة البناء، وتَستخدم إعلانها لتوصيل حقائق ومزايا الأوناش ومعايير أدائها وغير ذلك الكثير. حتى تجعل الإعلان مميزًا، عرضت وكالة الإعلان صورًا مقربة للأوناش، ولم يكن يُرى أي أشخاص. وكان الفشل نصيب الإعلان. إن أي تحليل للإعلان يوضح أن المشكلة تكمن في خوف مشغل الونش من غلبة الونش الهائل. إن هذا أضعف كل الحجج العقلية القائمة على الحقائق الموجهة للنظام الصريح؛ نظام الطيار البشري؛ ومن ثَمَّ، فإن الطريقة التي قدمت بها الأوناش في الإعلان حملت ضمنيًّا رسالة لم يكن المُعلِن يقصدها على الإطلاق. فيبدو أن نظام الطيار الآلي لمشغل الونش فك شفرة رسالة مختلفة تمامًا تقول: «الونش أقوى منك.» حتى ينجح هذا الإعلان، سنحتاج لإقناع نظام الطيار الآلي لمشغل الونش بأنه لن يحتاج إلا لبضع حركات من يديه لقيادة الونش والتحكم فيه. إن تطوير الإعلان لا يحتاج فقط تضمين شخص فيه، وإنما يجب أن يوضح أيضًا كيف أن مشغل الونش يملك سيطرة عليه.

إعادة التشفير: تحويل الإشارات إلى مفاهيم

إعادة التشفير معناها تحويل المدخلات الحسية والحركية إلى مفاهيم عقلية. يظهر كيفية حدوث هذا على مستوى الخلايا العصبية في الشكل التالي، والذي قدمه عالم الأعصاب الرائد في جامعة كاليفورنيا خواكين فوستر.

يعاد تشفير كل شيء ندركه ونفعله إلى مفاهيم عقلية.

كما يتضح من الشكل، هناك نمطان أساسيان في المخ: الأول من الحواس إلى المخ، والآخر من أفعالنا (على سبيل المثال، حركات الأصابع) إلى المخ. توجد المفاهيم العقلية في المستوى الأعلى، التي هي مع ذلك مرتبطة على نحو مباشر مع المستويات التي توجد أسفلها؛ أيْ هناك علاقة ممنهجة وغير عشوائية بين الإشارات والمفاهيم؛ وهذا ما يجعلنا نرى أن الوردة الحمراء تثير مفاهيم مثل الحب، أو أن السيارة الرياضية المتعددة الأغراض ترتبط بالمكانة الاجتماعية.

إن النظر للعلاقات البنيوية بين العناصر المرئية والمعاني الرمزية أمر مهم، ليس فقط لأن عددًا كبيرًا من الدراسات أثبتت الأهمية المتزايدة للمفاهيم العقلية فيما يتعلق بعملية اتخاذ القرار بالنسبة إلى المستهلكين وتكوين الانطباعات الخاصة بالعلامات التجارية. ووفقًا لتلك الدراسات، فإن الوظيفة الأهم لمظهر أي منتج بالنسبة إلى المستهلكين، بخلاف الإمتاع الجمالي، هي تجسيد المفاهيم العقلية. ومن نتائج هذا، التي سنعود إليها لاحقًا في هذا الكتاب، أننا يجب ألا نحكم على الوسائل البصرية أو الألوان أو أنواع الخطوط أو الأشكال أو شهادات تزكية العملاء على أساس مدى الإمتاع الجمالي الذي تقدمه (أيْ إن كانت تعجبنا أم لا). بدلًا من ذلك، يجب أن نتبع العملية التي يستخدمها المخ ونسأل أنفسنا عن معنى الإشارة وأي مفهوم تثيره.

من أوجه الاستفادة المهمة من علم الأعصاب وعلم النفس الحديث أنهما يقدمان لنا منهجًا كيفيًّا وتحليليًّا للتعرف على تلك الطبقة غير الملموسة من المعنى. إن هذا المنهج يقوم على علامة منفصلة متعلقة بالخلايا العصبية (تسمى N400) لتحديدِ إن كان هناك تناسق دلالي بين إحدى الإشارات (على سبيل المثال، وسيلة مرئية أساسية) ومفهوم معين (على سبيل المثال، «الأداء»)، دون أن يكون علينا سؤال الناس عن الأمر على نحو صريح (الأمر الذي سيجعل نظام الطيار البشري يتدخل ونحن نريد استجابة من نظام الطيار الآلي). عندما يدرك المخ أن هناك تناسقًا دلاليًّا بين إشارةٍ ما ومفهومٍ ما، يحدث تغيير في نشاط الخلايا العصبية في مناطق معينة من الدماغ، وبالأخص القشرة الجبهية والجانبية. ويمكن قياس هذا التغيير من خلال مخطط كهربائية الدماغ، ويتضح من خلال دراسة ما يسميه العلماء «الجهد المحرِّض» بعد نحو ٤٠٠ ملِّي ثانية.

إن العلامات العصبية للتناسق الدلالي موضوع مثير للاهتمام، لكنه عادةً ما يكون غير عملي عندما يتعلق الأمر بقياس العينات الممثلة في مدن عديدة، أو حتى في دول مختلفة، أو الربط بينها وبين المقاييس الحالية من استقصاءات مثل تلك الخاصة بنيَّة الشراء أو التذكر. لحسن الحظ، هناك طرق أخرى أكثر عملية لقياس المفاهيم التي تثيرها إشارةٌ ما مثل ما يسمى بأساليب التهيئة أو البرمجة المستقاة من العلوم النفسية. وبفضل التقدم الحادث في التكنولوجيا، وخاصة القدرة على قياس الاستجابات الآنية للإشارات، ليس علينا اللجوء للأحكام والآراء الذاتية أو العلامات المتعلقة بالخلايا العصبية لاستنتاج تقييم تحليلي للمفاهيم العقلية الأساسية التي تثيرها الإشارات التي نستخدمها في التسويق. ومن المزايا الكبرى لعمليات التقييم الكمية هو أن تكون قادرًا على مقارنة الارتباطات الضمنية عبر الدول والثقافات. وفي حين أنه ربما يكون من الممكن الكشف عن المعاني الضمنية في ثقافة معينة، فإنه من الصعب أكثر مقارنة النتائج عبر الثقافات. وهنا تظهر القيمة الحقيقية لعمليات القياس الكمية الموضوعية.

***

يمكن قياس ما ترمز إليه الإشارات والمفاهيم التي تثيرها على نحو موضوعي باستخدام الأدوات الكمية التي يقدمها علم الأعصاب وعلم النفس. وتقيس تلك الأدوات الارتباطات بين الإشارات والمفاهيم العقلية.

***

والآن نعود ثانية لقصة عنق الزجاجة المكون من مقاطع سداسية في عملية إعادة الإطلاق لمنتج هاسراودر، والسؤال الآن هو: ما الذي ترمز له؟ هل هي مجرد تغيير أم إن الأمر يتضمن أكثر من هذا؟ وما المعنى، أو المفهوم العقلي، الذي تتم استثارته عند إدراك تلك السمة؟ إن الشكل زاويٌّ ومجعد؛ ومن ثَمَّ، أقل سلاسة من الشكل القياسي ذي المقاطع الدائرية. أثبتت الأبحاث أن الشكل الزاوي يؤثر على إدراك المستهلكين لفاعلية المنتجات؛ على سبيل المثال، الأشكال الزاوية والمستقيمة يتم إدراكها بوجه عام على أنها أكثر قوة ودلالة على الرجولة من الأشكال الدائرية والمنحنية، والتي تدرك بوجه عام على أنها أكثر رقة أو نعومة أو دلالة على الأنوثة.

