المتهم البريء

اجتاز المفتش باب الحديقة بقامته الطويلة … وخلفه ظهر الشاويش «علي» وهو يدفع أمامه عربة الكوكا كولا الصغيرة التي تركها «تختخ» قُرب الفيلا الغامضة ونَسِيَها في غمرة الأحداث التي مرَّ بها ليلًا.

كانت رؤية العربة كافيةً لكي يتسمَّر المغامرون في أماكنهم … فمعنى هذا أن المفتش اكتشف تدخُّلهم في عمله دون إذنه، وأنهم سيتعرَّضون لِلَوم عنيف.

كان وجه المفتش يعكس مدى ما يُعانيه من إرهاق وتوتُّر … وعندما اقترب من الأصدقاء أرسل «تختخ» نظرة تحذيرٍ لهم … وفهموا أنه يطلُب منهم أن يتركوا له فرصة الحديث مع المفتش دون تدخُّلٍ منهم.

وقفوا جميعًا عندما اقترب المفتش الذي لاحظ على الفور أنهم لم يُسرعوا إلى لقائه كالمعتاد فقال: إنكم لا تُرحِّبون بي كما اعتدتم أن تفعلوا! ماذا حدث؟

ردَّ «تختخ» مُبتسمًا: لقد كانت زيارتك الأولى مفاجأة لنا فلم تبقَ سوى دقائق، وهذه الزيارة مفاجأة ثانية!

ارتمى المفتش على أحد المقاعد بعد أن حيَّاهم وابتسم ﻟ «لوزة» فقالت: ليمون مُثَلَّج؟!

المفتش: إنه الشيء الوحيد الذي يرُدُّ نشاطي في هذا الحرِّ اللافح!

أسرعت «لوزة» لإحضار الليمون، ومرت بالشاويش الذي كان يقف بجوار العربة الصغيرة وقالت: ليمون أيضًا يا شاويش؟

الشاويش: لا … شاي ثقيل من فضلك!

شبَّك المفتش يدَيه خلف رأسه ومال إلى الخلف وأغمض عينَيه لحظات، ثم قال: ما هي أخباركم؟

رد «تختخ»: إننا ننتظر الأخبار منك!

أشار المفتش إلى عربة الكاكولا الصغيرة وقال: إنني أريد أخبار هذه العربة … فنحن نعتقد أننا لو عثرْنا على صاحبها، فسوف نضع يدَنا على طرف الخيط في قضية مُعَقَّدَة نتولاها هذه الأيام.

تبادل المغامرون نظرةً عاجلة … وأغمض «تختخ» عينيه بسرعة، ثم فتحهما على العربة وقال: هل هي بهذه الأهمية؟

ردَّ المفتش: نعم … وقد كان رجالي منذ الصباح الباكر عند جميع مُتعهدي الكوكا كولا في المعادي … وسألوهم عنها، ولكنهم جميعًا أكدوا أنهم لم يرَوها من قبل … وقد لاحظتُ أن الزجاجات الفارغة فيها يعلوها التراب، مما يؤكد أنها كانت مركونة فترة طويلة … وأنها استُخْدِمَت لغرضٍ مُعين … هو مراقبة مكانٍ تجري فيه أحداث هامة … وبمعنى آخر … أنها ليست عربة كوكا كولا حقيقية إنها مجرد أداة لغرض مُعين!

بلل «تختخ» شفتيه بلسانه … فقد أحس بريقه يجِفُّ وقال: وما هو المطلوب منَّا؟!

المفتش: المطلوب منكم أن تُجْروا تحرياتٍ واسعة عن هذه العربة … إن لكم أصدقاء كثيرين هنا … وأنتم تتجولون كثيرًا في المعادي وأنتم مُغامرون أذكياء، وإنني أعتمد عليكم في العثور على أية معلومات عن هذه العربة.

كان رأس «تختخ» مسرحًا لصراعٍ فكري عنيف … ماذا يفعل الآن، هل يقول للمفتش الحقيقة؟ ويتعرض لِلَومه؟ أم يخفي الحقيقة كما أخفى المفتش عنهم حقيقة ما يدور في الفيلا من أحداث؟!

