الفصل الأول

نشأة المدنية اليونانية

لن تجد في التاريخ كله ما يثير الدهشة، أو ما يتعذَّر تعليله، أكثر ما يُدهشك ويتعذَّر عليك تعليل الظهور المفاجئ للمدينة اليونانية. نعم؛ إن عناصر كثيرةً مما تتألف منه المدنية كانت موجودةً قبل ذاك بآلاف السنين في مصر وما بين النهرين، وانتشرت من هناك إلى الأقطار المجاورة، لكن بقيت تنقص الإنسان عناصر أخرى حتى جاءه بها اليونان، وليس منا من لا يعلم ما أداء اليونان في الفن والأدب، لكن ما أورده في النطاق العقلي الخالص أشد غرابةً ممَّا أدوه في الفن والأدب على عظمته؛ فهم الذين اخترعوا الرياضة١ والعلم والفلسفة اختراعًا، وهم أول من كتب التاريخ متميزًا عن مجرد سرد الأخبار، وهم الذين أرسلوا الفكر حرًّا في طبيعة العالم ونهاية الحياة، دون أن يَغلوا أنفسهم بقيود العقائد الموروثة، وكان ما صنعوه في ذلك من الروعة بحيث ظل الناس حتى عصورٍ حديثة جدًّا يكتفون إزاء العبقرية اليونانية بفتح أفواههم دهشة، وبالحديث عن تلك العبقرية كما يتحدثون عن ألغاز السحر، ومع ذلك ففي مستطاعنا أن نفهم تطور هؤلاء اليونان فهمًا علميًّا، وجديرٌ بنا أن نفعل ذلك.

نبدأ الفلسفة بطاليس، الذي يمكن — لحسن الحظ — أن نحدِّد تاريخه بحادثةٍ هي أنه تنبَّأ بكسوفٍ وقع — كما يقول الفلكيون — عام ٥٨٥ قبل الميلاد، وعلى ذلك فالفلسفة والعلم اللذان لم يكونا أول الأمر منفصلين قد وُلدا، معًا في مستهل القرن السادس، فما الذي كان يجري في اليونان وفي الأقطار المجاورة لها قبل ذلك التاريخ؟ إنك لا تستطيع سوى التخمين إلى حدٍّ ما في الجواب عن هذا السؤال أيًّا ما كان الجواب، غير أن علم الآثار قد أمدَّنا في هذا القرن الحاضر بمعرفةٍ أكثر جدًّا ممَّا كان لأسلافنا.

فقد اختُرع فن الكتابة في مصر نحو عام ٤٠٠٠ قبل الميلاد، ثم نشأ كذلك في بلاد ما بين النهرين في وقتٍ لم يجئ بعد ذلك التاريخ بزمنٍ طويل، والكتابة في كلا القطرين قد بدأت برسوم الأشياء التي أُريد الكتابة عنها، وسرعان ما اتخذت تلك الرسوم صورةً تقليدية عامة، حتى لقد أصبح للكلمات رسوم معينة تمثِّلها، كما هي الحال اليوم في الصين، ثم تطوَّر هذا النظام العسير على مر القرون، حتى بات كتابةً أبجدية.

والذي عمل على التطور الباكر للمدنية في مصر وما بين النهرين هو النيل ودجلة والفرات؛ فهذه الأنهار قد يسَّرت الزراعة تيسيرًا شديدًا، وجعلتها غزيرة الإنتاج، وكانت تلك المدنية شبيهةً من وجوهٍ كثيرة بالمدينة التي وجدها الإسبانيون في المكسيك ويبرر؛ ففيها ملك مقدس ذو سلطة مطلقة؛ فقد كان الملك في مصر يملك الأرض كلها، وكانت الديانة في تلك المدنية تعدد الآلهة، وتضع على رأسها جميعًا إلهًا أكبر يكون بينه وبين الملك علاقة وثيقة، وكان هنالك طبقة أرستقراطية عسكرية، وإلى جانبها طبقة أرستقراطية من الكهنة، وكثيرًا ما كان في مستطاع هذه الأخيرة أن تطغى على سلطة الملك، إذا ما ضعف الملك أو كان في شغلٍ من حربٍ عسيرة، وكان زُراع الأرض عبيدًا يتبعون الملك أو الطبقة الأرستقراطية أو طائفة الكُهان.

