صلاح الدين ومقامه في التاريخ

ليس هناك اسم يتلألأ عند العرب والأوروبيين معا مثل صلاح الدين فاتح القدس، وقد نسجت حول اسمه أساطير إن لم تكن صحيحة فإن تأليفها يدل على مقامه عند الذين ألّفوها.

ونحن نعرف من القواعد الأساسية في التاريخ أن الإشاعة لا تقل مكانتها عن الحقيقة؛ إذ هي تعكس حالة الرأي العام.

•••

ظهر الأتراك في تاريخ العرب منذ القرن الأول للدولة العباسية ثم تكاثروا وتفاقموا، حتى صارت السلطة الفعلية في أيديهم، ثم بعد قرون انتقلت إليهم السلطة الشرعية أيضًا، فصار منهم ملوك وأمراء وقواد.

وكلمة «الأتراك» تعميمية وليست تخصيصية، فهي لا تعني العنصر التركي وحده، وإنما تعني أيضًا الأكراد، ثم الشركس، ثم التتار والمغول، فإن كل هؤلاء قد اعتنقوا الإسلام وتولوا الأحكام ولم تمنعهم أجنبيتهم عن حكم الشعوب العربية، ومن هؤلاء صلاح الدين.

فإنه كردي نشأ في دمشق حين كان أبوه حاكمًا على دمشق، وكانت الحروب الصليبية في فلسطين وسوريا على أشدها بين المسلمين العرب وبين الأوروبيين المسيحيين، وكانت «أورشليم» أي: القدس إمارة مسيحية، وكانت هذه المدينة شوكة في جنب العرب، وبقيت كذلك نحو مئة سنة حتى افتتحها صلاح الدين في سنة ١١٨٧ ميلادية، وذاع هذا الخبر في أنحاء العَالمَين العربي والأوربي، ومن ذلك الوقت إلى الآن واسم صلاح الدين يجري على الألسنة والأقلام باعتبار أنه جعل التاريخ ينعطف من قوة الغرب إلى قوة الشرق.

والحوادث هي التي تخلق الرجال، ولكن شخصية الرجل العظيم تستطيع أن توجه الحوادث وتغير مجاريها.

ومعنى ذلك أن الكفاح بين المسلمين والأوروبيين في القرن الثاني عشر كان يتطلب رجالًا، وكانت الكوارث تخرجهم كي يكونوا أكفاء لمواجهتها، ونحن نجد في هذا القرن رجلين عظيمين هما صلاح الدين المسلم، وقلب الأسد المسيحي.

كان كل منهما عظيمًا يبدي من الشهامة ما يدل على أنه ممتلئ بالرجولة، يعلو على الصغائر ويهدف إلى العظمة.

ولم تكن الحروب الصليبية التي اشترك فيها هذان العظيمان خالية من الخسة والخيانة، فإن بعض الملوك من الإفرنج كان يحارب بعضًا منهم، كما أن بعض الأمراء المسلمين كان يحالف أو يمالئ بعض الملوك المسيحيين.

وعرف صلاح الدين هذه الممالآت أو المحالفات، فقدم إلى مصر وجعل يعمل في السياسة وفي الحرب معًا، وكانت مصر تعاني انهيارًا في كلا الفنين، وذلك لأن العرش الفاطمي كان قد وصل إلى آخر أنفاسه من حظه من الحياة، ولم يكن للخليفة الفاطمي أية سلطة إزاء رجال قصره، ورأى صلاح الدين عرشًا فارغًا فاعتلاه وملأه.

ولكن صلاح الدين أحس أن له رسالة، ليست هي أن يملأ العرش ويتولى الحكم، وإنما هي مقاتلة الصليبيين حتى يخرجهم من فلسطين، ولم يعرف وهو ملك، ملذات القصور ودعة السلطان الذي يؤدي عنه وزراؤه الثقيل من الوجبات المدنية، وجعل يقاتل الصليبيين في كل مكان، ووجد في ريتشارد قلب الأسد قريعًا، وكان القتال ينقطع من سنة إلى أخرى ولكنه كان يعود أحر مما كان.

ولم تكن العلاقات التجارية بين المسيحيين والمسلمين مقطوعة؛ ذلك لأن كلًّا من الفريقين رأى من الحسن لهما كليهما، أن يَبْقَى شيء من الصلات قائمًا، ولذلك عندما نقرأ كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، الذي عاش في الحروب الصليبية، نجد أن الاختلاط بين المدنيين لم يكن منقطعًا.

