ثانيًا: الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط

كتب كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) «صراع الكليات»، عام ١٧٩٨م، وعمره أربعة وسبعون عامًا، وكان آخر ما كتبه ونشره باسمه بنفسه. ويتضح فيه إخلاص كانط الشديد للمبادئ العامة للفلسفة النقدية التي ظل طيلة حياته يؤسِّسها. وقد كانت هناك ظروف معينة دفعتْه لذلك؛ إذ عندما توفي فردريك الثاني ملك بروسيا الذي كان من أنصار المفكِّرين الأحرار، حدث رد فعل على فلسفة التنوير في ألمانيا. وتحت تأثير الوزير يوحنا كرستوف فولتر (١٧٣٢–١٨٠٠م) اتخذ الملك الجديد فردريك وليم الثاني إجراءات قَهْرية للدفاع عن السلفية (الأورثوذكسية) الدينية، منذ هجمات التنوير عليها، على يد لسنج. وصدر فرمان الدين في ٩ / ٧ / ١٧٨٨م، يمنع أي نقد ضد الدين القائم. ثم صدر قانون آخر في ١٩ / ١٢ / ١٧٨٨م، يكمل الفرمان الأول ضد حرية الصحافة. ثم تأسست لجنة الرقابة على المطبوعات عام ١٧٩٢م.

وبعد أن نشر كانط «نقد العقل العملي» عام ١٧٨٨م، أصبح موضع شبهة من جديد، ففي ١٤ / ٦ / ١٧٩٢م، منعت الرقابة نشر الجزء الثاني من «الدين في حدود العقل البسيط». ومع ذلك نشره كانط كله عام ١٧٩٣م؛ مما دفع الملك إلى أن يرسل له خطابًا يعنِّفه فيه في ١ / ١٠ / ١٧٩٤م، نشره كانط في مقدمة «صراع الكليات». وقد صمت كانط على الأقل خارجيًّا انصياعًا لأوامر الملك، ولكنه حافظ سرًّا على آرائه. ولم يتنازل عنها. وكان قد عزم على استئناف نشاطه الفلسفي بعد موت الملك. وقد كانت الرقابة هي السبب في تأخُّر نشر «صراع الكليات» الذي يقوم كله على فكرة «حرية الضمير». كتب الجزء الأول في أواخر عام ١٧٩٤م، والثاني قبل نهاية عام ١٧٩٧م. وقد دون الجزء الثالث أخيرًا بمناسبة نشر هوفلاند Hufland كتابًا بعنوان «فن إطالة الحياة» الذي ظهر أولًا في مجلة «الطب العملي» عام ١٧٩٧م. هذا التفاوت في الزمان في نشر المحاولات الثلاث سمح لكانط بإدراك الوَحْدة الداخلية بينها؛ مما جعله يقرِّر إعادة كتابتها من جديد بجرَّة قلمٍ واحدة. ومع ذلك ظلت المحاولات مفككة، تنقصها الوحدة، غير متساوية الأجزاء، ومتفاوتة الأهمية، فبينما بلغت المحاولة الأولى «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت» حوالي ثلثي الكتاب؛ وبالتالي كانت أهمها على الإطلاق، بلغت المحاولتان الأخيرتان الثلث الأخير. وإذا كانت المحاولة الأخيرة في صلب الموضوع، إلا أن المحاولة الثانية «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق» تدرس موضوع التقدم، وليس موضوع الحق أو القانون أو التشريع. والمحاولة الثالثة عن «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب» لا تحتوي على أي مظهر من مظاهر الصراع، وتعتمد على تجارب شخصية، وليس على وضع موضوعات علمية. ولا يرجع السبب في ذلك كما يقول كونوفشر إلى ضعف القوى الذهنية لكانط لكبر سنِّه بل إلى الظروف التي كُتبت فيها المحاولات نفسها.
يظن بعضهم، مثل الشاعر. هينه Heine، أن العمل الأساسي لكانط هو «العقل الخالص» وأن أعماله الأخرى مجرد إضافات زائدة عليه. ووصف «نقد العقل العملي» بأنه مجرد أضحوكة! وهذا غير صحيح على الإطلاق؛ لأن فلسفة كانط أساسًا هي فلسفة إرادة وحرية، وإن «نقد العقل الخالص» ما هو إلا مقدمة لإفساح المجال لكتابه الثاني «نقد العقل العملي». وكما قال كانط نفسه في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»: «كان لزامًا عليَّ هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان.» إن الشك في الظواهر عند كانط، كما هو الحال عند ديكارت وبسكال، مجرد وسيلة لا غاية، وليس وسيلة للاستسلام والتنازل عن الحقيقة، بل لإثبات الاستقلال الذاتي الداخلي في المعرفة والأخلاق للعقل والإرادة في النظر وفي العمل. وهذا لا يمنع وجود فلسفتين متعارضتين لكانط؛ العقلانية (كما هو الحال في المقولات من ناحية)؛ والقانون الخلقي والنزعة الإرادية من ناحية أخرى.

