تأملات نهرو في السجن

يجب أن نؤلف عشرين بل ثلاثين بل خمسين كتابًا عن الهند، وكيف وقعت في الاستعمار البريطاني؟ ثم كيف نهضت؟ كيف بعث غاندي الحياة الجديدة فيها؟ وكيف أقنع أثرياءها بأن يلبسوا الخيش بدلًا من الجبردين الإنجليزي؟ وهو الخيش الذي نعبئ نحن فيه القطن، وكيف حارب غاندي الخرافات حتى قتل البقرة المقدسة بيده؟ وكيف قاد نهرو البلاد نحو النهضة الصناعية الجديدة؟ وكيف رفع المرأة من الأنوثة الشرقية إلى الإنسانية الحرة؟ وكيف تسير الهند هذه الأيام في الزراعة والصناعة والسياسة؟

يجب أن نؤلف عن الهند أكثر مما نؤلف عن أوروبا؛ لأن الهند كابدت ما نكابده، وشربت السم كما شربنا، سواء من الاستعمار الأجنبي أم الاستبداد الداخلي، وعرفت الرجعية كما عرفناها، وكانت لها تقاليد توغلُ في آلاف السنين كما لنا، وكان لهذه التقاليد رجال يقولون: لا تتطوروا، لا تجرءوا على التفكير.

أقول هذا بعد أن قرأت كتاب نهرو «اكتشاف الهند»، فقد انتهيت منه وفي رأسي طنين من أفكاره وآرائه، وكنت في أثناء قراءتي أحسُّ بالمؤلف رجلًا مليئًا بالشرف مضيئًا بالذكاء عامرًا بالأمل.

ولكن لا، ليست هذه صفاته الأصلية؛ إذ هي ثمرة الشجرة الأصلية التي يهفوا قلبي إلى أن أرى مثلها في تربتنا المصرية. إنما الصفة الأصلية في نهرو أنه رجل ناضج ليست فيه فجاجة أو صبيانية، ولن أعود إلى شرح هذه الصبيانية في رجالنا، رجال العهود الماضية، ولكني أرمز إليها بمنظر واحد كنت أراه قبل أكثر من نصف قرن على جسر قصر النيل، فقد كان الأمراء السابقون يخرجون في عرباتهم التي كانت تجرها خيول مطهمة، كل منهم يبدو كما لو كان حصانًا أو حمارًا قد شدَّ لجامه فارتفع رأسه وانبعج بطنه، وكان يتقدم العربة رجلان يحمل كل منهما عصا طويلة تبلغ أربعة أمتار، وقد اكتسى بسترة قزحية الألوان، وكانا يعدوان ويصيحان: هيه. هيه. هيه. أبهة. فخامة. أبهة الصبيان وفخامة الصبيان.

وإني أحس كأني أسبُّ نهرو حين أقول: إنه ليس كذلك؛ إذ هو هنا يعلو على المقارنة، ولكن هذه العربة هي رمز للذهبية، والضيعة، والباشوية، والسيارة، وسائر ما نعرفه عن أبهة هؤلاء الصبيان.

لقد نجحت الهند في تحقيق استقلالها، ونجحت بعد ذلك في احترام العالم صوت ساستها؛ لأن هؤلاء الساسة لم يعرفوا قط هذه الصبيانية.

•••

لا أعرف هل كان قدرًا أم تدبيرًا ذلك الذي هيَّأ للهند رجلين يشعلان لها طريق المجد، أحدهما يخاطب قلوبها وهو غاندي، والثاني يخاطب عقولها وهو نهرو.

ولكن ليس من شك أن النهضة الهندية احتاجت إلى هذين الرجلين كي تصل إلى تمام فورتها وذروتها.

وهذا الكتاب الذي قرأته لو ترجم إلى اللغة العربية لزاد على ألف صفحة، وهو واحد من كتب عديدة ألفها نهرو في السجن، فقد أقام في سجون الهند نحو ثلاث عشرة سنة؛ لأنه هندي يحب الهنود، أو لأنه إنسان ينزع إلى الإنسانية، وهو يبدو في هذا الكتاب أديبًا فنانًا، واقتصاديًّا عصريًّا يعرف قيمة الصناعة، ومؤرخًا يشرح الحضارة الهندية قبل ثلاثة آلاف سنة، ولكنه في كل ذلك غربي المزاج، وليس شرقيًّا؛ إذ يطلب الحضارة العصرية ويؤمن بالعلم، وحسبي أن أنقل إلى القراء بعض السطور التي تنير وتدل.

•••

هو الآن في السجن ينظر إلى القمر فيقول:

إن القمر، وهو رفيقي في السجن، قد توثقت صداقته لي لزيادة استئناسي به، وهو يذكرني بجمال هذه الدنيا، وبنمو الحياة وفنائها، وبالنور يخفف الظلام، وبالموت والبعث يتعاقبان في سلسلة لا تنقطع، وهو على كثرة تغيره باقٍ على ما هو عليه، ولقد راقبته في أطواره المختلفة، وحالاته العديدة حين تطول الظلال في المساء، وفي الساعات الساكنة في الليل، وحين يتنفس الفجر، ويهمس باستقبال النهار القادم، أجل ما أنفعه هذا القمر حين أعدُّ به الأيام والشهور؛ ذلك لأن شكل القمر وحجمه حين يسفر، يعينان الأيام في الشهر بما يقارب الدقة …

هذه إحساسات سجين قد أَلِفَ السجن، فعقد بينه وبين القمر ألفة لا يمكن المستعمر، أو السجان، أن يحرمه إياها.

