والفلسفة للشعب أيضًا

مما يجهله كثيرون أن التفكير البشري ظاهرة اجتماعية، وأقرب ما يدل على ذلك أنه غير مستطاع إلا بالكلمات، أي: باللغة؛ لأن اللغة هي الآلة التليفونية بين أفراد المجتمع، وإذا نحن تصورنا إنسانًا يعيش في صحراء، وقد نشأ فيها منذ الطفولة، فإننا نقطع بأنه لا يستطيع التفكير إلا بمقدار ما يفكر الذئب أو الأسد؛ إذ ليست له لغة، ولكن نظام المجتمع، زيادة على كلمات اللغة، يعين تفكير الأديب والفيلسوف والفنان.

وهذا واضح في الأديب العربي القديم كما هو واضح في الآداب القديمة للأمم الأخرى.

فقد كان الأديب يكتب للملوك الذين يعتمد في عيشه على بقائهم وبقاء حواشيهم من أمراء وأثرياء مُثُل وفقهاء، ولذلك كانت كتب الأدب صنفين: أحدهما لتسلية الملوك مثل الأغانى للأصفهانى. والآخر لدراسة الآداب التقليدية مثل الكامل للمبرد.

والملوك تعيش بالتقاليد، فكان مثل المبرد يجد العيش والحافز في تأليفه مثل هذا الكتاب؛ لأن مناخه الذي ينمو فيه هو المناخ الملوكي، وكان هذا شأن الفلسفة أيضًا؛ لأن الذين كانوا يدرسونها كانوا من الفقهاء في الدين، فكانوا لهذا السبب يحرصون على أن تخدم الفلسفة التقاليد والعقائد، وليس المعنى هنا أنه لم يكن هناك شاذون مثل ابن رشد أو محيي الدين بن عربي؛ لأن في كل مجتمع طوائف شاذة أو ساخطة.

لذلك كان اهتمام الفلاسفة مقصورًا على بحث القيم العقيدية وليس القيم الاجتماعية، أو كان الاهتمام يتجه في الأكثر نحو استخدام الفلسفة لتأييد العقائد، وفى الأقل لبحث الأسلوب الصالح للعيش في هذه الدنيا.

ولم يكن هذا شأن المسلمين أو اليهود فقط، بل كان شأن المسيحيين أيضًا في أوروبا، ولم يكن من الممكن أن يكون غير ذلك في أوروبا؛ إذ كان الفلاسفة السالفون من رجال الدين أو الرهبان فكانت القيم الفلسفية فيها دينية عقيدية على الدوام.

•••

كانت الفلسفة قديمًا تحطم نفسها على صخرة الغيبيات، فتسأل: ماذا بعد الموت؟ وماذا وراء المادة؟ ونحو ذلك.

ولم يستطيع «فيلسوف» واحد أن يقنعنا برأي حاسم في هذه الموضوعات؛ إذ كان يخرج من تيهٍ كي يدخل، أي: تيهٍ آخر، وكان بذلك أشبه بالأعمى يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، والقطة مع ذلك ليست في الغرفة.

وقد انتهى ابن رشد إلى القول المأثور: لا أدري. كما كان يقول الإسكندريون القدامى.

وهذا ما انتهى إليه هربرت سبنسر الذي وصف هذه الأشياء بأنها: «ما لا يمكن معرفته».

وانتهت الفلسفة في عصرنا إلى ترك هذه الأشياء بتاتًا، وقنعت بأن يكون موضوعها الحياة.
  • كيف نعيش أحسن العيش؟

  • كيف نفهم الفهم الصحيح؟

  • وما هي السعادة؟

  • هل السعادة تحقيق الشهوات، أم زيادة الوجدان؟

  • كيف ننتج أكبر الإنتاج وأحسنه؟

  • كيف نحكم أحسن الحكم؟

  • ما هي القيم الفردية والاجتماعية التي تزيدنا صحة في الجسم، وذكاء في العقل، وطيبة في النفس؟

هذا وغيره مما يتصل بالحياة قد أصبح مهمة الفلسفة وشغل الفلاسفة.

ويمكن أن نقول: إن الفلسفة القديمة كانت «تفكيرًا من أجل التفكير». كما كان الأدب في وقت ما «فنًّا من أجل الفن». أما الآن فإن كلًّا منهما يجعل الحياة البشرية بجميع ملابساتها موضوعه، ونحن أسعد حالًا، وأعرف بمكاننا فيهما مما كنا حين كان لكل منهما «غيبيات» نعجز عن فهمها.

لما انحصر سلطان الملوك، وسلطان الرهبان بعد الإطلاق، ولما ظهرت الشعوب على مسرح الحياة تغمر الملوك والرهبان، ظهرت قيم جديدة في الفلسفة والأدب، هي أن الفلسفة والأدب للحياة؛ ولذلك نجد «ليثتنبرج» يسأل: ما هي الفلسفة؟

فيجيب أنها هذه الأسئلة الثلاثة والإجابة عليها:
  • (١)

    من أنا؟

  • (٢)

    ماذا يجب أن أفعل؟

  • (٣)

    ماذا أءْمُل، وماذا أعتقد؟

وبهذه الأسئلة ينكر الحلول القديمة ويحاول أن يستقل ويصل إلى حلول جديدة.

