الفصل التاسع

القابلية للتوقُّع: هل تقيد الفوضى توقعاتنا؟

في مناسبتين سُئِلتُ من قِبَل أعضاءٍ في البرلمان: «عذرًا، يا سيد بابيدج، إذا زوَّدت الماكينة بأرقام خاطئة، فهل ستخرج النتائج الصحيحة؟» لا أستطيع عن حقٍّ أن أستوعب نوع الخلط في الأفكار الذي قد يثير سؤالًا مثل ذلك.

تشارلز بابيدج

دائمًا ما نزوِّد ماكيناتنا بالأرقام الخاطئة، وقد أعادت دراسةُ الفوضى تسليطَ الاهتمام على تحديد إن كانت هناك أي «أرقام صحيحة» من عدمه. يسمح لنا التوقُّع ببحث العلاقة بين نماذجنا والعالم الواقعي بطريقتين مختلفتين إلى حدٍّ ما. قد نختبر قدرة نموذجنا على توقُّع سلوك النظام على المدى القصير، مثلما في عملية توقع حالة الطقس. في المقابل، ربما نستخدم نماذجنا عند تحديد كيفية تغيير النظام نفسه، وهنا نحاول تغيير المستقبل نفسه في اتجاه سلوك مرغوب، أو غير مرغوب بدرجة أقل، مثلما يحدث عندما نستخدم النماذج المناخية لانتهاج سياسة محددة.

لا تشكِّل الفوضى أيَّ مشكلات في التوقُّع بالنسبة إلى شيطان لابلاس. في ظل شروط مبدئية محدَّدة، ونموذج مثالي وقدرة على إجراء حسابات دقيقة، سيستطيع شيطان لابلاس تتبُّع سلوك نظام فوضوي في المستقبل بدقة مثلما يحدث في حالة أي نظام دوري. يمتلك شيطان القرن الحادي والعشرين نموذجًا مثاليًّا، ويستطيع إجراء عمليات حسابية دقيقة، لكنه مقيَّد بملاحظات غير يقينية، حتى إذا كانت هذه الملاحظات تمتد على فترات منتظمة إلى الماضي اللانهائي. مثلما يتضح، لا يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين استخدامَ هذه الملاحظات السابقة في تحديد الحالة الحالية، غير أنه يستطيع في المقابل الاطلاع على تمثيل كامل لعدم اليقين في الحالة في ظل الملاحظات التي أُجرِيت، وهو ما قد يُطلِق عليه البعضُ التوزيعَ الاحتمالي الموضوعي للحالة، على أنه لا حاجة لنا للخوض في ذلك. تنطوي هذه الحقائق على مجموعة من التداعيات، منها أنه حتى في ظل نموذج مثالي لنظام حتمي، لا يستطيع شيطان لابلاس أن يفعل ما هو أكثر من وضع توقُّعات احتمالية، ولا يمكن أن نتطلع إلى ما هو أفضل، وهو ما ينطوي على وجوب تبنِّينا تقييمًا احتماليًّا لنماذجنا الحتمية. لكن كل هذه الشياطين توجد في إطار سيناريو النموذج المثالي، ويجب أن نتخلَّى عن الخيالات الرياضية بوجود نماذج مثالية وأرقام غير نسبية، إذا ما أردنا أن نقدِّم توقعاتٍ صادقةً للعالم الحقيقي. إذا ما عجزنا عن الإثبات بوضوحٍ أننا تخلَّينا عن هذه الخيالات، فسيصبح الأمر بمثابة الترويج لدواء وهمي.

