الفصل الأول

المشهد الأول

(المسرح مظلم وخالٍ.

ضوء خفيف يظهر على مدخل المسرح من ناحية اليمين، يظهر في الضوء شهدي التمورجي (بملابس التمورجية البيضاء)، حاملًا على نقَّالةٍ جسمًا مغطًّى بملاءة. تمورجي آخَر يحمل النقالة من الناحية الأخرى.

يسيران بالميت ببطءٍ مجتازَيْن خشبةَ المسرح.

يخرجان من الناحية اليسرى.

يختفي الضوء ويصبح المسرح مظلمًا تمامًا.

ضوء خفيف يظهر من ناحية اليمين، وامرأة ترتدي السوادَ تجري بسرعة كالمذهولة، ومن خلفها صغارٌ يَجْرُون خلفها، يجتازون المسرحَ بسرعة ويخرجون من الناحية اليسرى.

المسرح خالٍ ومظلم.

يُسمَع صوت نحيب مكتوم: آهٍ يا ربي!

صمت وظلام.

تُسمَع صرخة طفل صغير يبكي.

المسرح مظلم تمامًا وخالٍ.

يسقط ضوء خفيف على منتصف الخشبة، ويظهر طفل صغير جالس وحده في الظلام يده ممدودة للناس.

يبدأ الضوء يغمر المسرح تدريجيًّا، ويبدأ الناس المارة يروحون ويجيئون، الكل يجري بسرعةٍ إلى عمله وحاله، لا أحدَ يلتفت إلى الطفل الجالس بيده الممدودة … الطفل ينهض ويسير بين الناس طالبًا الإحسان، خطواتُه لها إيقاعٌ موسيقي يتماشى مع لحن أغنية الأطفال الشحاذين.)

الطفل الشحاذ (يغني على اللحن) :
حَسَنة يا سيد …
حَسَنة يا ست …
أنا جعان،
أنا يتيم،
وماليش حد.
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب.

(ينضم إلى الطفل أطفالٌ آخَرون شحاذون بملابسهم الممزَّقة البالية، يرقصون ويغنُّون معًا):

حَسَنة يا سيد …
حَسَنة يا ست …
احنا يتامى،
احنا غلابة،
ومالناش حد.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
مليان حب.

(أحد المارة يُلْقِي إليهم قرشًا.

يجرون إلى القرش ويتنافسون عليه، لكن الشرطي يُقْبِل فيفرِّقهم بعصاه.)

الشرطي : (يغني على اللحن نفسه)
امشي يا واد …
امشي يا بت …
فض السكة،
للبيه والست.
انت حرامي،
وانت مشاغب،
وانتي عاوزة الضرب.

(يضربهم بالعصا فيجرون خائفين ويخرجون من المسرح. الشرطي وحده على الخشبة يسير بعصاه، يرى القرش على الأرض، ينحني ويلتقطه ويضعه في جيبه.)

(ظلام)

المشهد الثاني

(د. شرف الدين راقد على السرير بحجرته بالمصنع، يلفظ أنفاسَه الأخيرة، وإلى جواره التمورجي شهدي يحاول أن يسعفه.)

شهدي : دكتور شرف الدين … دكتور شرف الدين! يا نهار إسود! أعمل إيه بس؟! أنا مانيش دكتور، أسعفه إزاي بس؟ (يقرِّب كوبَ الماء من شفتَيْ شرف الدين. شرف الدين يفتح عينيه.)
شهدي : د. شرف الدين … أنا شهدي.
شرف الدين : شهدي، فين توفيق؟ اندهله.
شهدي : ندهتله، جاي حالًا في السكة، زمانه يوصل حالًا.
شرف الدين : لو جه توفيق وأنا ماكنتش … قوله يا شهدي شرف الدين بيقولك إنها الزرقا (يدخل توفيق مهرولًا بسرعة).
توفيق : شرف الدين! مالك؟ هات كورامين يا شهدي بسرعة (يعطيه حقنة).
شرف الدين (بصعوبة) : د. فهيم كدب علينا … دلوقت بس عرفته. عرفت متأخر قوي … خلاص الفرصة راحت … يا توفيق … الأمل راح … (يلفظ أنفاسه).
توفيق (باضطراب) : لا يا شرف الدين، الأمل ماراحش، لسه فيه أمل، لسه فيه فرصة. هات كمان حقنة كورامين يا شهدي.

(شهدي يجري ويأتي بالحقنة. توفيق يغرزها في ذراع شرف الدين.)

توفيق : شرف الدين، اصحى، اصحى يا شرف الدين، لسه فيه فرصة، لسه فيه أمل. يا شهدي هات كمان حقنة.

(شهدي يجري ويأتي بحقنة أخرى.)

توفيق : شرف الدين … اسمعني … قاوم الموت يا شرف الدين زي ما كنت بتقاوم كل حاجة. قاوم ماتستسلمش، عمرك ما استسلمت. قاوم يا شرف الدين، فيه فرصة، فيه أمل. مش ممكن تموت، مش ممكن الملاك يا ناس هو اللي يموت.

(توفيق يُلْقِي الحقنة على الأرض فتنكسر ويبكي.

شهدي يغطي جسم شرف الدين الميت وهو ينظر إليه في ذهول وحزن شديدَيْن.)

توفيق : شرف الدين مات يا شهدي! شيله على كتافك. الملاك اللي رفض إنه يبات ليلة واحدة خارج المصنع، كان بيسهر عليكم ويشيلكم واحد ورا واحد، شيله يا شهدي في عينيك. شرف الدين كان مؤمن بشيء غير موجود، وعمره ما فقد إيمانه، كان عايش في وهم. الدكتور فهيم ما يكدبش، مافيش زرقا يعني مافيش زرقا، والزرقا عمالة تنهش في لحم العمال، والزرقا عايشة في المصنع، عايشة وعمالة تكبر وتترعرع، والميكروب عايش ويترعرع، والملاك الطاهر مات، ربنا رحمه واستريح. شرف الدين استريح يا شهدي، إنما أنا … أنا اللي عايش وتعبان، أنا اللي خلاص بقيت مش مؤمن بحاجة خالص، دنيا وحشة وكلهم كدابين … كلهم كدابين. أنا مش مؤمن بحاجة يا شهدي، مش مؤمن حتى بنفسي، أنا عارف إنها الزرقا وساكت، أيوة ساكت ومقدرش أقول. اشمعنى أنا دونًا عن الكل اللي أقول! عاوز ولادي يا شهدي يعيشوا وياكلوا ويروحوا المدارس، ولادي هم السبب يا شهدي، هم السبب، يمكن لو ماكنش عندي ولاد يمكن كنت أقول. لكن برضه ما اعرفش، أنا بأخاف يا شهدي، أنا جبان (يبكي).

