مقدمة

إن نظراتنا في الحياة وفي المجال «الفلسفي» وليدة عاملين؛ أولهما: الآراء الدينية والخلقية الموروثة. وثانيهما: ذلك الضرب من طرائق البحث الذي يصح أن يوصَف بأنه بحثٌ «علمي» مطلقِين هذه الكلمة بأوسع معانيها. ولقد اختلف الفلاسفة فيما بينهم اختلافًا بعيد المدى، بسبب اختلافهم في نسبة هذين العاملين أحدهما إلى الآخر، حين ألغَوا منها مذاهبهم، على أن وجود العاملَين جنبًا إلى جنب هو الذي يسم الفلسفة ببعض ما تتسم به من طابعٍ خاص.

وكلمة «الفلسفة» قد أُطلِقَت على سبلٍ شتى، تختلف اتساعًا وضِيقًا، وأنا الآن أعرضها بمعنًى واسع جدًّا، سأُحاول أن أوضِّحه فيما يلي:

فأُحب أن أفهم «الفلسفة» على أنها وسطٌ بين اللاهوت والعلم؛ فهي تُشبِه اللاهوت في كونها مؤلَّفةً من تأملات في موضوعات لم تبلغ فيها بعدُ علم اليقين، لكنها كذلك تُشبِه العلم في أنها تخاطب العقل البشري أكثر ممَّا تستند إلى الإرغام، سواء كان ذلك الإرغام صادرًا عن قوة التقليد أو قوة الوحي. والعلم — فيما أرى — هو الذي يختص بالعلم اليقين، أمَّا اللاهوت فاعتماده على صلابة الإيمان، ومجاله هو الجوانب التي تجاوز حدود المعرفة اليقينية. على أنك واجدٌ بين اللاهوت والعلم «منطقة حرة» حلالًا للطرفين جميعًا؛ فهي معرض لهجمات الفريقين معًا، وهذه «المنطقة الحرة» هي الفلسفة؛ فيكاد معظم المسائل التي لا يستطيع العلم أن يجيب عنها، والتي تستثير اهتمام العقول المتأملة أكثر ممَّا يستثيرها أي شيءٍ آخر، أن تكون من القبيل الذي لا يستطيع العلم أن يجيب عنه. على أن الإجابات التي أجاب بها رجال اللاهوت فيما مضى عن تلك المسائل، والتي كانت تبعث الرضى في النفوس، لم تعد تُقنعنا كما أقنعَت أسلافنا، ومن أمثلة هذه المسائل ما يلي: أيكون العالم منقسمًا إلى عقلٍ ومادة؟ وإن كان كذلك، فما العقل وما المادة؟ هل العقل تابعٌ للمادة أم إنه ينفرد بقوًى خاصة به؟ أفي الكون وحدة تربط أجزاءه وهدف ينشده؟ هل يتطوَّر الكون ساعيًا نحو غايةٍ معينة؟ أحقًّا هنالك في الطبيعة قوانين، أم إننا نؤمن بوجود القوانين في الطبيعة إرضاءً لرغبتنا الفطرية في النظام؟ تُرى هل يكون الإنسان كما يراه عالم الفلك؛ قطعةً ضئيلة من الكربون المشوب مخلوطًا بماء، يزحف عاجزًا على كوكبٍ صغير غير ذي خطر؟ أم يكون الإنسان كما رآه هاملت؟ أم لعله مزيج من الجانبين معًا؟ هل للعيش أسلوب شريف وأسلوب وضيع، أم إن أساليب العيش كلها عبث لا يختلف فيها أسلوب عن أسلوب؟ وإن كان هنالك أسلوب من العيش شريف، فما عناصره وكيف لنا أن نحياه؟ ألَا بد للخير أن يكون خالدًا لكي يكون جديرًا عندنا بالتقدير، أم الخير حقيق منا بالسعي وراءه حتى إن كان الكون صائرًا إلى فناءٍ محتوم؟ هل تمَّت ما يجوز تسميته بالحكمة، أم إن ما يبدو أمام أعيننا حكمة إن هو إلا حماقة تهذَّبت إلى الدرجة القصوى من التهذيب؟

تلك أسئلة لا تستطيع الجواب عنها في المعامل؟ وقد تقدَّمت لنا مذاهب اللاهوت بإجاباتٍ قطعت فيها برأيٍ حاسم أكثر ممَّا يجوز لإنسانٍ أن يقطع ويحسم، فكان حسمها ذاك هو نفسه الذي حدا بالعقل الحديث أن ينظر إلى تلك الإجابات بعين الريبة، ومهمة الفلسفة هي دراسة هذه المسائل، إن لم نَقُل إن مهمتها هي الإجابة عنها.

وقد تسأل قائلًا: فيمَ إذن ضياع الوقت في أمثال هذه المسائل التي لا سبيل إلى حلها؟ ويستطيع المجيب عن هذا السؤال أن يجيب باعتباره مؤرخًا، أو باعتباره فردًا تروعه وحشة الكون.

وفي هذا الكتاب جواب المؤرخ، سأعرضه في غضونه ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، فمذ أصبح الإنسان قادرًا على التأمل الحر بدأت أفعاله — من نواحٍ كثيرة — هامة — تنبني على ما يرتئيه من آراءٍ في العالم وفي الحياة الإنسانية، وفيما هو خير وما هو شر، وهذا صحيح بالنسبة إلى يومنا الراهن صحته في أي وقت مضى، فلستَ بمستطيع أن تفهم عصرًا من العصور أو أمةً من الأمم، إلا إذا فهمتَ فلسفتها، ولكي تفهم فلسفتها، ينبغي أن تكون فيلسوفًا إلى حدٍّ ما؛ فها هنا ترى سببيةً متبادلة بين الطرفين! فظروف الحياة التي يحياها الناس لها أثرها البالغ في تكوين فلسفتهم، لكن العكس كذلك صحيح، وهو أن فلسفتهم تؤثر أثرًا بالغًا في ظروف حياتهم، وهذا التفاعل الذي امتدَّ ما امتدت القرون، هو موضوع ما يلي من صفحات.