وهو في هذه الكلمات التالية ينصح للهنود بأن يعتمدوا على العلم الذي يقول عنه:

إن العلم لا يفصح لنا كثيرًا أو قليلًا عن الغاية من الحياة، ولكن آفاقه تتسع وتتراحب هذه الأيام، ولعله يغزو قريبًا ما نسميه «العالم غير المنظور» وعندئذ قد نستعين به على فهم الغاية من الحياة في معانيها، أو هو يتيح لنا على الأقل أن نلمح بعض ما يلقي الضوء على مشكلة الوجود البشري.

ثم يقول هذا الزعيم الذي ساهم في تحرير أمة تبلغ أربعمائة مليون إنسان:

إنى أجدني في صميم نفسى، مهتمًا بهذا العالم، وبهذه الحياة، ولستُ أعرف إذا كانت هناك روح، أو أننا سنحيا بعد الموت، ومع أن هذه المسائل خطيرة فإنها لا تقلقني أقل القلق.

ثم يقول:

إن تحضير الأرواح، وما يقال من عقد الجلسات بشأنها، وأنها تظهر فيها، وسائر هذا الكلام، كان يبدو لي على الدوام، شيئًا سخيفًا ووقحًا، باعتباره طريقة أو وسيلة لبحث الظواهر النفسية أو الروحية وخفايا الحياة الأخرى، بل هو في العادة أكثر من هذا، إذ إن تحضير الأرواح هذا هو استغلال لعواطف الناس الذين يجدون أنه من السهل أن يصدقوا؛ إذ هم في حاجة إلى ما يخفف عنهم متاعبهم العقلية، ولست أنكر أنه من الممكن أن يكون للظواهر الروحية أساس من الحقيقة، ولكن طرق معالجتها تبدو لي جميعًا مخطئة …

هذا الرجل «نهرو» قد عاش في إنجلترا كما عاش في الهند، ولذلك هو يقارن كثيرًا بين الرقي والانحطاط، فيقول هذا الكلام التالي الذي يجب أن يتعمق أدباؤنا المتزمتزن معانيه:

إن أسباب الانحطاط في الهند واضحة؛ ذلك أنها تأخرت في الصناعات الفنية، في حين أن أوروبا التي كانت متخلفة أخذت بالارتقاء الفني، وكان خلف هذه الصناعات هذا الروح العلمي، وهذه الحياة المتدفقة، التي انتفضت في نشاط واقتحام تكشف الدنيا.

ونحن نجد في التاريخ الماضي للهند تقهقرًا يتوالى قرنًا بعد قرن، فإذا بروح الخلق والابتكار يتضاءل إزاء التقليد والنقل، وبدلًا من الأفكار الثائرة المنتصرة التي كانت تحاول أن تخترق خفايا الطبيعة والكون لم نعد نجد غير المعلقين والشراح بتوضيحاتهم وتخريجاتهم المستفيضة، حتى إن فخامة الفن والعمارة تنهزم وتترك مكانها للنحت الدقيق في التفاصيل المعقدة، بدلًا من النبل في التصوير أو التخطيط، كما أن قوة اللغة وخصوبتها، قوة وخصوبة ولكن مع السهولة، تزول وتأخذ مكانها زخارف وأساليب أدبية معقدة.

إني أقف هنا وأتساءل: هل يومئ نهرو إلينا؟

هل هو يتكلم عن تطعيم الخشب بالصدف والعاج، وعن المشربية التي تصنع من نوى البلح؟

هل هو يتكلم عن زخارفنا اللفظية؟ وما معنى قوله: والقوة والخصوبة ولكن مع السهولة؟ أية سهولة؟

هل هي السهولة التي ندعو إليها كي يفهم الشعب؟

•••

وكنت أحب أن أنقل ما قاله نهرو عن الصناعة، وما كان يقوله المستعمرون بأن الهند بلاد زراعية، وما قلت مثله مئة مرة في الثلاثين سنة الماضية حتى صار كلامي عن هذا الموضوع يشبه الهوس، ولذلك سأتركه، وكذلك لن أنقل ما يقوله عن المرأة، أليست شقيقته رئيسة جمعية الأمم المتحدة هذا العام؟ وقصارى ما أقول عن نهرو: إنه رجل أوروبي الذهن مئة في المئة، وإنه يعارض الرجعيين في بلاده كما يعارض المستعمرين.

وإنه لا يبالى بأن يقول للشعب الهندى: أنا كافر بأدبائكم؛ إذ هو يأنف من أن يغش الجماهير التي يقودها؛ ذلك لأنه يقود، ولا ينقاد، حرصًا على الزعامة.

وعندما أقارن بين نهرو وبين ساستنا القدامى، الصبيان الذين يحبون هيه، هيه، أحس كأني أقارن بين أرسطوطاليس وبين صبي يعدو بدراجته في الشوارع وهو يطرب بزمارتها.

لقد حاولت أن أعلم ساستنا القدامى، وألفت عشرات الكتب، وكتبت مئات المقالات كي أوضح لهم قيمة العلم، وقيمة الصناعة، وقيمة المرأة في الارتقاء الاجتماعي، ولكني لم أجد غير الاضطهاد والنفور.

إني أنصح لساستنا، الذين أرجو ألا يعود أحدهم إلى الحكم في المستقبل، أن يشتغلوا فيما بقي لهم من أعمار بدراسة الهند أيام الاستعمار وأيام الاستقلال، وأنا واثق بأنهم لن يندموا؛ لأنهم سيتغيرون من الصبيانية إلى الرجولة، ومن فجاجة التفكير إلى النضج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