من ثَمَّ، وبوجه عام، ومقارنة بعنق الزجاج الدائري الشكل، فإن العنق السداسي الشكل له دلالة أكثر على الرجولة، وهذا الشكل يقوي من إدراك العلامة التجارية باعتبارها دالة على الرجولة. ومع الوضع في الاعتبار ادعاء العلامة التجارية «لأن الرجال يعرفون السبب»، فإن هذا التغيير يتناسب مع الصورة الذهنية التي تثيرها العلامة التجارية، ويزيد من القيمة المدركة لها بين من يتناولون الجعة وأولئك الذين تمثِّل لهم الرجولة شيئًا مهمًّا. إن المستهلك يشترى مفهوم الرجولة مع هذا النوع من الجعة. وفي دراسة قام بها باحثون من جامعة تونتي في هولندا، اتضح أنه إذا كان الشكل (الطبيعي في مقابل الاصطناعي) لزجاجة ماء يتطابق مع المفهوم المنقول من خلال شعارٍ إعلانيٍّ ما، فإن تقييم العلامة التجارية والمنتج يتأثر على نحو إيجابي. وبمعرفة هذا، فإن هناك ميزة إضافية للتوافق المفهومي بين ادعاء علامة هاسراودر التجارية وشكل عنق الزجاجة الجديد.

بالنظر لتصميم عبوة منتج تروبيكانا ثانيةً (انظر شكل ٣-١٥) وتطبيق تلك العملية عليه، يتضح أن ذلك التصميم لم يكن فقط عائقًا أمام التعرف الفعال على المنتج، وإنما أيضًا المفهوم، أو المعنى، الذي يثيره قد تَغيَّر تغيُّرًا كبيرًا.
fig36
شكل ٣-١٥: ينقل تصميم العبوة الجديد مفاهيم مختلفة؛ ومن ثَمَّ قيمة مختلفة مقارنةً بالتصميم الأصلي.

إن الوسيلة البصرية الأساسية الموجودة على العبوة الجديدة هي كوب من عصير البرتقال. السؤال الآن: أين نرى عادةً هذا النوع من الكوب في حياتنا اليومية؟ ومتى نراه؟ الإجابة: من النادر نسبيًّا أن نراه. من غير المحتمل أن هناك العديد من الأسر سيكون هذا النوع من الأكواب موجودًا على طاولة الإفطار خاصتهم كل صباح. بالنسبة إلى تلك الأسر، ما دلالة ذلك عنهم؟ وما الأسرة التي يتناسب هذا معها؟ بالطبع، الأسرة الغنية الميسورة الحال جدًّا. ومتى نستخدم هذا النوع من الأكواب؟ في فندق ربما، أو عند الدعوة لحفلة، أو ربما عندما ندعو أصدقاء على العشاء. إن كل تلك التجارب تنشِّط مفهوم «المناسبة الخاصة»؛ لذا، ما الذي يخبرنا به عن المناسبات التي يتناسب معها هذا المنتج؟

دعونا نلقِ نظرة الآن على التصميم الأصلي. على نحو طبيعي، صورة البرتقال توصل ماهية المنتج؛ أيْ عصير برتقال، لكنها توصل أشياء أخرى عديدة إلى جانب ذلك. هناك ورقة شجر بجوارها. أين يمكن أن ترى شيئًا كهذا؟ في واقع الأمر، فقط في حبات البرتقال التي تم اقتطافها للتو. إن هذا ينشط مفهوم الطزاجة والنضارة. إن الكوب لا ينشِّط هذا المفهوم؛ فبالنسبة إلى الكوب، نحن لا نعرف إن كان العصير طازجًا أم لا. من الممكن أن يكون طازجًا، لكن ليست هناك إشارة قابلة للإدراك تقول هذا، وكما عرفنا، لا يمكن أن يتم تنشيط الذاكرة الارتباطية تلقائيًّا من دون إشارة قابلة للإدراك. ما الذي تستدعيه الشفاطة في ذاكرتنا؟ وما نوع الشفاطة الموجودة في تصميم العبوة؟ هل هي شفاطة كوكتيل؟ هذا مستبعد لأن عليها حلقات ملونة وهذا النوع من الشفاطات هو ما نعطيه لأطفالنا؛ من ثَمَّ، فإن تلك الشفاطة هي من النوع المستخدم على نحو يومي. الخلاصة أنه ليس فقط السؤال «ما هذا الشيء؟» (أيْ عملية التعرف) هو الذي كان به مشكلة، وإنما أيضًا المعنى الذي تم توصيله من خلال التصميم الجديد قد تَغيَّر على نحو جوهري.

إن الهدف من التغيير كان إضفاء مزيد من الفخامة. وقد تحقق هذا؛ حيث إن التصميم الجديد كان بالتأكيد أكثر إتقانًا، لكن إن كان المفهوم المرتبط به قد حفز المستهلكين أم لا على شراء المنتج هو أمر مشكوك فيه بالنظر للانخفاض الحاد في المبيعات. بالنسبة إلينا باعتبارنا مسوقين، هذا المستوى المفاهيمي هو المفتاح لإدارة عملية إدراك القيمة الخاصة بمنتجاتنا ودعمها.

وكما هو الحال مع عملية التعرف، يعتمد المعنى على السياق. في التسويق، نقضي وقتًا طويلًا في مناقشة الإشارات التي سنستخدمها في إعلان تليفزيوني أو على غلاف منتجٍ ما. لكننا نميل لتقييم الوسيلة المرئية الأساسية، على سبيل المثال، دون أن نأخذ في الاعتبار السياق على نحو منهجي. يوضح شكل ٣-١٦ أن هذا يقلل من كفاءة وموضوعية المناقشات؛ لأن المعنى، تمامًا مثل الإدراك والتذكر، معتمد على السياق.
fig37
شكل ٣-١٦: المعنى يعتمد على السياق.
إذا قرأنا محتوى هذا الشكل على هيئة سطرين منفصلين، فإن جميعنا على الأرجح سيفكُّ شفرة الإشارة الموجودة في منتصف السطر العلوي على أنها حرف B وفي السطر السفلي على أنها رقم ١٣، رغم أنهما متطابقتان. من الواضح أن السياق يحدد المعنى الذي يتم توصيله. تخيل أنك تريد استخدام ماسة باعتبارها رمزًا في عملية التواصل. إن الماسة مرتبطة بأكثر من معنًى؛ فهي ترمز للمتانة والتألق والفخامة والزواج. فأيٌّ من تلك المعاني سيتم إدراكه من قِبل المستهلك يعتمد على السياق الذي تقدم فيه. فإذا وضعت ماسة في إعلان عن معدات البناء، فإن المتانة ستكون في الغالب هي المعنى السائد. لكن إذا وضعتها على عبوة تحتوي على صبغة شعر، فمن المحتمل أن تنشِّط مفهوم التألق. هكذا يتضح أن وضع السياق في الاعتبار عند مناقشة تنفيذ عملياتنا التسويقية سيجعل تلك المناقشات أكثر فاعلية.

***

المعنى يعتمد على السياق.