على أن ثمت جوابًا آخر هو أكثر من جواب المؤرخ مسًّا لنفس المجيب؛ فالعلم ينبئنا بما نستطيع العلم به، لكن ما نستطيع العلم به نزر يسير، وإذا نحن أنسيناكم هنالك ممَّا لا نستطيع معرفته، فإننا نفقد حساسيتنا بالنسبة إلى أشياء كثيرة هي من الخطورة بمكانٍ جد عظيم. أمَّا اللاهوت فتراه من ناحيةٍ أخرى يحملنا على إيمانٍ أعمى بأننا نعلم شيئًا عن جوانب نحن في الواقع جاهلون بها. وهو ببثه هذه العقيدة في نفوسنا، يولِّد فينا نوعًا من القحة الذميمة إزاء الكون. نعم إن امتناع اليقين — حين تحيط بنا الآمال والمخاوف بكل ما لها من قوة — أمرٌ أليم، لكن لا مناص لنا من احتماله إذا أردنا أن نعيش على غير سندٍ من الخيال الجامح الذي يبعث الطمأنينة في النفوس؛ فليس من الخير أن ننسى المسائل التي تُثيرها الفلسفة، ولا من الخير أن نحمل أنفسنا على العقيدة بأننا وجدنا حلول تلك المسائل على نحوٍ لا يأتيه الشك أبدًا؛ فلعل المهمة الرئيسة التي ما يزال في مقدور الفلسفة أداؤها في عصرنا هذا، هي أن تعلِّمنا كيف نعيش في غير يقينٍ بشيء، دون أن تشل قوانا ذبذبة التشكك.

وقد بدأت الفلسفة — باعتبارها متميِّزةً عن اللاهوت — في اليونان إبَّان القرن السادس قبل الميلاد، فلما أن قطعت شوطها في العصر القديم، عاد اللاهوت فغمرها حين قامت المسيحية وسقطت روما، وكانت للكنيسة الكاثوليكية السيادة على الفلسفة في ثاني عصورها العظمى، وذلك من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر، هذا إذا استثنينا نفرًا من عظماء الثائرين؛ مثل الإمبراطور فردريك الثاني (١١٩٥–١٢٥٠م)، وكان ختام هذه المرحلة اضطرابات بلغت مداها في حركة الإصلاح الديني. وأمَّا المرحلة الثالثة من مراحل الفلسفة، وهي التي تمتد من القرن السابع عشر إلى يومنا الحاضر، فيسودها العلم سيادةً لم يبلغ مثلها في أيٍّ من المرحلتين السابقتين؛ فلم تزل للعقائد التقليدية أهميتها عند الناس، لكنهم شعروا أنها بحاجةٍ إلى ما يؤيدها، وما انفكت تلك العقائد يصيبها التعديل كلما اقتضى العلم ذلك. ولست ترى بين فلاسفة هذه المرحلة إلا عددًا قليلًا ممن يُعدُّون صحاح العقيدة الدينية من وجهة النظر الكاثوليكية، فتراهم يهتمون بالتفكير في «الدولة» الدنيوية أكثر من اهتمامهم بالتفكير في الكنيسة.

وسنرى خلال العصور كلها أن التماسك الاجتماعي والحرية الفردية — شأنهما في ذلك شأن الدين والعلم — لم يزالا في تنازع، أو قل إن العلاقة بينهما كانت قلقة؛ ففي اليونان ظفر المجتمع بتماسك أفراد لمَّا ظفر منهم بالولاء للدولة المدينة (أي التي قوامها المدينة الواحدة)، وحتى أرسطو نفسه — على الرغم من أن الإسكندر في عصره كان في طريقه إلى إزالة دولة المدينة الواحدة — لم يستطع أن يرى حسنةً في أي نوعٍ آخر من أنواع الدولة غير هذا. وقد اختلفت دويلات المدن اختلافًا بعيدًا في مقدار ما تتطلَّبه من تحديد حرية الفرد في سبيل ولائه للمدينة، فلم يمكن للفرد في إسبرطة من الحرية أكثر ممَّا للفرد اليوم من حريةٍ في ألمانيا أو الروسيا، وأما في أثينا، فعلى الرغم من حالات ظهرت فيها روح الاضطهاد آنًا بعد آنٍ، إلا أن الأفراد فيها تمتعوا بدرجةٍ من الحرية أكثر جدًّا ممَّا تألف من سواها، وأعني حريتهم (في خير عصورهم) من القيود التي تفرضها الدولة على أبنائها. على أن الفكر اليوناني كانت تسوده — إلى عهد أرسطو — روح الولاء الديني والولاء الوطني ﻟ «المدينة» التي يتبعها الفرد؛ فالنُّظم الأخلاقية بها كانت مصبوبةً على نحوٍ يلائم حياة المواطنين،١ وكان فيها عنصر سياسي قوي، فلما خضع اليونان للمقدونيين أولًا ثم الرومان بعد ذلك، لم يعد في حدود المستطاع لهم أن يَحيَوا وفق الأفكار التي كانت صالحةً لهم أيام استقلالهم؛ فنتج عن هذا من جهة؛ فقدانُهم شيئًا من فنونهم بسبب انحرافهم عن مجرى تقاليدهم، كما نتج من جهةٍ أخرى ازديادٌ في قوة الأخلاق الفردية ونقص في الأخلاق الاجتماعية، فذهب الرواقيون إلى أن الحياة الفاضلة هي في العلاقة بين الروح والله، أكثر منها علاقة بين الفرد والدولة، فمهَّدوا بذلك الطريق للمسيحية التي تُشبه الرواقية في عدم قيامها أساسًا على السياسة؛ وذلك لأن أتباعها في الثلاثة القرون الأولى لم يكن لهم تأثير في الحكومة. ولم يعد التماسك الاجتماعي خلال الستة القرون والنصف قرن التي تمتد بين الإسكندر وقسطنطين، لم يعد ذلك التماسك مستندًا من الفلسفة ولا من ضروب الولاء القديمة، بل كان يُفرض بالقوة، بقوة الجيوش أولًا، ثم بقوة الإرادة المدنية ثانيًا؛ فجيوش الرومان وطرق الرومان وقانون الرومان وحكام الرومان، كل أولئك قد خلق نظام الدولة المركزية القوية بادئ ذي بدء، ثم عمل بعد ذلك على الاحتفاظ بما خلق، ولا نستطيع أن نرد إلى الفلسفة الرومانية شيئًا من ذلك؛ لأنه لم يكن للرومان فلسفة.

