الفصل الرابع

المنظر الأوَّل

(أندروماك – سفيز)
سفيز : آه! لا أشكُّ في ذلك، إنَّما هو زوجك يا مولاتي، إنما هو هكتور، قد أحدث في نفسك هذه المعجزة! إنَّه يريدُ لطروادة أن تستطيع النهوض، وإنما يكون ذلك بهذا الابن السعيد الذي يحملك على الاحتفاظ به. لقد وعدكِ به بيروس، ولقد سمعت وعده يا مولاتي، فما كان ينتظر منكِ إلَّا كلمة ليرده إليكِ، صدِّقي هيامه، إنه ليُلقي على قدميك — وقد أسعده حبك — كلَّ شيءٍ: أباه، وصولجانه، وحلفاءه، إنَّه ليملِّكك على نفسه، وعلى شعبه كافَّة، أترين أنه، مع ذلك، الظَّافر الخليق بكلِّ هذا البغض؟ ها هو ذا، وقد ملأه على اليونان غضبٌ شريفٌ، يهتم لابنك بمقدار ما تهتمين له، يحتاط لسخطهم فيترك حرسه لحماية الصبي ويعرِّض نفسه للخطر مُبالغةً في وقايته، ولكن كل شيءٍ يُهيَّأُ في المعبد وقد وعدتِ.
أندروماك : نعم سأذهبُ إليه، ولكن هلمَّ نَرَ ابني.
سفيز : مولاتي، ما يعجِّلُكِ؟ حسبُك أنَّ رُؤيته لن تُحظر على عينيك منذ الآن، ستستطيعين عمَّا قليلٍ أن توسعيه رعايةً وعنايةً، ولن يُحصى ما تمنحينه من قبلات. أيُّ سعادةٍ تبعثها في النفس تربية صبيٍّ نراهُ ينمو شيئًا فشيئًا، لا كما ينمو العبد ينشأُ لمولاه، ولكن لتحيا به سُلالة أولئك الملوك.
أندروماك : سفيز، هلمَّ نَره لآخر مرة.
سفيز : ماذا تقولين؟ يا للآلهة!
أندروماك : آه أيتها العزيزة سفيز! لستِ أنتِ التي يحتجبُ عليها قلبي، لقد عرفتُ وفاءك لي أثناء شقائي، ولكنِّي ظننتُ أنكِ تعرفينني خيرًا من هذا، ماذا؟! أظننتِ أن قد بلغ الجحود بأندروماك أن تخونَ زوجًا يُؤمِنُ بأنه يحيا فيها؟! وإنِّي أحرص على راحتي، فأُزعج أولئك الموتى الذين لا يُحصون وأوقظُ آلامهم؟ أهذا مبلغ ما وعدتُ به رماد هكتور من الحرص على الوفاءِ له؟ كلا، لقد كان ابنه يتعرَّضُ للموت فحقَّت عليَّ حمايته. إنَّ بيروس ليعلن القيام دُونه حين يتزوجني، وهذا يكفي، ولي أن أعتمد عليه، إنِّي لأعلمُ من بيروس أنه عنيفٌ ولكنه مخلصٌ. أي سفيز، سيعمل أكثرَ ممَّا وعدَ، وإنِّي لأعتمدُ أيضًا على غضب اليونان، فإنَّ بغضهم سيمنح ابن هكتور أبًا، وإذن فسأضمن لبيروس ما بقي من حياتي إذا لم يبقَ لي بُدٌّ من أن أضحي بنفسي، سأتلقى منه اليمين على مائدة الآلهة فأصل بينه وبين ابني عروة لا انفصام لها، ثمَّ ما هي إلَّا أن تختزل يدي المشئومة عليَّ وحدي حياة خائنة، هنالك تنقذ شرفي وتؤدِّي ما أنا مدينة به إلى بيروس، وإلى ابني، وإلى زوجي، وإليَّ أنا، هذا ما انتهى إليه حبِّي من الكيد البريء، هذا ما أمرني به زوجي نفسه، سأذهب وحدي للقاءِ هكتور ولقاءِ أجدادي، وإليكِ أنتِ يا سفيز إغماضُ عينيَّ.
سفيز : آهٍ! لا تزعمي أنِّي أستطيعُ الحياة بعدك …
أندروماك : كلا! كلا! إنِّي لأحظر عليكِ يا سفيز أن تتبعيني، إنِّي أستودعُ عنايتك كنزي الوحيد، كنتِ إنَّما تحيين من أجلي فعيشي لابن هكتور، ستكونين وحدك الأمينة على آمال الطرواديين، ففكِّري لِكَم من الملوك ستكونُ حياتك لازمة؟ اسهري إلى جانب بيروس، ذكِّرِيهِ قَسَمَه، ولستُ أرى بأسًا، إذا لم يكن من ذلك بُدٌّ، أن تذكريني له، ذكِّرِيهِ حُرمة الزواج الذي قبلته، وقولِي له إنِّي اقترنتُ به قبل موتي، وإنَّ حقده عليَّ يجب أن يُمحى، وإنَّ من إِكباري له أنِّي تركتُ له ابني. عرِّفي ابني أبطال أُمته وسيري به على آثارهم ما استطعتِ، عرِّفيه بأيِّ بلاءٍ حسنٍ شهرت أسماؤهم، وليكن حديثك عمَّا عملوا أكثر من حديثك عمَّا كانوا، حدِّثيه في كلِّ يومٍ عن مكارم أبيه، وحدِّثيه بعض الأحيان عن أُمِّهِ، ولكن لا يفكِّر يا سفيز في أن يثأرَ لنا، إنَّما نترك له سيِّدًا فليحسن الوفاء له، ليحتفظ لآبائه بذكرى مُتواضعة، إنَّه من دم هكتور ولكنه بقية هذا الدم، وفي سبيل هذه البقية ضحَّيتُ أنا في يومٍ واحدٍ بدمي، وحبِّي، وبغضي.
سفيز : وا حسرتاه!
أندروماك : لا تتبعيني إذا كان قلبك الوجِل يرى أنَّه لا يستطيعُ أن يقهر دموعك. أرى من يُقبل، أخفي دموعك يا سفيز واذكري أنَّ مصير أندروماك موكولٌ إلى وفائك. هذه هرميون، هلمَّ لنفرَّ من سخطها.