(شهدي يواسيه.)

شهدي : ماتعملش في نفسك كده يا دكتور توفيق.
توفيق : دي كانت آخِر فرصة يا شهدي، شرف الدين كان آخِر أمل، خلاص الفرصة راحت والأمل راح.
شهدي (في عزم) : لا ما راحش، الأمل ما راحش، فيه فرصة طول ما احنا عايشين، طول ما فينا نَفَس، طول ما فينا نَفَس فيه فرصة وفيه أمل … فيه! فيه! فيه!

(ظلام)

المشهد الثالث

(شهدي راقد على الأرض في زنزانته، السجَّان يضربه بالسوط.)

شهدي (يصيح) : فيه!
السجان (يضربه) : مافيش!
شهدي : فيه!
السجان : مافيش!
شهدي : فيه!
السجان : مافيش!
شهدي : فيه!

(يستريح السجان قليلًا، يجفِّف عرقه، يدلِّك ذراعه من التعب.)

السجان (بصوت متعب جِدًّا) : انت إيه؟ انت مش بني آدم ولَّا إيه؟ والله، والله العظيم ده لو كان بغل كان حس!
شهدي : كنت باحملهم على إيديا دول. أنا إنسان … أصل أنا منيش بغل. أنا شهدي … أنا إنسان عشت وسط الناس في المصنع، كنت باشيلهم على إيديا دول، كنت بأحس جسمهم وهو سخن زي النار وبعدين يبرد زي الثلج. شلتهم بإيديا دول وشيلت عيالهم، شيلتهم بإيديا وشفتهم بعيني. كنت أشوف العيل من دول ينبش في صفيحة الزبالة زي الكلب عشان يعتر في حتة عضمة، على لقمة بايتة ومعفنة، على شوية رز فضلوا من الجيران ورموهم في الزبالة. وشفت الدكتور شرف الدين، كان زي الشعلة المنورة، يروح وييجي ويكلم كل واحد ويضحك، تمام زي الدكتور توفيق. يا ترى انت فين يا د. توفيق؟

(السجان يضربه بالسوط.)

السجان : قول مافيش زرقا.
شهدي : فيه زرقا.
السجان : مافيش.
شهدي : فيه.

(السجان يستريح ويتركه قليلًا.)

السجان : أقسم بشرفي لو بغل كان حس!
شهدي : أيوة، لو كنت بغل ما كنتش حسيتهم بإيديا دول، شفتهم بعيني دول، أعمل إيه؟ ذنبي إيه، أنا بني آدم، لي إيدين بتحس وعينين بتشوف!

(السجان يلسعه بالسوط.)

السجان : بني آدم إيه؟ لو كنت بني آدم كنت حسيت لسعة الكرباج ده!
شهدي : لسعة الكرباج مش بتوجع زي لسعة الألم والجوع، مش زي لسعة عينين عيل يتيم بيدور على لقمة في التراب!
السجان : دراعي انخلع، ودمك ساح على الأرض، ولسه مش عاوز تسمع الكلام. شايف اللي على الأرض ده؟ ده دمك، بس شوفه.
شهدي (يتحسَّس جسمه) : ده دمي! مش عارف إنه دمي. حتى جسمي ما بقتش حاسس بيه، اضرب زي ما انت عاوز، خلاص أنا مش حاسس بجسمي.

(السجان يضربه بشدة.)

السجان : قول مافيش زرقا.
شهدي : فيه زرقا.
السجان : مافيش.
شهدي : فيه … فيه … فيه.

(يصرخ وهو يقول بجنون: فيه … فيه.

يُسمَع فقط صوت السوط وهو يضرب، وصوت شهدي يَئِنُّ بضعف ويقول مردِّدًا بصوت خافت جِدًّا: فيه … فيه. صوته يختفي تدريجيًّا دون أن ينقطع.)

(ظلام)

المشهد الرابع

(الحجرة التي يسكنها منصور أحمد في شقة زكية إبراهيم، حجرة تنمُّ عن الفقر، بها مكتب صغير قديم، وكنبة كالسرير في ركن الحجرة، سلة مهملات مليئة بالورق الممزَّق، كتب كثيرة فوق المكتب.

منصور جالس في ضوء اللمبة يكتب، وعلى المكتب زجاجة خمر فارغة يُفْرِغ منها آخِر كأس وآخِر قطرة، يبدو عليه الإرهاق والسُّكْر.)

منصور (يكلم نفسه) : خلصت الإزازة ومافيش غيرها، ولسه الراجل اللي واقف فوق دماغي مامشيش، لسه العينين المفنجلة بتبص عليَّ من الحيطان والسقف، لسه مش قادر أحس إني لوحدي، مافيش حد يبص عليَّ ويراقبني حركة حركة، وكلمة كلمة … (يضرب الهواء بيده كأنه يطرد شخصًا وهميًّا من أمامه) ما تغور في داهية بقى، ما تشوفلك شغلة شريفة يا أخي. (يرفس الهواء كأنه يرفس شخصًا وهميًّا يقف أمامه) ياللا، برة، برة، حِل عني يا أخي … خليني أعرف أكتب، خليني أقدر أقول اللي جوايا. (يهدأ لحظة … يجلس على الكنبة ومعه الكأس الفارغ) الله ينتقم منكم، عملتم كده ليه؟ خليتوا الواحد يشك في عينيه، يشك في إيديه، يشك في الكلام اللي بيكتبه. (يذهب إلى سلة المهملات، يأخذ ورقة مكورة يفردها، ينظر فيها طويلًا ثم يكورها مرة أخرى ويلقيها في السلة، يجلس مرة أخرى) بس لو كان فيه إزازة تانية، كنت عرفت أطرد الراجل ده بصحيح، أصله راجل ماعندوش دم، لازق فيَّ زي ما يكون بغرا، وواقف فوق نافوخي زي المرحوم أبويا ما كان يقف فوق دماغي وأنا قاعد أذاكر. (يقلد صوت الأب حين يأمر ابنه التلميذ) خلي عينك على الكتاب، ابتدي بالحساب، عملت الواجب يا ولد، ما تحركش راسك كتير، بلاش شخبطة على الكتاب، ماتاكلش حرف الكراسة، انت سايب المذاكرة وبتكتب شِعْر! يا واد خلص الواجب خلي عندك إحساس، خلي عندك دم الامتحان قرب وحتسقط بإذن الله. (يطرد بيديه الشبح، ينهض يدفعه أمامه كأنما يطرده من الباب) ياللا بقى انصراف … انصراف. مواعيد العمل خلاص، مواعيد الأوفر تايم برضه خلاص، يا راجل روح لمراتك وولادك، خلي عندك دم، مش شايف إن جيوبي منفضة ومافيش إزازة تانية. روح بقى، حل عني، خليني اقعد شوية مع نفسي، ياللا … ياللا.