وقرَّر أن يترك المناقشة لتُحدِّد له ما يقول من معلومات.

قال «تختخ»: وما هي القضية التي تتولَّونها هذه الأيام؟

رد المفتش: إنها قضية غامضة … أُفضِّل ألا نتحدث فيها.

وفي هذه اللحظة وصلت «لوزة» وسمعت كلمتي قضية غامضة، فقالت دون احتياط: قضية الفيلا؟!

اهتزَّ المفتش لدى سماعه ما قالته «لوزة» وقال: ماذا تعرفون عن الفيلا؟

أسرع «تختخ» وهو ينظر إلى «لوزة» مُحَذِّرًا يقول: إن «لوزة» تستنتج أن أي شيءٍ يحدث في المعادي لا بد أن يحدث في فيلا … باعتبار أن أكثر سكان المعادي يسكنون في فيلات … وأكثر الألغاز التي اشترَكَتْ في حلها دارت في فيلات.

مطَّ المفتش شفتيه وبدا غير مقتنع بهذا التفسير، وقال: جائز، وبالنسبة للإجابة عن سؤالك … فإنني أُفضِّل ألا تعرفوا شيئًا عن القضية الآن … إنها قضية خطيرة ومُعَقَّدَة وحتى أمس كُنَّا في ظلامٍ دامس بالنسبة لها … ولكن الأحداث تطورت أمس، فقد طارد رجالي شخصًا ضئيل الجسم في صحراء المعادي بعد هبوط الظلام، ولكنه استطاع الإفلات وإن كنا ما نزال نحاصر المنطقة وعندنا أمل أنه لم يخرج من الصحراء بعد … وقد يضطر إلى تسليم نفسه.

تناول المفتش كوب الليمون من «لوزة»، ولاحظ أن وجهها شديد الاحمرار فقال: مالك يا «لوزة»؟

نظرت «لوزة» إلى «تختخ» ولاحظ المفتش نظرتها فقال: إنني أُلاحظ أن «توفيق» وحده الذي يرد على أسئلتي … حتى «لوزة» تستأذنه في الإجابة … ماذا حدث؟

لجأ «تختخ» للمناورة فقال مُبتسمًا: إنني أمثل المتحدث الرسمي للمغامرين الخمسة؟

لم يبلع المفتش هذا الطُّعم وقال: إنني أُحسُّ أنكم تُخْفون شيئًا عني … وهذا شيء مؤسف!

تختخ: الحقيقة أننا مُتألِّمون لأنك تخفي عنا ما يدور من أحداثٍ في المعادي، ونحن نعرف أنك تخاف علينا من الانغماس في المغامرات الخشِنة … ولكن النشاط الذي يدور حول الفيلا الغامضة في الشارع المُتفرِّع من شارع النادي الجديد لم يعُد سرًّا!

قال المفتش بارتياع: كيف؟

تختخ: إن وجودك ووجود عددٍ كبير من رجالك حول الفيلا في وضح النهار لا يحتاج إلى تفسير … فأنتم بالتأكيد لا تقومون بزيارة الفيلا، لا بدَّ أن هناك ما يستدعي تواجدكم هناك!

المفتش: وماذا عرفتم من معلومات عن الفيلا الغامضة؟

تختخ: بمنتهى الصراحة، عندنا من المعلومات ما يؤكد أنكم تسيرون في الطريق الخاطئ!

كانت ملاحظةً قاسية بالنسبة للمفتش فبدا مُتضايقًا وقبل أن يتحدَّث وصلت الشغالة تحمل التليفون وقالت: تليفون لسيادة المفتش!

واختطف المفتش سماعة التليفون وأخذ يستمع وهو يبتسم، ثم أنهى المكالمة قائلًا: عظيم سأحضر فورًا!

وحيَّا المفتش الأصدقاء قائلًا: أعتقد أننا نسير في الطريق الصحيح … فقد تمَّ القبض على الولد المُتشرِّد الذي كان يتظاهر ببيع الكوكا كولا أمس أمام الفيلا، وسوف نحصل على اعترافاته.