المنظر الثاني

(هرميون – كليون)
كليون : لا، لا ينقضي عجبي من هذا الصمت، أنتِ صامتةٌ يا مولاتي، ولم يُحدث هذا الازدراء القاسي في نفسك أي اضطراب؟ تثبتين هادئة لهذه الهجمة العنيفة، وقد كنتِ ترتعدين غيظًا لاسم أندروماك؟ وقد كنتِ لا تستطيعين أن تري، في غير يأسٍ وألمٍ، أن يشرِّفها بيروس بنظرةٍ من نظراته؟ إنَّه ليتزوجها، إنه ليقدِّم إليها مع التاج ذلك القسم الذي قدَّمَهُ إليكِ أنتِ، وهذا فمك ما يزالُ مُغلقًا أمام كل هذا النكر، ولم ينزل إلى أن تفتحه الشكوى؟ آه! ما أشدَّ خوفي يا مولاتي من هذا الهدوء الخطر! وإن خيرًا منه …
هرميون : هل تدعين أورست؟
كليون : إنه آتٍ يا مولاتي، إنَّه آتٍ، وتستطيعين أن تري أنَّه لن يلبث أن يجثو إلى قدميك، إنَّه لمستعدٌّ دائمًا للخدمة، لا يرجو أجرًا، وإنَّ عينيك لتثقان أعظم الثقة بقدرتهما على إعجابه ولكنه يدخل.

