رابعًا: الأشكال الأدبية عند ديبليوس

يحدد ديبليوس الأشكال الأدبية في خمس، هي:
  • (١)
    النموذج Das Paradigm: وهي رواية حية جامعة تحتوي على مفارقات قصيرة وتهدف إلى إبراز جملة لعيسى أو عمل له في غياب التفصيلات التي لا فائدة منها وغياب أسماء الأعلام والمواقف المعينة في الزمان والمكان، وغياب رسم التشخيصات، وعدم وجود جوقة تسترعي انتباه المستمعين والمشاهدين. وكل ذلك بهدف التركيز على شخص عيسى، فقوله وفعله في صلب الإيمان الكنسي. ثم تنهي الجوقة الرواية برد فعل الجماعة على المشهد. ويتخلَّل النموذجَ حواران أو ثلاثة حول موضوع واحد. وكل منها يتكون من رواية مستقلة مركزة حول قول لعيسى الذي يحول السؤال الخاص في موضع خاص إلى إجابة مبدئيةٍ عامة. وأحيانًا يجعل عيسى إجابة المحاور إجابته الخاصة كما هو الحال في قصة امرأة كنعان. وأحيانًا يسبق القول إعلانٌ تمهيدي لتأكيد المعنى وتقويته. ويختم عيسى الحوار بقولٍ له أو تعليقٍ لتعليم التلاميذ أو لتكملة المثال. ولا يُشار إلى المحاورين إلا بطريقة غير شخصية مثل «البعض» أو باسم جمع مثل «الفريسيين» أو «الكَتَبة». وإذا كان المحاور متحدثًا رسميًّا باسم جماعة يجيبه عيسى مخاطبًا الجماعة كلها (باستثناء فقرة الغداء عند شمعون والحوار حول أعظم الوصايا). وإذا كانوا أصدقاء عيسى فتغيب التفصيلات مثل أقواله حول مارته ومريم. النموذج إذن شكل أدبي وعمل فني له منظر setting، وبه فعل action، وينتهي إلى حكمةٍ أو قولٍ مأثور. ويحدد ديبليوس للنموذج خمس خصائص: الاستقلال عن السياق الأدبي، الإيجاز والبساطة بسبب استعماله في الوعظ، الأسلوب واللون الديني دون الأدبي، الأسلوب التعلُّمي الذي يبرز أقوال عيسى، النهاية بفكرة مفيدة للوعظ أو حكمة لعيسى أو فعل منه أو رد فعل للمشاهدين. وهي مناظر قصيرة (من خمس إلى ثماني آيات) أطولها مناقشة عيسى مع الفريسيين وأقصرها رفضه إجراء المعجزات. وتحتوي على أقدم أسلوب للرواية المسيحية لذلك يسميها الأولى. ولما كان التبشير شهادة عيان تظل قيمتها التاريخية كبيرة. ويضع ديبليوس قانونًا عامًّا لضبط صحتها التاريخية كالآتي: «كلما كانت الرواية قريبةً من الوعظ كانت صحيحة تاريخيًّا.» ومن المستبعد تغييرها إلى روايات أدبية رومانسية خيالية خالصة. ويضرب المثل على ذلك بروايات الجزية (مرقص، ١٢: ١٣–١٧).١
  • (٢)
    القصة (Tale, Novel) Die Nouvelle: وهي رواية مختلطة تفصِّل عن قصد ردود فعل الدهماء تجاه عيسى الذي يعيد ابنة زائير إلى الحياة. فتعطي الرقم الصحيح بمناسبة تكاثر الخبز. كما أنها تصوغ حوارًا بين عيسى ومساعديه، ولكن أقوال عيسى تفقد أهميتها أمام الرواية ذاتها ووصف المناظر وسرد الحوادث. وهي تدور حول معجزات عيسى في معظمها. ولم تنشأ في صورتها الحالية من الوعاظ بل من الرواة والمعلمين الذين رووا قصة حياة عيسى بمزيدٍ من التصوير وإن لم يكن بفن. ومع ذلك يظهر الأسلوب الأدبي في الرواية أكثر مما يظهر في النموذج. تأتي أولًا قصة المرض ثم «تكنيك» المعجزة، وأخيرًا نجاح الفعل المعجز. فالقصة تنتمي إلى أسلوب أدبي أرقى من النموذج. وهي تشبه النموذج فقط في أنها روايات فردية كاملة في ذاتها، ولكنها تختلف معها بعد ذلك. فالقصة أطول من النموذج، وتحتوي على وصف تفصيلي موسع من وضع الراوي أو المعلم الذي يعشق فنه ويحب ممارسته. ولا يوجد بها مواعظ دينية لأنها في رأي ديبليوس لم تكن في التبشير، ولم يكن لها وضعٌ مركزي في الكنيسة، وكانت أقرب إلى الروايات الدنيوية ذات الطابع البراجماتي. لم تكن غايتها تعليمية مثل النموذج؛ ولذلك تتناقض فيها أقوال عيسى ذات القيمة العامة أو لا تنتهي إلى أي نتيجة. وقد نشأت القصة