معضلة الاتساق والتجديد وكيفية حلها

هناك طرق عدة للتعبير عن مفاهيم مثل المكانة أو الحب. الوردة واحدة فقط من الطرق الكثيرة المعبرة عن الحب أو الرومانسية؛ فالخاتم أو القلب الذي به سهم يمكن أن يرمز لنفس المفهوم العقلي. توفِّر تلك المرونة التي يتميز بها العقل البشري في الربط بين إشارات مختلفة والمفهوم نفسه إمكانية التغلب على إحدى المعضلات الكبرى التي نواجهها في إدارة العلامات التجارية؛ وهي المفاضلة بين التجديد والاتساق. إننا جميعًا ندرك هذين المتطلَّبَين؛ ضرورة التجديد وفي الوقت نفسه الاتساق. إننا نرغب في تغيير جوانب معينة لأننا نريد أن نزيد المبيعات وحصة العلامة التجارية من السوق، وأن نقدم حوافز جديدة لعملائنا الحاليين أو نستعيد عملاء سابقين. وفي الوقت نفسه، نريد الحفاظ على نقاط قوتنا الحالية والتاريخية؛ ومن ثَمَّ الإبقاء على اتساقنا وقدرة عملائنا الحاليين على التعرف علينا وعدم المخاطرة بعدم تعرفهم علينا. هناك أسباب جيدة للحفاظ على الاتساق، لكنْ هناك أيضًا أسباب جيدة لضرورة التجديد. لا عجب إذن أننا نعقد مناقشات عديدة حول هذا الموضوع بالذات؛ ما الذي يجب أن نحافظ عليه؟ وما الذي يمكن، أو يجب بالفعل، أن نغيره؟

توصل اختصاصيو علم النفس المعرفي منذ فترة طويلة إلى أن المخ يتعلم على نحو أفضل عندما يمكننا الدمج بين المعرفة الجديدة والمعرفة السابقة؛ من ثَمَّ، فإن عامل الاعتياد مهم جدًّا لفاعلية وكفاءة عمليات الدعاية. نحن نعرف هذا جيدًا، لكن لماذا نحن البشر عادةً ما نجد صعوبة شديدة في تعلم الأشياء الجديدة؟ الأمر متعلق بطريقة استجابة المخ للتحفيز. قاس باحثون من جامعة رادبود في نايميجن بهولندا نشاط الخلايا العصبية عند الاستجابة للمعلومات المألوفة والجديدة؛ أيْ غير المتوقعة؛ فإذا كانت إحدى الإشارات متوقعة، أيْ متسقة مع التوقعات، فستتوقف معالجة تلك المعلومة عند هذا الحد. ولو اتسقت المعلومة مع ما هو متوقع، فإنه سيتم تجاهلها؛ حيث سيتوقف تنشيط الخلايا العصبية المرتبطة بها أو تتعامل تلك الخلايا مع أشياء أخرى. إن تأثير هذا التوقف لتنشيط الخلايا العصبية من أسباب وقوع معظم حوادث السيارات على الطرق التي نعرفها جيدًا؛ فلن يكون هناك تركيز كافٍ على المعلومة، وسيكمل عقلنا المعلومة من الذاكرة، فبمجرد أن نتوقع شيئًا ويتأكد افتراضنا من خلال إشارةٍ ما، يتوقف تحفيز المخ وينتبه لأشياء أخرى. هذا شيء مفيد للغاية؛ فلماذا نقضي وقتًا أكبر في الانتباه لشيء في حين أننا نعرف ما هو بالفعل؟ لهذا يجب أن تكون عملية التواصل جديدة على نحو كافٍ حتى تتحقق عملية التعلم بالنسبة إلى المستهلك. بعبارة أخرى، من دون تجديد، سيتم تنشيط الارتباطات الحالية فقط، ولن يتم تعلم أي شيء؛ فالتجديد يفتح الباب لتوصيل أشياء جديدة.

إن المَخرج من المعضلة الخاصة بالاتساق والتجديد هو التمييز بين الإشارات القابلة للإدراك والمفاهيم التي تثيرها من خلال عملية إعادة التشفير؛ فحتى نستفيد من كلٍّ من الاتساق والتجديد؛ نحتاج للاتساق على مستوى المعنى، وللتجديد على مستوى الإشارة. إن زجاجة جعة هاسراودر مثال جيد في هذا الشأن؛ فتصميم عنق الزجاجة الجديد إشارة جديدة، لكنه يتناسب، بل ويدعم، مفهوم الرجولة؛ ومن ثَمَّ، يزيد القيمة المدركة في سياق الوعد الكلي للعلامة التجارية «لأن الرجال يعرفون السبب». مثال جيد آخر على الكيفية التي يمكن بها التعامل مع تلك المعضلة العلامةُ التجارية لينكس/أكس (انظر شكل ٣-١٧). إن تلك العلامة التجارية متسقة جدًّا على المستوى المفاهيمي، لكنها تَستخدم ترجمة جديدة لمفهومها في كل مرة؛ ففي كل إعلان، يجد الشخص العادي بنات فاتنات الجمال، وهو أمر بالتأكيد له قيمة مدرَكة عالية، خاصةً بالنسبة إلى البالغين الشباب، لكن تلك الآلية تُترجَم بطرق متعددة. المهم على وجه الخصوص في كل الحملات الإعلانية للعلامة التجارية أن هناك انسجامًا للمنتج وخصائصه مع الوعد الكلي الذي تقدمه العلامة. وبالقيام بهذا، يتحقق عامل الاعتياد على مستوى العلامة التجارية أو الرسالة ويرتبط المنتج به.
fig38
شكل ٣-١٧: لينكس/أكس: إشارات جديدة لكنْ دائمًا تحمل المعنى نفسه.

***

إن المَخرج من معضلة الاتساق والتجديد هو الاتساق على مستوى المعنى والتجديد على مستوى الإشارة.

***

لكنْ ما مقدار التجديد الذي يمكن للمستهلك أن يتكيف معه؟ وما مقدار الاعتياد الضروري؟ إن التواصل الخارج عن المألوف الذي يخالف تمامًا التوقعات يجذب بالفعل الانتباه ويوجِد نشاطًا معرفيًّا أكبر؛ حيث يحاول المستهلكون التعامل مع عدم الاتساق، لكن هذا الانتباه لا يستمر لفترة طويلة إلا في حالات استثنائية، وهذا يتطلب من المتلقي الانخراط الشديد. لكن الإعلان عادةً ما يتم التعامل معه بمستوًى منخفض من الانخراط (وهذا أمر هناك إجماع عليه من قِبل الباحثين في مجال الإعلان). توضح الأبحاث أن أكثر الاستراتيجيات فاعليةً في هذا المجال هو المبدأ الذي يقضي بوجود درجة معقولة من التجديد إلى جانب بعض الاعتياد. تتفق دراسات كثيرة على أن أي رسالة تكون غير متسقة مع التوقعات على نحو معقول هي الأكثر كفاءة في زيادة الانتباه والإعجاب والتذكر والتعرف. إن الاتساق على مستوى المعنى والتجديد على مستوى الإشارة هو إحدى طرق تنفيذ المبدأ السابق.

***

إن المبدأ الذي يقضي بوجود درجة معقولة من التجديد إلى جانب بعض الاعتياد يعد الأسلوب الأكثر فاعلية في عمليات التواصل الخاصة بالتسويق.

