محتشمي زايد

في وحدتي أنتظر، أَحبِكُ الروب حول جسدي النحيل، وأسوِّي الطاقية فوق رأسي الأصلع، أربِّت على شاربي. وفي وحدتي أنتظر، لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. جرس الباب يرن، أفتح الباب فتدخل أم علي، في مِعطف سنجابي والخمارُ الأبيض يحدق بوجهها القمحي الريَّان.

– كيف حالك يا بك؟

– نحمده يا أم علي.

– الشتاء لا يريد أن يرحم.

وكامرأة يُوزَن وقتها بالنقود، خلعت المِعطف وعلَّقته بمِشجب قائم غير بعيد من الباب ثم مضت إلى حجرة نوم فواز وهناء. تبعتها كما نُبِّه عليَّ. جلست على مقعد أُتابعها وهي تكنس وتُنفض وتُنظف وتُلمع وتُرتب؛ نشيطة خفيفة رغم امتلائها. يخافون أن تمتدَّ يدها إلى شيء. سوء ظن لا مُبرِّر له، وهو من رواسب الماضي. أم علي ساعتها بجنيه، وتنتقل من بيت إلى بيت كالنحلة؛ فإيرادها يزيد عن مرتَّباتنا جميعًا مُجتمعة، ولكني أرتاح إلى الانفراد بها. نُزهة أسبوعية تنفخ في وجداني نغمة الحلم الغابر، الانفراد بها يتجسَّد في حال يضطرب لها روتين الزمن، ويُواجه الأنا القديمُ الأنا الطارئَ فيتناجيان وبينهما فاصل الزمن بلغتَين غريبتين لا تُفضيان إلى تفاهُم، ثم يستعير القلب من مخزونه البائد خفقةً خاطفة تعيش حياةً مِقدارها ثلاثون ثانية. وعندما تنحني لتُعيد بسط الكليم أتصوَّر أن أقرصها بحنان، مجرَّد تصوُّر؛ فإنني مُسيطر على زمامي تمامًا، وهي مُطمئنَّة من ناحيتي تمامًا، كأنها رجل في النشاط والقوة وتماسُك الشخصية، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا. وأسألها مُتمرغًا في انفرادي بها: كيف حال المعلم؟

– ربنا يلطف به.

– والأولاد؟

– هاجروا، لم يبقَ إلا العبيط.

وتضحك ثم بدورها تسألني: ما آخر أخبار صاحب عمارتكم؟

– يئس وسكت.

– من كان يُصدِّق أن الأرض تُجَن مثل بني آدم؟!

– الجنون أصل كل شيء يا أم علي.

ما أشدَّ شعوري بالانفراد بك! حوالَينا ولا علينا يا رب، كأيام شارع خيرت المسقوف بالشجر، وتحت مِظلَّة من الأفكار الحُرة المستوردة، فكرية ورتيبة المُمرِّضتان وشقاوة الغجر. الحياة فصول، ولكل فصل مذاقه، وطوبى لمن أحبَّ الدنيا بما هي دنيا الله. في زيارة لسليمان مبارك أبي رندة قال لي: أغبطك على صحتك يا محتشمي.

فقلت بثقة: الوراثة والإيمان يا عم سليمان.

فتساءل وهو ينظر نحوي بخبث: كيف أُصدق أن مثلك يؤمن بالخزعبلات؟

– الله يهدي من يشاء.

– كأنك في ماضٍ ما، ما كنت ملحدًا.

فقلت باسمًا: إيمان موروث؛ شك، إلحاد، عقلانية، لاأدرية، ثم إيمان!

فتساءل ساخرًا: بوفيه مفتوح؟!

– هي الحياة الكاملة.

– إني فخور بثباتي، راضٍ بالعدم، عابد للحقيقة، وقد أوصيت زينب إذا جاء الأجل ألا يُنشَر نعي ولا تكون جنازة ولا مأتم ولا حِداد.

– ما هو إلا نورٌ يهبط فجأةً فيُبدِّد الظلمات.

– المسألة أن العمر تقدَّم بك حتى لاح لك الموت.

حوارٌ عقيم، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا. صديقي يعيش في كونٍ خالٍ، وأعيش في كونٍ آهِل بالأحباب. أستغفر الله. يا لها من زيارة؛ زيارة أم علي! ماذا يفعل المسكين علوان؟ محرومون وسط سيرك من اللصوص. أُحدِّثه عن زماني لعله. رمى ببهلوان يطلق في العطسة عشرة شعارات عقيمة. أم علي تنتهي من عملها، تغسل اليدين والوجه وترتدي مِعطفها السنجابي وتنظر في ساعة يدها لتعرف مستحقَّاتها، أُسلِّمها النقود فتذهب قائلةً: فُتَّك بعافية يا بك.

– مع السلامة يا أم علي، لا تنسي الميعاد القادم.

وتَعُود الوحدة، أتمشَّى في الشقة بعد تعذُّر المشي في الشارع. القرآن والأغاني. طوبى لكم يا من اخترعتم الراديو والتليفزيون. بامية ومكرونة الغداء. حبَّب الله إليَّ العبادة، وجعل قُرة عيني في الطعام. أي وحدة والكون من حولي مكتظٌّ بملايين من الأرواح؟ أُحبُّ الحياة وأرحِّب بالموت في حينه. كم من تلميذ قديم لي قد صار اليوم وزيرًا! لا رهبانية في الإسلام، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سارَ في يوم صائف فاستظلَّ تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها. كثيرًا ما أُحادث حفيدي المحبوب عن الماضي لعله من حيرته يخرج. أُغريه بالقراءة وقليلًا ما يقرأ، ويستمع إليَّ بدهشة من يعزُّ التصديق عليه. دعنا من علياء سميح ومحمود المحروقي، ألم تحملك الأحداث على الإيمان بالوطن والديمقراطية؟ وما معنى الإصرار على التمسك ببطل مُنهزم راحل؟! كي لا تصبح الدنيا فراغًا يا جدي. إني ألفِتُ نظرك إلى أشياء غاية في الجمال. يضحك ويقول لي: ما أريد الآن إلا شقة ومهرًا مُناسبًا.

كيف أستطيع تجنُّب هموم الدنيا ومعي حفيدي المحبوب؟! ما أجمل كرامات الأولياء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