ويذكر الأوروبيون قصصًا وأساطير عن صلاح الدين، كلها برهان الشهامة والترفع والإنسانية، من ذلك مثلًا أن امرأة رأته فصارت تضرع وتولول وتنادي باسمه فاستدعاها وسألها عما تشكوه، فأخبرته بأن ابنها قد أسر، أي: أنها كانت مسيحية وأن ابنها كان يقاتل المسلمين، وتضرعت إليه كي يفك إسار ابنها وخاصة لأنه وحيدها، فلما تأمل صلاح الدين حالها، وهي حال الأم التي تفقد وحيدها، رق لها وأسلم إليها ابنها، وعندما نتأمل هذه القصة يجب ألا نقيم الشبه بينها وبين أسرى الحرب في أيامنا، فإن لهؤلاء حقوقًا تعترف بها الدول، أما في أيام صلاح الدين فكان الأسير يقتل أو يباع.

ويذكر الأوروبيون أيضًا أن ريتشارد قلب الأسد لزم فراشه لمرض ألمَّ به فلما سمع صلاح الدين ذلك أرسل إليه أطباءه لمعالجته.

هذا شيء من أخلاق صلاح الدين التي جعلت الأوروبيين يقدرونه ويحترمونه، وهو يبدو من مؤلفاتهم، وكذلك من مؤلفات المؤرخين العرب، أنه كان شخصية فذة.

وحسبنا أن نذكر حادثة أُثِرَت عنه، فإنه لما أحس باقتراب الموت، وهو في فراشه، أمر بتهيئة الكفن، وهو قطعة من القماش لا تزيد على ثلاثة أمتار طولًا في متر ونصف متر عرضًا، ثم أمر أحد الخدم بأن يحمل هذا الكفن ويخرج به إلى شوارع دمشق ويسير فيها مناديًّا، هذا هو كل ما سيأخذه صلاح الدين إلى قبره حين يموت، ومات بعد أيام ووسد التراب.

ما أعجب هذه العظة، ليس للملوك وحدهم، بل لكل إنسان على هذا الكوكب.

•••

الحرب قطيعة وإحنة وشر، وليس من شك في أن الحروب الصليبية حوت كثيرًا من الشرور والآثام، ولكنها مع ذلك أوجدت كثيرًا من التعارف بين الشرق والغرب وهدمت السور الذي كان يفصل بينهما.

والذي يقرأ كتاب أسامة بن منقذ، الذي عاش هذه الحروب وروى الكثير من حوادث حياته الاجتماعية والسياسية فيها، يحس بأن ما يتوهمه من قطيعة فاصلة بين العرب والأوروبيين لم يكن حقيقيًّا؛ إذ كان هناك الكثير أيضًا من الاتصالات التجارية بل الإنسانية.

وفي القاهرة، إلى وقتنا، أثران يدلان على أن التعارف لم يكن أقل من التناكر، فإن القلعة التي بناها صلاح الدين هي حصن أوروبي لا يختلف عن تلك الحصون التي لا تزال توجد آثارها في فرنسا وتعرف باسم «شاتو»، وكلمة «برج» هي كلمة أوروبية، والأبراج هي أخص خواص هذه الحصون؛ إذ هي أمكنة الدفاع المستتر في تلك السنين التي لم تكن تعرف البنادق أو المدافع، ولا بد أن الذين بنوا هذه القلعة قد نقلوا تخطيطها عن القلاع التي بناها الصليبيون في سوريا.

ثم في القاهرة أثر آخر هو هذه القناطر، أو الأقباء، التي ما زلنا نجدها مقامة في مصر القديمة بين النيل والقلعة. وكانت المياه ترفع من النيل عند شاطئه ثم تجرى فوق القناطر إلى أن تبلغ القلعة، وهذا الأسلوب في نقل المياه هو أسلوب روماني قديم بقي إلى القرون الوسطى التي اتسمت بهذه الحروب الصليبية، وهي، أي: هذه القناطر، منقولة عن الأوروبيين.

ثم يجب ألا ننسى أن تقلبات الحرب بين العرب والأوروبيين جعلت الفريقين يحترمان القواعد الإنسانية، فالبلدة التي يفتحها الصليبيون كانت تحتوي من المسلمين على ما يبلغ النصف أو الثلثين. ولم يكن الأمير أو الملك المسيحي يجرؤ على أن يسيء إليهم؛ لأنه كان يعرف من ناحية أخرى أن هناك آلاف المسيحيين في المدن الأخرى التي يحكمها المسلمون، وكذلك العكس.

فكان الأمير المسيحي، مثل الأمير المسلم، يعامل كل منهما أبناء الدين الآخر بالاحترام ويحميهم من الظلم أو الأذى، ثم كان التبادل التجاري؛ إذ لم يكن من الممكن أن يعيش السكان حتى مع الحرب التي لا تنقطع بلا تجارة، والتجارة تؤدي إلى التعارف ثم إلى التبادل الثقافي.

كان صلاح الدين نبأ في تاريخ الشرق العربي، وما زلنا نستعيد ذكرياتنا عن حروبه فنحس الفخر والعزة والشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