الانتباه القائم على القيمة: نحن نرى ما نريد

لقد كشفنا النقاب حتى الآن عن الخطوة الأولى في عملية اتخاذ القرار: أيْ كيف يتعرف المخ على المنتجات والعلامات التجارية، وكيف يعيد تشفير الإشارات إلى مفاهيم، مستخدمًا السياق الذي يتم فيه إدراك تلك الإشارات. لكن بقي سؤال مهم؛ وهو: كيف ننتبه للإشارات؟ وما الذي يحدد إن كنا نولي انتباهًا لهذا أو ذاك من المنتجات أو الإعلانات أو تصميمات العبوات أو الأغلفة؟ إن ما يصادفه معظمنا هو حقيقة أننا ننتبه لبعض الأشياء أكثر من الأشياء الأخرى وأن هذا يختلف مع الوقت. فعندما نصبح آباءً، على سبيل المثال، فإننا على نحو مفاجئ نلاحظ وجود أطفال ورضَّع حولنا أكثر من ذي قبل. وإذا كنا راغبين في شراء سيارة معينة، فإننا نرى على نحو مفاجئ هذا النوع من السيارات في جميع الأنحاء؛ وليس هذا النوع من السيارة فقط، وإنما إعلانات عنه كذلك. في واقع الأمر، أثبتت الأبحاث أننا عندما نقرر شراء نوع معين من السيارات فإننا ننتبه على نحو أكبر للإعلانات الخاصة به.

لذا، عند تطوير وسائل تواصلنا، يجب أن ندرك أن قاعدة عملائنا الحالية ستولي انتباهًا شديدًا لها. ما الآلية الأساسية لتلك التأثيرات؟ وكيف تحدث؟ هذا يقودنا لواحد من أكثر الموضوعات التي تم تناولها في مجالَي التسويق والإعلان؛ ألا وهو الانتباه. فعندما يتعلق الأمر بالكيفية التي تصل بها رسالتنا أو علامتنا التجارية أو منتجاتنا لعقول المستهلكين، فإن أول شيء سيَرِدُ على أذهاننا في الغالب هو الانتباه؛ فنحن بحاجة إلى حملة إعلانية تجذب الأنظار بشدة … نحتاج إلى أن يكون هناك تأثير أكبر في أرفف المتاجر … نحتاج لجذب الانتباه إلينا. إن تلك المتطلبات والأهداف مألوفة بالنسبة إلى كل المسوقين. دعونا نلقِ نظرة على ما يمكن أن يخبرنا به العلم عن آلية عمل الانتباه.

لقد ذكرنا من قبل أن هناك نوعين من الإدراك؛ المحيطي والبؤري. والآن، حتى نستطيع رؤية أكبر قدر من العالم بأقصى درجة وضوح ممكنة، من الواضح جدًّا أن علينا تحريك أعيننا. وبقيامنا بهذا، فإن انتباهنا البؤري يتحرك. لكن كيف يحدث هذا؟ وكيف نقرر المكان الذي علينا النظر إليه أولًا، ثم المكان الذي يأتي بعد ذلك؟ حيث إننا نقوم بهذا النوع من القرارات من مرتين إلى ثلاث مرات في الثانية (مما يسمح لنا بالنوم، حيث إن هذا يحدث نحو ١٥٠ ألف مرة في اليوم)، وبما أننا لا نكون على وعي بحركات العينين هذه، فإن تلك القرارات لا يمكن أن تعتمد على عملية اتخاذ قرار واعية ومتحكم فيها، وإنما على عملية ضمنية وتلقائية؛ إذن، ما المبدأ الأساسي الذي من خلاله نقرر المكان الذي سنوجه إليه جهاز إحساسنا الصغير ذي درجة الوضوح العالية؛ ومن ثَمَّ إن كنا نرى أحد المنتجات أو الإعلانات بتركيز كامل أم لا؟ مرة أخرى، نعود للمبدأ الأساسي لعملية اتخاذ القرار، وهو أنه يعتمد على القيمة.

وَجَدَت الأبحاث التي قامت بها شركة تسويق خارجي أن متناولي الخمور نظروا للإعلانات الخارجية عن الخمور أكثر من متناولي الجعة بمقدار ثلاثة أضعاف (وقد تم قياس هذا من خلال تتبُّع العين). إن أول رد فعل لنا على هذا قد يكون: وماذا بعد؟ وما الغريب في أن ينظر متناول الخمور إلى إعلانات الخمور؟ لكن إذا تأملنا تلك النتيجة لثانية، فستجعلنا نطرح سؤالًا مهمًّا؛ وهو: ما الذي يزيد احتمال قيام متناولي الخمور بالنظر إلى إعلانات الخمور قبل أن ينظروا إليها بالفعل؟ إن المسألة ليست أن متناولي الخمور ينظرون لإعلانات الخمور لمدة أطول من متناولي الجعة، ولا أن نظرتهم العريضة تذهب للإعلان على نحو أكثر؛ النقطة الأساسية والمثيرة جدًّا في الوقت نفسه أن متناولي الخمور وجهوا إدراكهم البؤري للإعلان أكثر بثلاثة أضعاف.

السؤال: ما الذي أثار تلك النظرة الأولى؟ الإجابة تعتمد على ما ذكرناه لتوِّنا؛ أن هناك نوعين من الانتباه: انتباه محيطي ضمني، وآخر بؤري صريح. وفيما يلي آلية عمل الانتباه. تتم معالجة الإشارات المحيطية الآتية على نحو ضمني من جانب نظام الطيار الآلي، الذي يقوم بفحص البيئة بنطاق أكثر اتساعًا (من ١١ مليون بت من البيانات التي يعالجها هذا النظام، يتم استقبال نحو ٩٠ بالمائة منها عن طريق البصر) ومعالجة كل المعلومات الآتية. يتم نقل المعلومات الخاصة بشيء ما (على سبيل المثال، شعارات علامة تجارية أو إعلان خارجي أو إعلان تليفزيوني) على نحو آنيٍّ إلى منطقة الدماغ التي عرضنا لها في الفصل السابق: مركز المكافأة أو القيمة (القشرة الحجاجية الجبهية). وقد لوحظ أنه يتم تنشيط هذا المركز من ٨٠ إلى ١٣٠ ملِّي ثانية بعد بدء ظهور المثير، وهو وقت يقل عن وقت طرفة العين. والهدف من تلك العملية هو تقييم قيمةِ ما ندركه في وقت مبكر.

ومثل كشاف للقيمة، يقيِّم نظام الطيار الآلي بانتظام كل شيء ندركه بحواسنا، وإذا كان أيٌّ مما ندركه يتوافق مع احتياجاتنا ورغباتنا وأهدافنا، يعين له هذا النظام قيمة عالية، وإذا كانت القيمة عالية، يتم توجيه انتباهنا البؤري لتلك الإشارة بأمر عضلات العين بالتحرك باتجاهه. يلخص عالم الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا موشيه بار، الذي التقيناه قبل ذلك في هذا الفصل، تلك العملية كما يلي:

الاستجابات التي تشير لأهمية أو ملاءمة أو قيمة شيءٍ ما لا تحدث في خطوة منفصلة بعد التعرف على الشيء. بدلًا من ذلك، تدعم الاستجابات الشعورية البصر من اللحظة التي يبدأ فيها التحفيز البصري.