(يدخل د. توفيق صامتًا واجمًا يبدو عليه التفكير العميق والأسى.)

منصور : أهلًا توفيق، جيت في وقتك، عاوز إزازة يا توفيق عشان الراجل ده يسيبني … مش راضي يسبني، لا يمكن يسبني إلا لما أشيل الحتة الفوقانية من دماغي (يشاور على رأسه) بيسموها عندكم في الطب إيه؟ القشرة المخية؟ أيوة القشرة الفوقانية، الحتة الرفيعة دي يا توفيق، رفيعة خالص زي ورقة السيجارة، إنما إيه، لازقة وجامدة زي الحديد، بعد الإزازة التانية يدوبك أحس إني ابتديت أشيلها وأشيل معاها البلوة التقيلة اللي فوق دماغي، وأحس بصحيح يا توفيق إني أنا منصور أحمد، منصور على حقيقته، يكتب اللي عاوز يكتبه، ويقول اللي في نفسه، لا يخاف، ومافيش حد يقدر يقول تلت التلاتة كام … بس أجيب أزايز منين يا توفيق؟ أجيب منين؟

(توفيق جالس لا يرد عليه، يبدو عليه الانهماك فيما يشغله ويؤلمه. منصور يقترب منه.)

منصور : مالك يا توفيق؟ حد عزيز عليك مات؟
توفيق : شرف الدين يا منصور راح.
منصور : ولسه يا أستاذ بتقول مافيش الزرقا. يا توفيق يا خويا، الناس كلها عارفة إنها الزرقا، انت باين عليك ما بتقعدش مع الناس، لكن حتقعد فين وإمتى! ده انت ليل نهار في المصنع، إنما اسألني أنا. انت عارف إني أنا بعد ما اترفدت، ابتديت ألاقي وقت أقعد فيه مع الناس، ويمكن دي أهم ميزة للرفد، إنك تصحى الصبح فايق رايق، لا تجري وراء أتوبيس ولا تتشعبط في تروللي، وتمشي في الشارع كده فارد دراعاتك وقلبك مفتوح للدنيا والناس. تعرف علاجك إيه يا توفيق يا خويا؟ إنك تترفد، حتلقى مشاكلك اتحلت.
توفيق : أنا تعبان يا منصور، مش فايق لكلامك … تعبان (يمسك رأسه).
منصور : طيب أريحك إزاي يا توفيق؟ خلاص يا سيدي، الدكتور فهيم بتاعكم، هو راجل عادي ومافيش زرقا، مافيش حد بيموت، واللي بيموت بيموت موتة ربنا، والناس كلها صحتهم كويسة وزي الحِصِنة، والبركة فيكم يا دكاترة، من كتر ما هم زي الحِصِنة تبص في وشهم تلاقيها صفرا مش زرقا، كفى الله الشر، وعينيهم صفرا، والدنيا في وشهم صفرا، مافيش فيها ريحة الزرقان ولله الحمد، نحمده ونشكره، ولا يُحمَد ولا يُشكَر على مكروه سواه.
توفيق (ينهض في قلق) : مش قادر أفهم إزاي الدكتور فهيم يكدب في حاجة زي دي.
منصور (ساخرًا) : مش قادر تفهم يا توفيق يا خويا؟! مش قادر تفهم ليه يا عزيزي؟ أنا عاوز أسألك سؤال بسيط جِدًّا، سؤال بسيط، لا عاوز ذكاء ولا عاوز عبقرية، هو أنهو أسهل؟ الكدب ولَّا الصدق؟

(توفيق صامت لا يرد، يتمشى في الحجرة في قلق شديد.)

