رندة سليمان مبارك

الأمل في الزمن، هو أيضًا يُميت ويُحيي. سيهلك المكروب ذات يوم ويتجلى وجه الشفاء، ولن يخذل الله مؤمنًا صادقًا. اليوم نتبادل الحديث ونتعاون كزميلَين في مكتب واحد، كزميلَين غريبين لم يذوبا في قُبلة قط. وأحيانًا أراه — مثلي — يستحقُّ الرثاء، لم أعد أدينه ولم أعد أحترمه. التجرِبة الجديدة التي تقتحمني هي أنور علام. يستقبلني ببشاشةٍ غير عادية، ويُحاورني مُداعبًا مُعلنًا عن إعجابه ومودَّته. إني أتوقَّع وأفكر تحت مِظلَّة من الكبرياء تأبى التسليم بالهزيمة. من ناحيةٍ أخرى قدَّرت ماما أن الهدنة انقضَت، وأنه آن لها أن تتكلم، فقالت لي ونحن جلوس معًا في حجرة المعيشة: علمت أن إبراهيم بك مستعدٌّ أن يتقدم من جديد.

إنه كهلٌ صاحب مصنع معادن تقدَّم منذ عامَين ورُفِض. والظاهر أنها لاحظت استيائي فقالت: نحن متَّفِقان على أنه طالما لا يوجد ارتباط فالأمر يفصل فيه العقل وحده.

فقلت معترضةً: لكنه أرمل وأب!

فقالت برجاء: ولكنه غني ومستعدٌّ أن يأخذك بملابسك.

– ليست مجرد بيع وشراء.

– ولكننا لن نجد مثله بسهولة.

فقلت بحدة: لست مُتعجلة.

فقالت بإشفاق: الزمن يجري بسرعة.

فقلت بتحدٍّ: لن أكون أول عانس في التاريخ.

لزم أبي الصمت طوال الوقت. ولم أكُن صادقة تمامًا في التعبير عن حالي؛ فالحق أنني راغبة في إثبات وجودي، ولكن ليس على حساب كرامتي، الكفاءة يجب أن تشمل المال والاحترام. أنور علام يملك الاثنين، ولو كانت به شبهة لطبَّقت الآفاق، وهو على الأقل مقبول وغير مُنفِّر شكلًا، والفجوة بين عُمرَينا معقولة لدرجة. أما الحب فمن الحماقة أن أفكر فيه الآن. ولم يطُل بي الانتظار؛ فعلى أثر اعتماد تقريري ذات صباح قال لي: يصحُّ الآن أن أسألك عن رأيك!

تساءلتُ وقلبي يخفق بالتوقع: فيمَ يا بك؟

– إني أطلب يدكِ، ما رأيكِ؟

فلذتُ بالصمت كالمبغوتة، فقال: لعلِّي لا أجيد حديث الحب، لكنه موجود، لست خياليًّا، وحسبي أن أقول: إني أجدك حائزة لكافة الشروط بكل جدارة.

فهمست: الأمر مُفاجأة.

– طبعًا طلبين مهلة للتفكير، معقول، ولكن دعيني أزكِّي نفسي بالقدر اللازم؛ فمِثلي لا يَشرع في الزواج إلا إذا كان على يقين من قدرته لحمل مسئوليته.

– إني شاكرة وسأفكر في الموضوع.

وعرضتُ الموضوع على والديَّ مساءً. وقالت أمي بلا تردُّد: على خيرة الله.

وقال أبي: نُوافق على ما تُوافقين عليه.

ولما انفردتُ بأمي سألتها عما يمكن أن نُقدِّمه، فقالت بمرارة: من ناحية أبيك لا شيء، من ناحيتي فلديَّ بقية من حُلي يمكن أن أُجهِّز شخصك بثمنها، ويُستحسن أن يعرف الرجل كل شيء.

مرارة التجربة التي طحنتني مزَّقت أقنعة الحياء الفارغة. أنضجتني أكثر مما قدَّرت. صمَّمت على الجهر بالحقيقة على أنه لم يكن في حاجة إلى صراحتي لسابق علمه بأزمتي. وقال لي أيضًا بصراحة: سأقوم بتأثيث الشقة، وحسبي ذلك.

فوافقت طبعًا، فقال: يجب أن نعرف للوقت قيمته، وأن يتمَّ كل شيء في أقصر وقت.

وتمَّ إعلان الخطبة في شقتنا. اقتصر الحفل على والديَّ وأخواتي، ومن ناحيته على جولستان هانم وأخ طاعن في السن، لم يشهده أحد من جيران العمر. وقد أهدتني جولستان قلادةً ذهبية ذات فص ماسي ثمين. وكنت في أعماقي مُتوترة الأعصاب، ولكن ضبطتُ انفعالاتي بقوة، ومثَّلت دوري بلباقة حسدتُ نفسي عليها. ولما انفردت بسناء في حجرتنا انهار سد المقاومة فأجهشت في البكاء. ورمقتني بوجوم مليًّا ثم قالت: ليكن هذا وداعك الأخير للماضي العقيم.

فقلت مُولوِلةً: خسرت أثمن ما في حياتي.

فعطفَت عليَّ أكثر من أي وقت مضى وقالت: لا أُوافقك، ولكن لندَع كل شيء للزمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