القسمات الطوطمية لسيرة الزير سالم

وإذا ما برَّأت هذه السيرة — الملحمة — الزير سالم من الوقوع في براثن عوالم الجنِّ والمرَدة والكائنات الخرافية ومُنفِّراتهم وخوارقهم، فإنها استسلمت من جانب ثانٍ للسمات والخصائص الطوطمية الواضحة القسمات، والتي تحكَّمت بدورها بالبنية القرابية؛ من قبائلية وعشائرية ومبادلاتها، للزواج والانتساب والتسمية، وجميعها هنا تخضَع للتحكُّم الطوطمي، من حيوانٍ لطير لنبات لزواحف، من جمال ونوق وحمير وكلاب وسباع وضباع ويَمام وحمام وبوم وهكذا.

من ذلك تسمية أبطالها: كليب وكلبة أو جروة وابنه بالفعل الملقب بجرو أو الجرو، وتلقيبه بأبي اليمامة، ويمامة أو حمامة التي كانت سببًا في اشتعال حرب البسوس المُسماة سراب الملك كليب المنيع في العالية أو عالية، وكسرت له بيضة لحمامة أو يمامة أو قنبرة١ (أم قويق) كان قد أجارها في حماه.

وعلى عادة مصاحبة معظم الطواطم للحكايات والمأثورات الشارحة، تَذكر المصادر الأدبية العربية بخاصة لكليب أنه كان يطوف حماه المنيع ذاك، فشاهد قنبرة على بيض لها، وعندما رأته طارت فابتعد عنها، إلى أن عاودت الرقاد على بيضها، فأنشد لها مؤنسًا هذه الأبيات التي تواترت من شاعر جاهلي لآخر، ومنهم طرفة بن العبد:

يا لك من قنبرة بمحجر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقِّري ما شئت أن تنقري
لا ترهبي خوفًا ولا تستنكري
فأنتِ جاري من صروف الحذر
إلى بلوغ يومك المقدَّر

فعلى هذا النحو الساذج الذي يرد في فابيولات الحيوان والنبات والحشرات الطوطمية، اندلعت حرب الأربعين عامًا المعروفة، حين اجتاحت ناقة البسوس حِمَى كليب، وكسرت له بيضة قنبرته أو بومته هذه، فكانت الحروب التي ألهبَتْها البسوس، والتي هي في حدِّ ذاتها — البسوس — ما هي إلا طوطم أو مزار كهنوتي بأسمائها المتعدِّدة ومنها الهيلة.

كذلك تسمية ضباع أو الضباع أخت الزير سالم والملك كليب، والمتزوِّجة من الأمير همام، صديق الزير وصفيه، والذي كان لها شأن في هذه الملحمة مع أخيها الزير الذي قتَل ابنها «شيبان»، وكان قد فضَّل الانضمام إلى قبيلة خاله الزير سالم بدلًا من قبيلته الأبوية، ومضى يُثير همم قبيلته الجديدة لأمه؛ انتقامًا ودفاعًا عن خاله كليب ضد — من — أهله وعشيرته، حتى إن الزير سالم فاض غضبه منه، فكان أن قطع رأسه ووضَعها في جرابِ حصانه الذي عاد به إلى قبيلته، وما إن خرجتْ أمه ضباع ووضعت يدها في جراب حصانه حتى تلقَّت رأس ابنها الذبيح «شيبان».

وهنا ظلت ضباع متربِّصة لحظة الانتقام من أخيها الزير، إلى أن وضعته بتابوت أو كفن، وألقت به في الماء أو البحر كإيزيس وأم موسى.

والمعروف أنَّ الضبع كان من حيوانات الجزيرة العربية، كما يقال: إنَّ ضباع هذه اسمها الحقيقي «أسمى»، ويبدو أن ضباع أو الضباع كان شعارها أو اسمها الطوطمي، كما تذكر المأثورات الفولكلورية الشفاهية التي ما تَزال تتواتر شفاهيًّا أنها كانت — كأخيها الزير سالم — تُعارك وتصارع الأسود والسباع.