منصور : كل الدلائل والشواهد والوثائق والمواثيق والخوازيق تدل على إن الكدب أسهل مية مرة من الصدق، ولَّا انت مش عاوز تصدق التاريخ؟ ولو إنه بيني وبينك، التاريخ برضه بيكدب.
توفيق : لو كان واحد غير الدكتور فهيم، لكن أنا أعرف د. فهيم من عشر سنين، كان أستاذي واشتغلت معاه كتير.
منصور : ما تحكمش عليه كان زمان إيه، احكم عليه دلوقت بعد ما قعد على الكرسي وبقى مسئول كبير. الكرسي بيغير الناس يا توفيق.
توفيق : كان متهيألي إن مافيش كرسي يقدر يغير الدكتور فهيم، كان دايمًا يقولي الناس نوعين يا توفيق: ناس الكرسي يغيرها، وناس هي اللي تغير الكرسي.
منصور : كلهم كده، طول ما هم على البر شاطرين في الكلام، ويا سلام الواحد يتهيأ له إنه سبع البرمبة. اللي على البر شاطر يا توفيق، ولما الواحد منهم يقعد على الكرسي (يجلس منصور) ويحس بيه ويملاه ويريح جواه، خلاص بقى واحد تاني.
توفيق : فيه ناس بتقاوم يا منصور.
منصور : أيوة، يمكن تقاوم اللي تقدر عليه، لكن اللي متقدرش عليه؟ مافيش غير المجنون هو اللي يصارع وينطح الهوا (منصور يقطع الهواء برأسه) إنما الدكتور فهيم ده راجل علمي وعنده عقل، عاوزه يقاوم إيه ولَّا إيه ولَّا إيه ولَّا إيه.
توفيق : مش قادر أتصور إزاي واحد زيه يسكت ويسيب الناس تعيا وتموت.
منصور : الموت مكتوب على الجبين، محدش يموت ناقص عمر، كله مكتوب، مكتوب بدقة. وكمان يعني الناس على قفا من يشيل والعدد في اللمون، واللمون كل ما يكتر يرخص. البني آدم عندها رخيص يا توفيق، رخيص لأنه موجود ومتوافر وزيادة عن اللازم، زي قطع الغيار الموجودة في السوق في أي وقت، لما تخسر قطع غيار من دول ترميها وتشتري غيرها؛ لأن ثمن الجديدة أرخص من تصليح القديمة. المسائل في العالم بتتحسب بالشكل ده يا توفيق، العرض والطلب، المكسب والخسارة.
د. توفيق : الدكتور فهيم تفكيره كان مختلف يا منصور، د. فهيم عمره ما حسب المسائل بالشكل ده، طول عمره يحترم الإنسان وعمره ما استرخصه حتى وهو عيان أو غلبان، لسه فاكر إزاي كان بيغطي العيان لما يكشف عليه قدامنا واحنا طلبة، لسه فاكر إزاي كان بيخلي تلاتة بس مننا يكشفوا على العيان عشان ما يتعبش، غيره من الأساتذة كانوا بيعملوا إيه؟ الأستاذ اللي كان يرفع رجليه ويحط جزمته على مخدة العيان، الأستاذ اللي كان يسيب خمسين طالب يضغطوا بالسماعات على قلب الطفل الصغير لغاية ما تحفر السماعات على صدره حفرة مدورة غويطة وحمرا، الأستاذ اللي ضرب العيان الشاب قلم على وشه لأنه رفض يقلع هدومه كلها قدام الطلبة والطالبات، الأستاذ اللي كان يعري العيانة قصادنا في عز البرد وخمسين واحد مننا يفحص بصوابعه في جسمها، الدكتور فهيم ما كنش بيعمل كده.
منصور : يا سلام على السذاجة والبراءة، لولا إنك كنت زميلي في ابتدائي وثانوي، ولولا إني عارف مية في المية إنك اتخرجت من الطب، لا يمكن بتفكيرك ده أقول عليك دكتور. انت دخلت الطب ليه يا ابني، اللي زيك دول ما ينفعوش في الطب، أحسن لك تروح تكتب روايات أو شعر أو حاجات كده من بتاعة الخيال والعواطف زي حالاتنا، الطب علم، والعلم: واحد + واحد = اتنين … اتنين بالضبط. لا يمكن يكونوا تلاتة، ولا يمكن يكونوا واحد ونص، اتنين بالضبط. ده علم الحساب، الدكتور فهيم راجل علمي وشاطر في الحساب، ولولا إنه شاطر في الحساب ماكنش نجح ووصل في عالم بيحسب ليل نهار، ماكنش نجح ووصل في وسط ناس بيجروا ويتنافسوا والأشطر يكسب، وطبعًا مافيش مانع من شوية عواطف كده زي البهارات تنحط من فوق وماتكلفش حاجة، زي إنك تغطي عيان غلبان عشان ما يبردش، أو ما تحطش رجلك على سرير العيان، حاجات كده ظريفة وإنسانية ترضي ضمير الواحد، تخليه يحس بالسعادة، زي ما تدي قرش لشحات وانت ماشي في السكة، صدقة حلوة كده تخلي أمثالك من السذج يبصوله بإعجاب وحب، إنما عند الجد لما الكرسي اللي قاعد عليه ينهز، لما رزقه ورزق عياله يبقى مهدد بالقطع، المسألة تبقى عاوزة تفكير وعاوزة عقل وعلم وحساب، حساب دقيق جِدًّا جِدًّا، واحد + واحد = اتنين، اتنين بالضبط، لا يمكن يكونوا تلاتة ولا يمكن واحد ونص، وفي الحالة دي مافيش حاجة اسمها عواطف، مافيش حاجة اسمها إنسانية، مافيش زرقا، العواطف هنا اسمها سذاجة، رعونة … والإنسانية هنا اسمها طيش، جنون … إنما العقل … يا سلام على عقل الدكتور فهيم فهمي، أحسن واحد يعقل في الحالة دي.

(منصور يضحك بسخرية.)

توفيق : انت طول عمرك كده يا منصور، ما تفرَّقشي بين الإنسان الكويس والوِحش، كل الناس عندك وِحشين، كل الناس عندك يضعفوا قصاد الفلوس والدرجات والكراسي. أنا معاك فيه ناس كتيرة كدة، لكن الدكتور فهيم كان غير دول، مش ممكن أنخدع فيه ١٠ سنين، مش ممكن. انت دخلت عيادته؟ لو دخلت عيادته تلاحظ إنه مش معلق يافطة بالأسعار، عمره ما تاجر بالطب، عمره ما أخذ فلوس من عيان غلبان مش قادر يدفع اﻟ …
منصور : ما هي برضه ضمن العواطف اللي تنفع أكتر ما تضر، على السمعة الحلوة دي عيادته مليانة كل ليلة زي الرز، واللي يقدر يدفع أكتر من اللي ما يقدرش يدفع، دول ناس بحورهم غويطة يا توفيق، ناس يعرفوا يحسبوا كويس، كل حاجة عندهم لها ثمن ولازم تجيب ثمنها، حتى ولو كانت عاطفة كده … عابرة!
توفيق : كلامك دايمًا يتعبني يا منصور، كلامك دايمًا يخنقني، يخلي كل حاجة في عيني وِحشة والدنيا كلها وِحشة. إزاي انت قادر تعيش، كل الأفكار السوده اللي جواك دي؟
منصور : انت بتسمي الأفكار الواقعية العلمية أفكار سوده! بقول لك يا توفيق يا ابني انت أطيب من إنك تفهم العلم، ظلموك اللي عملوك دكتور، الناس الطيبين اللي زيك يروحوا يشتغلوا بالمسائل الروحانية أو بالفن، ده انت كمان أطيب من إنك تكون فنان؛ لأن الفنان لازم يبقى شرير عشان يفهم شرور الحياة ويصوِّرها للناس، انت أطيب من إنك تكون إنسان، حقك تكون ملاك بجناحين وتطير فوق وتعيش في السما. تصوَّر يا توفيق يا اخويا، لولا إني شرير ما كنتش أقدر أكتب حاجة. صحيح كل اللي باكتبه محطوط في الدرج، لكن حييجي يوم والرواية تشوف النور، حييجي يوم … بس المشكلة أجيب أزايز منين؟ أجيب أزايز منين؟

(تدخل زكية.)

منصور : أهلًا زكية، جيتي في وقتك. معاكيش إزازة سلف، إزازة واحدة أشيل بيها حتة القشرة اللي لسه لازقة هنا (يشاور على رأسه).
زكية : مش حتبطل يا منصور حكاية الأزايز دي، والقشرة اللي لازقة.
منصور : أعمل إيه يا زكية، ما هي مش راضية تطلع، أطلعها إزاي بس؟
زكية : خلي الدكتور يكتب لك دوا.
منصور : الدكتور مين!
زكية : الدكتور توفيق.

(توفيق جالس مستغرق في همومه وقلقه، لا ينصت إليهما.)

