رندة سليمان مبارك

اعتمدت رسائلي المترجَمة من المدير ولم يبقَ إلا أن أذهب، ولكنه مال بكرسيه المُتحرك إلى الوراء وقال لي: آنسة رندة، عندي حكاية تهمُّك.

ماذا عنده يا تُرى؟

قال: هي طبيبة شابَّة، كانت مخطوبة لطبيب زميل لأعوام، يئسا من الزواج، فسخا خطبتهما، تزوَّجت من تاجر في وكالة البلح، ووافقت على رغبته على البقاء في البيت كستِّ بيت.

دُهشتُ واستأت، ولكني سألته بهدوء: لماذا تتصور أن هذه الحكاية تهمُّني؟

فسألني مُتجاهلًا سؤالي: ما رأيكِ في تلك الطبيبة؟

فقلت بشيء من الجفاء: لا أستطيع أن أحكم على واحدة لا أعرف ظروفها.

فقال بهدوء: أنا أعتبرها عاقلة، فستُّ البيت خير من طبيبة عانس.

غادرته بوجه لا أشكُّ في أنه عالَنه باستيائي. له نظراتٌ طامعة لا يمكن تجاهلها. والحق أنه يُشكِّل عبئًا علينا، أنا وعلوان. في صباح الجمعة التالي لزيارته لبيت المدير ذهبنا إلى استراحة الهرم. الجو بارد حقًّا، ولكن الشمس ساطعة، ونحن ننظر من علُ إلى المدينة التي تبدو عظيمة هادئة مُترامية كأنما خالية من الهموم والقاذورات. وسألته ونحن نحتسي الشاي: كيف كانت زيارتك للبك المدير؟

فأعادها عليَّ بتفاصيلها، حتى أفسدت عليَّ جلستي الحلوة. قلت: يبدو أنها لم تكن زيارة عمل.

– بل عملنا ثلاث ساعات مُتتابعة.

فقلت بتحدٍّ: أنت فاهمٌ قصدي.

فقال بسخط: إنه شخصٌ مُثير للأعصاب.

– وأخته؟!

– عاقلة متَّزنة احترمتها كأم.

فضحكت ضحكةً باردة وتساءلت: وهل عاملتك كابن؟

فتساءل محتجًّا: تحقيق واتهام يا رندة؟!

فقلت بسرعة: لا سمح الله.

ورويت له ما دار بيني وبينه في مكتبه، فقطَّب غاضبًا وهتف: سأُطالبه بألا يتدخَّل فيما لا يعنيه.

فقلت بتوسل: الأفضل أن نُهمله كي لا تسوء العلاقة بينك وبين مديرك.

فقال بامتعاض: المسألة أن موقفي منك ضعيف لا أدري كيف أُدافع عنه.

فقلت بلطف: لست متهمًا ولا أُطالبك بدفاع.

– إني مسئول وحزين.

– لا حيلة لنا.

– لكنه وغد ويُعدُّ خطة.

– أهمِلْه مع حقارته.

وصمتنا قليلًا هاربين إلى رحمة الطبيعة حولنا حتى جاءني صوتُه مُتشكيًا: كأننا نسينا حديث الحب.

فقلت مُداريةً حزني: لسنا في حاجة إلى مزيد منه.

فقال وهو يرمقني بامتنان: أحبك.

فقلت وأنا في غاية من التأثر: أحبك.

فتساءل في حيرة: تُرى ما المغامرة الشريفة التي تُدرُّ علينا ما نحن في حاجة إليه من مال؟

فقلت باسمةً: ألا تملك موهبة الفتى الأول في السينما؟

– وأنتِ ألم تُجرِّبي صوتك ولو في الحمَّام؟

وضحكنا رغم همِّنا المشترك، وقال: ليست المشكلة تحسين مُرتَّب، ولكنها مشكلة الخلو والأثاث أيضًا.

ثم واصَل بعد صمت قليل: المحروقي تزوَّج بكل بساطة، ولكنه يعيش في مُخيَّم مع طائفته.

تخيَّلت المخيَّم وحياته، كأنه خيال لا حقيقة. رغم ذلك هفا فؤادي إليه؛ خيمة بسيطة ولكن يخفق بين جوانحها الحب. وفاض من قلبي نبع حنان مُتدفق. وقال بصوت دلَّني على أنه يُشاركني أشواقي: شدَّ ما أريدك أكثر من أي شيء في الوجود!

انضباطي خِلقة مُركَّبة في أعماقي منذ الصغر. حواري مع رغباتي الجامحة دائمًا ينتصر. لم تؤثر فيَّ تَجارِب شاهدتها عن كثب. حافظت على تصوُّري الوقور لمعنى الحرية. لم أتزعزع للتُّهم الساخرة المألوفة بالانغلاق والرجعية، ولم أبرأ من الحزن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