ومن ثمَّ، فإن المخ لا يتعرف فقط على الشيء بسرعة شديدة، وإنما يقيِّم أيضًا قيمته في جزء من الثانية، وهذا التقييم يحدد بدوره إلى أين ستتحرك أعيننا، ومعها انتباهنا البؤري. وكما يتضح من الصور الفوتوغرافية الظاهرة في شكل ٣-١٨، إذا كنا نشعر بالجوع، فإن نظام الطيار الآلي خاصتنا يفحص البيئة ويوجِّه إدراكنا البؤري للإشارات التي تبشر بالتوافق مع أهدافنا: في هذه الحالة، باتجاه علامة ماكدونالدز. أما إذا كنا نبحث عن أحذية، فإن انتباهنا البؤري يكون موجهًا باتجاه إشارات أخرى مثل واجهات العرض بالمحلات. بعبارة أخرى، القيمة توجه الانتباه.
fig39
شكل ٣-١٨: في أي لحظة بعينها، يحدد ما نوليه القيمة الانتباه. يُظهر الشكلان السفليان نتائج تتبُّع أعين المشاركين في دراسة، الذين كانوا يشعرون بالجوع (الشكل الأيسر)، أو الذين يشعرون بالشبع بعد الغداء (الشكل الأيمن). ركز المشاركون الجوعى على شعار ماكدونالدز، في حين وجهت المجموعة التي تشعر بالشبع انتباهًا أكبر لواجهات العرض الخاصة بالمحلات وشعاراتها.

يعني هذا أن الملاءمة عنصر مهم في توجيه الانتباه؛ فنحن نرى ما نريد. النقطة الأساسية هنا هي أننا نحتاج إلى أن نشير للقيمة التي يبحث الناس عنها بطريقة يمكن لنظام الطيار الآلي اكتشافها وإدراكها.

أوضحت دراسات عدة أن أهدافنا الحالية توجه التخصيص التلقائي لانتباهنا؛ فالنظر لعبوة كوكاكولا تدعم معالجة المناطق الحمراء في مدخلنا البصري بزيادة الحساسية الخاصة بالخلايا العصبية لهذا اللون بالذات؛ من ثَمَّ، سيتم النظر لِلْعُلب الحمراء بانتباه أعلى؛ ومن ثَمَّ سيتم ملاحظتها على نحو أسرع مقارنةً، على سبيل المثال، بالعلب الزرقاء. ومع وضع هذا في الاعتبار، دعونا نلقِ نظرة ثانية على رف المنظفات (انظر شكل ٣-١٩).
fig40
شكل ٣-١٩: من أجل جذب الانتباه، يجب أن تتناسب الإشارات التي ترسلها المنتجات مع أهداف المستهلكين.

سيبحث نظام الطيار الآلي عند المستهلكين عن إشارات تدلهم، بناءً على الإدخال الذي كان في معظمه ضبابيًّا، أيٌّ من تلك العبوات تناسب على الأرجح أهدافهم على نحو أفضل. فإذا أرادوا منظفًا مخصصًا لغسيل الملابس السوداء، فأيٌّ من تلك العبوات يشير لتلك الميزة على نحو أقوى؟ ولماذا؟ على الأرجح العبوات التي لونها قرنفلي. في فرنسا، غيرت علامة تجارية لمنظف خاص بغسيل الملابس الصوفية لون عبوتها القرنفلي إلى لون أبيض كريمي لزيادة مقترح «العناية» الخاص بالمنتج. انخفضت المبيعات وذهب معظم العملاء إلى منتج منافس لون عبوته قرنفلي. يصح الأمر نفسه إذا كان المستهلكون يبحثون عن علامات تجارية معينة. أين سيتجه بصرك إذا كنت تبحث عن منتج التنظيف إريال؟ في الغالب إلى تلك العبوات الخضراء التي توجد بالمنتصف وعليها عنصر أحمر زاوٍ مبهم.

***

من أجل جذب الانتباه، يجب أن تتناسب الإشارات التي ترسلها العلامات التجارية والمنتجات مع أهداف المستهلكين؛ فالانتباه استراتيجية «جذب» أكثر منها استراتيجية «دفع»؛ فالناس يتقبلون رسالتنا إذا كانت تتوافق مع أهدافنا.

***

إن نظام الطيار الآلي هو حارس البوابة بالنسبة إلى رسائلنا التسويقية؛ فهو يفتح الباب لرسائلنا وعروضنا ومنتجاتنا وعلاماتنا التجارية فقط إذا كانت قيمتها المدركة عالية على النحو الكافي. فحتى دور الحضانة المزينة على أحدث طراز لن تكون قادرة على إيجاد هدف يمكن تنشيطه، وتستطيع من خلاله التواصل مع رجل عَزَبٍ عمره ٢٠ عامًا. وهذا هو السبب في إمكانية تسجيله للحضانة في ذهنه على نحو ضمني، لكن أي جانب منها لن يكون له أي تأثير عليه أو على سلوكه. هناك شيء واحد من المهم إدراكه هنا؛ وهو أن الناس لا يمكن توجيههم على مستوى الوعي؛ أيْ بمجرد أن نعرض عليهم عددًا من الصور الرائعة، سيذهبون على الفور بكل إذعان إلى المتاجر ويشترون علامتنا التجارية. بالطبع، الأمر لا يسير على هذا النحو؛ فلا يمكن أن يتم التأثير على الناس وتوجيههم إذا لم يكونوا يريدون هذا الشيء أو ذاك. فإذا كان هناك شيء غير متوافق مع أهدافنا الضمنية أو الصريحة (في تلك اللحظة وفي هذا السياق)، فإننا لن نُقْدم على شرائه، ليس هذا فحسب، بل إننا حتى لن ندركه حسيًّا.

تأثير «البروز»: الانتباه يعتمد أيضًا على التباين

إن الآليات التي عرضنا لها للتو تعتمد على القيمة: فانتباهنا يخدم ما هو مهم لنا؛ أي يخدم أهدافنا واحتياجاتنا. لكن هناك أيضًا مسارًا للانتباه يعتمد على الإشارة فقط. يوضح شكل ٣-٢٠ كيف تعمل تلك الآلية.
fig41
شكل ٣-٢٠: يعتمد الانتباه أيضًا على التباين.
ابحث عن حرفَي Q وF في هذا الشكل. بالنسبة إلى معظم الناس، من السهل رؤية حرف Q، لكن إيجاد حرف F أكثر صعوبة (بالمناسبة، هو موجود في الصف السادس، الحرف الثاني عشر من اليسار). إن هذين الحرفين مختلفان عن الحرف E؛ لأن حرف Q بارز لأن التباين البصري بينه وبين الحرف E أعلى؛ فشكلا الحرفين مختلفان على نحو واضح. إن جهازنا البصري مكيف على نحو عالٍ لاكتشاف الأشياء المتباينة والتركيز عليها؛ فمن دون تباين، لا يمكننا التفريق بين الشيء والخلفية. وهذا كان أمرًا حيويًّا منذ ٥٠ ألف عام للتمييز بين وجه النمر والغابة المحيطة.
لذا، إذا أردنا أن نتميز عما حولنا، أو إذا أردنا أن نُلفت انتباه المستهلكين ناحية منتجاتنا، فعلينا إدارة درجة التباين القابلة للإدراك. وهذا تمامًا ما نقصده عندما نقول إننا نريد أن نجذب الانتباه لنا أو أن نتميز عن منافسينا في أرفف المتاجر. فنحن نرغب أن نستحوذ على الانتباه البؤري من خلال التباين، من خلال أن نكون مختلفين ومتميزين. لكن مجرد جذب الانتباه لن يجعل الناس يشترون علامتنا التجارية. دعونا نفترض أن الحروف E وF وQ منتجات. إذا كان شخص يبحث عن F، فإن التعرف على Q، فقط لأنها بارزة، لن يجعله يشتريه إذا لم يكن يتوافق مع هدفٍ حاليٍّ له.
مثال جيد على التكامل بين استراتيجيتَي «الجذب» و«الدفع» هو مزيل البقع فانيش (انظر شكل ٣-٢١): فهو يُحدث تأثير البروز باستخدام لون متألق نابض بالحيوية. وأكثر أهمية أن اللون (وهو اللون القرنفلي) يتناسب مع ميزة هذه الفئة من المنتجات؛ أيِ «الأداء التنظيفي القوي». إن استخدام اللون الأصفر أيضًا مميز، لكنه لا يتناسب مع أهداف المستهلكين. ما السبب؟ أي لون ستستخدمه لتشير للإزالة القوية للبقع، القرنفلي أم الأصفر؟ في معظم الدول، يرتبط لون منتج فانيش بمفهوم القوة، وهذا بالتأكيد مفيد لمنتج خاص بإزالة البقع.
fig42
شكل ٣-٢١: أي لون يتناسب على نحو أفضل مع «مزيل قوي للبقع»؟