منصور (ساخرًا) : الدكتور توفيق! هو الدكتور توفيق بيعرف في الطب؟ ده عمره ما قالي على نصيحة إلا وجابت نتائج عكسية، الدكتور توفيق عاوزني أعيش من غير أقراص مهدئة، ولا أقراص منشطة، ولا أقراص منومة، ولا أدخن، ولا أسهر، ولا أشرب، ولا أشيل القشرة الفوقانية … يعني باختصار كده عاوزني أموت. اعرفي يا زكية، أنا اكتشفت حاجة غريبة قوي في كل الدكاترة اللي عرفتهم.
زكية : انت مش حتبطل اكتشافات يا منصور؟
منصور : تعرفي الدكاترة دول كانوا كلهم ضد الحاجات الكويسة اللي تخلِّي الواحد صحته كويسة، أمال يعني تفتكري الدكاترة يعيشوا منين يا زكية، يعيشوا منين لو كل الناس صحتها بقت كويسة؟

(زكية تقترب من توفيق.)

زكية : مالك يا توفيق؟ قاعد كده ليه؟ مش عوايدك.
توفيق : تعبان يا زكية، تعبان قوي.
زكية : كل الناس تعبانة! مافيش حد أشوفه إلا ويقول تعبان، الدنيا جرى فيها إيه يا ناس؟
منصور : الدنيا ابتدت تتصلح يا زكية، أصل التعب أول خطوة لإصلاح الدنيا. إنما تصوري يا زكية واحد في زماننا ده مش تعبان، واحد حاطط راسه على المخدة دلوقت ونايم يشخر، يبقى إيه ده يا زكية؟
زكية : يبقى مرتاح وباله رايق.
منصور : يبقى عيان، أصل ساعات روقان البال يبقا عيا، مش عيا بس، ده يبقى حاجة أشد من العيا، حاجة كده زي الموت … يا حفيظ. (يقترب من زكية بخطوات مترنحة) أنا حاسس يا زكية إني مخنوق، حاجة كده زي الإيدين الاتنين حوالين رقبتي، الليلة يا زكية آخر ليلة وبكرة أقسم لك بحياتي إني حابطل، هي الليلة دي بس، فيه حاجة مهمة لازم أكتبها، فكرة جهنمية خايف تطير مني، بس انتي عارفة يا زكية لازم أشيل القشرة، بس …
زكية : ما انت كل ليلة بتقول الكلام ده يا منصور!
منصور : لا يا زكية، دي آخر مرة، أقسم لك بإيه؟ أقسم لك بابنك حسن إن دي آخر إزازة، آخر واحدة.

(زكية تبحث في جيوبها، ثم تناوله شيئًا من المال، يدسه منصور في جيبه بسرعة ويتجه ناحية الباب ليخرج.)

منصور (يخاطب توفيق) : استناني يا توفيق، أنا راجع حالًا، أنا راجع، أنا … أنا لازم راجع …

(يخرج بخطوات مترنحة.)

زكية (في ألم) : يا خسارة الناس الكويسة اللي عندها قلب، يا بخت الناس اللي ماعندهاش قلب، تاكل وتشرب وتنام وبالها رايق، ومش حاملة هم، إنما اللي عنده قلب يا ويله، يعيش متعذب مهموم، وهموم الناس هي همومه، وهموم الدنيا كلها فوق دماغه، ما يقدرش يقول كلمة وأنا مالي، ما يقدرش، ما يقدرش يرتاح وغيره تعبان، وما يقدرش ياكل وغيره جعان مش لاقي اللقمة.
توفيق : شرف الدين مات وارتاح، ومنصور لقه حاجة تريحه وتنسيه، إنما أنا يا زكية، أنا مش لاقي أي علاج.
زكية : وشهدي يا توفيق، ماجبتش سيرته ليه؟ شهدي اللي بينزف من جرحه كل يوم كبشة دم؟ ولَّا كمنه تمورجي وغلبان؟ والغلابة اللي ماتوا، واللي لسه حيموتوا، دول كلهم وانت لسه ساكت يا توفيق؟ لسه ساكت … يا قلبك!

(توفيق ينهض ويسير في الحجرة في قلق وحيرة.)

توفيق : رأسي، مش قادر يا زكية، فيه مخاوف كتيرة جوايا، وكل ما أفكر إني أقول حاجة تقولي اشمعنى يعني انت دونًا عن الكل تقول، ما كلهم عارفين وساكتين أحسن منك وأكبر منك وساكتين، اشمعنى يعني انت، يعني انت اللي حتصلح الكون، ولَّا يعني عاوز تبقى بطل؟ وانتي عارفة يا زكية، أنا دكتور صغير على أد حالي، ولانيش بطل ولا حاجة، زائد إن الزمن بتاعنا ده مش بتاع بطولات فردية.
زكية : بطل إيه وبطولات إيه يا توفيق، زمان الواحد كان يسمع أن البطل هو اللي يشيل السلاح ويموت، والبطولات بطولة بحق وحقيق، إنما دلوقت بقى الواحد اللي يفتح بقه ويقول كلمة حق بطل من الأبطال، سبحان الله يا ربي.
توفيق : الخوف يا زكية، الخوف بيخلي الإنسان مشلول، ما يعرفش يعمل إيه.
زكية : فيه ناس ما بتخافش يا توفيق، فيه ناس بدوس على خوفها وتمشي عليه، فيه ناس بتربط بطنها ولا تخافش، فيه ناس تتكوي بالنار ودمها يسيح ولا تخافش، وانت يا توفيق؟ قولي انت بتخاف من إيه؟
توفيق : حاجات كتير يا زكية، وكل ما الإنسان احتياجاته كترت كل ما خوفه كتر، وكل ما الواحد كبر في المركز كل ما احتياجاته كترت. وأنا طالب في الكلية كان سهل عليَّ إني أقول رأيي من غير ما أخاف، ماكانش عندي حاجة أخاف عليها، ولما كبرت واشتغلت بقى لي ماهية ممكن تنقطع، وبقى لي شقة لها إيجار، وبقى لي عربية عاوزة بنزين وتشحيم، بقى لي عيال عاوزين تعليم ومصاريف، واحتياجات كتيرة ملفوفة حوالين رقبتي ورابطاني زي اللجام. عارفة اللجام يا زكية بيربطوه في رقبة الحصان ويشدوه ويجروه حسبما هم عاوزين، أنا كده بالضبط (يتحسس رقبته ويفك رباط عنقه (الكرافتة) قليلًا)، كل يوم الصبح وأنا باربط الكرافتة حوالين رقبتي أقول لنفسي: يا واد انت بتخنق نفسك بإيديك. وابقى عاوز أفك الكرافتة وأرميها وألبس قميص مفتوح، زي ما تكون إيد واحد تاني عمالة تربط في الكرافتة وتشدها وتزر على رقبتي.
زكية : علشان كده اللي ماحلتوش كرافتة ماحدش يقدر يشده منها ويخنقه، ماحدش يقدر يعمل حاجة للي مش عاوز حاجة.
توفيق : كل الناس عاوزة تعيش يا زكية وعاوزة تاكل.
زكية : ماحدش بيموت من الجوع يا توفيق، إنما فيه ناس عاوزة كل حاجة، عاوزة تنجح وعاوزة توصل، ولما تنجح وتوصل، عاوزة تنجح أكتر وتوصل أكتر، عاوزة شقة أكبر وعربية أطول، عاوزة … عاوزة … عاوزة … العوزان المجنون الفظيع. صحيح كل واحد بيعوز ياكل، لكن فيه ناس تاكل وغيرها يجوع، فيه ناس تقتل عشان تملى بطنها وغيرها يجوع، فيه ناس تزُؤ غيرها عشان توصل، فيه ناس تكدب عشان توصل، فيه ناس مستعجلة عاوزة حاجات كتيرة، وعشان كده بيختاروا الطريق السهل القصير، اللي بيوصَّل بسرعة، إنما الطريق الصعب مش كل واحد يقدر يمشي فيه، الطريق الصعب المليان ألم وشقا وعذاب مش كل واحد يقدر يمشي فيه.
توفيق : الإنسان اتخلق عشان يعيش ويتمتع بالدنيا، ويرتاح ويعيش في أمان، الإنسان ما اتخلقش عشان يتعذب ويتألم.
زكية : اللي ماتعذبش ولا اتألمش عمره ما يبقى حاجة يا توفيق، الأمل هو اللي بيخلي الإنسان إنسان!