وإذا أخذنا نظرية كانط في الإرادة، أمكننا معرفةُ بناء كتاب «صراع الكليات»؛ إذ إنه يحتوي على تطبيق لنظرية كانط العملية. فإذا كان الحسُّ السليم هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس عند ديكارت، فإن الاستعدادات الخلقية أيضًا هي كذلك عند كانط. إنما المهم هو معرفة كيفية تنميتها، فالشعب (العامَّة) عادةً ما يفضِّل أن يعيش الحياة ويتمتَّع بها أكثر من أن يسلك طبقًا للقانون الخلقي. ومع ذلك فإن من مصلحة الدولة التي تهدف إلى حكم شعب مسالم أن تقيم مؤسسة غرضها البحث عن الحقيقة العلمية والخلقية، وهذه المؤسسة هي الجامعة. وكلية الفلسفة دون غيرها من الكليات الجامعية هي التي تقع عليها هذه التبعة، وتحقيق هذه الغاية. وهي الكلية التي تقوم بدراسة الآداب والعلوم معًا، حيث تنضمُّ جميعها تحت لواء الفلسفة. وبالرغم من نُبْل هذه الغاية وشرف المقصد، يسمي كلية الفلسفة: الكلية «الدنيا»؛ لأنها بالرغم من أنها تتمتع بحرية البحث، إلا أنها لا تُشارك في السلطة.

ولما كان المجتمع في حاجة، كي يرشد نفسه، إلى قواعد جاهزة، فإنه بالتالي لا يهتم بالبحث العلمي المجرد أو بالمناقشات النظرية الخالصة، وهنا تأتي الحكومة لتتدخَّل من خلال وكلائها وممثليها وموظفيها، وهم رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، لتنظيم شئون الناس العملية. ويتم إعداد هؤلاء في الكليات «العليا»: كليات اللاهوت، والحقوق، والطب. الأولى غايتها تدريس العقائد التي تحتوي عليها الكتب المقدسة وتقرها الكنيسة، والثانية تدرس القانون وحقوق الشعب، والثالثة تدرس قواعد الصحة وطول العمر. وفي هذه الكليات «العليا»، لا بد من موافقة الدولة على المعلومات التي يتلقَّاها الطلاب ويعطيها الأساتذة؛ لأنها تتعلق بالصالح العام، وبنظام الدولة، وبصلة الحكام بالمحكومين. ويمكن القول: إن كلية الطب التي تقوم بدراسة الطبيعة، تتمتَّع باستقلالٍ ذاتيٍّ أكبر من الكليتين الأُخريين.

هناك إذن تعارضٌ بين مجموع الكليات العليا وكلية الفلسفة؛ لأن هذه الأخيرة تتمتع، أو على الأقل يجب أن تتمتع، بحرية كاملة في الميدان العلمي، في حين أن الكليات الأخرى غير مُصرَّح لها أن تنحرف عن القواعد المقررة لها، والعلوم المسموح لها بتدريسها. وهذا هو منشأ الصراع بين الكليات: بين العلم الحي والمعطيات الميتة، بين الاستقلال الذاتي للذهن وتبعيته للسلطة، أو بين البحث عن الحقيقة والحقيقة الجاهزة، على ما يقول لسنج.١