وخلال هذه الفترة الطويلة كلها، طرأ على الأفكار اليونانية الموروثة من عصر الحرية تحوُّل تدريجي، فازدادت الأهمية النسبية لبعض الأفكار القديمة، خصوصًا الأفكار التي نعدها أفكارًا دينيةً على وجه التحديد، بينما نبذت أفكار أخرى أكثر من الأولى اعتمادًا على العقل، وإنما نبذت هذه الأفكار العقلية لأنها لم تعد تُوافق روح العصر، وعلى هذا النحو أخذ الوثنيون المتأخِّرون يشذِّبون من أطراف التقاليد اليونانية، حتى أصبحت تلك التقاليد صالحةً للاندماج في العقيدة المسيحية.

وقد كانت المسيحية عاملًا على نشر رأي هام، كان متضمَّنًا بالفعل في تعاليم الرواقيين، لكنه لم يكن يلائم روح الأقدمين، وأعني به الرأي القائل بأن واجب الإنسان نحو الله أَولى بالطاعة من واجبه نحو الدولة،٢ وهو نفسه الرأي الذي قرَّره سقراط والحواريون بأنه ينبغي «لنا أن نُطيع الله قبل أن نطيع الإنسان»، ولقد ظلَّ هذا الرأي قائمًا رغم تحوُّل قسطنطين عن عقيدته؛ وذلك لأن الأباطرة المسيحيين الأوائل كانوا من الآريين أو ممن يميلون إلى الآرية، فلما أصبح الأباطرة خُلَّص العقيدة المسيحية، توارى ذلك الرأي، لكنه لبث دفينًا في الدولة البيزنطية، كما كان كامنًا في الإمبراطورية الروسية التي قامت بعد ذلك، والتي استمدَّت مسيحيتها من القسطنطينة،٣ أما في الغرب، حيث لم يلبث الغزاة البرابرة الزنادقة أن حلوا محل الأباطرة الكاثوليك (ما عدا بعض أجزاء الغال)، فإن سيادة الولاء الديني على الولاء السياسي ظلت قائمة، وهي — إلى حدٍّ ما — لا تزال قائمة.

وقضى غزو البرابرة على حضارة أوروبا الغربية قضاءً دام ستة قرون، ولئن تلكَّأت تلك الحضارة حينًا في أيرلندة، فقد جاء الدانمركيون بعدئذٍ في القرن التاسع وقضَوا عليها، لكنها قبل أن تخمد شعلتها هناك، كانت قد أنجبت رجلًا مرموقًا، هو «سكونس إرجينا»، وأما في الإمبراطورية الشرقية، فقد دامت المدنية اليونانية على قيد الحياة، لكنها كانت قد جفَّ عودها، كأنما هي أثر في متحف، وهكذا لبثت حتى سقطت القسطنطينية عام ١٤٥٣م، غير أن القسطنطينية لم تُخرج إلى العالم شيئًا قط ذا خطر، اللهم إلا أسلوبًا فنيًّا بالإضافة إلى القانون الروماني كما شرعه جستنيان.