(توفيق يمسك رأسه بيديه ويظل صامتًا لحظة.)

توفيق (بصوت متعب) : مش قادر يا زكية، مش حاجة سهلة بالمرة، أصعب حاجة … أصعب لحظة في حياتي … أصعب لحظة مسكاني، شلاني، مش عارف أعمل إيه، يمكن لو كنت في مكاني، يمكن لو مريت بلحظة صعبة زي دي يمكن تعذريني يا زكية.
زكية : مريت ومريت ومريت، دست عليها بكل قوتي ومريت، كنت لسه صغيرة، سبعتاشر سنة، وهربانة من كل الناس، هربانة من أبويا وأمي وجوزي وكل الناس، كانوا عاوزين يمسكوني ويحطوني في القفص، لكن أنا هربت.

(يُضاء المسرح في الركن وتظهر زكية وهي تحمل حقيبة صغيرة، وتسير وحدها في الشارع الطويل المظلم هاربة.)

زكية (تواصل كلامها) : أخذت هدومي وهربت في نص الليل وهم نايمين، ومشيت لوحدي في الشارع الطويل الضالمة، كانت الدنيا مطر وبرد والدنيا ضالمة، وفي كل ركن شبح واقف يتربص، في لحظة وقفت وخفت وفكرت أرجع، قلت لنفسي لحظتها القفص أرحم، السجن برضه فيه أمان عن الدنيا الضالمة الواسعة، السجن له أربع حيطان تحميني وتخبيني، لكن مارجعتش، كنت عارفة إني رايحة للأودة البلاط والمرتبة القديمة والشباك المكسور بتبص منه عينين الناس، ولسنة الناس حتنهش فيه زي حتة لحمة، لكن دست على خوفي ولا رجعتش، كنت عاوزة أفك اللجام اللي حوالين رقبتي وأهرب من السجن، سجن المجتمع المزيف، والشرف المزيف، والجهاز المزيف، والكلام المزيف، والوجوه المزيفة، والذواق الكداب، كانت أصعب لحظة في حياتي، دست عليها برجلي ومشيت ومشيت، كان ممكن في كل خطوة أقف وأدور وأرجع، أرجع لبيتي المليان عفش، ولجوزي الغني تاجر الموبيليات اللي أبويه باعني له بميت جنيه مهر، وأجيب عيال، وأعيش زي الستات ما هم عايشين. لكن مارجعتش، دست على أصعب لحظة، عديت عليها ومشيت.

(يُطفَأ النور في ركن المسرح، ويعود المشهد بين زكية وتوفيق.)

توفيق : مش عارف يا زكية، عاوز أدوس عليها بس مش قادر، حاسس إن هي اللي دايسة عليَّ، هي اللي مسكاني وأسراني وحبساني زي الفار في المصيدة، خايف أدوس عليها، متهيألي لو قدرت ودوست، حاجة فيَّ حتتغير، أو أنا كلي حاتغير وأبقى واحد تاني غير توفيق اللي عرفته وخت عليه، وكل ما أجي كده أخاف أكتر، زي ما يكون جوايا واحد تاني باخاف منه، أو يمكن هو اللي بيخاف مني، مش عارف!
زكية : انت اللي بتخاف منه يا توفيق، انت بتخاف من نفسك الحقيقية اللي محبوسة جواك، انت اللي حابسها ومش راضي تحررها، مافيش حد بيحرر حد يا توفيق، احنا اللي بنحرر نفسنا، احنا اللي لازم نكسر القشرة، خبطة ورا خبطة، خطوة ورا خطوة، طريق طويل، وكل لحظة فيه صعبة وطويلة زي الدهر، تخلي جدور الشعر تقف، والشعر يشيب، والعمر يمتلي ويكبر، وإن مافاتش فيه كتير، لحظة ورا لحظة بالتدريج، زي الميه على النار تسخن شوية وبعدين تيجي لحظة تغلي وماتبقاش ميه، تبقى بخار، يفتح الواحد عينيه ويحس إنه بقى واحد تاني، بني آدم جديد غير الأولاني، يفتح دراعاته ويحس إنه مالك الدنيا، مالك نفسه ومالك جسمه، مالك عضلات وشه، يقدر يفتح بقه ويقول فيه زرقا، أيوة فيه زرقا!
توفيق : أكسر القشرة إزاي يا زكية؟ دي قشرة تخينة وجامدة، وبقى لها سنين، سنين طويلة وهم بيلفوهم على راء، ورا راء، ورا راء، قشرة تخينة وجامدة زي القالب الحديد، وأنا من جوه زي ما كون مش في الدنيا ومش حاسس بحد، والناس بيني وبينها حاجز تخين، وكان العيان يبقى جنبي يتألم وأنا مش حاسس بيه، والأطفال الغلابة في الشارع ماكنتش أشوفهم، كنت باشوف ولادي بس. لكن مش ذنبي يا زكية، ماحدش بينفع حد، ماحدش بيوكل ولاد حد، واحد بيجري على ولاده، وولادي ملهمش حد غيري ولازم أضحي عشانهم، انتي أم يا زكية وتقدري تعرفي أد إيه قلب الأم أو الأب بيحب.
زكية : قلب الأم أو الأب هو اللي يحب كل الأطفال زي بعض، إنما ياما أمهات وأبهات يجوعوا ولاد الناس عشان ولادهم ياكلوا ويشبعوا ويتخنوا، ياما أطفال تتعرى وتعيا وتموت عشان أطفال تانية تاكل شيكولاتة وتلبس حرير وكشاكيش، قلب الأم أو الأب هو اللي يتعذب لو شاف أي طفل جعان أو عريان. تعرف يا توفيق، كل الناس فاكرة إن حسن ابني وإني اللي ولدته، لكن الحقيقة إني كنت من أربع سنين راجعة بيتي قبل الفجر بشوية صغيرين، كان عندي نوبتشية في المصنع، الدنيا كانت شتا وبرد.