وهناك من ينكرون أن هناك علمًا يمكن أن يسمى فلسفة. وقصارى ما يقال عن الفلسفة عندهم: إنها التحقيق اللغوي والمنطق للمعارف والأهداف البشرية. هل هي صحيحة أم مخطئة؟ وإذن فقيمة الفلسفة هي التفتيش والتحقيق والإشراف على جميع العلوم والفنون، تبحث قيمتها واتجاهاتها وصحتها.

ولكن السيكلوجية العصرية التي دخلت الأدب، وتخللت أفكار الأدباء وتعابيرهم، قد دخلت أيضًا الفلسفة، وأيما أديب أو فيلسوف يجهل السيكلوجية العصرية إنما يتخلف عن عصرنا بنحو مئة سنة على الأقل.

وتطل السيكلوجية على الفلسفة وهي تقول: لماذا هذا الجهد؟ إنما الوجدان هو غاية الحياة، وإذن هو غاية الفلسفة.

الوجدان هو:
  • كيف أجد نفسي في المجتمع والدنيا والكون؟

  • كيف أجد نفسي في العلوم والفنون؟

  • كيف أجد نفسي في منطقي وعقائدي وأسلوب عيشي وأهداف حياتي؟

  • كيف أجد نفسي في معاني السعادة والشقاء والثراء والفاقة؟

  • كيف أجد نفسي في معاني الخير والشر؟

•••

الوجدان هو التعقل.

اعتبر الكلب الذي يعيش معي في منزلي أن له وجدانًا، أي أنه يجد نفسه ويزن مركزه، بحيث يعرف أنه لا يجوز له أن يتناول الطعام إذا كان في طبق آخر، ومكان آخر غير الطبق الذي يأكل منه والمكان المعين له، وهو يعرف أعضاء الأسرة وجغرافيا المنزل، ويهب على الغريب نابحًا إلى أن نطمئنه عنه، وهو يستطيع أن يخرج ويجول في ثلاثة أو أربعة شوارع حول المنزل، وهذا هو كل وجدانه، أي: إنه يجد نفسه في هذه الحدود، ولكن وجداني أنا أكبر.

أعظم ما يزيد وجداني هو كلمات اللغة؛ لأن الكلمات أفكار، أنا «أجد» أني لست ساكنًا في منزلي فقط، بل في مصر، وفي إفريقيا، وعلى هذه الكرة التي تدور حول الشمس، ويزيد وجداني أكثر لأني أعرف مركز الشمس في هذا الكون.

ثم إن لي وجدانًا بالأخلاق أكثر من الكلب، وكذلك أنا على يقظة بالسياسة المصرية والعالمية، وعلى إحساس بالأخطار البشرية من الذرة، وعلى معان مختلفة من العقائد والعلوم والآداب.

وتطور الأحياء، منذ نبض طين السواحل بالحياة إلى ظهور الإنسان، إنما هو ارتقاء نحو الزيادة في الوجدان، أي التوسع الوجداني، وغايتي من الحياة هي زيادة الوجدان بزيادة معارفي واختباراتي وتعقلها.

ولم أعد أهتم بتلك الأسئلة القديمة التي كان يسألها الرهبان: ماذا وراء المادة؟ ماذا وراء الموت؟ ماذا وراء الكون؟

وأنا أجيب عليها جميعًا بكلمتي ابن رشد: لا أدري.

وعندي أن الكاتب العظيم في الفلسفة أو الأدب هو الذي يزيد وجدان قرائه، فيحفزهم إلى التفكير في تجديد القيم الاجتماعية والإنسانية والسياسية.

وهنا نعود إلى ما بدأنا به؛ ذلك أننا إلى أن نقول: إن الأدب للشعب، أي: للحياة. أي: للإنسانية. ولم يعد الأدب تسلية للملوك، ولا كتابًا يؤلفه الرهبان عن كتب سابقة، ويخاطبون به الرهبان عن غيبيات يقول عنها ابن رشد: لا أدري.

وكذلك الشأن في الفلسفة، فإن بروز الشعب إلى وجدان المفكرين قد جعل للفرد الذي كان يهمل سابقًا، مكانًا جديدًا وخطيرًا.

اذكر الجندي المجهول.

ونحن الآن نكتب الأدب أو الفلسفة لهذا الفرد الذي كان يهمل في الماضي، ونحن نطالب هذا الفرد بأن يحس هذا الوجدان الجديد، كما أننا نساعده على أن يجده، أي: يجد نفسه في هذا الكون.

ووصولنا إلى هذا الموقف من الأدب والفلسفة يرجع، كما قلنا، إلى أن المجتمعات قد تغيرت، وأنها بدلًا من أن تكون مجتمعات الملوك والرهبان أصبحت مجتمعات الشعب. فأصبح الأديب والفيلسوف، كلاهما يهتمان بهموم الشعب، أي: بهموم أفراده.

أجل، يجب ألا نكتب لفاروق، ولكن للجندي المجهول من الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