وحدث إبَّان العصر المظلم الذي امتد من نهاية القرن الخامس حتى منتصف الحادي عشر، أن تعاورت العالمَ الروماني الغربي ضروبٌ من التغير تُثير الاهتمام إلى حدٍّ كبير؛ ذلك أن الصراع القائم بين الواجب نحو الله والواجب نحو الدولة، ذلك الصراع الذي بذرت المسيحية بذوره، اتخذ صورةً بين الكنيسة والملك. وقد امتدت سُلطة البابا القضائية الكنسية شملت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا العظمى وأيرلندة وألمانيا واسكندناوة وبولندة، وكان نفوذه بادئ ذي بدء بالغ الضعف على الأساقفة ورؤساء الأديرة — فيما عدا إيطاليا وجنوبي فرنسا — لكنه منذ عهد جريجوري السابع (في أواخر القرن الحادي عشر)، بات نفوذًا حقيًّا وفعالًا؛ إذ أصبح رجال الكنيسة منذ ذلك العهد هيئةً موحدة في أوروبا الغربية كلها، تُديرها روما، وراحت تنشد لنفسها السلطان في إحكامٍ متدبر وصرامة لا ترحم، وحالفها التوفيق عادةً إلى ما بعد عام ١٣٠٠م كلما نشب صراعٌ بينها وبين أصحاب السلطة الدنيوية. ولم يكن الصراع بين الكنيسة والدولة مجرد صراع قائم بين رجال الدين والطوائف الأخرى، بل كان كذلك تجديدًا للنزاع بين بلاد البحر الأبيض المتوسط وبرابرة الشمال. ووجدت وحدة الإمبراطورية الرومانية ترديدًا لصداها في وحدة الكنيسة، وكانت طقوس الكنيسة مدوَّنةً باللاتينية، وأعلام رجالها أغلبهم من الإيطاليين والإسبانيين وأهل فرنسا الجنوبية؛ ولمَّا انتعشت أسباب التعليم بين هؤلاء، كان مدار التعليم عندهم تراث الأقدمين، حتى لقد كانت فكرتهم عن القانون والحكومة أقرب إلى القَبول عند مُرقص أورليوس منها عند ملوكهم المعاصرين لهم؛ فكانت الكنيسة تمثِّل اتصال العلاقة بالماضي، كما تمثِّل أرقى جوانب حضارة ذلك العصر، في آنٍ معًا.

أمَّا السلطة الدنيوية فقد كانت — على عكس ذلك — في أيدي ملوك وأشراف من السلالة التيوتونية، حاولوا ما استطاعوا أن يحتفظوا بالنظم الاجتماعية التي جاءوا بها من قلب الغابات الجرمانية، وكانت تلك النظم لا تعرف السلطان المطلق، كما كانت لا تستسيغ طاعة القانون التي رآها أولئك الغزاة الأقوياء ضربًا من الخمود السخيف الذي لا روح فيه؛ فقد كان على الملك أن يقتسم السلطان مع سادة الإقطاع، لكن الملك وهؤلاء السادة كانوا جميعًا سواءً في رغبتهم في أن تقرِّر عواطفهم آنًا بعد آن فورةً تتخذ صورة القتال أو الاغتيال أو النهب والسلب. نعم إن الملوك كانوا أحيانًا يتوبون ممَّا اقترفوا؛ لأنهم كانوا مخلصين في تقواهم، والتوبة على كل حال هي نفسها ضرب من العاطفة، لكن الكنيسة لم تُفلح قط في أن تظفر منهم بالسلوك الهادئ المطَّرد الفاضل، كهذا الذي يتطلَّبه صاحب العمل في عصرنا الحديث من عُماله، وكثيرًا ما يظفر به منهم؛ فما جدوى غزوهم للدنيا إذا لم يستطيعوا شرابًا واغتيالًا وغرامًا كلما دفعتهم نفوسهم إلى شيءٍ من ذاك؟ ولماذا تجب عليهم الطاعة — ومن حولهم جيوش تتبعهم من الفرسان الشامخين بأنوفهم — لِمَا يأمرهم به رجال حصروا أنفسهم في الكتب، وأسلموا أنفسهم للعزوبة وفضوا من حولهم قوة السلاح؟ فعلى الرغم ممَّا نهاهم عنه رجال الكنيسة، مضَوا في المبارزة وفي إنزال المحنة على بعضهم البعض بالقتال، واسترسلوا في المباريات وفي الغرام العذري، بل قد يثور الغضب بأحدهم فلا يتردَّد في اغتيال عَلَم من أعلام الكنيسة.

كانت القوات المسلحة كلها في جانب الملوك، ومع ذلك خرجت الكنيسة ظافرة، وإنما ظفرت الكنيسة بالنصر لأنها — من جهة — كادت تحتكر التعليم؛ ولأن الملوك — من جهةٍ أخرى — كانوا في حربٍ لا تنقطع، بعضهم مع بعض، لكن العلة الرئيسية لنصر الكنيسة هي أن الحكام والشعب على السواء كانوا يعتقدون اعتقادًا راسخًا بأن الكنيسة في يدها مفاتيح السماء؛ ففي يدها أن تقرِّر إن كان هذا الملك أو ذاك ليقضي وجوده الأبدي في الجنة أو في الجحيم، وفي مستطاع الكنيسة أن ترفع عن أفراد الرعية واجب الولاء للسلطان، وبهذا تحرِّك الدوافع إلى العصيان؛ أضف إلى ذلك كله أن الكنيسة كانت تمثِّل النظام بعد الفوضى؛ ولهذا اكتسبت تأييد طبقةِ التجار، وكان هذا العامل الأخير هو الذي رجحت به كفة الكنيسة في إيطاليا على وجه الخصوص.

ولم تكن محاولة التيوتون أن يحتفظوا للكنيسة ببعض استقلالها على الأقل قاصرةً على مجال السياسة وحده، بل جاوزته إلى الفن والقصة والفروسية والحروب، ولكنها لم تظهر إلا ضئيلةً جدًّا في العالم العقلي؛ لأن التعليم أوشك كله أن ينحصر في أيدي رجال الدين، ولم تكن الفلسفة التي جرت فعلًا على ألسنة الفلاسفة في العصور الوسطى بالمرآة الدقيقة لتلك العصور، بل اقتصرت تلك الفلسفة على التعبير عن آراء طائفة واحدة؛ فقد كان بين رجال الكنيسة طائفة — وبخاصة بين الرهبان والفرنسسكان — تختلف في الرأي مع البابا لأسبابٍ عدة، وفضلًا عن ذلك فقد حدث في إيطاليا أن انتشرت الثقافة بين غير رجال الدين قبل انتشارها بين أمثالهم شمالي الألب ببضعة قرون. وإن فردريك الثاني الذي حاول أن يقيم ديانةً جديدة ليمثِّل الثقافة المناهضة للبابوية في تطرفها، وما يزال «توماس أكويناس» الذي وُلد في مملكة نابلي حيث كانت السيادة لفردريك الثاني، ما يزال حتى يومنا هذا اللسانَ العتيد الناطق بالفلسفة البابوية، وجاء دانتي بعد ذلك بما يقرب من خمسين عامًا، فوفَّق بين الطرفين، وقدَّم لنا عرضًا متزنًا كاملًا عن الفكر في العصور الوسطى، وإن عرضه هذا لهو وحده الذي يتفرَّد بهذه الصفات.