كشكل أدبي عند ديبليوس من ثلاثة طرق؛ الطريق الأول: تطويل النماذج خارج سياق الوعظ؛ فقد اعتاد الرواة والمعلمون القصص طبقًا لروايات المعجزات أو بأسلوب المفارقات الشائعة. فقدَّموا مضمون المعجزة وجعلوه أكثر غنًى من النموذج، واستعملوا كل عناصر الرواية لجعل القصة أكثر حياة وغنى. والثاني: تقديم بواعث خارجية ربما غريبة على النماذج الأولى إذ يشعر ديبليوس مثلًا أن قصة سير عيسى على الماء (مرقص، ٦: ٤٥–٥٢، متى، ١٤: ٢٢-٢٣) ربما نشأت من دخول باعث التجلِّي الإلهي على الأرض في رواية بدائية عن عيسى وهو يساعد الناس في موقف صعب مثل هبوب عاصفة وشدة الرياح وهياج الأمواج. أما الطريق الثالث: فاستعارة مواد خارجية من الآداب الشعبية أو الدينية القديمة، وفي هذه الحالة كانت تؤخذ القصة كلها. وفي الأدب الهليني هناك قصص مشابهة تم استبدالها بالأساطير وتختفي فيها الحدود بين الله والمبعوث الإلهي. وأول قصة في مرقص شفاء الأبرص (مرقص، ١: ٤٠–٤٥).٢
  • (٣)
    الحكاية الخيالية Die Legende: وهي رواية دينية حول قديسٍ اهتم الناس بأعماله وبمصيره. ظهرت في الكنيسة تلبية لرغبة مزدوجة؛ الرغبة في معرفة شيء عن الفضائل الإنسانية وعن كثير من القديسين رجالًا ونساءً في قصة عيسى؛ والرغبة التي تطوَّرت بعد ذلك لمعرفة عيسى ذاته على هذا النحو كما هو واضح في قصة المسيح عندما كان عمره اثني عشر عامًا (لوقا، ٢: ٤١–٤٩) التي تكشف بوضوحٍ عن سِمات الحكاية الخيالية. وهي تربط بين النموذج والقصة كنقيضين. فبينما النموذج صياغة مسيحية من أجل التربية الدينية، والقصة تعبير عن العالم المحيط بأسلوب دنيوي، فإن الحكاية الخيالية مقولةٌ من الأدب الشعبي ومن العالم المحيط أيضًا ولكنها ليست دنيوية تمامًا بل تهدف إلى التربية الدينية، أي أنها قصة دينية تُروى في موالد القديسين والأولياء، يظهر فيها الاهتمام بالأسباب مثل الاهتمام بالحياة الشخصية وهو ما يفرقها عن الحكايات الخيالية في الأدب الشعبي. ويتضح ذلك في رواية الآلام فهي حكاية خيالية للعبادة بالمعنى السببي من أجل تمثيل الحوادث المؤلمة لإدانة عيسى وموته، يجد فيها المستمع أو القارئ التعبير عن الإرادة الإلهية التي هي السبب في تعظيم المسيحيين لهذه الآلام. تطورت القصة وأصبحت قصة خيالية شخصية تروي أعمال إنسان وتجاربه التي بسببها يعظمه الله ويخصه بقدر خاص. يقوم بالمعجزات، ويصالح الأعداء، ويستأنس الحيوانات، وتقوده الأزمات والمخاطر في النهاية إلى الخلاص. وفي شهادته تظهر آيات الفضل الإلهي. فإذا كان النموذج يتميَّز بنقصٍ في التصوير، والقصة بمزيدٍ من التفصيلات حول الأفعال دون تصوير الشخصيات، فإن الحكاية الخيالية تتناول المصير البشري، والإنسان آية من آيات الله. وإذا كان النموذج والقصة يتعاملان مع الله بعد أن أصبح إنسانًا فإن الحكاية الخيالية تتعامل مع الإنسان الذي في طريقه لأن يصبح إلهًا. ومن الطبيعي أن الحكاية الخيالية لم تقع تاريخًا. ويعترف ديبليوس أن اهتمامات الراوي الدينية قد تؤدي إلى التركيز على المعجزة على نحوٍ لا تاريخي وإلى تعظيم البطل وإلى تحوُّلات أشكال حياته transfiguration ومظاهر تجليها. ومع ذلك من الخطأ إنكار المضمون التاريخي لكل حكاية خيالية على الرغم من عدم اهتمام الراوي بالتأكيد التاريخي وعدم معارضته لأية زيادة في المادة عن طريق الأمثلة المتشابهة في الأدب اليهودي وفي آداب الشرق القديم، مثل قصة بوذا. وفي كل هذا النوع من الأدب تنطبق قوانين «البيوجرافيا».٣
  • (٤)