المنظر الثالث

(أورست – هرميون – كليون)
أورست : آهٍ، سيدتي! أمِنَ الحقِّ أنَّ أُورست إنَّما يُقبل مرَّة مطيعًا لأمرك؟! ألم أُخدع بأملٍ كاذبٍ؟! أحقٌّ أنَّكِ رغبتِ في لقائي؟! أأصدِّقُ أنَّ عينيك، وقد ألقتا السلاح آخر الأمر، تُريدانِ …
هرميون : أريدُ أن أعلم يا سيدي: أتحبني؟
أورست : أأحبك؟ يا للآلهة! أيماني، حنثي، فراري، عودتي، إكباري لكِ، إهانتي إياكِ، يأسي، عيناي تغرقهما الدموع دائمًا، أيُّ شاهدٍ تقبلين إذا لم تقبلي هذا كله؟!
هرميون : انتقم لي أُصدِّقْ كلَّ شيء.
أورست : إذن هلمَّ يا سيدتي لنضرم بلاد اليونان مرَّةً أُخرى، هلمَّ نشدُّ بذراعي واسمك، اتخذي مكان هيلانة، ولأتخذ مكان أجا ممنون، ولنُوقظ في هذا البلد شقاء طروادة، وليتحدث النَّاس عنَّا كما يتحدثون عن آبائنا. لنرحل، إنِّي على أُهبةٍ.
هرميون : كلا يا سيدي، لنُقِم، فلستُ أريدُ أن أحمل الإهانة إلى مكانٍ بعيدٍ، ماذا؟! أتوج وقاحة أعدائي فأذهب إلى حيث أنتظر انتقامًا بطيئًا وأكِلُ ذلك إلى مُصادفاتِ الحرب؟ أُريدُ أن تبكي إبير كلها عند سفري، فإن كنتَ مُنتقمًا لي فليكن ذلك في ساعة، وكلُّ تأخُّرٍ منك رفضٌ عندي، أسرع إلى المعبد، يجب أن تنحر …
أورست : مَن؟
هرميون : بيروس.
أورست : بيروس يا سيدتي؟!
هرميون : ماذا؟! بغضك يضعف؟ آه! أسرع واحذر أن أدعوك، ولا تعتذر بحقوق أريدُ أن أنساها، وليس لك أنت أن تعتذر عنه.
أورست : أنا أعتذر عنه؟ آه! إنَّ عطفك يا سيدتي قد نقش جرائمه في نفسي، لننتقم لأنفسنا، إنِّي لأقبلُ ذلك، ولكن من طريقٍ أُخرى، لنكُن أعداءه لا مُغتاليه، ليكن تدمير مُلكه فتحًا عدلًا، ماذا؟ أأحمل رأسه جوابًا لليونان؟ أَوَلَمْ أنهض بواجب الدولة إلَّا لأقضي حقَّها بالاغتيال؟ ايذني بحقِّ الآلهة أن يتفاهم اليونان، وأن يموتَ مُثقلًا بالبغض العام، اذكري أنَّه يملك وأنَّ رأسه متوَّجًا …
هرميون : أليس يكفيك أنِّي قضيتُ عليه؟ أليس يكفيك أنَّ مجدي — وقد أُهين — يطلبُ ضحية تُقدَّمُ إليَّ وحدي؟ وأنَّ هرميون هي الثمن لطاغية مظلوم؟! وأني أبغضه؟! ثمَّ إني يا سيدي كنت أحبه، لست أُخفي ذلك، فقد عرف الجاحد كيف يُعجبني، يُعجبني سواءٌ كان ذلك إذعانًا للحبِّ أو لأمرِ أبي، ليس لذلك خطر، ولكن ثق بأنِّي أحببته، احذر يا سيدي أنِّي رغم حبِّي الخائب المُستخذي، ورغم السخط العدل الذي تبعثه جريمته في نفسي، معرَّضة للعفو عنه إذا عاش، أشكُّ ما دام حيًّا في غضبٍ غير مُحقَّقٍ، فإذا لم يَمُت اليوم فقد أُحبه غدًا.
أورست : إذن يجبُ أن يهلك وأن يُتَّقَى العفو عنه، يجب … ومع ذلك فماذا يجب أن أفعل؟ كيف أستطيع أن أنفذ أمر غضبك في هذه السرعة؟ وأي طريق تستطيع أن توصل إليه ضرباتي؟ لم أكد أصل إلى إبير وأنتِ تريدين أن تدمِّري بيدي دولة بأسرها، تُريدين أن يموت ملك ولا تؤقِّتينَ لموته إلَّا يومًا، إلَّا ساعة، إلَّا لحظة! يجب أن أقتله بمرأى من شعبه كله، دعيني أقُد ضحيَّتِي إلى المذبح، لستُ أمتنع، ولستُ أُريدُ إلَّا أن أعرف حيث يجب أن أنحره. هذه الليلة أُنفِّذُ أمرك، هذه الليلة أهجم عليه.
هرميون : ولكنه اليوم يتزوَّجُ أندروماك، وقد أُقيمَ العرش في المعبد، لقد ثبت خزيي وتمَّت جريمته. وبعدُ فماذا تنتظر؟ إنَّه يقدِّمُ إليك رأسه، إنه ليسعى إلى عُرسه في غير حرسٍ ولا احتياطٍ، لقد جمع حرسه كلَّه حول ابن هكتور، وترك نفسه إلى الذراعِ التي تُريدُ أن تثأرَ لي، أتريدُ أن تحميه رغم أنفه؟! سلِّح مع أصحابك كل من تبعني، أثر أصدقاءك، فكل أتباعي خاضعون لك، إنَّه يخونني ويخدعك ويزدرينا جميعًا، ولكن ماذا؟ إنَّ سخطهم ليعدِلُ سخطي! إنَّهم ليبقون كارهين على زوجٍ طروادية، تكلَّم! لن يستطيع عدوي أن يفلت منك، بل لا يجب إلَّا أن تخلِّي بينه وبين ضاربيه، قُد، أو اتبع غضبًا له هذا الحظ من الجمال، وعُد مُضرجًا بدم العدو، هلمَّ، وثِق حينئذٍ بأنَّ لك قلبي.
أورست : ولكن يا سيدتي فكِّري …
هرميون : آه! لقد أسرفت يا سيدي، كل هذا الجدل يهين غضبي، لقد أردتُ أن أمنحك الوسيلة لإعجابي، لقد أردتُ أن أُرضي أورست، ولكني أرى آخر الأمر أنه يريد أن يشكو دائمًا دُون أن يستحق شيئًا. اذهب، امضِ إلى غير هذا المكان فتمدَّح بثباتك، ودع لي هنا العناية بالانتقام لنفسي، إنَّ شجاعتي تستخذي من هذا العطف المهين، ولقد احتملتُ كثيرًا هذا الرفض في يومٍ واحدٍ، لأذهبنَّ وحدي إلى المعبد حيثُ يهيَّأُ زواجهما، وحيثُ لا تجرؤ أن تذهب لتظفر بالحظوة عندي، هنالك أعرفُ كيف أدنو من عدوي، وهنالك أخترق ذلك القلب الذي لم أستطع أن أمسَّه، ثمَّ تتحوَّلُ يداي الدَّاميتان إليَّ أنا، فما هي إلَّا أن تضمَّانِي إليه رغم أنفه، ومهما يكن من جُحوده فسيكون أحبَّ إليَّ أن أموت معه من أن أعيش معك.
أورست : كلا! لأحرمنَّكِ هذه السعادة الخطرة، سيدتي، لن يموت إلَّا من يدِ أورست، ليُنحرنَّ أعداؤك بيدي، وحينئذٍ تعرفين لي بلائي إن أردتِ.
هرميون : هلمَّ، دع لي تدبير أمرك، ولتكن سفنك مُستعدة لهربنا.