ثم تحطَّمت بعد دانتي هذه الصورة الفلسفية التي تؤلِّف بين أطراف الفكر كلها في العصور الوسطى، تحطَّمت لأسبابٍ سياسية وعقلية معًا، وقد كانت تلك الصورة تتصف — إبَّان وجودها — بحبكة الأطراف والشمول الذي يحتوي على كل شيءٍ في صورةٍ مصغَّرة، فكل ما تناولته تلك الصورة الفكرية من جوانب، اتخذ موضعه منها في دقةٍ بنسبته إلى الجوانب الأخرى التي اجتمعت كلها في عالمٍ غاية في التحديد، لكن «الانشقاق الأكبر» وحركة التوفيق والبابوية أيام النهضة، أدَّت إلى حركة الإصلاح الديني التي حطمت وحدة العالم المسيحي، كما بدَّدت نظرية الإسكولائيين عن الحكومة التي تتركز في البابا، وجاء عصر النهضة فازداد الناس علمًا استمدوه من القديم ومما شاهدوه على سطح الأرض، فضاقت نفوسهم بالنظم الفكرية المحبوكة؛ لأنهم أحسوا كأنها سجون عقلية. وعمل الفلك الكوبرنيقي على النزول بالأرض والإنسان معًا إلى منزلةٍ أكثر تواضعًا مما اختصَّتهما به نظرية بطليموس، واستبدل ذوو الفطنة من الناس بمتعتهم في التدليل العقلي والتحليل والتنسيق الفكري، استبدلوا بذلك كله متعةً أخرى هي معرفة حقائق جديدة عن الواقع المشهود؛ فعلى الرغم من أن عصر النهضة كان لا يزال يؤثر النظام المحكم في الفنون، إلا أنه جعل يؤثِّر في عالم الفكر تحررًا من ذلك التزمُّت المحكم، تكون فيه خصوبة وفسحة مجال، ويعد «مونتيني» في هذا الباب أصدق ناطق بروح العصر.

وقد شهدت النظرية السياسية إذ ذاك، كما شهد كل شيء آخر ما عدا الفن، انهيارًا للنظام؛ ذلك أن العصور الوسطى على الرغم ممَّا تعرضت له في حياتها العملية من اضطراب، فقد كانت تسودها من الناحية النظرية رغبة حادة في طاعة القانون، كما كانت تسودها نظرية غاية في الدقة عن السلطة السياسية؛ فالسلطة مصدرها في النهاية هو الله، وقد أناب الله عنه البابا في الأمور المقدسة، وأناب الإمبراطور في شئون الدنيا، غير أن البابا والإمبراطور كليهما فقَدَ خطره إبَّان القرن الخامس عشر، أما البابا فقد أصبح لا يزيد على كونه أحد الأمراء الإيطاليين، يشغله ما كان يشغلهم من تسابقٍ على السلطة السياسية في إيطاليا، وهو تسابق أحاطه تعقُّد شديد وخروج على كل ما يرتضيه الضمير. وقد تمتَّعت الملكيات القومية الجديدة الناشئة عندئذٍ في فرنسا وإسبانيا وإنجلترا بسلطانٍ داخل أراضيها، لم يكن يستطيع البابا أو الإمبراطور أن يتدخَّل في أمره، وظفرت الدولة القومية — بسبب اختراع البارود إلى حدٍّ كبير — ظفرت بسيطرةٍ على أفكار الناس ومشاعرهم سيطرةً لم تشهد لها مثيلًا من قبل، حتى لقد استطاعت بفضلها أن تمضي قدمًا في إزالة ما كان لم يزل باقيًا من العقيدة الرومانية في وحدة الحضارة.

وجاء كتاب «الأمير» لمكيافلي معبِّرًا عن هذا الاضطراب السياسي، فإذا لم يكن هناك مبدأ يهدي الناس سواء السبيل، باتت السياسة عراكًا مكشوفًا في سبيل السلطة، وفي كتاب «الأمير» إرشاد ماكر لِمَا ينبغي أن يُتبع في القيام بهذه اللعبة على نحوٍ ينتهي بالنجاح؛ فالذي حدث في أثينا إبَّان عصرها الذهبي، عاد فحدث من جديدٍ في إيطاليا أيام النهضة، فامَّحت القيود الخلقية التقليدية، لمَّا رأوها مرتبطةً بالخرافة. وهذا الفكاك من القيود زاد الأفراد نشاطًا وإبداعًا، حتى لقد أبدَوا من النبوغ ازدهارًا نادر المثال، لكن انحلال الأخلاق مؤدٍّ حتمًا إلى الفوضى والخيانة، وهذان كان لهما من التأثير في الإيطاليين ما أعجزهم باعتبارهم جماعة، فسقطوا — كما سقط اليونان — تحت سلطان أمم أقل منهم حضارة، لكنها لم تكن مثلهم قد تفكَّكت فيها عُرى المجتمع.