فلعلَّ التسميات الطوطمية الحيوانية التي تُصادفنا في هذه السيرة وغيرها تتراوح ما بين ضباع كليب أبي اليمامة، وكذا الحمامة أو اليمامة وزرقاء اليمامة، بالإضافة إلى التسميات اليمنية الحمْيريَّة الموغلة من الطوطمية؛ منها انتساب إحدى ملكاتهم: بلقيس ملكة سبأ، أو شيبا (سباع)، وكان حيوانها أو طائرها الطوطمي المقدس هو الهدهد، الذي صاحب رحلتها الشهيرة إلى أرض فلسطين مع الملك سليمان، وكانت تلقَّب ببلقيس بنت الهدهاد.

فالملاحظ هنا أن الدين الطوطمي لا يَستهدف التمثيل بالحيوانات القوية دون غيرها، فالملك كليب الذي كان يحكم «من أرض الروم للكعبة»، كان يُسمى بأبي اليمامة، وحيوانه أو طائره هنا اليمامة وبيضتها، وكذا بلقيس الإمبراطورة اليمنية المُحاربة وطائرها الهدهد الذي اتخذته لقبًا.

فقد يتمثَّل الحيوان أو الشعار الطوطمي في تملُّكه لقُدرة خارقة حُرِمَ منها الإنسان حتى الملوك والتباعنة، فالطائر يَطير في أعماق السماء، وعلى رأسه ريشة، وهي ما صارت مثلًا في التعالي والتجبُّر، كما أنَّ الحيات والثعابين تملك قدرات تغيير جلدها وإطالة أعمارها، بالإضافة لقُدرات لدغتها القاتلة.

وهناك أقوام طوطمية تَنتمي للأسماك السلمون والحيتان والتونة التي تَمتلك قدرات الغوص في أعماق مياه البحار والمحيطات.

وما أكثر الأقوام والكيانات والقبائل الطوطمية التي شهدها تاريخ منطقتنا العربية وتنتمي للحشرات، مثل حضارات ديدان وسوسة في إيران وتونس وما بين النهرَين، والقدرات الخارقة — محشرة — السوس من أحد الجوانب، وهو أنه يُفني أعتى الأخشاب الصلدة مثلما يَحفل به الشعر الشعبي:

لعبت يا سوس في الصندل وخشب الزان،
وبحت بالسر يا سوس وخليت المخبي يبان.

كما أنه ما أكثر الطواطم النباتية في منطقتنا العربية، من نخل وجميز وعوسج ويقطين أو قرع، والأخير كان النبات الطوطمي المقدَّس للنبي يونس، حين نبتت عليه شجرة قرع وتبنَّته إلى أن كبر بعد أن أمضى عقابه داخل بطن الحوت، إلى أن لفظه على الشاطئ «كالطفل المنفوث» أو حديث الولادة.

وقد يَردُ تساؤل على النحو التالي: لماذا الحيوان أو النبات وارتباطهما بالدين الطوطمي؟ والإجابة: إنهما — أي الحيوان والنبات — يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستوجب المكان أو الحِما أو الوطن، وهذا هو ما يتطلَّب الحماية والأمن، بالإضافة لعديد من الاحتياجات والتعاطُفات الأخرى، وهذا بدوره أفضى إلى التحالفات العشائرية القبائلية لاتِّحاد مجموعة من الطواطم حيوانية ونباتية تَنتهي في الشعار الأهم للقبيلة أو مجموع العشائر من زاحفة ومُهاجرة ومُغيرة، مثلما هو الحال في معظم سِيَرنا وملاحمنا العربية التي عادةً ما تكون مهاجرة ومُغيرة.

وخلاصة القول: إنَّ الحيوان والنبات يُشكِّلان رابطة أو علاقة بين الإنسان البدائي والطبيعة؛ لذا تحفل حكايات ومأثورات الحيوان والنبات الطوطمية بأخصِّ خصائص الحيوان أو الأشجار أو الزواحف المقدَّسة، ولعلَّ الحكاية أو المأثور الأمثل المصاحب لتسمية كليب أو الكلبيين أو قبائل بني كلب المتفرِّقة في الجنوب العربي والشام والأردن وفلسطين والمُصاحِبة لمأثورات كلبه أو جروه، ونباحه الذي كان يحدِّد حماه المنيع أينما نزل كليبٌ أرضًا أو كلأً.

