عودة الولد المُتشرِّد

لم يكن أمام «تختخ» إلا أن يعود إلى منزل «عاطف» حيث كانت «نوسة» في الانتظار … على أمل أن تكون «لوزة» قد عادت … ولكنه لم يكد يدخل من باب الحديقة ويجد «نوسة» و«محب» و«عاطف» وحدهم حتى أَحَسَّ بقلبه يتقلَّص … أين ذهبت «لوزة»؟

كان هذا هو السؤال الذي يطوف بأذهانهم جميعًا … ولم تكن له إجابة … ونظر «محب» إلى ساعته ثم قال بصوتٍ مبحوح: إنها العاشرة والنصف!

عاطف: ألا نُبلِّغ الشرطة؟

نوسة: نعم، يجب أن نذهب فورًا لإبلاغ الشاويش «علي» ليُحرر محضرًا بالغياب … ثم نُخطر المفتش «سامي».

عندما سمع «تختخ» اسم الشاويش تذكَّر أحداث الساعة الماضية … وما جرى بينه وبين الشاويش والمظروف الأبيض وقضية «س/س» … وتساءل … هل لغياب «لوزة» علاقة بما حدث؟

فكر «تختخ»، هل يروي للأصدقاء ما حدث؟ ولكن هل هذا وقت الحديث عن الشاويش والألغاز والقضايا و«لوزة» غائبة … وحدها … في هذا الظلام وحيث لا يعرف أحد؟!

كان الجميع يجلسون صامتين … والسؤال الذي سأله «عاطف»، «هل نُبلِّغ الشرطة؟» بلا جواب … وفجأة صاحت «نوسة» … وهي تقف وتجري: «لوزة»! «لوزة»!

ووقف الأولاد الثلاثة، واتجهوا جميعًا إلى باب الحديقة، حيث كانت «لوزة» تقِف.

كانت مُمَزَّقَة الثياب مجروحة اليدَين والساقين … تعلوها الرمال والأتربة، وقد بدا عليها الإعياء الشديد.

صاحت «نوسة» وهي تحتضِنها: «لوزة» … ماذا حدث؟

لم ترُد «لوزة» … فقد عرفت أنها لو تحدَّثَت فسوف تبكي، وفضَّلت أن تتماسك ومضت بينهم، وأشارت أنها ترغب في الصعود إلى غرفتها.

قال «عاطف»: انتظروا حتى أرى الطريق … فلو رآها أبي أو أمي بهذا الشكل فسوف تحدُث كارثة!

وتسلل «عاطف» عن طريق باب المطبخ إلى داخل الفيلا … ثم عاد بعد لحظاتٍ وقال هامسًا: إنهما يتفرَّجان على التليفزيون … سنصعد من السُّلَّم الخلفي.

وصعد الجميع دون أن يُحدِثوا أي صوت … وأسرعت «نوسة» مع «لوزة» إلى الحمَّام حيث اغتسلت وغيَّرَت ثيابها، ثم أوَتْ إلى فراشها، وقد بدت أحسنَ حالًا.

جلس الأصدقاء حول «لوزة» وقال «عاطف» وهو يمسح على شعرها بيده: آسِف جدًّا يا «لوزة» … لقد كنتُ سخيفًا وأحمق!

ردَّت «لوزة» وهي تبتسِم: لا داعي للاعتذار يا «عاطف» هذه هي عادتك وأنا الآسِفة …

تختخ: وأنا أيضًا أعتذر … فقد كنت خشِنًا في الحديث إليكِ يا صديقتي العزيزة!

لوزة: إنَّني أشكركما على ما فعلتما … فلولا أنني غضبت … ولولا أنني خرجتُ أسير على غير هدًى … لما توصَّلْنا إلى شيء!

بدا الاهتمام على وجوه المغامرين وقالت «نوسة»: ماذا تقصدين؟

لوزة: إن عندي حديثًا طويلًا لكم جميعًا … إن القضية التي يُحقِّقها المفتش «سامي» ليست وهمًا، ولا هي مجرد استنتاج … إنها حقيقة، فقد عرفتُ مكان الأحداث وتعرَّضت لمطاردةٍ عنيفة لم أنجُ منها إلَّا بالدوران حول المعادي كلها!