ويظهر هذا الصراع في صورتين؛ الأولى سيادة التراث الوضعي أو الديني أو القانوني على حساب الجهد الإرادي الفردي وهو الوحيد الجدير بالاحترام؛ وبالتالي ينشأ الصراع بين القديم والجديد، بين التقليد والتجديد، بين الماضي والحاضر؛ والثانية ضرورة خضوع قوانين الكليات ولوائحها، سواء أكان مصدرها التاريخ أم العقل أو الحس، للمراجعة التي هي عمل العقل، أي خضوع الكليات إلى كلية الفلسفة ورفض الأولى ذلك. وعلى هذا النحو تكون الكلية «الدنيا» هي الكلية الأولى لأن لها حق مراجعة الكليات العليا وفحصها. وهذان الجانبان للصراع لا ينتهيان إلا بانتهاء المجتمع ذاته، وسيظلان طالما أن هناك ذهنًا إنسانيًّا، وإبداعًا بشريًّا، وإنتاجًا فكريًّا وأدبيًّا وعلميًّا.

ويبدو هذا الصراع في ثلاثة جوانب؛ عندما يجد الفيلسوف نفسه في مواجهة اللاهوتي أولًا، والقانوني ثانيًا، والطبيب ثالثًا. وتتفاوت أهمية الصراع في كل جانب، نظرًا لتفاوت أهمية الكليات العليا، بالرغم من أنها تهدف جميعًا إلى خلاص الروح، والخير الاجتماعي، والصحة البدنية. ويرتِّب كانط الكليات هذا الترتيب طبقًا للعقل، وليس طبقًا للنظام الطبيعي الذي يضع الصحة البدنية في البداية، وخلاص الروح في النهاية. يريد كانط أن يبيِّن أهمية الصراع بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، على ما يقول علماء أصول الدين في تراثنا القديم، نظرًا لضرورة الحرص على الاستقلال الذاتي للذهن، والكمال الخلقي للشعور، وقد عاش كانط هذه الأزمة كما يعرض لذلك في أول الكتاب من جراء حظر الأرثوذكسية (السلفية) مؤلفاته وطغيان التفسير الحرفي للكتاب المقدس، ومن هنا نشأت مشكلة قيمة النص الديني، من حيث صحته التاريخية، أو تفسيره لغويًّا أو تطبيقه عمليًّا، من أجل توجيه سلوك الناس. لقد استحسن الكتاب المقدس — في رأي كانط — تكييف الحقائق العملية، طبقًا لتصوُّرات العامة وفهمها الضيق، على ما لاحظ أيضًا لسنج فيلسوف التنوير. إن الذي يهمُّ في الكتاب المقدس إذن هو الأساس الخلقي، الحقيقة العملية التي ترشد الناس في حياتهم العامة. إن أخلاق الكتاب المقدس هي الضمان الوحيد، وهذا ما يجب على الفيلسوف أن يذكِّر به اللاهوتيين الذين يظنُّون أن الإيمان الأعمى بالسلطة الحرفية للكتاب المقدس هو الطريق الوحيد للخلاص، في حين أن الفيلسوف وحده هو القادر على إرجاع كل ما يحتويه الكتاب من روعة وتاريخ ومعرفة إلى العقل. فالعقل هو السلطة الوحيدة اليقينية في موضوع الدين؛ لذلك وجب أيضًا، بالإضافة إلى الصراع ضد وثنية السلفية وتشبيهها وتجسيمها وحرفيتها، ألَّا نحسن الظن بالتصوُّف، أي الاتجاه الانفعالي الوجداني العاطفي في الدين. لا ينبغي أن تخلب لُبَّنا البطولةُ الخلقيةُ التي يمثلها أصحاب مذهب القنوت Pietism مثل شبنر Spener وزنزندورف Zinzendorf لدرجة الخلط بين ما فوق الحس وما فوق الطبيعة. ومما لا شك فيه أن التصوُّف أعلى من السلفية، ولكنه من الناحية العملية ينتهي إلى النتيجة نفسها، أي هزيمة الإرادة؛ إذ إنه ليس هناك دينٌ حقيقي، إلا إذا تأسَّس في «نقد العقل العملي».