الطلاقة الإدراكية تضيف قيمة

انظر لصورتَي قطعة الكعك المعروضتين في شكل ٣-٢٢. تم اختبار هاتين الصورتين كجزء من دراسة قام بها عالما التسويق رايان إلدر وآرادنا كريشنا لمعرفة أيهما ستكون نية الشراء بالنسبة إليها هي الأعلى. أيهما في اعتقادك ستكون هي الأعلى؟

إذا كنت تعتقد أنها الصورة الموجودة على اليمين، فأنت على صواب: فمقارنة بالصورة الموجودة على اليسار، نتجت عنها زيادة في نية الشراء بنسبة ٢٠ بالمائة (بالنسبة إلى المشاركين الذين يستخدمون اليد اليمنى). لكن ما السبب؟ الاختلاف الوحيد بين الصورتين هو مكان الشوكة. ربما تسأل: كيف يمكن لشيء يبدو تافهًا جدًّا كهذا أن يؤثر على سلوكنا؟ الإجابة ببساطة لأنه يتناسب على نحو أفضل مع ما ندركه على نحو طبيعي (إذا كنا من مستخدمي اليد اليمنى). إن هذا، في حد ذاته، ذو قيمة بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي لأنه أسهل في المعالجة. يطلق العلماء على هذا الطلاقةَ الإدراكيةَ؛ لأن ما هو مألوف ومعتاد بالنسبة إلينا يحتاج لمجهود أقل في معالجته؛ ومن ثَمَّ تكون قيمته أعلى بكثير بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي.

fig43
شكل ٣-٢٢: يؤثر مكان الشوكة على الإقناع (منقول بتصريح من رايان إلدر. المصدر: كتاب ««تأثير التصوير البصري» في الإعلان» (٢٠١١)).

في التسويق، تعد الطلاقة الإدراكية من العوامل التي تجذب الانتباه وتوفِّر قيمة للعملاء؛ فقد يرى أحد المستهلكين إعلانًا تليفزيونيًّا في إحدى الليالي ويتعرف ضمنيًّا منه على رمز معين. وعند رؤية نفس الرمز على رف المنتجات في أحد متاجر البيع بالتجزئة في اليوم التالي، فإن رؤيته قبل ذلك تجعل من الأسهل بالنسبة إليه معالجة هذه المعلومة. تقل التكلفة الإدراكية ويصنع مستوى الطلاقة الإدراكية الأعلى هذا فارقًا. يمكن أن يكون هذا التأثير مفيدًا خاصةً في فئات المنتجات التي تكون فيها القيم المدركة للمنتجات والعلامات التجارية متشابهة جدًّا. وحتى ينجح هذا، فإن الرابط البصري القابل للإدراك بين الإعلان التليفزيوني وعبوة المنتج ونقطة البيع مهم. عادةً ما يكون لدينا فريق معني بوسائل التواصل عبر وسائل الإعلام وآخر بوسائل التواصل الخاصة بنقاط البيع. والنتيجة أن العديد من الوسائل المرئية الأساسية التي نستخدمها في نقاط البيع لا تكون مرتبطة على النحو الأمثل بالحملات الإعلانية التليفزيونية؛ ومن ثَمَّ، لا يتم الاستفادة الكاملة من تأثير الطلاقة الإدراكية.

***

للاستفادة من تأثير الطلاقة الإدراكية، نحتاج للربط على نحو إدراكي بين الحملات الإعلانية في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة (على سبيل المثال، التليفزيون) ووسائل التواصل في نقاط البيع.

***

من المؤشرات الجيدة على تأثير الطلاقة الإدراكية الموقف التالي. عندما يتم إطلاق أي حملة دعائية، ترتفع المبيعات، لكن بمجرد أن تتوقف الحملة، تعود المبيعات ثانيةً لأرقامها السابقة. وهذا يشير إلى أن المبيعات كانت تعتمد على السلاسة الإدراكية؛ فالحملة الدعائية جعلت العلامة التجارية أكثر سلاسة من الناحية العقلية؛ مما أدى لزيادة في سهولة معالجة تلك العلامة في نقاط البيع.

ومثال على حملة دعائية حديثة جعلت العلامة التجارية أكثر طلاقة، حملة «سندوتش» الناجحة لمنتج رقائق البطاطس ووكرز، والتي أدت لبيع أكثر من ١٥٫٦ مليون عبوة من هذا المنتج. إن تلك الحملة جسدت الفكرة المبتكرة للعلامة التجارية التي تقول إن منتج ووكرز «يمكنه أن يجعل أي سندوتش أكثر إثارة» وذلك بإحضار شخصيات شهيرة مثل باميلا أندرسون وَجينسون باتون وَماركو بيير وايت إلى بلدة سندوتش في كِنت ومفاجأة القاطنين هناك؛ مما جعل البلدة نفسها أكثر إثارة. زادت تلك الحملة من التوافر العقلي للعلامة التجارية؛ ومن ثَمَّ، من طلاقتها، وخاصة في سياق السندوتشات. وفي نقاط البيع، تم وضع المنتج بجوار قسم السندوتشات؛ مما زاد واستغل على نحو أكبر تلك الطلاقة الإدراكية اعتمادًا على التوافق المفاهيمي مع الحملة.

هناك جانب آخر للطلاقة الإدراكية، فيما يتعلق بسهولة وكفاءة المعالجة، وهو كيفية إدراك الكلمات. عادةً ما نرى المعلومات مكتوبة بأحرف كبيرة (انظر شكل ٣-٢٣)، غالبًا لأسباب جمالية (أو حتى تكون بارزة). لكن للأسف أثبتت الدراسات العلمية أن هذا يمثل عائقًا بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي فيما يتعلق بمعالجة المعلومات.
fig44
شكل ٣-٢٣: الأحرف الكبيرة أصعب في القراءة.