وأنصت الجميع إليها وهي تقول: إن استنتاجات «عاطف» في مكانها بالضبط، فالأحداث التي يبحثها المفتش تجري في المعادي الجديدة!

وروت «لوزة» للأصدقاء ما حدث لها … والمطاردة العنيفة التي تعرَّضَت لها في الصحراء وتذكَّرت فجأة وقالت: إنني تركتُ الدراجة بجانب مجموعة من الأشجار عند طريقٍ جانبي في شارع النادي الجديد.

تختخ: إنني أعرف المكان.

لوزة: تعرفه … كيف؟

تختخ: لقد كنتُ هناك منذ ساعتَين … وقابلت الشاويش «علي» وهو عائد وقد حصلتُ على معلوماتٍ لا بأس بها.

لوزة: ولكن كيف ذهبتَ إلى هناك؟

تختخ: لقد فكرتُ أنك ربما اتَّجهتِ إلى هذا المكان لتُثبتي صحةَ استنتاجاتك، أو استنتاجات «عاطف» … بالمعنى الأصح.

لوزة: إنك مُدهش!

تختخ: بل أنتِ المدهشة … فلولاك لما عثَرْنا على شيءٍ نشغل به أنفسنا في هذا الصيف الطويل المُمل!

لوزة: هل سنتدخَّل؟

تختخ: في الحقيقة لستُ أدري … المفتش لم يطلُب منَّا أن نتدخَّل فليس من حقِّنا أن نفعل أي شيء … فقد يؤدي هذا إلى مشاكل مع رجال الشرطة، أو نفسد شيئًا يفعلونه.

محب: أقترح أن نؤجل بحث هذا كله إلى الغد … إن «لوزة» مُجهدَة بعد المطاردة التي تعرضَتْ لها … ومن الأفضل أن نتركها تنام، ولنذهب لإحضار الدراجة حيث تركَتْها، وإلا سُرِقَت!

تختخ: معقول … معقول جدًّا!

ثم التفت إلى «عاطف» وقال: ابقَ أنت بجوار «لوزة» وسنذهب نحن الثلاثة لإحضار الدراجة!

وبعد تحية حارَّة تبادلها الثلاثة مع «لوزة» انصرفوا مُسرِعين … وبعد لحظاتٍ كانت درَّاجاتهم تمضي في شوارع «المعادي» الهادئة كالصواريخ. ولم تمضِ سوى ربع ساعة حتى أشرفوا على بداية شارع النادي الجديد … ثم أشار «تختخ» إلى مجموعة أشجار ضخمة تصطفُّ بعد مُنتصفه، وقال: أعتقد أنه المكان الذي تقصده «لوزة» ووضعت عنده درَّاجتها خلف هذه الأشجار!

قال «محب»: أقترح أن يذهب واحد مِنَّا فقط لإحضار الدرَّاجة حتى لا نلفت الأنظار.

تختخ: اذهب أنت يا «محب» فأنت قائد ماهر للدرَّاجات وسأبقى مع «نوسة»؛ فعندي فكرة قد أُنفِّذها بعد عودتك؟

انصرف «محب» مُسرعًا، وبقِيَت «نوسة» مع «تختخ». وكان الظلام والصمت يسُودان المكان، إلا من أضواء النجوم … ومن صوت بعض السيارات الذي كان يأتي من بعيد.

قالت «نوسة»: ما هي الفكرة التي قد تُنفِّذها بعد عودة «محب»؟

تختخ: أُفكر في قضاء بعض الوقت في مُراقبة هذه الفيلا … إن الأحداث التي يُمكن أن تدور الليلة قد تكون أحداثًا حاسمة!

نوسة: ولكن المُفتش «سامي» ورجاله هنا!

تختخ: أعتقد أن المفتش «سامي» كان يُغادر الفيلا عندما شاهدَتْهُ «لوزة» مع الرجل الذي يُدَخِّن البايب!

