ثانيًا: الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط
كتب كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) «صراع الكليات»، عام ١٧٩٨م، وعمره أربعة وسبعون عامًا، وكان آخر ما كتبه ونشره باسمه بنفسه. ويتضح فيه إخلاص كانط الشديد للمبادئ العامة للفلسفة النقدية التي ظل طيلة حياته يؤسِّسها. وقد كانت هناك ظروف معينة دفعتْه لذلك؛ إذ عندما توفي فردريك الثاني ملك بروسيا الذي كان من أنصار المفكِّرين الأحرار، حدث رد فعل على فلسفة التنوير في ألمانيا. وتحت تأثير الوزير يوحنا كرستوف فولتر (١٧٣٢–١٨٠٠م) اتخذ الملك الجديد فردريك وليم الثاني إجراءات قَهْرية للدفاع عن السلفية (الأورثوذكسية) الدينية، منذ هجمات التنوير عليها، على يد لسنج. وصدر فرمان الدين في ٩ / ٧ / ١٧٨٨م، يمنع أي نقد ضد الدين القائم. ثم صدر قانون آخر في ١٩ / ١٢ / ١٧٨٨م، يكمل الفرمان الأول ضد حرية الصحافة. ثم تأسست لجنة الرقابة على المطبوعات عام ١٧٩٢م.
وإذا أخذنا نظرية كانط في الإرادة، أمكننا معرفةُ بناء كتاب «صراع الكليات»؛ إذ إنه يحتوي على تطبيق لنظرية كانط العملية. فإذا كان الحسُّ السليم هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس عند ديكارت، فإن الاستعدادات الخلقية أيضًا هي كذلك عند كانط. إنما المهم هو معرفة كيفية تنميتها، فالشعب (العامَّة) عادةً ما يفضِّل أن يعيش الحياة ويتمتَّع بها أكثر من أن يسلك طبقًا للقانون الخلقي. ومع ذلك فإن من مصلحة الدولة التي تهدف إلى حكم شعب مسالم أن تقيم مؤسسة غرضها البحث عن الحقيقة العلمية والخلقية، وهذه المؤسسة هي الجامعة. وكلية الفلسفة دون غيرها من الكليات الجامعية هي التي تقع عليها هذه التبعة، وتحقيق هذه الغاية. وهي الكلية التي تقوم بدراسة الآداب والعلوم معًا، حيث تنضمُّ جميعها تحت لواء الفلسفة. وبالرغم من نُبْل هذه الغاية وشرف المقصد، يسمي كلية الفلسفة: الكلية «الدنيا»؛ لأنها بالرغم من أنها تتمتع بحرية البحث، إلا أنها لا تُشارك في السلطة.
ولما كان المجتمع في حاجة، كي يرشد نفسه، إلى قواعد جاهزة، فإنه بالتالي لا يهتم بالبحث العلمي المجرد أو بالمناقشات النظرية الخالصة، وهنا تأتي الحكومة لتتدخَّل من خلال وكلائها وممثليها وموظفيها، وهم رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، لتنظيم شئون الناس العملية. ويتم إعداد هؤلاء في الكليات «العليا»: كليات اللاهوت، والحقوق، والطب. الأولى غايتها تدريس العقائد التي تحتوي عليها الكتب المقدسة وتقرها الكنيسة، والثانية تدرس القانون وحقوق الشعب، والثالثة تدرس قواعد الصحة وطول العمر. وفي هذه الكليات «العليا»، لا بد من موافقة الدولة على المعلومات التي يتلقَّاها الطلاب ويعطيها الأساتذة؛ لأنها تتعلق بالصالح العام، وبنظام الدولة، وبصلة الحكام بالمحكومين. ويمكن القول: إن كلية الطب التي تقوم بدراسة الطبيعة، تتمتَّع باستقلالٍ ذاتيٍّ أكبر من الكليتين الأُخريين.
ويظهر هذا الصراع في صورتين؛ الأولى سيادة التراث الوضعي أو الديني أو القانوني على حساب الجهد الإرادي الفردي وهو الوحيد الجدير بالاحترام؛ وبالتالي ينشأ الصراع بين القديم والجديد، بين التقليد والتجديد، بين الماضي والحاضر؛ والثانية ضرورة خضوع قوانين الكليات ولوائحها، سواء أكان مصدرها التاريخ أم العقل أو الحس، للمراجعة التي هي عمل العقل، أي خضوع الكليات إلى كلية الفلسفة ورفض الأولى ذلك. وعلى هذا النحو تكون الكلية «الدنيا» هي الكلية الأولى لأن لها حق مراجعة الكليات العليا وفحصها. وهذان الجانبان للصراع لا ينتهيان إلا بانتهاء المجتمع ذاته، وسيظلان طالما أن هناك ذهنًا إنسانيًّا، وإبداعًا بشريًّا، وإنتاجًا فكريًّا وأدبيًّا وعلميًّا.