توقُّع الفوضى

ولن تُصدَّق هذه الشياطين المخادعة بعد الآن،
التي تراوغنا بمعانٍ مزدوجة،
وتظل تردِّد عباراتٍ واعدةً على مسامعنا،
ثم لا تلبث أن تنكث وعدها عندما نعقد آمالنا عليها.
مسرحية «ماكبث» (الفصل الخامس)

كان ولا يزال مَن يغامرون بإجراء توقعات محلَّ نقدٍ حتى عندما تثبت دقة توقُّعاتهم، من الناحية العملية. تركِّز مسرحية «ماكبث» لشكسبير على التوقعات التي رغم كونها دقيقة من الناحية الفنية، فإنها لا تقدِّم دعمًا فعَّالًا في عملية اتخاذ القرار. عندما يواجه ماكبث الساحرات سائلًا إياهن عمَّا يفعلْنَه، يُجِبْنَ قائلاتٍ: «عملًا بلا اسم». بعدها ببضع مئات من السنوات، استحدث الكابتن فيتزروي مصطلح «توقُّع». ثَمَّةَ احتمال دومًا أن يكون أي توقع متوافقًا داخليًّا من وجهة نظر واضعِي النموذج، بينما هو في الواقع يضلِّل توقعات مستخدميه باستمرار، وهنا تكمن جذور شكوى ماكبث من الساحرات في أنهن يقدِّمْنَ أخبارًا سارة بصورة متكررة حول ما يبدو طريقًا إلى مستقبل مزدهر. يبرهن كل توقُّع على دقةٍ لا غبارَ عليها، لكن لا يُسفِر أيٌّ منها عن ازدهار كبير. فهل يستطيع واضِعو التوقعات في العصر الحديث — ممَّنْ يفسِّرون عدم اليقين في نماذجهم الرياضية، كما لو كانت تعكس احتمالات العالم الواقعي للأحداث المستقبلية — تفادِيَ تهمة التحدُّث ﺑ «لغة مزدوجة»؟ هل هم مُدَانون باتهام ماكبث لهم بأنهم يصوغون توقعاتهم الاحتمالية، مع معرفتهم معرفة كاملة بأننا سنتقبل حجة الفوضى لصرف انتباهنا عن أشياء أخرى مختلفة تمامًا تحدث؟

من الدقة إلى الموثوقية

لا يمكننا أن نلوم واضعي التوقعات لعجزهم عن تقديم صورة واضحة عن الموضع الذي سينتهي بنا المآل إليه إذا لم نستطع تقديم صورة واضحة لهم عن موضعنا الحالي. غير أنه يمكننا في المقابل توقُّع أن تدلَّنا نماذجنا على مدى الدقة التي يجب أن نعرف بها الشرط المبدئي، بغرض ضمان أن تظل أخطاء التوقُّع تحت مستوى ما هو مستهدَف. نأمل ألَّا يرتبط السؤال حول كوننا نستطيع أو لا نستطيع خفض التشويش حتى ذلك المستوى بقدرة نموذجنا على إجراء توقُّعٍ في ظل حالة أولية دقيقة بما يكفي.

في الوضع المثالي، أي نموذج يمكن أن يُظلل، وستكون ثَمَّةَ حالة أولية نستطيع أن نكرِّرها بحيث تظل السلسلة الزمنية الناتجة قريبةً من السلسلة الزمنية للملاحظات. علينا أن ننتظر إلى ما بعد الحصول على الملاحظات لنرَى إن كان ثَمَّةَ ظلال أم لا، ويجب تحديد معنى كلمة «قريبة» من خلال خواص تشويش الملاحظات. لكن في حال «عدم» وجود حالة أولية ظُللت، إذَن يُعتبر النموذج غير ملائم بصورة أساسية. في المقابل، إذا كان ثَمَّةَ مسار ظلال واحد فسيكون ثَمَّةَ مسارات كثيرة، ويمكن اعتبار مجموعةِ الحالات الحالية التي ظُللت حالاتها السابقة حتى الآن غيرَ قابلة للتمييز بينها. إذا كانت الحالة الحقيقية موجودة، لا يمكن أن نحدِّدها، ولا يمكن أن نعرف أيٌّ منها سيستمر في الظلال عند تكرار الخارطة في اتجاه قِيَم آتية لإجراء توقُّع، لكننا قد نشعر ببعض السلوى من معرفة أن أوقات الظلال النموذجية للتوقعات قد بدأت انطلاقًا من واحدة من هذه الحالات غير القابلة للتمييز بينها.