(يُضيء ركن المسرح المظلم ويُرَى شارع خالٍ في منتصف الليل فيه مصباح نور. الهواء شديد، فتاة تغطي رأسها بشال كبير وتحتضن طفلًا مولودًا ملفوفًا في لفائف كثيرة، تُسرِع الخُطَى وهي تتلفت حولها، يبدو عليها الإرهاق والأسى والخوف والحزن، تُقَبِّل طفلها وتمسح دموعها، ثم تضعه بعناية شديدة في الشارع بجوار جدار. الطفل يبكي وتتركه وهي مترددة، تتلفت خلفها إليه وقلبها متمزق لتركه وحده في الظلام والبرد.

الهواء عاصف. يُسمَع صوت العاصفة، وصوت بكاء الطفل الوليد، موسيقى تصويرية تعبِّر عن الفزع والوحدة والألم والاستغاثة.

تختفي الأم وراء جدار آخَر، تنتظر وتراقب من بعيد ما الذي سيحدث لطفلها.

تبكي وحدها وهي مختفية في الظلام.

العاصفة تهدأ قليلًا، والطفل يكفُّ عن البكاء بعض الوقت. تظهر في الشارع زكية تسير وحدها عائدة إلى بيتها، مرتدية معطفًا صوفيًّا سميكًا.

تتوقَّف حينما ترى الشيء الملفوف، الأم تراقبها من بعيد لتطمئن على طفلها.)

صوت زكية : وأنا بعدي كوبري عباس شفت حاجة صغيرة ملفوفة ومحطوطة على الرصيف، وقفت وبصيت شفت إيد صغيرة وصوابعها صغيرة، مديت إيدي بصيت لقيت الصوابع الصغيرة بتلف حوالين صباعي وتمسكه قوي قوي.

(زكية تحمل الطفل وتحتضنه في صدرها.)

صوت زكية : حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر محمر، وعينيه مدورة، والنني كبير وبيلمع زي فص الألماز، وحسيت إنه ابني، أنا اللي ولدته، ولدته فين وإمتى معرفش، لكن أنا اللي ولدته.

(يُطفأ النور في ركن المسرح. يعود المشهد بين زكية وتوفيق.)

زكية : عمرك ما جالك الإحساس ده؟ عمرك ما وقفت العربية بتاعتك على كوبري عباس وبصيت؟ لو كنت وقفت مرة، ولو كنت بصيت مرة، يمكن كنت عرفت إن كل الأطفال بيتولدوا شكل بعض، كل الناس بتتولد زي بعض، لكن بعد كده بيختلفوا، بينقسموا نوعين، نوع بيتألم والنوع التاني ما بيتألمش، الألم هو الفرق بين إنسان وإنسان، واللي ما عرفش الألم عمره ما يبقى إنسان.
د. توفيق (بصوت متأثر) : أنا فعلًا يا زكية … عمري ما عرفت الألم، كنت باجي لغاية عنده واهرب، حياتي كلها كانت سهلة، أبويا علِّمني وصرف عليَّ في كلية الطب، كنت أرجع ألاقي عشايَ جاهز، سريري جاهز، وبقيت دكتور، ما أعرفش كل حاجة كانت سهلة إزاي، عشان كده كان متهيأ لي إن كل حاجة سهلة والدنيا مفيهاش ألم، حتى لما كنت بسأل العيان وأقوله فين الألم يابويا، ويشاور على صدره أو بطنه، أحط إيدي على جسمه ومحسش الألم. وأنا صغير لما كانوا يغزوا في ذراعي حقنة التطعيم كنت أصرخ من الألم، وأنا فضلت طول عمري أكره أخذ الحقن، أصعب ألم شفته في جسمي هو إبرة التطعيم، لكن لما كنت أغرز الحقنة في ذراع العيان ويشد إيده، استغرب ليه بيشدها، وأقوله ماتشدش إيدك خليك شجاع وخليك راجل، مع إني كنت عارف بعقلي كطبيب إزاي الجسم بيتألم، لكن ماكنتش عارف بإحساسي يعني إيه ألم. العقل سهل يعرف ويتملي معلومات عن أكبر المعضلات اللي في الدنيا والعلوم، سهل إن العقل يتعلم، لكن الإحساس أصعب حاجة إن الإحساس يتعلم، ذنبي إيه إن كل ظروفي كانت سهلة وكويسة، ذنبي إيه يا زكية؟
زكية : كنت لازم تقلق وتدور، كنت لازم تقلق وتحس بنقص اللي عمره ما تألم ويكون إنسان لازم يحس إنه صغير ووحيد وقلقان، لازم يحس إن حياته ناقصة وحاجة في حياته ناقصاه، حاجة في حياته ضايعة ومش لاقيها، حاجة مهمة خالص مش لاقيها، ما يحسش طعم الأكل ولا الشرب ولا النوم، وكل حاجة تبقى من غير طعم، زي الميه الفاترة. فيه ناس تعيش وتسكت وترضى بالعيشة الناقصة وتقول أدحنا عايشين، وفيه ناس تقلق وتدور على الحاجة الضايعة، وتفضل تلف وتدور وتدور، زي الأسد المحبوس جوه القفص، يفضل يدور، ويدور، ويدور، ويفضل حاسس إنه وحيد وإن حواليه سور بيعزله عن غيره، سور تخين وهو جواه وحيد محبوس مخنوق، يفضل يدور ويموت وهو يدور عن إنه يقعد جوه القفص. فيه ناس تموت وهي تدور عن إنها تفضل وحيدة محبوسة، لكن إذا ما ماتتش، إذا قدرت تكسر الباب وتخرج برة، حتلاقي أغلى حاجة في الدنيا، حتلاقي نفسها …
د. توفيق (يقترب من زكية في حب) : دلوقت بس فهمتك، دلوقت بس عرفت ليه أنا كنت باحبك، ليه دونًا من كل الستات كنت باحبك، لما كنت أبص في عينيكي كنت باخاف، ماكنتش باعرف أنا باخاف ليه. ولما تمشي من قدامي أضحك لنفسي وأقول عبيط، ما هي واحدة زي كل الباقيين، لكن لما أشوفك من بعيد أبقى عاوزك تقربي مني عشان أشوف عينيكي وأبص فيها وأعرف أنا باخاف من إيه. كنت دكتور وانتي عاملة في المصنع، عاملة مبهدلة، شعرها منكوش، وفستانها قديم، وجزمتها كعبها متآكل ومعووج، ولما تمشي من قدامي أضحك لنفسي وأقول عبيط، ولكن لما ألمحك من بعيد أبقى نفسي تقربي عشان أشوف عينيكي وأبص فيها وأعرف ليه أنا باخاف، دلوقت بس عرفت إني كنت باخاف من نفسك، نفسك دي اللي لقيتها وماسكاها بديلك وسنانك ومتبتة فيها ومش ممكن تخسريها، نفسك دي اللي كنت باشوفها جوه عينيك من جوه ماقدرش أمسكها، أمسك إيديك وماقدرش أمسكها، أمسك جسمك كله بين إيديا ومقدرش أمسكها. فاكرة الليلة الوحيدة اللي قضناها سوا، ما تتصوريش يا زكية أنا الليلة دي حسيت بإيه، حسيت إنك ممكن تديني كل حاجة، كل حاجة إلا نفسك، حسيت إنك غالية قوي … نفسك غالية قوي، مش ممكن أقدر آخذها، بأي ثمن، أغلى من أي ثمن، أغلى من إنها تتشري أو تتباع بالعملة المتداولة في عالمنا، العملة اللي بتحسب واحد … واحد … اتنين. وخفت يا زكية، لقيت الطريق لك صعب وغالي، واستسهلت واسترخصت، اشتريت مراتي بكل فلوسي وخفت أتجوزك، كنت عاوز مراتي تكون أنيقة ومن عيلة راقية وأبوها مركزه كبير، أنا عرفت دلوقت بس، لكن اتأخرت في التعليم، سامحيني يا زكية لأن أنا اللي خسرت مش انتي، أنا خسرت نفسي (يبكي).