فإذا ما تخلَّص الشعور من قهر السلطة الدينية، والسلطة السياسية على السواء، فإن عليه أن يؤكِّد نفسه في الخارج، وأن يتحرَّر أيضًا من العقبات الاجتماعية؛ وبالتالي تعتمد ممارسات الإرادة على مقدار ما تحققه المؤسسات السياسية من ليبرالية. هناك إذن علاقة بين الجهد الفردي وتكوين المجتمع، بين إرادة الفرد والنظام السياسي، ولكن كيف يمكن إيجاد صيغة مُثْلى لهذه العلاقة؟ هنا يطرح كانط سؤال التقدُّم الذي شغل فلاسفة التنوير. يقول كانط: إن بعضهم يظن أن النوع الإنساني في سقوط لا يمكن تفاديه أو التخلص منه، ويظنُّ بعضهم الآخر أن التقدم حادث ضرورة، يومًا بعد يوم، وكأنه قانون طبيعي، لا يمكن أيضًا تجاوزه، ويظن فريق ثالث أن النوع الإنساني متوقفٌ في مكانه، وأن كل تغييرٍ له عبث. يرى كانط أن هذه الإجابات الثلاث خادعة، ولا تصدقها التجربة. إنما الإيمان بالتقدم لا ينتج إلا من ظهور شرعي لفكرة الحق (القانون). وقد شهد المجتمع حادثة من هذا النوع هي الثورة الفرنسية. وبالرغم من أن كانط يدين تطرُّفها، إلا أنها أيقظت في روح الشعوب حماسًا خالصًا وتفاؤلًا بقرب سيادة القانون وسعادة البشر. لا يهمُّ شكل الحكومة، إنما المهم أن تكون الروح جمهورية، ثم تنتشر هذه الروح شيئًا فشيئًا لدى كل شعوب الأرض، حتى يتم استئصال النزعة العسكرية، ويتم نزع السلاح وإيقاف الحروب، وهي أكبر مانع أمام التقدم الخلقي. لم يكن لدى عصر كانط ما يُسمى بحروب التحرير التي بدأت في هذا القرن، والتي هي من أجل إقرار السلام، وإن كان قد لاحظ أن الحرب هي النتيجة الطبيعية للتعصُّب والقهر والسيطرة. ويهدف كانط إلى أخذ الإنسانية إلى غايتها القصوى ومنتهاها، وهو التنوير الشامل والسلام الدائم. وما تبقَّى من حروبٍ ستساعد حتمًا — بعد أن تتوقف نهائيًّا — على تحقيق غاية الإنسانية هذه. هذا التفاؤل المطلق عند كانط يتفق تمامًا مع روح التفاؤل التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، والتي ظهرت لدى جميع فلاسفة التاريخ الذين عبروا عن روح الثورة الفرنسية.

فإذا ما حقَّق الشعور هاتين الغايتين؛ حرية الفكر، والإرادة المستقلة من أجل تقدم البشرية، تأتي مشكلة البدن التي يعالجها الطبيب، وينشأ الصراع الثالث بين كلية الفلسفة وكلية الطب؛ الأولى تعطي الإرادة والعزيمة الأولوية على أمراض البدن، والثانية تريد أن تجعل «العقل السليم في الجسم السليم». لا يشارك كانط نوفاليس رأيه أن الجسد كله تقوده الروح طبقًا للإرادة؛ فكانط لا يترك أرض الواقع ليحلم مع الرومانسيين، ولكن الإرادة لديه يمكن أن يكون لها دورٌ محمود على الصحة البدنية. إن دور الإرادة في الصحة دورٌ وقائيٌّ خالص. ويتمثل هذا الدور في نظام التغذية الذي يعتبره كانط قريبًا من المبدأ الرواقي. فالبِطْنة هي التحدي الحقيقي للإرادة. ويرى كانط أن الزواج لا يطيل العمر، فيعاديه، وطبَّق ذلك على نفسه، فعاش عَزَبًا. ويعطينا في آخر الكتاب معلوماتٍ عن صحته ونظام التغذية الذي فرضه على نفسه ويعتذر عن عرض آرائه الخاصة والحديث عن نفسه، ولكن المهم هو صدقه في التعبير عن آرائه القائمة على تجارب شخصية. ويسخر كانط من أعداء الفكر الحي، خاصة اللاهوتيين وآباء الكنيسة، ويؤكد إخلاصه للعقل ضد كل انفعال، فكل ما سوى العقل يستحق الإنسان اللوم عليه.