فكانت القبيلة وأسلافها والأرض التي تعيش عليها وما يتحكَّم فيها من عوامل مناخية واجتماعية وحدة تَنحدِر من الطوطم السلف الأب، سواء أكان حيةً أو نعامة أو حمامة أو كلبًا أو جملًا أو جرادًا أو ديدانًا أو بيضة أو حوتًا.

على هذا اختلقت كل قبيلة أساطيرها، ووحَّدت — بالتالي — بين الطوطم والخالق؛ مثل: كوزلولوجي أو أسطورة الخلق عند الرشيين القائلين بفكرة الرحم الخالق (ويمكن ملاحظة العلاقة اللغوية الاشتقاقية بين ذلك الرحم الخالق، وبين الرحمة والرحمان والرحيم والراحم والمرحوم … إلخ).

وهم الذين زعموا «أنَّ في جوف الماء الريح وفي الريح الرحم، وفي الرحم المشيمة، وفي المشيمة بيضة، وفي البيضة الماء الحي، وفي الماء الحي ابن الأحياء العظيمة، الذي ارتفع إلى العلو فخلَق البريات والأشياء والسموات والأرض الآلهة.»

وكذلك أساطير خلق المُغتسلة سكان البطائح والكشطين والمتسطورين والصامية والغولية والآدمية أو الآدوميين الذين منهم اشتُقَّ اسم آدم أبو البشر، أما القريشيين فكان طوطمهم الحوت.

ويرى رفائيل بتاي أنَّ العبريين استعاروا أفكارهم عن الحيتان والحيوانات البهيمية ذات الجثث الهائلة من العرب الأوائل أو البائدة، وهو ما كان يُطلق عليه العرب تعفون أو التعفُّن، ومنها بعل تعفون، وهو ما يُشير إلى البهيمية، وصراعات الحيوانات الخارقة الوحشية؛ مثل: الثيران والبقر الوحشي والحيتان.

ووردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي الفرعوني، فذكَر الرحَّالة المؤرِّخون: «هردوت وديودورو الصقلي وبليني» الحيتان والتماسيح وفرس النهر، فكانت تلك الحيوانات الوحشية مقدسة في مصر للإله ست عدو أوزيريس ومُغتصب عرشه.

كما وردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي البابلي، ومنها الحوت متعدِّد الرأس، والإله ذو الرءوس السبعة، وكان بمثابة الصولجان السومري منذ الألف الخامسة قبل الميلاد.

وبحسب ما ذكره هرودوت وديودورو الصقلي؛ فقد «أكل فقراء الشرق الأوسط — بعامة — لحم الحيتان وفرس النهر والبهائم الوحشية خلال أعيادهم الموسمية؛ احتفالًا بأكل اللحم.»

وطبعًا كان الحيوان الطوطم يُدافع عن القبيلة ويحميها، مثل: هدهد سليمان وبلقيس، وحادث تلصُّصهما أو تجسُّسهما على أحدهما الآخر، وأيضًا ضباع قبائل الضبعيين والكلبيين، وكذلك بنو هلال أو الهلالية أصحاب سيرة بني هلال وبنو عبد شمس ونسر وغيرهم، وهو ما أصبحت شعائرهم الطوطمية مثل الهلال والنسر رمزًا موحدًا للعالم الإسلامي فيما بعد.