والسبب هو أننا عندما نتعلم القراءة، نبدأ بقراءة كل حرف بمفرده ثم نجمع أحرف الكلمة معًا. وكما نلاحظ من خلال مراقبة أو مساعدة الأطفال، تكون هذه عملية بطيئة. وكما هو الحال دائمًا، ومع التكرار، يتولى نظام الطيار الآلي زمام الأمور ويطبق قواعد أكثر كفاءة تعتمد على التجربة والذاكرة. ولا يصبح التعرف على الكلمات معتمدًا على إدراك كل حرف على حدة، وإنما على استخدام شكل أو هيئة الكلمة باعتبارها معلومة إضافية. وهذا يمكننا من القراءة بسرعة جدًّا. لكن إذا تم عرض إحدى الكلمات بأحرف كبيرة، فإن شكل الكلمة المُتعلَّم لا يمكن استخدامه. وهذا يجبر المخ على التصرف كما لو أننا تعلمنا لتوِّنا القراءة: أيْ يكون علينا القراءة حرفًا بحرف؛ من ثَمَّ، يجعل هذا القراءةَ بطيئة نسبيًّا. ربما يبدو شكل الأحرف الكبيرة رائعًا، وقد نعتقد أنها سيكون لها تأثير أكبر، لكنها أقل طلاقة؛ ومن ثَمَّ أقل تأثيرًا إذا كانت الرسالة التي نرسلها تعتمد على الإدراك الحسي الفعال؛ على سبيل المثال، في أغلفة المنتجات أو الملصقات أو الإعلانات التليفزيونية.

القيمة العالية للوجوه

في التسويق، يعد الوجه البشري واحدًا من العلامات المرئية الأكثر شيوعًا في كل الأنشطة الإعلانية. في واقع الأمر، للوجوه قيمة خاصة بالنسبة إلى العقل البشري؛ فرؤية وجه (جميل) ينشط مركز المكافأة في الدماغ. ليس هذا فحسب؛ فهناك منطقة في الدماغ مخصصة للتعرف على الوجوه. تَنْشَط تلك المنطقة (التي تسمى التلفيف المغزلي) في كل مرة نرى فيها وجوهًا، ومن ذلك عند مشاهدة الإعلانات. إن المنطقة الإدراكية الخاصة بالوجوه متخصصة جدًّا، لكن هناك مجالات إدراكية معينة تَستخدم أيضًا تلك المنطقة لأن تلك المجالات تَستخدم سمات تشبه الوجوه مثل الحيوانات أو الشخصيات الكرتونية، أو رمز الوجه المبتسم الشهير :-) أو شعار العلامة التجارية لشركة تومسون هوليدايز التابعة لمجموعة تي يو آي. إن كل تلك الأشياء تمثل «وجهًا» من منظور المخ، حتى لو كانت لا تشبه في أفضل الأحوال كثيرًا الوجه البشري. إن وجه السيارة، إذا اعتبرنا المصابيح الأمامية بمنزلة العينين وشبكة الرادياتير بمنزلة الابتسامة، ينشِّط المنطقة الخاصة بالوجوه للسبب نفسه.

نظرًا لتلك المكانة للوجوه، نميل للنظر إليها على نحو آلي؛ لذا، عندما نَستخدم وجهًا في إعلان، يمكن بكل ثقة افتراض أن الانتباه سيُوجَّه إليه مبكرًا. والأكثر إثارة هو ما يسمى بتأثير «الانتباه المشترك»، الذي يعني أننا نميل للنظر في الاتجاه الذي ينظر إليه وجه آخر. كلنا نألف الموقف الذي يقف فيه خمسة أشخاص ينظرون إلى السماء مما جعل أشخاصًا آخرين يقفون وينظرون في نفس الاتجاه، حتى إذا لم يكن هناك شيء مميز يُنظر إليه. إن الميل للنظر في الاتجاه الذي ينظر إليه أشخاص آخرون منطقي من الناحية التطورية؛ إذ يحذِّر شخصٌ شخصًا آخر من شيء (على سبيل المثال، أسد) من خلال التحديق بالعين. ويمكن استغلال هذا التأثير لتوجيه الانتباه. تم إثبات هذا في اختبار قبلي؛ حيث أثار نفس الإعلان نية شراء أعلى عندما نظرت المرأة الموجودة فيه للمنتج مقارنةً بما كان عليه الحال عندما نظرت للأمام. أثار إعلان ترويجي عن الجعة باستخدامه لصورة شخصية شهيرة مبيعات أعلى بكثير عندما حدقت تلك الشخصية في اتجاه الجعة بدلًا من النظر إلى أي اتجاه آخر.

وحيث إن لدينا أكثر من ١٠ آلاف ساعة من الخبرة في معالجة الوجوه، فليس من المدهش أن التعرف على الوجوه عملية آلية وضمنية. في دراسة، أدَّى التضمين الدقيق (وغير الملحوظ) لعناصر من وجه شخص في وجه آخر غير مألوف، من خلال تقنية رقمية تسمى «التحوير»، إلى زيادة مستوى ثقة هذا الشخص في هذا الوجه غير المألوف وتفضيله له. وفي تجربة رائعة قام بها روبين تانر من كلية ويسكونسن لإدارة الأعمال، أدى الدمج الرقمي ﻟ ٣٥ بالمائة من وجه لاعب الجولف الشهير تايجر وودز في وجه غير مألوف إلى إنتاج وجه مركب تم إدراكه على أنه أكثر اعتمادية من الوجه الأصلي، وذلك قبل فضيحة تايجر وودز، وعُكس التأثير بعد تدهور سمعة تايجر. حدث هذا التأثير رغم فشل جميع المشاركين في التجربة في إيجاد أي تشابه بين وجه تايجر المُحوَّر ووجه تايجر الحقيقي (انظر شكل ٣-٢٤).

إن أساس تلك التأثيرات هو الاعتياد؛ فبالنسبة إلى نظام الطيار الآلي، الوجه المحوَّر للشخصية الشهيرة مألوف أكثر؛ ومن ثَمَّ يمكن الوثوق به على نحو أكبر، حتى ولو لم نتعرف على وجه الشخصية الشهيرة على مستوى الوعي باستخدام نظام الطيار البشري. من الاقتراحات النابعة من هذا التأثير هو أن علينا — بدلًا من وضع صور المشاهير والشخصيات المألوفة جدًّا في أبرز المواضع باعتبارهم مؤيدين للعلامة التجارية — استخدامَهم (أو الأفضل كذلك مَن يشبهونهم) بتحوير دقيق لوجوههم في صور عامة لعارضين غير معروفين.

fig45
شكل ٣-٢٤: الاعتياد يعمل على مستوًى ضمني (مأخوذ بتصريح من روبين تانر من ورقته البحثية «نمر ورئيس: تؤثر علامات وجوه المشاهير غير المدركة على الثقة والتفضيل» المنشورة في دورية «جورنال أوف كونسيومر ريسيرش»، ديسمبر ٢٠١٢).

في واقع الأمر، قد يكون بإمكان تلك الاستراتيجية أن تفوق الاستخدام الصريح لصور المشاهير في بعض الأحيان. أثبتت الأبحاث أن التأثير الإقناعي للمتحدثين الرسميين يمكن تدعيمه عندما لا يمكن تذكُّر مرات ظهورهم السابق؛ حيث إن هذا التذكر سيسهِّل العزو الخاطئ للطلاقة الإدراكية التي تتم أثناء تعامل المخ مع الشخص الداعم. بعبارة أخرى، عندما يتم التعرف على الشخص الداعم على نحو صحيح، فإن أي تأثير للطلاقة يمكن عَزْوُه على نحو صحيح لشهرتهم والاعتياد على شكلهم، وليس للعلامة التجارية أو المنتج.