يسهل كثيرًا إدراكُ أننا نتجه نحو توقُّعات مجمعة تعتمد على مجموعة توقُّعات أخرى مرشَّحة ظلت الأرصاد حتى الحاضر. بإدراك أنه حتى أي نموذج مثالي لا يمكن أن يُفضيَ إلى توقع مثالي في ظل شرط مبدئي غير مثالي، في ستينيات القرن العشرين، وضع الفيلسوف كارل بوبر تعريفًا ﻟ «النموذج الموثوق به» باعتباره النموذج الذي يستطيع وضع حدٍّ حول قدر عدم اليقين الأولي المطلوب بغرض ضمان وضع حدٍّ مرغوب ومحدَّد لأخطاء التوقع. يُعتبر تحديد حدٍّ لعدم اليقين الأولي هذا أكثر صعوبةً إلى حدٍّ كبير في حالة النظم اللاخطية عن النظم الخطية، بَيْدَ أننا يمكننا تعميم فكرة الموثوقية واستخدامها في تقييم ما إذا كانت توقعاتنا المجمعة تعكس على نحو معقول توزيعات الاحتمالات. ستتضمن توقعاتنا المجمعة على الدوام عددًا محدودًا من التوقعات؛ لذا فإن أيَّ توقع احتمالي نبنيه سيتأثر سلبًا من جرَّاء هذه المحدودية. إذا كان لدينا ١٠٠٠ توقُّعٍ، إذَن فربما نأمل في أن تكون معظم الأحداث ذات احتمال حدوث بنسبة ١٪، ولكننا نعلم احتمالَ أن يفوتنا توقُّع الأحداث التي يبلغ احتمال حدوثها ٠٫٠٠١٪. يوصف نظام التوقع المجمع بأنه «موثوق به» إذا كان يشير إلى أي مدًى يجب أن يكون حجم المجموعة؛ بحيث يشمل أحداثًا ذات احتمال حدوث بنسبة محدَّدة. يجب تقييم الموثوقية إحصائيًّا عبر عدة توقعات، وهو شيء يعرِف الإحصائيون لدينا كيف يقومون به على أكمل وجه.

يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين إجراءَ توقعات موثوق بها. لن يعرف الشيطانُ المستقبلَ، بَيْدَ أن المستقبلَ لن يحمل له أيَّ مفاجآتٍ، فلن تكون ثَمَّةَ أحداث غير متوقَّعة، وستقع أحداث غير معتادة بمعدلاتها المتوقَّعة.

عدم ملاءمة النموذج

في ظل النموذج المثالي، يستطيع شيطان القرن الحادي والعشرين حساب الاحتمالات المفيدة في حد ذاتها؛ فلماذا لا نستطيع نحن ذلك؟ هناك إحصائيون يرَوْن أننا نستطيع ذلك، ربما منهم أحد مراجعي هذا الكتاب، الذي يُمثِّل أحد عناصر مجموعة أوسع من الإحصائيين الذين يطلقون على أنفسهم البايزيين. يصرُّ معظم البايزيين بصورة مقنعة للغاية على استخدام مفاهيم الاحتمالات على نحو صحيح، غير أن ثَمَّةَ مجموعةً صغيرةً لكنها ذات صوت مسموع بينهم تخلط بين التباين الملاحظ في نماذجنا وعدم اليقين في العالم الواقعي. مثلما أن من الخطأ استخدام مفاهيم الاحتمالات على نحو غير صحيح، من الخطأ أيضًا تطبيق هذه المفاهيم حيث لا ينبغي أن تُطبَّق. لنضربْ مثلًا مُستقًى من لوحة جالتون.