•••

فإذا ما عُدْنَا إلى البذرة الطوطمية لهذه السيرة الملحمية برمتها، وهو تهجُّم ناقة البسوس سراب لحِمى كليب الذي يُحدِّده نباح كلبه جرو وكسر بيضة يمامته التي تَسمى بها أبي اليمامة، فكانت حرب الأربعين أو البسوس؛ نجد أن الناقة أو الجمل أو البعير تُعدُّ بالفعل من أقدم المعبودات العربية التي عُبِدَت في ممالك تدمر٢ في اليمن والحجاز وتخومها وسوريا، وكانت تُعْرَف باسمها الأنثوي كما هو الحال مع ناقة البسوس باسم بل أو بعله، أو هُبل — فيما بعد — وهو الإله الذي استقدمه الكاهن عمرو بن لحي الجرهمي ونصبه في جوف الكعبة، وارتبط بشعائر ضرب القداح، وما من أمر قام به العربي الجاهلي لم يُستشر فيه هبل، فكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح مكتوب في أولها: «صريح» والآخر «ملصق»، فإذا شكُّوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه، فكان لكل مطلب قدح؛ قدح على الميت، وقدح على النكاح، وقدح للاختصام والسفر والعمل.

ويبدو أنَّ الجاهليِّين كانوا قد استقدموا صنمه من خارج الجزيرة العربية، ويرجَّح أنهم جاءوا به من العراق؛ إذ إنَّ تمثاله — بحسب وصف ابن الكلبي — كان «من عقيقٍ أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليُمنى، أدركته قريش فجعلت له يدًا من الذهب»، وكان قربان هذا الإله مائة بعير.

ومما يرجح طوطمية ناقة البسوس أنها كانت ناقة سائبة على عادة الشعائر التي عرَفها العرب الجاهليون باسم البحيرة والسائبة والوصيلة مثل ناقة صالح، مع ملاحظة أن اسم صالح كان أيضًا اسم لصنم كشفت عنه الحفائرية اللحيانية والصفوية، مثل: «اللات، العزى، مناة، عوص،٣ ديدان، أحرام، جد، ذو الشرى، صالح.»

فحكايات ومأثورات الحيوان والطيور الطوطمية يرى البعض أنها أكثر قدمًا من الأساطير، وأنها ترجع إلى مراحل التوحُّش والطوطمية، فهي حكايات أقرب إلى التعليمية أو الشرح والتفسير، كما أنها حكايات ملخَّصة غاية في الدقة من حيث التصميم والتخليص، لها مَغزاها أو حكمتها ودقَّة ملاحظتها بالنسبة للطبيعة وغموضها ومخلوقاتها، وكذلك بالنسبة لحكمة الإنسان البدائي وفلسفته بإزاء قدرات الحيوانات والطيور والزواحف والهوام والنباتات التي حُرِمَ منها الإنسان بعجزه عن الطيران، والغوص في الماء وتغيير الجلد، والصوت العالي أو النباح كالكلب، وقوى الحيوانات الوحشية والبهيمية وهكذا.

ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف احتفاءً خاصًّا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك مَنْ يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير وأنها أكثر قدمًا وبدائية منها؛ إذ إنها كانت وعاءً لشرح وتقديم الأفكار والمُعتقَدات، أي إنَّ أكثر هذه المعتقَدات كان يتجسَّد في شكل حيوان وطيور، فالإله زيوس كان نسرًا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي ثور كان طائر جنة صغيرًا، والإله تير كان ذئبًا، مثله في هذا مثل الإله الروماني مارس وضريبه السليثي ديباتر.

كما أن هنا شبه إجماع من جانب دراسي الفولكلور على أنَّ قصص الحيوان الشارحة أسبق من الخرافات.

وقصص الحيوان الشارحة هي تلك القصص التي فسَّر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، وكذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالة أذنا الأرنب والحمار، واختفاء الخفافيش عن العيون نهارًا هربًا من الدائنين، وغوص الطائر البحري إلى أعماق الماء بحثًا عن الأشياء الغارقة، وكذا تسبيح الكروان، ودعاء الحمامة بالعَماء على مَنْ سرق بيضها، ونهيق الحمار،٤ مثل نهيق حمار الزير سالم حين ترَكه على باب بئر سبع، ونزل ليملأ كوزًا من البئر الذي أيقظ أسدًا نائمًا، فالْتَهَم حمار الزير، الذي واصل — بدوره — الانتقام من سباع بئر سبع الفلسطينية.