وقد استمر تلاميذ كانط في محاولة أستاذهم بالرغم من الهجوم عليه، وعلى تلك الثنائية التي تعتصر فلسفته وهذا الصراع بين الأطراف والتناقض أو التقابل بينها، كما هو واضح من العنوان «صراع الكليات». لقد حاولت الرومانسية التي وقع فيها التلاميذ تجاوز الثنائية إلى الوحدة، فابتلعت الذاتُ الموضوعَ عند فشته، وابتلع الموضوعُ الذاتَ عند شلنج. وقد عالج كلٌّ منهما من خلال مذهبه الفلسفي مشكلة التعليم، فكتب فشته «رسالة العلم»، كما كتب شلنج «دروس في منهج الدراسات الأكاديمية»، ولكن الحلول التي أتوا بها كانت وقتيةً لعلاج بعض الموضوعات الزمنية، ولكن الدرس المستفاد من الأستاذ هو أن الجامعة ليست مجرد مكان لتجميع العلوم دون أي علاقة بينها، بل يجب أن تتجه كلها نحو غاية واحدة هي الحقيقة. يجب أن يسود الجامعة النشاط العقلي الحر دون أي عقبات من التقاليد أو الأعراف. ولا يجب أن ننسى روح المذهب، تلك البؤرة التي يشعُّ منها نور العلم. ليس البحث عن الحقيقة وظيفة كلية الفلسفة وحدها كما يقول الأستاذ، بل إنها رسالة الجامعة كلها كما يقول التلاميذ.٢

يهدي كانط كتابه إلى أحد الأساتذة في جامعة جوتنجن، ولكنه في الحقيقة يوجِّه كلامه إلى الحكومة المستنيرة التي تخلص العقل الإنساني من قيوده، والتي تدفع كانط إلى التفكير بحريةٍ تامة. ويتضح من كلام كانط أنه يسخر ولا يتملَّق، ويستعمل المدح أسلوبًا للذم، فيصف الملك فردريك وليم الثاني بأنه حاكم شجاع شريف صديق للبشر، ويجد له العذر في سن تلك القوانين ضد الحريات، وأنه إنما فعل ذلك نتيجة نصيحة رجل دين. هذه القوانين هي التي كانت السبب في منع كتاب كانط الأول «الدين في حدود العقل البسيط». ويذكر كانط أجزاء من خطاب الملك له، يتهمه فيه بسوء استعمال الفلسفة لتشويه العقائد الدينية الأساسية في الكتب المقدسة، والنيل منها، وكما سبق له ذلك في «الدين في حدود العقل البسيط»، ويحذِّره من العودة إلى ذلك، ويرجوه الانتباه إلى تربية الشباب، وأن يكون معبرًا بإخلاص وصدق عن مقاصد الحاكم، ويهدده بالعقاب، ويحذره من الوقوع في المستقبل في مثل هذه الأخطاء، ويرد كانط على خطاب الملك، وينشر رده مع الخطاب في مقدمة الكتاب، ويمدحه بأنه شجاع شريف، محب للبشرية، وأن كانط يضع تحت أقدامه برهان خضوعه المتواضع، ويدافع عن نفسه. هل خاف كانط، أم أنه كان يتملَّق، أم أنه مثل ديكارت كان خبيثًا يستعمل المدح في معرض الذم، ويريد لدعوته أن تنجح أفضل من أن يفشل ويموت شهيدًا؟ يرد كانط على الاتهام الأول أنه باعتباره أستاذًا للشباب، فإنه لم يخلط في دروسه بين حقائق المسيحية وحقائق الفلسفة، والدليل على ذلك اعتمادُه على ملخصات باومجارتن التي ليس فيها مادة من الكتاب المقدس، أو العقائد المسيحية، بل مجرد مادة فلسفية خالصة. وباعتبار كانط مربيًا للشباب فإنه لم يورد في كتابه «الدين في حدود العقل البسيط» ما ينال من دين البلاد، بل إنه كتاب غير مفهوم للعامة، مجرد مناقشات أكاديمية غامضة، تخص المؤسسات التعليمية والتي تحرم الدولة نشرها وذيوعها إلى العامة. ليس في الكتاب مدحٌ أو ذمٌّ للمسيحية يرفع من شأنها ولا يقلل منها، بل مجرد بيان للدين الطبيعي والاستشهاد بالنصوص الدينية للبرهنة على بعض العقائد العقلية. ولا ضَيْر أن يتفق العقل مع الوحي، وأن يُعطى الإيمان صفات الشمول والوحدة والضرورة. إن جوهر الدين هو العمل الخلقي، ما يجب أن يكون في مقابل الوحي الذي يعتمد على التاريخ، ليصبح الإيمان في هذه الحالة حادثًا عرضيًّا، زائدًا وزائفًا. مهمة الوحي مهمة خلقية خالصة، والعمل النظري العقلي يكمل بالعمل الخلقي، خاصة فيما يتعلق بتحويل الشر في الإنسان إلى خير، وتجاوز الخطيئة بالخلاص، واعتقاد الإنسان بضرورة الحياة الخيرة. ويؤكد كانط احترامَه الإيمان وعقائد الكتب المقدسة والمسيحية ويثني على الكتاب المقدس باعتباره أفضل دليل مرشد للمحافظة على الدين الوطني القادر على تربية النفوس، وأنه لمن العار توجيه أي اعتراضات أو إثارة أي شكوك حول العقائد النظرية أو الأسرار الإلهية التي ينص عليها الكتاب، سواء في المدارس أم المؤلَّفات، وإن كان يُسمَح بذلك في الكليات وحدها. إن أكبر ثناء على الكتاب المقدس هو اتفاقه مع الإيمان الخُلُقي والعقلي. وعلى هذا النحو يمكن إعادة تأسيس المسيحية، وليس على التعالُم الديني الذي يدل على تزييف المسيحية. ويُرجع كانط في النهاية الموضوعَ كلَّه إلى ضميره، أمام قاضي العالم الذي يعلم ضمائر البشر، وهو في هذه السن المتقدمة، واحدًا وسبعين عامًا.