ومع ذلك فلم تكن نتيجة ذلك في إيطاليا بمثل ما كانت في اليونان من فداحة الخطب؛ وذلك لأن الأمم التي كانت قد صعدت إلى القوة حديثًا — باستثناء إسبانيا — قد برهنت على قدرتها على القيام بجليل الأعمال، كما فعل الإيطاليون قبلها سواءً بسواء.

ومنذ القرن السادس عشر، ساد الإصلاح الديني تاريخ الفكر في أوروبا، وكان هذا الإصلاح الديني حركةً معقدة متعددة الجوانب وكُتب لها النجاح لأسبابٍ عدة؛ فهي قبل كل شيء ثورة الأمم الشمالية على عودة روما إلى السيادة؛ فقد كان الدين فيما مضى هو العقدة التي أخضعت أهل الشمال، وها هو ذا الدين قد تدهور بناؤه في إيطاليا، فلئن ظلت البابوية نظامًا، ولئن لبثت تبتز الجزية الطائلة من ألمانيا وإنجلترا، فإن هاتين الأمتين اللتين كانتا لا تزالان تقيتين، لم تعودا شاعرتين بوجوب احترام أسرتي بورجيا ومديتشي، اللتين زعمتا أن في قدرتهما أن يخلِّصا أرواح الناس من عذاب يوم الحساب، مقابل مبالغ من المال تُدفع لهما فتنثرانها نثرًا على أسباب الرفاهية والفجور. وهكذا تآمرت الدوافع القومية والدوافع الاقتصادية والدوافع الخلقية على تقوية الثورة ضد روما، هذا فضلًا عن أن الأمراء أنفسهم سرعان من تبيَّنوا أنه لو باتت الكنيسة في بلادهم قومية، كان في استطاعتهم أن يفرضوا عليها سلطانهم، وبهذا تزداد قوتهم في أوطانهم زيادةً كبيرة جدًّا بالقياس إلى ما كانوا عليه حين كانوا يشاركون البابا في سلطانه؛ لهذه الأسباب كلها رحَّب الحكام والشعوب على السواء بإصلاحات لوثر الدينية، في الجزء الأكبر من أوروبا الشمالية.

لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية مستمدةً من مصادر ثلاثة؛ فتاريخها المقدس يهودي، ولاهوتها يوناني، وحكومتها وقانونها — على الأقل بطريقٍ غير مباشر — رومانيان. وجاء الإصلاح الديني فنبذ العناصر الرومانية، وحدَّ من العناصر اليونانية، وزاد من قوة العناصر اليهودية زيادةً كبرى، وبهذا كان متآزرًا مع القوى القومية التي كانت تهدم التماسك الاجتماعي الذي كان نتيجةً للإمبراطورية الرومانية أولًا، ثم للكنيسة الرومانية ثانيًا؛ فالمذهب الكاثوليكي من رأيه أن الوحي الإلهي لم ينتهِ بالكتاب المقدس، بل إنه قائمٌ متصل من عصرٍ إلى عصر، وأداته هي الكنيسة.

وإذن فمن واجب الفرد أن يُفني آراءه الخاصة طاعةً لها، أما البروتستنت فعلى خلاف ذلك، ينبذون الكنيسة باعتبارها أداةً للوحي؛ فالحق سبيله الكتاب المقدس وحده، وواجب كل إنسانٍ أن يفسِّر الكتاب المقدس لنفسه، فإن اختلف الأفراد في تفسيراتهم، فليس هنالك سلطة عيَّنتها السماء لتفصل في أمر الخلاف. نعم إن الدولة قد طالبت لنفسها عمليًّا بنفس الحق الذي كان من قبلُ للكنيسة، لكن ذلك كان منها اغتصابًا لِمَا ليس لها؛ فعند المذهب البروتستنتي، لا يجوز أن تتوسَّط قوة الأرض بين روح الإنسان والله.

وكانت نتائج هذا التحول جسيمة؛ لأن الحق لم تعد وسيلة ثبوته استشارة ذوي السلطان، بل التأمل يقوم به الفرد بينه وبين نفسه، وبدأ الاتجاه في عالم السياسة يسير بخطواتٍ سريعة نحو الفوضى، وفي عالم الدين نحو التصوف الذي كان دائمًا من العسير عليه أن يجد له مكانًا في بناء المذهب الكاثوليكي الأصيل، ولم ينشأ عن ذلك حركة بروتستنتية واحدة، بل نشأت كثرةٌ من مذاهب، كما أن الفلسفة الإسكولائية لم تنهض لمعارضتها فلسفة واحدة، بل نشأت فلسفاتٌ بعدد ما كان هنالك من فلاسفة، ولم يقم إمبراطور واحد يناهض البابا — كما حدث في القرن الثالث عشر — بل قام لمناهضته عددٌ من الملوك الزنادقة؛ ونتيجة ذلك في الفكر وفي الأدب على سواء، هي التعمق المطرد في انطواء الأفراد على ذواتهم، وقد كان ذلك أول الأمر خطوةً سياسية نحو التحرر من العبودية الروحية، لكنه أخذ ينقلب في تدرجٍ مطرد ثابت إلى عزلةٍ تُحيط بالفرد، فتجعله نافرًا من النظام الاجتماعي الصحيح.