وفي واحدة من الحكايات السودانية — التي موطنها النيل الأبيض — تكشف لنا الحكاية كيف أن الدنكا لا يَضربون الكلاب اعتقادًا منهم في أنَّ الكلب هو أول مَنْ جاء بالنار لقبيلة الدنكا، فلقد «عاش الدنكا حقبةً طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكةً قطَّعها ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس.»

وفي حكاية شارحة أخرى من الشلوك عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خُلِقَت في السماء، ووقعت على الأرض فتكسَّرت أسنانها، ولما رآها الكلب أغرق في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أذنيه، وظلَّ على هذا الحال إلى اليوم.

فما من حيوان أو طائر أو نبات لم تُصاحبه مجموعة مأثورات وحكايات تحدِّد أوصافه وأخصَّ معالمه، وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم في الحكايات العربية السامية بخاصَّة.

ومِن تصوُّراتهم التي أنطقوها الحيوانات والطيور — حول الموت وحلول القضاء٥ — ما فسر سليمان به غناء البلبل «كانت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء»، والهدهد يقول: «إذا نزل القضاء عمي البصر»، وكل حي ميت وكل جديد إلى زوال، و«لِدُوا للموت وابنوا للخراب.» والنسر يقول: «يا ابن آدم عش ما شئتَ فإنك ميت.»

وكانت نحل وشيَع الحابطين أصحاب أحمد بن حابط بنواحي البصرة، وأحمد بن نانوس، وأيوب بن نانوس، الذي أباح النكاح، كانت هذه الفِرَق والشيع تقول بأن «الله نبَّأ أنبياءه من كل نوع من أنواع الحيوان، حتى البق والبراغيت والقمل؛ مستندين إلى قول الله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ

والربط بين الجنِّ والحيوانات والهوام والأشجار يُشير مباشرةً إلى انحدارها من الطوطمية، وهو ما كنَّته القبائل السامية — خاصة أصحاب الوبر — من عرب وعبريِّين، فكانوا يَتسمَّون باسم الحيوان، ويُحرِّمون التلفظ باسمه، ومن هنا جاءت المرادفات المتعدِّدة للحيوان الواحد، وذكر المستشرق هيود أنَّ «لدى العرب خمسين كلمة للدلالة على الأسد، ومائتين للثعبان، وثمانيَ للعسل، وأكثر من ألف للسيف.»

ذلك أنَّ للعرب الساميِّين باع ملحوظ في أنهم موطن ومصدر هذه الحكايات الطوطمية قبل الهنود الآريين والإغريق الهلينيين والرومان.

فالرقيق الإغريقي — الذي يعد أهم وأقدم مصدر لهذه الحكايات الحيوانية — «أيسوب» يرى البعض — ومنهم كراب — أنه كان رقيقًا ساميًّا يَشتغل بالكتابة، وجمع هذه المأثورات في أيونيا، ومن هنا وصلت هذه الحكايات من الشرق السامي إلى الغرب، وأنها ارتحلت أيضًا من الشرق السامي إلى الهند مع ما ارتحل إليها من ثقافة العراق وما بين النهرين.

وتَحفل قصص الخلق الأولى والطوفان البابلي والعِبري بمثل هذه الحكايات، كذلك حكاية أشجار٦ «يوثام» التي أَوْلَاها فريزر اهتمامًا خاصًّا.

كما تَحفل الآداب الجاهلية والإسلامية بالآلاف المؤلَّفة من هذه الحكايات عند الجاحظ والدميري وغيرهما.

ثم لماذا نذهب بعيدًا والمصدر الأكثر قدمًا من أيسوب ذاته وهو — الشخصية الخرافية العربية السامية — الحكيم لقمان الذي أوضحت المُكتَشفات الحفائرية الأركولوجية أصله البابلي، وعلى هذا فهو أسبق خمسة عشر قرنًا من أيسوب الذي يرى البعض خطأً أنه هو بذاته النبي أيوب نبي الأدوميِّين السوريين والأردنيين.