المنظر الرابع

(هرميون – كليون)
كليون : إنَّكِ لتُهلكين نفسك يا سيدتي، وإنَّ حقًّا عليكِ أن تفكِّري …
هرميون : لأُهلك نفسي أو لا أُهلكها، فلستُ أفكِّرُ إلَّا في الانتقام، بل ما زلتُ أجهلُ، رغم وعوده، أَلِي أن أعتمد على غيري؟ فليس بيروس مُجرمًا عنده كما هو مجرمٌ عندي، وإنِّي لأمضَى ضربة منه، ما أسعدني حين أنتقِمُ بنفسي لنفسي، وحين أنزعُ يدي مُضرجة بدمِ هذا الخائن، وحين أُضاعف آلامه وسعادتي: فأحجبُ حبيبته عن عينيه وهما تموتان. آه! لو أنَّ أورست على الأقل وهو يُعاقبه على جريمته يدع له الأسف؛ لأنه يموتُ ضحية لي! اذهبي، فمُري أورست بأن ينبئ الجاحد بأنَّه ينحره لبُغضي لا للدولة. أيَّتها العزيزة كليون أسرعي، إنَّ ثأري لَضَائعٌ إن جهل، وهو يموت، أنِّي أنا قاتلته.
كليون : لأُطيعنَّكِ … ولكن، ماذا أرى؟ يا للآلهة! مولاتي إنه الملك.
هرميون : آه! أسرعي إلى أورست وقولي له أيتها العزيزة كليون ألَّا يُقدِمَ على شيءٍ حتَّى يراني.