وتبدأ الفلسفة الحديثة بديكارت الذي وضع يقينه الأساسي في وجود نفسه ووجود أفكاره التي يستدل منها على وجود العالم الخارجي، ولم تكن تلك إلا خطوةً أولى في طريقٍ من التطور مرَّ خلال باركلي وكانت، ليصل إلى فخته الذي ذهب إلى أن كل شيءٍ إن هو إلا فيض الذات، وهذا منه ضرب من الجنون؛ ولذا جعلت الفلسفة تحاول محاولةً لا تنقطع منذ ذلك الحين، أن تلوذ من هذا التطرف بالفرار إلى عالم الحياة الواقعية التي تُدرَك أمورها اليومية بالإدراك الفطري السليم.

وترى الفوضى في السياسة سائرةً مع هذه الذاتية في الفلسفة جنبًا إلى جنب؛ فقد حدث قبل ذلك بالفعل — في عهد لوثر — أن أخذ بعض تلاميذه الذين لم يُصيبوا عنده قَبولًا ولا اعترافًا، أخذ هؤلاء يتعهَّدون مذهب إنكار وجوب التعميد، وهو إنكارٌ كُتبت له السيادة حينًا من الزمن في مدينة مونستر، وقد تنكَّر هؤلاء المنكِرون للقانون بكل ضروبه؛ لأنهم كانوا يؤمنون بأن الإنسان الخيِّر سيهتدي في كل لحظةٍ من حياته بالروح القدس الذي يستحيل عليه أن يتقيَّد بالقوانين، وهم ينتهون من هذه المقدمة إلى شيوعيةٍ وإباحية جنسية؛ ولذلك قضى عليهم بعد أن أبدَوا مقاومة الأبطال، لكن مذهبهم ذاع في صورة مخفَّفة في هولندا وإنجلترا وأمريكا، وهو من الوجهة التاريخية أصل لمذهب الإخوان (مذهب الكويكر). ولمَّا جاء القرن التاسع عشر، ظهرت صورةٌ من الفوضى أشد من هذه عنفًا، ولو أنها لم تعد مرتبطةً بالدين، وصادفت هذه الصورة الجديدة نجاحًا ملحوظًا في الروسيا وإسبانيا وفي إيطاليا بدرجةٍ أقل، وهي إلى يومنا هذا ما تزال شبحًا مخيفًا ترتاع له السلطات المشرفة على الهجرة في أمريكا. وعلى الرغم من أن هذه الصورة الجديدة معادية للدين، إلا أنها لا تزال تحتفظ بكثيرٍ من روح البروتستانتية الأولى، ووجه الاختلاف الرئيسي بينهما هو أنها تسدِّد العداء إلى الحكومات الدنيوية، بينما كان لوثر يوجهه نحو البابوات.

وأنت إذا ما حلَّلت قيود الذاتية، فإنها تستعصي بعد ذلك على الوقوف عند حدٍّ حتى تنتهي من شوطها كله؛ ففي الأخلاق كان توجيه البروتستنت لضمير الفرد توجيهًا يصطبغ بالفوضوية إلى حدٍّ كبير، لكن التقاليد والعادات كانت من القوة بحيث لم يسعَ أتباع الفردية في الأخلاق إلا أن يمضوا في سلوكهم على نحوٍ يتفق مع الفضيلة التقليدية، هذا إذا استثنيت فورات كانت تنفجر حينًا بعد حين، كالتي حدثت في مونستر، غير أن هذا توازن لا يقوم على أساسٍ مطرد ثابت، فجاء القرن الثامن عشر بمذهبه في «الحساسية المرهفة» الذي أخذ يفسد ذلك التوازن؛ أن هذا المذهب لا يصف العقل بالخير لنتائجه الطيبة أو لاتفاقه مع التشريع الأخلاقي، لكنه يستحسن الفعل للعاطفة التي أثارته، ومن هذا المذهب تطوَّر مذهب البطولة كما عبر عنه كارلايل ونيتشه، ثم تطوَّر منه كذلك مذهب «بايرون» الذي يمجِّد العاطفة العنيفة كائنًا ما كان نوعها.

وترتبط الحركة الابتداعية (الرومانتيكية) في الفن والأدب والسياسة بهذه الطريقة الذاتية في الحكم على الناس، أعني الطريقة التي تحكم على الناس لا باعتبارهم أعضاءً في المجتمع، بل باعتبارهم يصلحون موضوعًا للتأمل الذي يبعث على المتعة الفنية؛ فالنمور أجمل من الخراف، إلا أننا نؤثر أن نبقيها وراء القضبان، لكن الابتداعي (الرومانتيكي) الأصيل يزيل تلك القضبان ليستمتع بوثبات النمر الرائعة حين يقضي بها على الخراف، وتراه يستحث الناس أن يتخيَّلوا أنفسهم نمورًا، حتى إذا ما أصاب نجاحًا فيما يدعو إليه، لم تكن النتائج كلها ممَّا يبعث الرضى.