(ظلام)

المشهد الخامس

(المسرح خالٍ ومظلم، موسيقى بطيئة وحزينة، ضوء خفيف يظهر منه مدخل المسرح من ناحية اليمين، يظهر في الضوء تمورجي حاملًا نقَّالة جسم مغطًّى بملاءة، تمورجي آخَر يحمل النقالة من الناحية الأخرى. موسيقى بطيئة حزينة … يخرجان من الناحية اليسرى.

يختفي الضوء ويصبح المسرح مظلمًا تمامًا.

ضوء خفيف يظهر من ناحية اليمين، وامرأة ترتدي السواد تجري بسرعة كالمذهولة ومن خلفها أطفال صغار يجرون خلفها، يخرجون من الناحية اليسرى.

يختفي الضوء، المسرح مظلم وخالٍ.

يُسمَع صوت نحيب مكتوم.

وصرخة طفل صغير يبكي.)

(ظلام)

المشهد السادس

(شهدي راقد في حالة سيئة على الأرض، السجان واقف بعيدًا عنه يراقبه، ابن شهدي طفل واقف أمام والده صامت متألم مطرق الرأس.)

شهدي (يخاطب ابنه بصوت ضعيف) : ماحدش راضي يجيبلي رباط شاش يا ابني، الجرح مفتوح وماحدش راضي يجيبلي رباط شاش، خايفين يجيبوه أقوم أربطه حوالين رقبتي وأموت نفسي، قول لهم يا سعيد أبويا شهدي مش ممكن يموِّت نفسه، أبويا شهدي مش ممكن ينتحر، لو كان عاوز ينتحر كان انتحر من زمان، لكن أنا عاوز أعيش، عاوز أرجع المصنع تاني وأقول للعمال فيه زرقا … انت موطي راسك ليه يا سعيد؟ ارفع ضهرك وارفع راسك يا سعيد، أبوك شهدي محبوس ومضروب لكن مش كداب، ومش حرامي، ومش نصاب، أبوك راجل شريف، تمورجي وغلبان لكن مش كداب، وبيقول الحق … ارفع ضهرك وارفع راسك يا سعيد واوعى تخاف من حد، اوعى تكذب، واوعى إيدك تتمد لحد (السجَّان يقترب من الطفل).
السجان : الزيارة خلاص.

(الطفل يتراجع إلى الوراء تاركًا أباه، يقف لحظةً أمام السجان رافعًا رأسه نحوه، ناظرًا إليه في غضب، ثم يتركه ويخرج …)

(ظلام)

المشهد السابع

(المسرح مظلم وخالٍ.

الطفل سعيد سائر وحده في الشارع.

الأطفال الشحاذون يتجمعون في الشارع ويشحذون من الناس وهم يرقبون ويغنون أغنيتهم السابقة.

الطفل سعيد يقف بعيدًا ينظر إليهم.)

الأطفال (يغنون معًا) :
حَسَنة يا سيد،
حَسَنة يا ست،
احنا غلابة،
ومالناش حد.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
حَسَنة يا سيد،
حَسَنة يا ست.

(أحد المارة يُلْقِي قرشًا على الأرض.

الأطفال يجرون نحوه … الطفل سعيد يعترض طريقهم مغنِّيًا.)

الطفل سعيد (يغني) :
اوعى إيدك تتمد،
ارفع ضهرك،
ارفع راسك،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور،
واوعى تقول:
حَسَنة يا سيد،
أو حَسَنة يا ست.

(يدوس سعيد بقدمه على القرش، يتقدم إليه طفل ممزَّق الثياب نحيل الوجه.)

الطفل (يغني) :
أنا جعان،
أنا عريان،
وماليش حد.
الأطفال (يغنون) :
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
ومافيش حد.
الطفل سعيد (يردد بالغناء) :
أنا معاكم،
وأنا منكم،
بس بقول:
ارفع ضهرك،
وارفع راسك،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور،
واوعى تشحت من حد.
ماتقولش يا سيد،
ماتقولش يا ست،
وقول لأ لأ.
لأ لأ مش ممكن،
مش ممكن أشحت،
حتى لو مت …

(الأطفال يدفعون سعيدًا بعيدًا عن القرش وهم يغنون، يتنافسون على القرش، يأخذه أحدهم في يده ويجري خارج المسرح. الأطفال يجرون وراءه.

الطفل سعيد جالس على الأرض وحده ينظر إليهم في ألم، يُخفِي عينَيْه بيديه ويبكي.)

(ظلام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