    القول (saying, exhortations) Die paranese: بالرغم من تأكيد ديبليوس على مادة الرواية في الأناجيل المتقابلة فإنه يتناول أيضًا أقوال عيسى نظرًا لحاجة التبشير له في التعليم الديني. وكما أخذ اليهود الحياة العصرية في زمان عيسى قواعد لهم للحياة والعبادة على نحوٍ أكثر جدية من أخذهم التراث التاريخي واللاهوتي، كذلك تناول المسيحيون أقوال عيسى بجديةٍ أكثر مما تناولوا الروايات. كانت الأقوال مهمةً لتناولها الحياة المسيحية وطرق العبادة. نقل المعلمون الأوائل البشارة الأولى مملوءة بأقوال عيسى، فقد كانت معتبرة إلهامًا من الروح القدس أو من الرب، وكانت البشارة كلها في الرب إن لم تكن من الرب. ثم اعترَتْها بعض التغيرات عندما ركز التراث على طابع الوعظ والإرشاد والتعليم للأقوال. فتغيَّرت معاني الكلمات التي لم يكن لها هذا الطابع من قبل. كما ظهر ميل جديد لإدخال أقوالٍ حول طبيعة المسيح من أجل الحصول من الأقوال ليس فقط على قواعد الحياة الشخصية لحياة الإنسان، بل لاستنباط بعض الإشارات حول طبيعة الشخص الذي تفوه بها. وسارت الكنيسة في هذا التيار إلى أبعد حد. هذه الأقوال هي التي فضَّلها مرقص في إنجيله دون الروايات. وهنا تأتي الأمثال parables لتصوير معاني الأقوال.٤
  • (٥)
    الأسطورة Der Mythus: هي رواية تقص أفعالًا من طرف واحد، وهو الله، على عكس النموذج الذي يحتوي على أقوال المعلم دون أقوال الله أو أفعاله. وتصوغ حياة الشخص في صورة إلهية فيأتي التألُّم بأمر إلهي ويُبعث من جديد بأمر إلهي إلى عظمة إلهية جديدة. والأساطير في الأناجيل المتقابلة قليلة يحددها ديبليوس في ثلاث؛ معجزة العماد (مرقص، ١: ١–١١)، وامتحان عيسى (مرقص، ١: ١٢-١٣)، والتجلِّي الإلهي (مرقص، ٩: ٢–٨). وتختلف الأناجيل فيما بينها فيما يتعلق بهذا الجانب الأسطوري. فإنجيل مرقص أسطوري من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. ولم يظهر نص بعث المسيح في الأناجيل حتى ظهور إنجيل بطرس. بل إن هناك نقصًا في التمثيل الأسطوري فيما يتعلَّق بقدوم المسيح على الأرض، إذ إن له أمًّا وأسرةً وميلادًا وأقارب وأصدقاء. ولا يعني ذلك أن عيسى أسطورة، فالنماذج لا تتحدث عن بطل أسطوري. ويؤكد ديبليوس أن قصة عيسى ليست أسطورية في نشأتها لأن النماذج الأولى وهي أقدم الشواهد على عملية تكوين التراث، لا تُعطينا أي بطل أسطوري. بل نشأت الأساطير حول المسيح متأخرة عن تكوين الأناجيل وتحت أثر رسائل بولس؛ فبولس هو مؤسس أسطورة المسيح. ولها ما يشابهها في العهد القديم مثل صعود إلياس إلى السماء، وفي التراث الهليني في فداء الله أو نصف الإله. وقد تحول كثير من هذه الأساطير إلى أساطير مسيحية مثل ابن الإله والبعث.٥
١  وكذلك يشير ديبليوس إلى النماذج الآتية: مرقص، ٢: ١–١٢، ١٨–٢٢، ٢٣–٢٨، ٣: ١–٥، ٢٠–٣٠، ٣١–٣٥، ١٣–١٦، ١٢، ١٣–١٧، ١٤: ٣–٩. كما يشير إلى نماذج أخرى أقل وضوحًا مثل مرقص، ١: ٢٣–٢٧، ١٣–١٧، ٦: ١–٦، ١٠: ١٧–٢٢، ٣٥–٤٠، ٤٦–٥٢، ١١: ١٥–١٩، ١٢: ٢٣، لوقا، ٩: ٥١–٥٦، ١٤: ١–٦.
٢  ويعطي ديبلوس القصص الآتية من الوحدات الآتية: مرقص، ٤: ٣٥–٤١، ٥: ١–٢٠، ٢١–٤٣، ٦: ٣٥، ٤٥–٥٢، ٧: ٣٢–٣٧، ٨: ٢٢–٢٦، ٩: ١٤–٢٩، لوقا، ٧: ١١–١٦، انظر أيضًا: Dibilius, From Tradition …, 70–103; Fuller, Critical …, p. 78; E. V. McKnight, op. cit., 22-23.
٣  ويعطي ديبليوس أمثلةً من حكايات امرأة بيلاطوس والعثور على حمار، والعثور على غرفة في العشاء الأخير، ولادة عيسى وعذرية مريم. انظر: Dibilius, From Tradition …, pp. 104–132. McKnight, op. cit., 24; Hoffmann, op. cit., p. 168.
٤  Dibilius, From Tradition …, pp. 233–265; McKnight, op. cit., pp. 24-25.
٥  Dibilius, From Tradition …, pp. 266–286; McKnight, op. cit., p. 24.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