فإذا ما تخلَّص الشعور من قهر السلطة الدينية، والسلطة السياسية على السواء، فإن عليه أن يؤكِّد نفسه في الخارج، وأن يتحرَّر أيضًا من العقبات الاجتماعية؛ وبالتالي تعتمد ممارسات الإرادة على مقدار ما تحققه المؤسسات السياسية من ليبرالية. هناك إذن علاقة بين الجهد الفردي وتكوين المجتمع، بين إرادة الفرد والنظام السياسي، ولكن كيف يمكن إيجاد صيغة مُثْلى لهذه العلاقة؟ هنا يطرح كانط سؤال التقدُّم الذي شغل فلاسفة التنوير. يقول كانط: إن بعضهم يظن أن النوع الإنساني في سقوط لا يمكن تفاديه أو التخلص منه، ويظنُّ بعضهم الآخر أن التقدم حادث ضرورة، يومًا بعد يوم، وكأنه قانون طبيعي، لا يمكن أيضًا تجاوزه، ويظن فريق ثالث أن النوع الإنساني متوقفٌ في مكانه، وأن كل تغييرٍ له عبث. يرى كانط أن هذه الإجابات الثلاث خادعة، ولا تصدقها التجربة. إنما الإيمان بالتقدم لا ينتج إلا من ظهور شرعي لفكرة الحق (القانون). وقد شهد المجتمع حادثة من هذا النوع هي الثورة الفرنسية. وبالرغم من أن كانط يدين تطرُّفها، إلا أنها أيقظت في روح الشعوب حماسًا خالصًا وتفاؤلًا بقرب سيادة القانون وسعادة البشر. لا يهمُّ شكل الحكومة، إنما المهم أن تكون الروح جمهورية، ثم تنتشر هذه الروح شيئًا فشيئًا لدى كل شعوب الأرض، حتى يتم استئصال النزعة العسكرية، ويتم نزع السلاح وإيقاف الحروب، وهي أكبر مانع أمام التقدم الخلقي. لم يكن لدى عصر كانط ما يُسمى بحروب التحرير التي بدأت في هذا القرن، والتي هي من أجل إقرار السلام، وإن كان قد لاحظ أن الحرب هي النتيجة الطبيعية للتعصُّب والقهر والسيطرة. ويهدف كانط إلى أخذ الإنسانية إلى غايتها القصوى ومنتهاها، وهو التنوير الشامل والسلام الدائم. وما تبقَّى من حروبٍ ستساعد حتمًا — بعد أن تتوقف نهائيًّا — على تحقيق غاية الإنسانية هذه. هذا التفاؤل المطلق عند كانط يتفق تمامًا مع روح التفاؤل التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، والتي ظهرت لدى جميع فلاسفة التاريخ الذين عبروا عن روح الثورة الفرنسية.
فإذا ما حقَّق الشعور هاتين الغايتين؛ حرية الفكر، والإرادة المستقلة من أجل تقدم البشرية، تأتي مشكلة البدن التي يعالجها الطبيب، وينشأ الصراع الثالث بين كلية الفلسفة وكلية الطب؛ الأولى تعطي الإرادة والعزيمة الأولوية على أمراض البدن، والثانية تريد أن تجعل «العقل السليم في الجسم السليم». لا يشارك كانط نوفاليس رأيه أن الجسد كله تقوده الروح طبقًا للإرادة؛ فكانط لا يترك أرض الواقع ليحلم مع الرومانسيين، ولكن الإرادة لديه يمكن أن يكون لها دورٌ محمود على الصحة البدنية. إن دور الإرادة في الصحة دورٌ وقائيٌّ خالص. ويتمثل هذا الدور في نظام التغذية الذي يعتبره كانط قريبًا من المبدأ الرواقي. فالبِطْنة هي التحدي الحقيقي للإرادة. ويرى كانط أن الزواج لا يطيل العمر، فيعاديه، وطبَّق ذلك على نفسه، فعاش عَزَبًا. ويعطينا في آخر الكتاب معلوماتٍ عن صحته ونظام التغذية الذي فرضه على نفسه ويعتذر عن عرض آرائه الخاصة والحديث عن نفسه، ولكن المهم هو صدقه في التعبير عن آرائه القائمة على تجارب شخصية. ويسخر كانط من أعداء الفكر الحي، خاصة اللاهوتيين وآباء الكنيسة، ويؤكد إخلاصه للعقل ضد كل انفعال، فكل ما سوى العقل يستحق الإنسان اللوم عليه.