فتح «تختخ» فمه مُندهشًا … وبدت على وجوه المغامرين علامات الدهشة البالِغة وقبل أن يتمكن أي واحدٍ فيهم من الحديث، كان المفتش قد انطلق مُبتعدًا وخلفه الشاويش «علي» يسير في كبرياء وهو يدفع عربة الكوكا كولا أمامه.

كان لما قاله المفتش وقع القنبلة على المغامرين … فلم يكن من المعقول القبض على الولد المُتشرِّد كما قال المفتش … لسببٍ بسيط يعلمونه جميعًا، أن الولد المتشرد لم يكن سوى «تختخ» مُتنكرًا … ومعنى هذا أن المقبوض عليه مظلوم … وأن المفتش ورجاله يسيرون في طريق خاطئ تمامًا بالنسبة للقضية.

كانت «لوزة» أسرع الجميع إلى الحديث فقالت: ماذا نفعل الآن؟ من غير المعقول أن نترك بريئًا يُقبَض عليه … والمغامرون الخمسة هم أنصار العدالة!

محب: لقد تحركت سيارة المفتش بسرعة … ولا ندري أين ذهب لنُخبره بالحقيقة!

عاطف: إنه بالطبع مُتَّجِه إلى قسم الشرطة … فالتحقيق يجب أن يتمَّ هناك!

نوسة: المشكلة الآن أنَّنا إذا أخطرنا المفتش بأن المتشرد الذي قبضوا عليه بريء … وقلنا إن «تختخ» هو الذي كان يبيع الكوكا كولا فسنضع «تختخ» في مأزق، فسوف يسأله المفتش عما كان يفعل هناك!

عاطف: لقد كان خطأً من البداية أن نتدخَّل في هذا اللغز دون أن نقول للمفتش، إن الموقف يزداد سوءًا!

كان «تختخ» صامتًا وهو يستمِع إلى أحاديث الأصدقاء ثم قال فجأة: اهدءوا قليلًا … إنني سوف أتحمَّل مسئولية كل ما حدث.

لوزة: إنني مسئولة معك … لأنني ذهبت دون أن أقول لكم وراقبت الفيلا!

عاطف: وأنا مسئول أيضًا لأنني أول من تحدث في هذا الموضوع!

نوسة: دعوكم من هذا السخف عن المسئولية … إن المغامرين الخمسة مسئولون بالتضامن في كل موقف … المهم الآن ليس تحديد المسئولية … المهم كيف نُنقِذ هذا البريء المظلوم؟

عاطف: ليس هناك سوى حلٍّ واحد … أن نخطر المفتش فورًا بالحقيقة، ونتحمَّل لومه … أولًا لإنقاذ هذا الشاب المقبوض عليه ظلمًا … ثانيًا حتى لا يستمر المفتش ورجاله في السير بالتحقيق نحو جهةٍ خاطئة.

تختخ: سأتَّصِل به تليفونيًّا.

وأمسك «تختخ» بالتليفون وأدار رقم قسم الشرطة … ولكن الرقم كان مشغولًا … وأخذ «تختخ» يُكرِّر الاتصال … وفي كل مرة كان التليفون يُعطي إشارة مشغول … وأخيرًا قال وهو يقف: سأذهب فورًا إلى القسم!

نوسة: سآتي معك!

تختخ: لا داعي، سأذهب وحدي … وسأعود إليكم فورًا!

قفز «تختخ» إلى درَّاجته وانطلق كالصاروخ في طريقه إلى قسم الشرطة … ولكنه عندما وصل إلى هناك فوجئ بأن سيارة المفتش ليست موجودة وأدرك أن المفتش ذهب إما إلى الفيلا … وإما أنه أخذ معه المتهم البريء وذهب به إلى إدارة البحث الجنائي في القاهرة.

وبرغم الحرارة الشديدة … والعرق الذي يتصبَّب منه انطلق «تختخ» في الطريق إلى الفيلا في آخر المعادي … وبعد نصف ساعة وصل إلى شارع النادي الجديد، وانحرف في الشارع الجانبي الضيق … وخفق قلبه عندما شاهد سيارة المفتش تقِف أمام الباب، فترك درَّاجته واندفع إلى باب الفيلا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