وقامت حركاتٌ كثيرة تناهض ما ظهر في العصور الحديثة من ألوان هذه الذاتية التي أمعنت في جنوحها إلى الجنون، وأولى هذه الحركات، فلسفة وقفت في منتصف الطريق توفِّق بين الطرفين، وأعني بها مذهب التحرير الذي حاول أن يخصِّص مجالًا للحكومة ومجالًا للفرد بحيث لا يتعارضان، وتبدأ هذه الحركة في صورتها الحديثة عند لوك، الذي يقاوم حرارة التحمس — أقصد النزعة الفردية التي أعلنها منكرو وجوب التعميد — كما يقاوم في الوقت نفسه السلطة المطلقة والخضوع الأعمى للتقاليد، إلى جانب ذلك ترى ثورةً أشمل نطاقًا من ثورة لوك، تنتهي إلى مذهبٍ يقول بعبادة الدولة، وهو مذهب يضع الدولة في نفس المنزلة التي وضع فيها الكاثوليك الكنيسة، بل أحيانًا في نفس المنزلة التي كان هؤلاء يضعون فيها الله؛ وهوبز وروسو وهيجل يمثلون وجوهًا مختلفة لهذه النظرية، وقد تجسدت مذاهبهم من الوجهة العملية في كرمول ونابليون وفي ألمانيا الحديثة، ولئن كانت الشيوعية نظريًّا بعيدةً كل البعد عن أمثال هذه الفلسفات، إلا أنها من الوجهة العملية سائرة في طريقٍ ينتهي بها إلى نمطٍ من المجتمع شديد الشبه بالمجتمع الذي يترتَّب على عبادة الدولة.

وفي غضون هذا التطور الطويل الذي يمتد أمده من عام ٦٠٠ قبل الميلاد إلى يومنا هذا، ترى الفلاسفة ينقسمون إلى فريقين؛ ففريق يريد أن يشد من الروابط الاجتماعية، وفريق آخر يريد أن يرخي تلك الروابط. وعلى هذا الاختلاف تترتب اختلافات أخرى؛ فأنصار انخراط الأفراد في سلك المجتمع قد دافعوا عن نظامٍ فكري يأخذ بالجمود في العقيدة — جديدها وقديمها على السواء — وبذلك ترى هؤلاء مضطرين اضطرارًا أن يكونوا أعداء العلم — مع اختلاف درجتهم في ذلك العداء — ما دامت عقائدهم الجامدة لا يمكن البرهنة عليها برهانًا يقوم على تجربة الحواس. وترى هؤلاء يكادون يجتمعون على تعليم أتباعهم بأن السعادة ليست هي الخير، بل الخير الأفضل منها عندهم هو «شرف المحتِد» و«البطولة»، وهم يعطفون على الجوانب اللاعاقلة من الطبيعة الإنسانية؛ لأنهم أحسوا أن العقل لا يرضى عن التماسك الاجتماعي. أما دعاة الحرية من جهةٍ أخرى — إذا استثنينا منهم المتطرفين في الفوضوية — فقد مالوا إلى أن يكونوا ذوي صبغة نفعية، تعادي العاطفة الحادة، كما تعادي شتى ضروب الدين التي تضرب بجذورها عميقةً في عاطفة الإنسان، وقد كان هذا الصراع قائمًا في اليونان قبل نشأة ما نسمِّيه بالفلسفة، وهو واضحٌ كل الوضوح في المرحلة الأولى من الفكر اليوناني، ولقد دام حتى اليوم الحاضر في صورٍ مختلفة، ولا شك أنه سيدوم مدى قرون طوال في مستقبل الأيام.

وواضحٌ أن كلًّا من طرفَي هذا النزاع — كما هي الحال في كل نزاعٍ يدوم بقاؤه آمادًا طويلة من الزمن — مصيبٌ إلى حدٍّ ومخطئ إلى حد؛ فالتماسك الاجتماعي ضروري يقوم عليها الدليل العقلي الخالص، فكل مجتمعٍ معرض لخطرين متعارضين؛ فهو معرض للتحجُّر بسبب الإسراف في النظام واحترام التقاليد من جهة، ثم هو معرَّض من جهةٍ أخرى للتحلُّل والخضوع للغزو الأجنبي، بسبب نمو النزعة الفردية واستقلال الأشخاص استقلالًا يجعل التعاون مستحيلًا. ونستطيع القول بصفةٍ عامة إن المدنيات الهامة تبدأ بنظامٍ جامد مليء بالخرافات، ثم يأخذ في التراخي تدريجًا حتى ينتهي في مرحلةٍ معينة إلى عصرٍ يسطع بالعبقرية، وذلك في الوقت الذي يبقى فيه الجانب الطيب من التقاليد، في حين لا يكون شر التحلل قد نمت جذوره بعد، لكن الشر إذا ما كشف عن نفسه، فسينتهي إلى الفوضى، ومن ثم يؤدي حتمًا إلى طغيانٍ جديد ينجم عنه تأليف جديد بين عناصر الخير والشر، تعمل على صيانته مجموعة جديدة من العقائد الجامدة. وأما مذهب التحرر فعبارة عن محاولة التخلص من هذا التأرجح الذي لا ينتهي؛ ذلك لأن جوهر هذا المذهب هو السعي في سبيل الحصول على نظامٍ اجتماعي لا ينبني على العقائد اللامنطقية، والوصول إلى حالةٍ من الاستقرار بغير حاجةٍ إلى زيادة القيود عن الحد الضروري لصيانة المجتمع، ولا يستطيع إلا مستقبل الأيام أن ينبئ إن كانت هذه المحاولة ستُكلَّل بالنجاح.

١  الكلمة بالإنجليزية هي Citizens، وهي منسوبة إلى City. إن المدينة ممَّا يدل على أن فكرة الوطن وفكرة المدينة مرتبطتان عند اليونان ارتباطًا شديدًا. (المعرب)
٢  لم يكن هذا الرأي مجهولًا في العصور الأولى؛ فنراه — مثلًا — مبسوطًا في مسرحية أنتجونا لسوفوكليز، لكن من آمن بهذا الرأي قبل الرواقيين نفر قليل.
٣  وهذا هو السبب في أن الروسي الحديث يرى واجب الطاعة لستالين أَولى من اتباع «المذهب المادي الجدلي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