الحاسة الخاصة بالأسعار: الحاسة السادسة

نختم هذا الفصل الذي يتناول موضوع الإدراك الحسي بالحديث عن حاسة سادسة؛ وهي الحاسة الخاصة بالأسعار. لقد ثبت أن عقلنا يعالج الأسعار باستخدام مبادئ مماثلة جدًّا لتلك التي يستخدمها عند الرؤية أو السمع أو اللمس. الأكثر أهمية أن إدراك الأسعار يتأثر — كما هو الحال بالنسبة إلى كل الحواس — بالسياق؛ ومن ثَمَّ فهو نسبي على نحو جوهري. في الفصل السابق، ذكرنا أن التكلفة المدركة يمكن تقليلها من خلال إشارات سياقية مثل وميض ترويجي. من السهل استيعاب فكرة أن التمثيل الرسومي للسعر له تأثير على كيفية إدراكه، ولكن هل المسافة أو التباعد بين سعرين لهما أي تأثير؟ هذا هو السؤال الذي استكشفه الباحث المتخصص في مجال التسعير كيث كولتر في دورية «جورنال أوف كونسيومر سيكولوجي». وماذا كانت النتيجة؟ كلما زادت المسافة الأفقية الفعلية بين سعر مرجعي وسعر خصم، زاد الفرق المدرك بين السعرين (انظر شكل ٣-٢٥). يزيد خصم السعر المدرك مع زيادة المسافة الفعلية، وتزيد معه جاذبية الخصم؛ ومن ثَمَّ، احتمالية الشراء.
fig46
شكل ٣-٢٥: يتأثر خصم السعر المدرك بالمسافة بين السعر المرجعي وسعر الخصم.
fig47
شكل ٣-٢٦: قانون فيبر-فخنر: كلما ازداد الرقم، قل الفارق المدرك.

إننا ندرك الأعداد على نحو أكثر سهولة وسرعة في المستوى الأفقي مقارنةً بالمستوى الرأسي. فنحن تعلمنا قراءة ومعالجة الأعداد على هذا النحو، وهذا هو السبب وراء أن الإشارة لكبر الشيء أو صغره عادةً ما يتم تشفيرها من خلال المسافة الأفقية بين يدينا؛ فإذا أردنا الإشارة إلى رقم كبير، فنحن نزيد المسافة بين يدينا، تمامًا كما لو كنا نمد شيئًا.

أوضحت الدراسات النفسية أن الأعداد توجد عبر خط عددي عقلي، مع وجود المدخلات الأكبر على اليمين والأصغر على اليسار (انظر شكل ٣-٢٦). ويصبح من الصعب على نحو متزايد التمييز بين موضعين على هذا الخط كلما نقصت المسافة بينهما. وكلما زاد العددان، كانت المسافة بينهما أقرب. ويعرف هذا بقانون فيبر-فخنر، وهو مهم في كل عمليات تقييم الحجم، بما في ذلك تقييم الأسعار والخصومات.

الفكرة الرئيسية المستخلصة من هذا أن الطريقة المعروض بها السعر هي، في حد ذاتها، عامل مهم، حتى دون الحاجة لتغيير السعر الفعلي، فضلًا عن المنتج. إننا نعرف الكثير عن الطريقة التي يمثل ويعالج بها الناس الأعداد، بما في ذلك الأسعار، ويمكننا استخدام تلك المعلومات في تحسين إدراك الأسعار بدلًا من التخفيض الفعلي للأسعار.

من ثَمَّ، إذا وجدنا أنفسنا أمام تكاليف عالية تبلغ مئات أو آلاف الجنيهات الاسترلينية — كما هو الحال عند شراء سيارة أو عند تحديد المقاول لسعر بناء جزء إضافي — فلن يحدث فارق كبير إن زاد المبلغ أو قل ﺑ ٥٠ جنيهًا استرلينيًّا. لكن إذا كنت تشتري حذاءً، لنقُل ﺑ ١٠٠ جنيه استرليني، فإن اﻟ ٥٠ جنيهًا الاسترلينيَّة هذه ستُحدث فارقًا كبيرًا. يتطلب إحداث فارق مدرك القليلَ من الزيادة أو النقصان المطلق في الأسعار في فئات المنتجات ذات الأسعار المنخفضة مقارنةً بتلك ذات الأسعار العالية؛ لذا، عندما نقلل الأسعار، يجب أن نفكر جيدًا فيما إذا كان الخصم المقدم يُحدث بالفعل فارقًا مدركًا. وإذا لم يكن يفعل هذا، فنحن في الغالب سنقلل من دخلنا؛ ومن ثَمَّ، من هامش ربحنا. وينطبق المبدأ نفسه بالطبع إذا أردنا تعظيم الاستفادة من الزيادات في الأسعار. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نفكر في تأثير التباين. إذا كان يتم عمل عروض جديدة لكن دون تغيير الأسعار بانتظام في السوق، فإن المستهلك ببساطة سيعتاد على الأمر. في ظل تلك الظروف، يقل التباين المحسوس ذاتيًّا للخصم؛ ومن ثَمَّ، يفقد تأثيره المقلل للألم.

أهم النقاط الواردة في هذا الفصل

  • الإدراك عملية نشطة في المخ تعتمد على خبرات التعلم السابقة.

  • الإدراك المحيطي أساسي لتعظيم فاعلية أنشطتنا التسويقية.

  • ليست لدينا ذاكرة للصور؛ فالتعرف يتحدد من خلال أهم العلامات المميزة والسياق.

  • يعاد تشفير الإشارات التي نرسلها — بدايةً من الألوان إلى الأشكال وحتى شعارات العلامات التجارية — إلى مفاهيم عقلية اعتمادًا على الارتباطات المكتسبة في الذاكرة. وتعتمد قرارات الشراء على نحو أساسي على تلك المفاهيم العقلية، وليس على الإشارات في حد ذاتها.

ما يعنيه لنا هذا باعتبارنا مسوقين

  • تتواصل علاماتنا التجارية ومنتجاتنا مع المستهلكين على نحو أساسي من خلال رؤيتهم الضبابية المحيطية؛ لذا، فنحن نحتاج لاستخدام إشارات توصِّل على نحو فعال رسائلنا حتى عبر تلك الرؤية الضبابية.

  • عند تطوير علامة تجارية أو إعادة إطلاقها، ليس المهم مقدار التغيير الذي ندخله، وإنما المهم هو ما نغيره. نحتاج لأن نكون حذرين بشدة عند تغيير العلامات المميزة. فإذا كنا نرغب في توصيل مفهومٍ عقليٍّ ما، يمكن أن تكون لدينا مرونة في كيفية توصيله، ما دامت الإشارات مرتبطة على نحو بديهي بالمفهوم العقلي المراد. يسمح لنا هذا بمرونة وحرية أكبر في التنفيذ، لكنه في الوقت نفسه يضمن الاتساق على المستوى المفاهيمي.

  • إن العامل المؤثر الأساسي على الانتباه هو التناسق بين الإشارات المحيطية وأهداف المستهلكين. وكلما كان هذا التناسق عاليًا، جذبنا انتباه المستهلكين أكثر («استراتيجية الجذب»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