كوكا كولا بعد منتصف الليل

كان كل شيءٍ هادئًا في الشارع الجانبي الصغير … وعلى الجانبين ترتفع أشجار الحور الضخمة تُضفي على المكان غموضًا ورهبة، وتُضْعِف من أضواء أعمدة النور على الجانبَين. واقترب «تختخ» من الفيلا وهو يدفع عربته، وكلما اقترب خفَّف من سرعته، كان يُريد أن يلقي نظرةً ثانية على المكان وأن يرى كل ما يمكن رؤيته … ويسمع كل ما يمكن سماعه. وعندما أصبح أمام الفيلا تمامًا، لاحظ ما لاحظَتْه «لوزة» من قبل … أن في بناء الفيلا شيئًا غير عادي … فهذا الجناح الكبير الذي يُشبه السفينة من الواضح أنه أُضِيفَ إلى الفيلا بعد بنائها … ومن خلف النوافذ المُغلقة كانت تأتي بين لحظةٍ وأخرى هذه اللمحات الخاطفة من الضوء الأزرق الشديد اللَّمَعان … بالضبط كما قال «محب» إنها تُشبه البريق الذي يصدُر من جهاز اللحام بالأكسجين.

ماذا يدور حول هذه النوافذ المغلقة؟! … هكذا سأل «تختخ» نفسه … ثم عاد يسأل، لماذا يُخفي عنهم المفتش «سامي» هذه القضية التي يُسمِّيها «س/س»؟

إن المغامرين الخمسة لا يمكن أن يقفوا بمعزل عن قضيةٍ تدور في المعادي … حتى ولو لم يُدعَوا إليها … خاصة إذا كانت على هذا القدْر من الغموض والأهمية.

نسي «تختخ» في تأمُّلاته وأسئلته أنه توقَّف تمامًا عن الحركة … ونسِيَ ما حدث ﻟ «لوزة» في بداية الليل … وفجأة سمع نباح كلب، وبرَز من الظلام شبح رجل يحمِل بيدِه مصباحًا كهربائيًّا قويًّا سلَّطه على «تختخ» وصاح: قف مكانك!

كانت مفاجأة كاملة «لتختخ»، وبهر الضوء القوي عينيه، فأغمضهما لحظات، وعندما فتحهما كان الرجل يقِف أمامه بالضبط.

وقال الرجل: ماذا تفعل هنا؟

ردَّ «تختخ» وهو يُقَلِّد لغة المُتشرِّد الثقيل اللسان: إنني كما ترى يا سيد أبيع الكوكا كولا.

قال الرجل بصرامة: هل تُريد أن تُقنعني أنك تبيع الكوكا كولا في هذه الساعة من الليل، وفي هذا الشارع الخالي من الناس؟

رد «تختخ»: إنني كما ترى يا سيد … قد انتهيت من عمل اليوم، وأنا عائد إلى منزلي!

الرجل: لماذا توقَّفتَ إذن أمام هذه الفيلا؟

كان سؤالًا مُحرجًا ولكن «تختخ» ردَّ سريعًا: لقد شاهدتُ ضوءًا غير عادي يأتي منها وخشيتُ أن تكون النيران قد شَبَّت فيها.

صمت الرجل لحظاتٍ كأنما يُقرِّر شيئًا، ثم قال: إذن انصرِفْ فورًا ولا تدعني أرى وجهك مرةً أخرى هنا!

تختخ: سمعًا وطاعة يا سيد!