•••

أخيرًا يُمكن القول: أنه برغم أن مختلف المُجتمعات قد عاشت وواصلت استمرارها ونموها في ظل مختلف البيئات التاريخية، ومرَّت بمُختلف التحوُّلات إلا أنها لم تتخلَّ كليةً عن خصائصها الأولى — ولنَقُلْ: طواطمها وتابواتها — التي تعرَّضنا لها بالدراسة، وكما أجمع علماء العصر الفيكتوري — منذ ماكلينان وروبرت سميث وفريزر — أنها — أي الطواطمية — ما تزال تحيا وترتع كرموز بدائية تحت مُختلف الأشكال المُتكاثرة لحياتنا الحديثة، فأنت تجدها في إعلان وشارات الدول الحديثة يستشهد في سبيلها، كما تجدها تطلُّ برأسها في شارات المُحافظات والمطبوعات والأضرحة والملابس والماركات والمطبخ الحديث … إلخ.

فالمناهج البنائية قد حقَّقت بدراستها الطوطمية نتائج رياضية مُلفتة، وبالتحديد ما توصَّل إليه العالم البنائي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي انصبَّت دراسته على علاقة الطوطمية بالظواهر أو علم الظواهر، ففي رأيه أنَّ الطوطمية — كظاهرة حضارية — تجيء كاستجابة أو حتمية لظروفٍ ومكوِّنات طبيعية وبيئية، وأنَّ هناك علاقة شعائرية أو دينية بين الإنسان وطوطمه، وكثيرًا ما تتمثَّل في الأشياء والمناهج المقدَّسة، ولها سلطاتها الملزمة، وأنَّ نظم الزواج في المُجتمع الطوطمي لا تخضع لإرادة الأفراد بقدر خضوعها للقرابة الطوطمية، كما اتَّضح في سيرتنا هذه — الزير سالم — وانتساباتها وولاءاتها القبَلية، بل وحروبها الضارية.

فحتى وقت قريب عام ١٩٢٠م رصد فان جنيب ٤١ نمطًا مختلفًا للطوطمية في أستراليا وحدها، وأثبت أن الكثير منها ما يزال ساريًا، برغم أنَّ جذورها الضاربة ترجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد. فالطواطم ما هي إلا أرواح تحيا في الخفاء محافِظَة على توارُث أسماء القبائل الأمومية والأبوية، كما أثبَت «جنيب» أن الطوطمية ما تزال تتحكَّم مُتسلِّطةً على نظم الزواج والطلاق والميراث والقرابة عند عديد من شعوب العالم خارج الغرب.

وفي طرح التساؤل عن علاقة الطوطمية بالحيوانية والنباتية، يُشير شتراوس بأن الحيوان والنبات يمدَّان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستلزم المكان أو الوطن في المفهوم البدائي.

فشتراوس يسألنا منذ راد كليف براون، ويقدِّم تفسيراته المخالفة لتثقيفية فريرز وأنيمزم تيلور، والبحث عن الأصول عند ماكلينان وروبرت سميث، وأخيرًا توظيفية مالينوفسكي، فجميع هؤلاء قدَّموا تفسيراتهم عن البدائيين، لكن شتراوس ربط الطوطمية بالتخلُّف حتى داخل مجتمعات ما فوق التصنيع.

١  عُثِرَ على نقوش القنبرة أو البومة على العملات والنقود اليمنية الحمرية، وكذلك الصقر ورأس الثور والهلال، وأطلق العرب الجاهليون تسمية البومة ﺑ «أم الصبيان».
٢  تُنْسَب هذه الممالك إلى تدمر ابنة الملك التبَّع حسان اليماني الذي اغتاله كليب ليلة عرسه بدمشق.
٣  عوص كان إلهًا أو صنمًا لقبيلة جساس، مغتال كليب «بكر بن وائل».
٤  إن أنكر الأصوات لصوت الحمار.
٥  الاشتراكية والفن ص٤٢. كما يذكر الدميري: أن للأسد مائة وثلاثين اسمًا، منها: أسامة والغصنفر والليث والورد وأبو العباس وأبو الحارث.
٦  أوردت نصها في «أساطير وفولكلور العالم العربي»، كما تعرَّضت به الباء منظومة الأشجار. المؤلِّف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