نوسة: ولكن يا «تختخ» إذا كان المفتش قد أخفى عنَّا ما يدور في هذا المكان فلا بدَّ أن عنده أسبابًا قوية لهذا الموقف … إنه لم يُخفِ عنا شيئًا يمكن أن نُساهم فيه أبدًا!

تختخ: إنَّ المُفتش ما زال يُعامِلنا كصغار، وهو يخاف علينا جدًّا، لهذا يُريد أن يُبعدنا عن المشاكل قدْر ما يستطيع … ولكن الحقيقة يا «نوسة» أنني منذ سمعتُ بالمطاردة التي تعرَّضَتْ لها «لوزة» ورأيت المظروف الذي كان يحمله الشاويش «علي» تَفَتَّحَت شهيَّتي للعمل!

نوسة: إنني غير موافقة على فكرتك هذه … لقد نجت «لوزة» بأعجوبةٍ من المطاردة … وقد لا تنجو أنت … دعِ المسألةَ كلها للصباح نُناقشها ثم نأخذ فيها القرار المناسب!

لم يرُد «تختخ»، فقد وصل «محب» وهو يقود درَّاجته بيد، ويسحب درَّاجة «لوزة» بيده الأخرى.

قال «تختخ»: ألم تلحظ شيئًا غير عادي هناك؟

محب: الحقيقة أنني لم أستطع مقاومة إغراء إلقاء نظرة على الفيلا من بعيد … وقد شاهدتُ ما يُشبه الضوء الخاطف يصدُر منها بين لحظةٍ وأخرى … هذا النوع من الضوء الذي تراه عندما ترى عملية لحامٍ بالأكسجين.

تختخ: لحام بالأكسجين؟! ذلك الضوء اللامع الأزرق؟! يا له من شيء مُثير!

قالت «نوسة»: هيا بنا … فإنني أُحِسُّ أن هذا المكان غير مأمون!

محب: هل أنتِ خائفة يا «نوسة»؟

نوسة: أبدًا … ولكننا الآن نعمل بلا خطةٍ مُعينة … وقد قلت ﻟ «تختخ» منذ لحظات إننا يمكن أن نفسد خطة المفتش بالتدخُّل في عمله دون أن يدري … إن المفتش «سامي» ليس الشاويش «علي» … وأظنه سيغضب جدًّا لو علِم أنَّنا نتصرَّف دون عِلمه!

محب: صحيح … هيا بنا!

واستدار الثلاثة، ومضَوا يقطعون شوارع المعادي المظلمة حتى وصلوا إلى مُفترق الطرق، فاتَّفَقوا على اللقاء في الصباح، ومضت «نوسة» و«محب» في ناحيةٍ واتجه «تختخ» ناحية منزله.

كان ذهنه مشغولًا جدًّا بما سمع … وشهيته مفتوحة للعمل. فصعد إلى غرفته، الغرفة التي يُسمُّونها غرفة العمليات … وتحوي عشرات الأشياء، من بينها أدوات التنكُّر … فخلع ثِيابه سريعًا، وانهمك في عملية تنكُّرٍ مُتْقَنَة … وبعد نصف ساعة فقط كان قد تحوَّل إلى ولدٍ مُتشرِّد … الشَّعر المنكوش … الوجه المُتَّسِخ … الثياب المُمَزَّقَة … ثم نزل إلى المخزن الصغير الذي يقع بجوار «الجراج» … حيث يضع والده سيارته، ففتح المخزن وأخرج منه عربة كوكا كولا صغيرة كان قد استخدمها من قبل في عمليات مُماثلة … كان بها بعض الزجاجات الفارغة … فدخل إلى الفيلا وأحضر من الثلاجة بضع زجاجاتٍ مُمتلئة ثُم أغلق الباب ودفع العربة أمامه … وبعد لحظات كان يدفع العربة في الطريق إلى المعادي الجديدة … كانت الساعة قد تجاوزت مُنتصف الليل وهو يقترب من شارع النادي الجديد، وعندما وصل إلى الطريق الجانبي حيث تُوجَد الفيلا توقف قليلًا يستمع، ثم دفع العربة أمامه، ومضى هادئًا مُحاذرًا وقد فتح عينيه وأُذنيه لكلِّ ما يحدُث حوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