ودفع عربته أمامه، ومضى وهو لا يُصدِّق أنه نجا من هذا المأزق … حتى إذا قطع نحو مائتي متر وجد الشارع ينتهي إلى الصحراء … فدار وهو لا يدري ماذا يفعل، ولاحظ على الفور وجود ضوء في الصحراء المُترامية … ضوء لمع سريعًا ثم اختفى! ووقف مكانه يرقُب المكان الذي لمع فيه الضوء. وفجأةً شاهد ضوءًا آخر ولكن أبعد من الأول بمسافة … ثم ضوءًا ثالثًا … كانت الأضواء تصدُر من أماكن مُتفرقة … ولا تأخذ شكلًا مُعينًا … ولم يتردَّد «تختخ» فقد ركن عربة الكوكا كولا في أقرب مكان مُختفٍ عن العيون، ثم بدأ يسير فوق الرمال مُتَّجِهًا إلى حيث تلمع الأضواء … وأخذ يقترِب على حذَرٍ منها، ولاحظ أنها أضواء متحركة وفجأة اتجه شعاع من الضوء ناحيته في لحظة خاطفة … ومَرَّ الضوء عليه، وقبل أن يتمكن من الاختفاء عاد الضوء إليه وثبت على وجهه … وبسرعةٍ ألقى بنفسه على الأرض. وفي اللحظة نفسها انطلقت رصاصة مرَّت فوق رأسه … وبدَّدتِ السكونَ الذي يرين على الصحراء … وتكاثفت الأضواء على المكان الذي كان يقِف فيه، وأدرك أنه سيُحَاصَر فورًا ما لم يُسرِع بالابتعاد … ولم يكن يستطيع أن يقِف فألقى بنفسه على الرمال … وأخذ يتدحرج مُبتعدًا عن المكان وهو يسمع أصواتًا خافتة تأتي من مصادر الضوء … وظل يتدحرج حتى تأكد أنه ابتعد مسافة كافية، ثم وقف وأطلق ساقيه للريح في اتجاه المعادي … كان يجري دون تفكير … فقد أدرك أنه يواجه عددًا لا يقلُّ عن أربعة رجال … وأنهم على استعدادٍ لقتله دون تردُّد إذا ظهر … وبعد أن جرى مسافةً طويلة وقف يلهث ونظر خلفه … وعلى مبعدةٍ شاهد الأضواء مُتفرقة في المكان نفسه الذي كان به … واستجمع قوَّتَه ودار دورةً واسعة حول شارع النادي الجديد حتى دخل المعادي من ناحية الاستاد … ثم خفَّض سرعته … ومضى يسير بهدوءٍ حتى وصل إلى منزله وهو في غاية الإجهاد.

أسرع إلى الحمَّام، فأزال التنكر … وغيَّر ثيابه، ثم نزل إلى المطبخ فتناول عشاءً خفيفًا وصعد مرةً أخرى إلى غرفته، وأخرج كراسة مذكراته التي يكتب فيها مُلَخَّصًا دقيقًا لكل مغامرة … وأخذ يكتُب حتى إذا نظر إلى ساعته وجدَها قد تجاوزت الثالثة صباحًا … فأطفأ النور ونام.

•••

في التاسعة من صباح اليوم التالي عقد المغامرون الخمسة اجتماعًا من أخطر اجتماعاتهم؛ فهم لأول مرة ينغمِسون في مغامرةٍ لا يرغب المفتش «سامي» في أن يدخلوها … وقد تورَّطوا فيها … فهناك احتمال أن يكون الرجل الذي كان يطارد «لوزة» قد رآها … وهناك احتمال أن يكون الرجال الذين طاردوا «تختخ» قد رأوه … وإن كانت المسألة بالنسبة «لتختخ» ليست خطيرة لأنه كان مُتنكِّرًا.

بدأ الاجتماع بداية هادئة، ثم تحوَّل إلى صخبٍ شديد … فعندما أعلن «تختخ» أنه عاد إلى الفيلا الغامضة ليلًا اعترض الأصدقاء على ما فعل، وقالوا إنه أولًا يُعَرِّض نفسه للمخاطر … ثانيًا أنه يعمل وحده، وهم فريق ويجب أن يعملوا معًا.

قال «تختخ» وهو يرفع يده طالبًا النظام: أرجوكم … نريد أن ننظم المناقشة فنحن قد انغمسنا في هذه المغامرة بشكل أو بآخر … ويجب أن يكون واضحًا لكم أنني لم أبدأ … لقد كان «عاطف» هو الذي بدأ.

صاح «عاطف»: إنك دائمًا تضعني في وجه المدفع!

تختخ: إنني لا ألومك يا «عاطف» … فمن واجب أي مُغامر يجد فرصةً لِحلِّ لغز غامض، أو الاشتراك في مغامرة لإحقاق العدل أن يتدخَّل. فقط أريد أن أؤكد أنني لا أعمل وحدي … كل ما هنالك أن نوع المراقبة التي كنت أريد القيام به لا يصلح إلَّا لشخصٍ واحد … وهذا ما فعلته …

نوسة: دعونا من هذا كله، وتعالوا ننتقل إلى ما هو أهم … ما هي الحكاية بالضبط، وكيف سنتصرف؟

تختخ: سأقدم لكم مُلَخَّصًا سريعًا، فقد كتبت أمس في كراستي جميع العناصر التي يتكوَّن منها هذا اللغز وهذه القضية.