عُدْ إلى الشكل رقم ١-٢. يمكن شراء مجسمات حديثة للصورة إلى اليسار من على الإنترنت، ما عليك إلا البحث عن «كوينكانكس» عبر جوجل، غير أن المجسم المماثل للصورة إلى اليمين يصعب الحصول عليه أكثر، لدرجة أن الإحصائيين المحدثين تساءلوا عما إن كان جالتون قد بنى بالفعل هذه الماكينة أم لا. وعلى الرغم من أن جالتون يصف تجارب باستخدام تلك الماكينة، فإن هذه التجارب يُطلَق عليها «تجارب فكرية»؛ إذ إنه حتى الجهود الحديثة لبناء جهاز لإعادة إنتاج النتائج النظرية المتوقَّعة وجدَتْ أن «من الصعوبة البالغة صنع جهاز ينجز المهمة بطريقة مُرضية.» من الأمور الشائعة بالنسبة إلى المنظِّر إلقاء اللائمة على الجهاز عندما تفشل أي تجربة في إصدار نتائج تطابق النتائج في نظريته. هل من الممكن أن يرجع هذا إلى أن النماذج الرياضية مختلفة عن النظم الطبيعية التي تهدف إلى توضيحها؟ لتوضيح الفروق بين نماذجنا والواقع، سنعمل مع لوحة شبيهة بلوحة جالتون والتي تظهر في الشكل رقم ٩-١.

اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون: مثال على الجلبة

اللوحة الموضحة في الشكل رقم ٩-١ هي لوحة جرى إنشاؤها في الأصل من أجل أحد الاجتماعات للاحتفال بمرور مائةٍ وخمسين عامًا على تأسيس جمعية الأرصاد الجوية الملكية، التي كان جالتون عضوًا بها. كانت هذه اللوحة تتضمن مجموعة من المسامير تم توزيعها بطريقة تُذكِّر بطريقة توزيع المسامير في لوحة جالتون، بَيْدَ أن المسامير موزَّعة بصورة متباعدة أكثر، ولم يجرِ دقُّها جيدًا. لاحِظ الدبوسَ الأبيض الصغير أعلى اللوحة، إلى يسار منتصف اللوحة تمامًا؛ فبدلًا من استخدام دلو من كرات الرصاص، تُستخدَم كرات جولف في كرة واحدة تلو الأخرى، تبدأ كلٌّ منها رحلتها من الموضع نفسه تمامًا، أو على نحو مطابق تمامًا لوضع كرة جولف تحت الدبوس الأبيض يدويًّا. تصدر كرات الجولف صوتًا محبَّبًا، لكنها لا تتخذ قيمًا ثنائية عند كل مسمار بل تتحرك، في حقيقة الأمر، أحيانًا مارةً أفقيًّا بعدة مسامير قبل أن تنتقل إلى المستوى التالي. مثل لوحة جالتون ولعبة الروليت، لا تُعتبر ديناميكيات هذه اللوحة متكررة. تُعتبر ديناميكيات كل كرة عابرة؛ ومن ثَمَّ لا تُعبِّر هذه النظم عن فوضى. اقترح شبيجل تسمية هذا السلوك ﺑ «الجلبة». وعلى عكس لوحة جالتون، لا يعكس توزيع كرات الجولف أسفل هذه اللوحة التوزيع الجرسي؛ غير أنه يمكننا استخدام مجموعة من كرات الجولف للحصول على تقدير احتمالي مفيد حول الموضع المحتمَل لكرة الجولف (الشكل رقم ٩-١).
fig25
شكل ٩-١: لوحة شبيهة بلوحة جالتون، وهي التي جرى عرضها للمرة الأولى في كلية سانت جون بجامعة كامبريدج، للاحتفال بمرور مائةٍ وخمسين عامًا على تأسيس جمعية الأرصاد الجوية الملكية. لاحِظْ أن كرة الجولف التي تجتاز الرحلة عبر اللوحة لا تتخذ خيارات ثنائية بسيطة.