المنظر الخامس

(بيروس – هرميون – فنيكس)
بيروس : لم تكوني تنتظرينني يا سيدتي، وأنا أرى أنَّ مَقدِمِي يُقلِقُ حديثكما، لم آتِ مُسلَّحًا بهذا التصنُّعِ الدَّنِيءِ أُخفي ظُلمي بنقابٍ من الإنصافِ، حسبي أن يُقضى على قلبي سرًّا، وما أنا بمُحسن الدفاع عمَّا لا أعتقدُ، سأتزوَّجُ طروادية، نعم يا سيدتي، أعترفُ بذلك وبأنِّي قد كنتُ وعدتك هذا القسم الذي أُقدِّمه إليها، لو أنَّ غيري قام مقامي الآن لزعم لك أنَّ أبوينا قد استبدَّا بالأمر دُوننا في ميدان طروادة: لم يتبيَّنَا رأيك ولا رأيي، بل عُقدت لنا الخِطبة في غير حبٍّ، ولكني لا أجحدُ شيئًا أذعنتُ له، وقد أرسلتُ السفراء فعرضوا عليكِ قلبي، ولم أُفكِّر قطُّ في أن أجحد هذا الأمر، بل أردتُ إمضاءه ورأيتك مُقبلةً مع السفراء إلى إبير، ومع أنَّ عينًا أُخرى كانت قد ظفرت بي وحصَّنَتنِي من عينيك، فلم أقف عند هذا الهيام الجديد، بل كنت أريدُ المضي في الوفاء لكِ، فتلقَّيتك ملكة وظننت إلى اليوم، أنَّ قسمي سيقومُ منِّي مقام الحب، ولكن هذا الحب ينتصر، وهذه أندروماك تنتزع مني، بضربة خطرة، قلبي الذي تبغضه. ها نحن هذان يجذب كلٌّ منَّا صاحبه مسرعين إلى المعبد ليقسم كل منَّا راغمًا لصاحبه حُبًّا خالدًا، لكِ بعد هذا يا سيدتي أن تثوري على خائنٍ يُقدِمُ على الخيانة متألِّمًا، وهو مع ذلك حريصٌ عليها، أمَّا أنا فبعيدٌ من أن أُقاوِمُ هذه الثورة العادلة، وربما رفهت عليَّ كما ترفه عليكِ. سمِّيني بكلِّ أسماءِ الخونة الحانثين؛ فإنِّي أخشى صمتك عنِّي أكثر ممَّا أخشى إهانتك لي، وإنَّ قلبي وقد أثار عليَّ ألف شاهدٍ خفي ليُكثِرُ من تأنيبي بمقدار ما تُقلِّين.
هرميون : سيدي، يحلو لي أن أرى في هذا الاعترافِ البريء من كلِّ تصنُّعٍ، أنك تنصف نفسك على الأقل، وأنك قد أردتَ أن تفصم هذه العروة الوُثقى، تسترسل في الجريمة عامدًا إليها، وبعد، فهل من العدلِ أن ينزل الرجل الظافر إلى الخضوع لهذا القانون المبتذل، قانون الوفاء بالوعد؟! كلا، كلا، إنَّ في الخيانة لما يغريك، وما أرى أنَّكَ التمستني إلا لتفخر بذلك. ماذا؟ لا يلزمك موثق، ولا يقيِّدُكَ واجبٌ، تبحثُ عن يونانية وأنتَ عاشقٌ لطروادية! تدعني ثم تعود إليَّ! ثم تضطرب من ابنة هيلانة إلى أرملة هكتور! تتوج الأَمَة مرَّة والأميرة أُخرى! تضحِّي بطروادة في سبيل اليونان، وباليونان في سبيل ابن هكتور! كل ذلك يصدر عن قلبٍ مالكٍ لأمره، عن بطلٍ ليس عبدًا لقَسمه، ولعلَّك لتُعجب زوجك، مضطرٌّ إلى أن تسرف في وصف نفسك بالحنث والخيانة، لقد أقبلتَ ترى شحوب جبهتي لتضحك بعد ذلك من ألمي بين ذراعيها، تريدُ أن يراني النَّاس أبكي خلف عجلتها، ولكن سيدي، هذا كثيرٌ من الفَرَحِ على يومٍ واحدٍ! أليس ما خلَّدت من مآثرَ يغنيك عن أن تبحث عن مآثر أخرى مستعارة؟! هذا الشيخ الفاني أبو هكتور قد خمدت همَّته مُلقًى على أقدام أسرته، تجود بنفسها على مرأى منه، وقد أغمدت ذراعك في صدره تبحثُ عن بقيَّةٍ من الدم قد جمدتها السن، وهذه طروادة مُضطرمة تغمرها أنهارٌ من الدم، وهذه بولكسين تنحرها بيدك أمام اليونان جميعًا، ساخطين عليك، فأيُّ شيءٍ يمكن أن يؤبى على صاحب هذا البلاءِ الكريمِ؟