وفتح «تختخ» كراسته وقال: أولًا … إن المفتش «سامي» زارنا. وأعتقد أنه كان مُترددًا في إخبارنا بالقضية التي يعمل بها … ولهذا فإنني أُرجح أنها قضية تتعلق بأمن الدولة … فهذه هي القضايا التي يُفَضِّل المفتش «سامي» ألا نتدخَّل فيها لأهميتها وسِرِّيتها، ولأن أجهزة الأمن الأخرى تعمل فيها … ولعلكم تذكرون لغز «عين السمكة» … لقد كان المفتش له الموقف نفسه …

ثانيًا … ذهبت «لوزة» بالمصادفة إلى مكان الأحداث ووقفت في ظلال الأشجار ترقب الفيلا، ورآها شخص وطاردها … وهناك احتمالان … أن يكون الرجل من جهةٍ مُعادية وظنَّ أنها رأته … أو يكون من رجال الشرطة الذين يحرسون الفيلا … ثالثًا … قابلت أنا الشاويش «فرقع» ورأيت المظروف الذي كان يحمله … وعرفت أن الموضوع خاص بقضية يُسميها المفتش قضية «س/س» وهما حرفان يرمزان إلى شيءٍ لا نعرفه … رابعًا … ذهبت أمس ليلًا لمراقبة الفيلا لعلَّني أعثر على شيء يدلني على طبيعة الأحداث التي تجري فيها أو حولها … وتعرضتُ لاستجوابٍ من شخص خرج من بين الأشجار … ثم تعرضت لمطاردةٍ في الصحراء أقسى من المطاردة التي تعرضَتْ لها «لوزة»!

وصمت «تختخ» لحظات ثم قال: والآن عندنا مجموعة من الأسئلة تدور حول كل هذه الأحداث منها … ماذا يدور في هذه الفيلا ذات الشكل العجيب؟ ما سِرُّ الضوء الغريب الذي يصدر منها؟ ماذا حدث فيها استدعى تدخل المفتش «سامي» بهذا الشكل حتى إنه يُخفي عنا معلوماته؟ من هم الأشخاص الذين طاردوني أنا و«لوزة»؟ هل هم أعداء أو من رجال الشرطة؟ ماذا يعني الحرفان «س/س»؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها؟

لم يرُدَّ أحد من المغامرين … فلم تكن هناك إجابات واضحة مُطلقًا عن هذه الأسئلة؛ فعاد «تختخ» يقول: إنني سأُحاول الإجابة عن بعضها دون ترتيب … أولًا الضوء … إنه يدلُّ على أن هناك عملية صناعية تتمُّ في الداخل … إن لحام الأكسجين يُستخدَم في لحام المعادن … ومعنى ذلك أن ثمة شيئًا يتمُّ تصنيعه في داخل الفيلا … إذ لاحظنا أن الضوء يصدُر من الجزء غير العادي من الفيلا … هذا الجزء الذي يبدو أنه أُضِيفَ حديثًا إلى بناء الفيلا القديم.

نوسة: معقول!

تختخ: وأعتقد أن ما يتم تصنيعه في داخل الفيلا هو شيءٌ سِريٌّ … وأنه شيء يخصُّ الدولة أو يُهمُّها؛ بدليل الحراسة المُشدَّدة التي حول الفيلا!

وسكت «تختخ» ونظر إلى الأصدقاء ثم عاد يقول: وقد حدث شيءٌ في الفيلا خاص بهذه العملية الصناعية … هذا الشيء دفع المفتش «سامي» إلى التدخُّل، ويبدو أن ما حدث في الفيلا شيء غامض لم يستطع المفتش حلَّه حتى حضوره إلينا بدليل علامات الانزعاج والإجهاد التي كانت ظاهرة عليه … ونحن نعرف، بتجاربنا مع المفتش، أنه إذا كان يواجه مشكلة يصعُب حلها … فإن ذلك يبدو في وجهه وفي تصرفاته.

وساد الصمت … وبدا واضحًا أن «تختخ» انتهى من عرض مُلخصٍ معقول للموقف.

وقال «عاطف»: بما أنني الذي بدأ هذا اللغز … أو هذه المشكلة … فعندي اقتراح مهم!

التفت الأصدقاء إلى «عاطف» الذي مضى يقول: نُحَدِّث المفتش «سامي» تليفونيًّا ونطلُب منه أن يزورَنا … ونضع أمامه كل الأحداث التي مرَّت بنا … وكل الحقائق التي عرفناها … ثم نطلُب منه أن يقول لنا ماذا يحدُث في هذه الفيلا الغامضة … ما رأيكم؟

وقبل أن يجيب واحدٌ من المغامرين … حدث آخر ما كانوا يتوقعون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