لكن الحقيقة ليست كرة جولف. الحقيقة كرة مطاطية حمراء، وهي لا تسقط إلا مرة واحدة. لن يسمح شيطان لابلاس بأي مناقشة لأي شيء آخَر مما يمكن أن يكون قد حدث، لم يكن أي شيء آخَر سيحدث. يتمثَّل القياس في هذه الحالة في اعتبار الكرة المطاطية الحمراء هي مناخ الأرض، وكرات الجولف باعتبارها التوقعات الفردية في التوقع المجمع لنموذجنا. يمكننا وضع توقعات كيفما شئنا، لكن بِمَ يخبرنا توزيع كرات الجولف عن مرور كرة مطاطية حمراء مرة واحدة؟ هل يدلنا تنوُّع الأنماط السلوكية التي نرصدها بين كرات الجولف على أي شيء مفيد؟ إذا كان ذلك يدلنا على شيء، تضع الأنماط السلوكية المتنوعة حدًّا أدنى لعدم يقيننا نعرف أننا وراءه لا يمكن أن نكون متيقنين، لكن الأنماط السلوكية المتنوعة لا يمكنها وضع حدٍّ يمكننا الشعور باليقين تمامًا في داخله، حتى في إطار التصور الاحتمالي. من باب القياس الأقرب، ربما يصبح بحث تنوع نماذجنا مفيدًا جدًّا، حتى إذا لم يكن ثَمَّةَ توقُّع احتمالي في الأفق.

الكرة الحمراء تشبه كرة الجولف كثيرًا. تمتلك الكرة الحمراء قطرًا أكبر قليلًا من قطر كرة الجولف لكنه مساوٍ تقريبًا له، كما أنها تتميز إلى حدٍّ ما بمرونة مشابِهة. ولكن الكرة الحمراء التي تُمثِّل الواقع تستطيع القيام بأشياء لا تستطيعها كرة الجولف، بعضها أشياء غير متوقَّعة، وبعضها أشياء متوقَّعة، بعضها يرتبط بالتوقعات، وبعضها غير ذلك، بعضها معروف، وبعضها غير معروف. في اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون، تُعتبر كرة الجولف نموذجًا جيدًا للواقع، نموذجًا مفيدًا للواقع، ولكنه نموذج غير مثالي للواقع. كيف يمكن لنا تفسير توزيع كرات الجولف هذا؟ لا يعرف أحدٌ وسيلةً لذلك. نستطيع دومًا تفسير توزيع كرات الجولف باعتباره يُمثِّل توقُّعًا احتماليًّا يتوقَّف على الافتراض القائل بأن الواقع هو كرة جولف. أَلَا يُعد ازدواجيةً تقديمُ التوقعات الاحتمالية التي كان المرء يعرف بتوقيفها بناءً على نموذج غير مثالي، كما لو كانت تعكس احتمالية وقوع أحداث مستقبلية، بصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة تحت هذا التوقع؟

لا تقتصر توقعاتنا المجمعة على استخدام كرات الجولف فقط، بل ربما نستخدم كرات مطاطية خضراء ذات قطر أصغر قليلًا ونكرر التجربة؛ فإذا حصلنا على توزيع كرات خضراء مشابِه لتوزيع كرات الجولف، فربما نتشجع — أو أفضل من ذلك، نأمل في — ألا تلعب جوانب عدم الملاءمة في نماذجنا هذا الدورَ الكبير في التوقع محل اهتمامنا. في المقابل، ربما يشترك النموذجان في بعض أوجه القصور المنهجية التي لا نعي بوجودها بعدُ. لكن ماذا لو كانت توزيعات كرات الجولف والكرات الخضراء في غاية الاختلاف؟ إذَن لا يمكننا الاعتماد منطقيًّا على أيٍّ منهما. كيف يمكن أن يسمح لنا قياس تنوع نماذجنا في ظل المجموعات المتعددة النماذج هذه التي تسمح لنا ببناء توقُّع احتمالي للمسار الوحيد للواقع؟ عندما ننظر إلى توقعات حالات الطقس الموسمية، باستخدام أفضل النماذج في العالم، يميل التوزيع المُستقَى من كل نموذج إلى التقارب، كلٌّ بطريقة مختلفة. كيف يمكننا تقديم دعم في عملية اتخاذ القرار في هذه الحالة، أو تقديم توقع؟ ماذا يجب أن يكون هدفنا؟ في حقيقة الأمر، كيف يمكن أن نستهدف تنفيذ أي غاية في ظل نماذج غير ملائمة من الناحية التجريبية؟ إذا فسَّرنا على نحوٍ ساذجٍ تنوُّع مجموعة نماذجنا باعتبارها احتمالًا، فسنُضلَّل بصورة متكررة. نعرف من البداية أن نماذجنا غير مثالية؛ لذا لن يكون أي نقاش حول «الاحتمالات الذاتية» سوى مجرد تشتيت؛ فنحن لا نصدق أيًّا من نماذجنا في المقام الأول!

