استرداد الحبيبة … الوطن

وما إن انتهى التبَّع من مرثيته الدامية هذه الملفَّقة الدخيلة بالضرورة تبعًا لما يُعْرَف بالتراكم السِّيَري والملحَمي؛ أي في إضافات الرواة عبر العصور التي يوصِّلها الراوي هنا — على لسان التبَّع المتنبئ بإزاء مُواجهته لموته ومصرعه — إلى العثمانيين.

وما إن انتهى الملك حسان مِن مرثيته حتى هجم كليب عليه قائلًا: «لا بد مِن قتلك كما قتلتَ أبي، وأكون قد أخذتُ ثأري.» وقطع رأسه شاهرًا.

وباغتيال الملك حسان، ليلة عرسه داخل مخدعه، تكون قد انقضت الحلقة التمهيدية لملحمتنا، والتي هي في موقع ملحمة أو سيرة مستقلة، نُلحقها هنا في نهايتها مُجسَّدة في مصرع الملك التبَّع المتجبِّر مُختطف الزوجة أو الخطيبة — والحما أو الوطن — حسان اليماني.

بما يوحِّده من جانب بجوٍّ أو مناخٍ شبيه بالإلياذة الهومرية واغتصاب باريس الطروادي هيلانة الإغريقية زوجة منيلاوس، كذلك يتوحَّد بأجا ممنون عقب عودته منتصرًا من حرب طروادة، لتتلقاه زوجته كليتمنستر Clytemnesttra وعشيقها إيجست Aegistus بغزوة أخرى داخل مخدعه، ويَصرعانه داخل حمامه عبر احتفالات العرس الدامي بعودة ملك الملوك الفاتح المنتصر.
كما أنَّ الأمر لا يبعد بنا كثيرًا عن محصلة الأساطير الفلسطينية والعبرية للإله الشمسي شمشون Samson الذي خدعته دليلة الفلسطينية داخل مخدعها ليلة عُرسه بمساعدة شيوخ قبيلتها، وعرفت سرَّه وصرعته.

والاشتقاق اللغوي بين اسم دليلة وجليلة أو الجليلة قد يُسهم في الإيضاح، بالإضافة طبعًا للتوحُّد المكاني؛ حيث إن كلتيهما عربية فلسطينية.

بل إنَّ الملك التبع حسان يُمكن توحُّده مع فرعون إبراهيم مختطف سارة زوجته «وابنة عمه وأخته في الرضاعة»،١ حين دخل الخليل إبراهيم مصر ووُشيَ بحسنِ سارة امرأته إلى فرعون، فسأل إبراهيم عنها فقال: هي أختي من أبي لا مِن أمي، ولم يكذب في قوله، فاختارها فرعون لنفسه مُختليًا حتى تحقَّق أنها زوجته، فاستبشَع كبيرة الكبائر هذه — اختطاف الزوجة — التي أدانها العالم القديم وردَّها إليه مع هدايا كثيرة؛ من جملتها: هاجر المصرية جارية «سارة» التي من رحمها جاء إسماعيل، وابنه قيدرا أبو العرب.

ويبدو أنَّ رذيلة خطف الزوجة واغتصابها — كالأرض والوطن — كانت كبيرة الكبائر فيما أدانها العالم القديم، فكانت السبب الرئيسي لحرب طروادة التي استمرَّت عشر سنوات متصلة، حين أقدم باريس الطروادي على اختطاف هلينا زوجة البطل الإغريقي منيلاوس كما ذكرنا منذ سطور.

كذلك يلاحظ أنه في حالة ملحمتنا حين اختطَف الملك التبَّع حسان اليماني، أو هو اغتصب الجليلة بنت مرة، من خطيبها القيسي الأمير كليب، تمهيدًا لاندلاع حرب البسوس التي هي موضوع هذه الملحمة، والتي امتدَّت أربعين عامًا كما تَذكُر هذه الملحمة التي يرجَّح أنها فلسطينية عربية، من حيث إن ساحات أحداثها ومعاركها الحربية الكبرى تدور في «بير السباع» أو «بير سبع»؛ أي بيت شيبا أو بيت سبأ Bethseba (٢ صموئيل ١٢ / ٢٤)، بالإضافة إلى يافا وحيفا والكثير من المدن والمعالم الفلسطينية، مثل: «النهى» والذنيب أو «الذنائب»، كما يذكر الزير سالم في شعره:
ولقد شفيت النفسَ من سرواتهم
بالسيف في يوم الذنيب الأغبَسِ

كما أنَّ من هذه المعالم والأماكن الفلسطينية ما يُعْرَف برملات «خزازي» و«الرغام» و«ماء فضة» و«التحالق» ووادي الشعاب، بالإضافة إلى أحداثها المركزية المصاحبة لبطلها الزير سالم أو ساليم أو سلم، وعلاقته بالمدينة المقدَّسة من جانب.

ومن جانب مُكمِّل لجغرافية مركز أحداثها المركزية المصاحبة لبطلها المِحوري الزير سالم أو المهلهل، ما بين دمشق الشام إلى بير سبع فلسطين وحيفا، بل والقدس ذاتها، حين حارب الزير سالم معتليًا أسوارها دفاعًا عنها.

بل تحتفظ هذه الملحمة — السيرة — للزير سالم بأنه هو الذي أنشأ أو عمَّر مدينة بئر سبع أو بير سبع، حين اتخذها موطنَه ومنفاه عبر صراعاته مع زوجة أخيه الجليلة بنت مرة كما سيَرِدُ.

•••

فابنتهاء هذه الحلقة الافتتاحية المُهاجرة الدخيلة على ملحمتنا هذه عن الزير سالم — أبو ليلى المهلهل — سيد ربيعة.

وأقصد بهذه الحلقة الدخيلة «التبَّع حسان اليماني» وفتوحاته للشام وفلسطين وغرب آسيا بعامة.

ولحين مصرعه على يد الأمير الفلسطيني كليب وخطيبته الجليلة بنت مرة، تبدأ أولى أحداث ملحمة أو سيرة «الزير سالم» على أرض فلسطين العربية بالنسبة لكلِّ متنوِّعات هذا النص الشعبية، أو التي جاءت بها الطبعات الشعبية التي تحفظ لمَجرى أحداث هذه السيرة الزير سالم موطنًا جغرافيًّا — مكمِّلًا لمنبتها التاريخي الافترضي — هو ما بين سهول الشام دمشق وفلسطين.

بينما يختفي هذا الموطن الجغرافي في مأثورات ومعلَّقات الأدب العربي الكلاسيكي، ليحلَّ محله موطن آخر هو شمال الجزيرة العربية فيما حول مكة والحجاز، بل وامتدادًا إلى جنوب الجزيرة في اليمنين والجنوب العربي بعامة.

وفي معظم الحالات يرجح بالطبع ما تشير به النصوص الفولكلورية عن نظيرتها الفصحى أو الرسمية.

ويجدر بنا إعادة الاستشهاد بمعالم سيرتنا الملحمية هذه عن طريق الالتزام السردي بنصوصها قدر الإمكان، بما يُشرك قارئ هذه السطور معنا في الترجيح الأخير بموطن وزمن وخصائص هذه السيرة العربية الكبرى.

١  «سارة وهاجر»، شوقي عبد الحكيم، دار المصير الديمقراطي، بيروت ٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