بيروس : سيدتي، إنِّي لأعلمُ حقَّ العلمِ إلى أيِّ إسرافٍ في الثورة اضطر شجاعتي الانتقام لهيلانة، وقد أستطيعُ أن أشكو أمامك كثرة ما أرقتُ من دم، على أنِّي مستعد لنسيانِ ما مضى، وإنِّي لأحمدُ الآلهة؛ لأنَّ عدم اكتراثك بي ينبئني بأنَّ زفراتي الحلوة قد كانت بريئة، إنِّي لأرى أنَّ قلبي قد أسرع إلى التحرُّجِ أكثرَ ممَّا ينبغي، وقد كان حقًّا عليه أن يعرفك وأن يبلو نفسه، ولقد كان ما أحس من الندم يهينك إهانة قاسية؛ فإنما يتهم الإنسان نفسه بالخيانة حين يعرف أنه محبوبٌ، لقد كنتُ أخشى أن أخونك، ولعلِّي إنما كنتُ أُحسن إليكِ، فلم يُخلق قلبانا للألفة إنما كنتُ أتبعُ واجبي، وكنتِ تذعنين لواجبك، ولم يكن شيء يدعوكِ إلى حبِّي.
هرميون : لِمَ أُحبك يا قاسي؟! فماذا فعلت إذن؟! لقد ازدريتُ من أجلك حب أمرائنا جميعًا، لقد سعيتُ إليك بنفسي في أعماق بلادك، وما زلت في بلادك رغم خياناتك ورغم كل أتباعي، أتباعي من اليونان الذين يخزيهم ما أُظهِرُ من لينٍ ودعةٍ، لقد أمرتهم أن يكتموا ما قُدِّمَ إليَّ من إهانةٍ، لقد كنتُ أنتظِرُ سِرًّا أن يعود إليَّ الحانث، لقد ظننتُ أنك سترد إليَّ عاجلًا أو آجلًا، وقد أذعنت للواجب، قلبًا أنا صاحبته، لقد كنت أُحبك على تقلُّبك، فماذا عسى كنت أصنع لو أنك وفيٌّ؟ بل الآن، وإن فمك القاسي ليحمل إليَّ في هدوءٍ نبأ الموت، أشكُّ أيها الجاحدُ في أنِّي ما زلتُ أُحبك، ولكن يا سيدي إذا لم يكن بُدٌّ، إذا كان سخط السماء قد قضى لأعينٍ أُخرى بأن تروقك فأتمم زواجك، فقد رضيت ذلك، ولكن لا تُكره عينيَّ على الأقلِّ على أن تشهداه، لعلِّي إنما أحدثك لآخر مرَّة: أجِّل هذا الزواج يومًا فسيكون لك الأمر كله غدًا … أراكَ لا تُجيبُ أيها الغادر! إنَّكَ لتعدُّ اللحظات التي تنفقها معي، وإنَّ قلبك ليتحدَّثُ إليها، إنَّ عينيك لتمسانها! ما أنت بقادرٍ على نفسك، هلمَّ انجُ من هذا المكان! هلمَّ قدِّم إليها ما قدمت إليَّ من قَسم! هلمَّ أهن جلال الآلهة المقدَّس! فإنَّ هؤلاء الآلهة، هؤلاء الآلهة الذين يحبُّون العدل، لن ينسوا أنَّ هذه الأيمان نفسها قد وصلت بينك وبيني، ضع أمام الأنصاب هذا القلب الذي يتركني، هلمَّ أسرع ولكن احذر أن تلقى هناك هرميون.

المنظر السادس

(بيروس – فنيكس)
فنيكس : مولاي، أسمعت؟ حذارِ أن تهمل عاشقةً ثائرةً تريدُ الانتقامَ، وما أرى إلَّا أنها قوية كثيرة العون في هذا المكان، وأنَّ خصومة اليونان مُتَّصِلَة بخصومتها، وأنَّ أورست ما زال يُحبها ولعلَّه بهذا الثمن …
بيروس : أندروماك تنتظرني. أي فنيكس، احرص على ابنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