المحصلة النهائية واضحة نوعًا ما. إذا كانت نماذجنا مثالية وكان لدينا موارد مثلما لدى شيطان لابلاس، كنَّا سنعرف المستقبل. بينما إذا كانت نماذجنا مثالية وكانت تتوافر لدينا موارد شيطان القرن الحادي والعشرين، إذَن فستقيِّدنا الفوضى في إطار توقعات احتمالية، حتى إذا كنَّا نعرف أن قوانين الطبيعة حتمية. في حال ما إذا كانت القوانين الحقيقية للطبيعة تصادفية، يمكننا تصور شيطان إحصائي، يُقدِّم مرة أخرى توقعات احتمالية موثوق بها في وجود أو غياب معرفة دقيقة بالحالة الحالية للكون. لكن هل يُعتبر الاعتقاد في وجود قوانين للطبيعة دقيقة رياضيًّا — سواءٌ كانت حتمية أو تصادفية — مجرد تفكير تواق لا يختلف كثيرًا عن الأمل في مصادفة أيٍّ من الشياطين المتعددة التي تقدم توقعات بشكل منعزل؟

على أي حال، يبدو أننا لا نعرف حاليًّا المعادلات ذات الصلة بالنظم الطبيعية البسيطة، أو بالنظم المعقدة. تشير دراسة الفوضى إلى أن الصعوبة لا تكمن في عدم اليقين في العدد الذي «يتم إدخاله»، بل في غياب نموذج ملائم من الناحية التجريبية يتم إدخال أي شيء فيه. ربما يمكن التعامل مع الفوضى، لكن عدم ملاءمة النموذج، لا الفوضى، هو الذي يحدُّ من قدرتنا على التوقع. ربما يكون النموذجُ المستخدَمُ هو الأفضلَ في العالم لا مراء، بَيْدَ أن هذا لا يشير بأي حال من الأحوال إلى كونه مناسبًا من الناحية التجريبية أم لا، بل لا يوضح إن كان مفيدًا، أو حتى آمنًا، عند الاستخدام العملي أم لا. من الناحية الفنية، ربما يكون كلامُ واضعي التوقعات الذين يُعبِّرون عن تكهُّنات يتوقعون قصورها على نحوٍ جوهريٍّ بما فيها من عبارات خادعة مثل «هَبْ أن النموذج مثالي» أو «أفضل المعلومات المتوافرة»؛ حقيقيًّا، لكن إذا لم تستطع تلك النماذج تكهن الماضي، إذَن فربما لا يتضح معنى عبارة «عدم اليقين في الحالة الأولية». إن هؤلاء الأشخاص الذين يُلقُون باللائمة على الفوضى وكونها سببًا لأوجه القصور في التوقعات الاحتمالية التي وضعوها تحت فرضية أن نماذجهم كانت مثالية — وهي نماذج كانوا يعرفون عدم ملاءمتها — يكذبون علينا مستخدمين عبارات تحمل معانيَ مزدوجةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