أما بالنسبة للموضوع الثاني، وهو التزام كانط — كما يطلب الملك — بعدم العودة إلى مثل هذه الكتابات، فإن كانط يستسلم في الظاهر مؤكِّدًا أنه أكثر الرعايا إخلاصًا لسمو الملك، وأنه سيتوقَّف عن أي عرضٍ للدين الطبيعي أو لدين الوحي للجماهير، في دروسه أو في كتاباته، على عكس عادة فلسفة التنوير في فرنسا التي تحوَّلت إلى ثقافةٍ شعبية جماهيرية، فجنَّدت الجماهير حتى انطلقت الثورة. وبالرغم من أن كانط على يقين من العواقب الوخيمة الناشئة عن إبعاد الإيمان عن العقل، إلا أنه يَعِد بفعل ذلك. ويبيِّن إحدى هذه العواقب، وهي هروب التلاميذ إلى كلية الحقوق، هربًا من لجنة الإيمان التي تفحص إيمان الطلاب، وتفتش في ضمائرهم عند التحاقهم بكلية اللاهوت، بالرغم من أنهم لم يُدركوا مدى النفع في كلية الحقوق إلا فيما بعد. أما الذين يُقبلون في كلية اللاهوت، فإنه يجب عليهم التوبة أولًا أو طلبها. ويدعو كانط إلى توقُّف أعمال مثل هذه اللجنة تحقيقًا للصالح العام، وللخير الاجتماعي، ولصالح العلم الذي أقيمت لأجله المدارس والمعاهد والجامعات. وينهي كانط خطابه للملك بالتأكيد على ثقته بحكمة الحكومة، وعلى رأسها مثل هذا الحاكم المستنير الذي يريد تقدُّم العلوم كلها، وليس اللاهوت وحده، ويبغي تقدم الحضارة ضد كل مظاهر التعتيم والتعمية.٣
١  لسنج، «تربية الجنس البشري»، ترجمة الدكتور حسن حنفي، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٢  E. Kant: Le Conflit des Faculties, Paris: Vrin, 1955, Trad, I. Gibelin, p. VII–XVIII.
٣  Ibid., p. 3–11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