يهدي كانط كتابه إلى أحد الأساتذة في جامعة جوتنجن، ولكنه في الحقيقة يوجِّه كلامه إلى الحكومة المستنيرة التي تخلص العقل الإنساني من قيوده، والتي تدفع كانط إلى التفكير بحريةٍ تامة. ويتضح من كلام كانط أنه يسخر ولا يتملَّق، ويستعمل المدح أسلوبًا للذم، فيصف الملك فردريك وليم الثاني بأنه حاكم شجاع شريف صديق للبشر، ويجد له العذر في سن تلك القوانين ضد الحريات، وأنه إنما فعل ذلك نتيجة نصيحة رجل دين. هذه القوانين هي التي كانت السبب في منع كتاب كانط الأول «الدين في حدود العقل البسيط». ويذكر كانط أجزاء من خطاب الملك له، يتهمه فيه بسوء استعمال الفلسفة لتشويه العقائد الدينية الأساسية في الكتب المقدسة، والنيل منها، وكما سبق له ذلك في «الدين في حدود العقل البسيط»، ويحذِّره من العودة إلى ذلك، ويرجوه الانتباه إلى تربية الشباب، وأن يكون معبرًا بإخلاص وصدق عن مقاصد الحاكم، ويهدده بالعقاب، ويحذره من الوقوع في المستقبل في مثل هذه الأخطاء، ويرد كانط على خطاب الملك، وينشر رده مع الخطاب في مقدمة الكتاب، ويمدحه بأنه شجاع شريف، محب للبشرية، وأن كانط يضع تحت أقدامه برهان خضوعه المتواضع، ويدافع عن نفسه. هل خاف كانط، أم أنه كان يتملَّق، أم أنه مثل ديكارت كان خبيثًا يستعمل المدح في معرض الذم، ويريد لدعوته أن تنجح أفضل من أن يفشل ويموت شهيدًا؟ يرد كانط على الاتهام الأول أنه باعتباره أستاذًا للشباب، فإنه لم يخلط في دروسه بين حقائق المسيحية وحقائق الفلسفة، والدليل على ذلك اعتمادُه على ملخصات باومجارتن التي ليس فيها مادة من الكتاب المقدس، أو العقائد المسيحية، بل مجرد مادة فلسفية خالصة. وباعتبار كانط مربيًا للشباب فإنه لم يورد في كتابه «الدين في حدود العقل البسيط» ما ينال من دين البلاد، بل إنه كتاب غير مفهوم للعامة، مجرد مناقشات أكاديمية غامضة، تخص المؤسسات التعليمية والتي تحرم الدولة نشرها وذيوعها إلى العامة. ليس في الكتاب مدحٌ أو ذمٌّ للمسيحية يرفع من شأنها ولا يقلل منها، بل مجرد بيان للدين الطبيعي والاستشهاد بالنصوص الدينية للبرهنة على بعض العقائد العقلية. ولا ضَيْر أن يتفق العقل مع الوحي، وأن يُعطى الإيمان صفات الشمول والوحدة والضرورة. إن جوهر الدين هو العمل الخلقي، ما يجب أن يكون في مقابل الوحي الذي يعتمد على التاريخ، ليصبح الإيمان في هذه الحالة حادثًا عرضيًّا، زائدًا وزائفًا. مهمة الوحي مهمة خلقية خالصة، والعمل النظري العقلي يكمل بالعمل الخلقي، خاصة فيما يتعلق بتحويل الشر في الإنسان إلى خير، وتجاوز الخطيئة بالخلاص، واعتقاد الإنسان بضرورة الحياة الخيرة. ويؤكد كانط احترامَه الإيمان وعقائد الكتب المقدسة والمسيحية ويثني على الكتاب المقدس باعتباره أفضل دليل مرشد للمحافظة على الدين الوطني القادر على تربية النفوس، وأنه لمن العار توجيه أي اعتراضات أو إثارة أي شكوك حول العقائد النظرية أو الأسرار الإلهية التي ينص عليها الكتاب، سواء في المدارس أم المؤلَّفات، وإن كان يُسمَح بذلك في الكليات وحدها. إن أكبر ثناء على الكتاب المقدس هو اتفاقه مع الإيمان الخُلُقي والعقلي. وعلى هذا النحو يمكن إعادة تأسيس المسيحية، وليس على التعالُم الديني الذي يدل على تزييف المسيحية. ويُرجع كانط في النهاية الموضوعَ كلَّه إلى ضميره، أمام قاضي العالم الذي يعلم ضمائر البشر، وهو في هذه السن المتقدمة، واحدًا وسبعين عامًا.