وكان بين اللاهوت المصري واللاهوت البابلي اختلافٌ كبير، أمَّا المصريون فقد شغلهم الموت، وآمنوا بأن أرواح الموتى تهبط إلى العالم السفلي، حيث يحاكمها أوزيرس وفق نوع الحياة التي عاشتها على الأرض، واعتقدوا أن الروح في النهاية عائدة إلى جسدها، وانتهت بهم هذه العقيدة إلى تحنيط الأجساد وإقامة المقابر الفخمة، منها الأهرام التي شيَّدها ملوك عدة في نهاية الألف الرابعة من السنين قبل ميلاد المسيح وبداية الألف الثالثة. ثم أخذت المدنية المصرية بعد ذلك العهد تكرِّر نفسها باطرادٍ ازداد على مر الزمن، وأصبح الرق مستحيلًا مع ما وصل إليه الناس من جمودٍ ديني، حتى إذا ما جاء عام ١٨٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، غزت مصر طائفةٌ من الساميين تسمَّى الهكسوس وحكمت البلاد ما يقرب من قرنين. نعم إن هؤلاء الهكسوس لم يخلِّفوا في مصر أثرًا ثابتًا، لكن وجودهم بها لا بُدَّ أن يكون قد عمل على نشر المدنية المصرية في سوريا وفلسطين.

وأما بابل فقد جاء تطورها أكثر في صفاته العسكرية من التطور في مصر؛ فلم تكن السلالة الحاكمة بادئ بدء من الساميين، بل من «السومريين» الذين نجهل أصولهم، وهؤلاء هم الذين اخترعوا الكتابة المسمارية، ثم جاء الساميون الغزاة ونقلوها عنهم، وقد مرَّ على تلك البلاد عهدٌ تألفت فيه عدة مدن مستقلة يحارب بعضها بعضًا، حتى كُتبت السيادة بينها لبابل في نهاية الأمر، وكوَّنت إمبراطورية، وخضعت آلهة المدن الأخرى بحيث أصبح «مردخ» Mardick — إله بابل — صاحب منزلة تشبه المنزلة التي كانت لزيوس بين آلهة اليونان فيما بعد، ومثل هذا تمامًا كان قد حدث في مصر في عهدٍ سابق لذلك العهد بزمنٍ طويل.
وكانت العقائد الدينية في مصر وبابل — شأنها في ذلك شأن الديانات القديمة الأخرى — عقائد تمس خصوبة الأرض؛ فالأرض عندهم مؤنثة والشمس مذكرة، وكان العجل عادةً يُتَّخذ رمزًا لخصوبة الذكر، حتى شاعت بين القوم الآلهة العجول. وكانت «إشتر» في بابل — وهي إلهة الأرض — لها المكانة العليا بين الإلهات. وكنت ترى «الأم الكبرى» موضع عبادة في أرجاء آسيا الغربية كلها، متخذةً أسماءً مختلفة في الجهات المختلفة، فلمَّا أن جاء اليونان المستعمرون لآسيا الصغرى، ووجدوا معابد لهذه الآلهة، احتفظوا لأنفسهم بتلك العقيدة، وأطلقوا على الآلهة اسم «أرتميس»، وهذا هو أصل «ديانا عند الأفسوسيين»،٢ وبعدئذٍ جاءت المسيحية فحوَّلتها إلى «مريم العذراء»، والذي أجاز أن تطلق عبارة «أم الإله» على «سيدتنا مريم» مجلس من أهل أفسوس.

وأينما وجدت الدين مرتبطًا بالحكومة في أية إمبراطورية، وجدت الدوافع السياسية ذات أثر بالغ في تحرير معالم ذلك الدين، فسرعان ما يرتبط إله أو آلهة بالدولة ارتباطًا يجعل ذلك الإله أو تلك الآلهة مسئولةً عن وفرة المحصول وعن النصر في الحروب على السواء، ووجدت كذلك أن طائفةً الكهنة الأغنياء قد عملت عملها في صياغة الطقوس واللاهوت صياغةً معقدة التفصيلات ووفَّقت بين آلهة الأجزاء المختلفة من الإمبراطورية في مجموعةٍ واحدة من الأرباب.

إذا ارتبطت الآلهة بالحكومة، فقد ارتبطت كذلك بالأخلاق؛ فمشرعو القوانين عندئذٍ يقولون إن تشريعاتهم قد هبطت عليهم من الله، وبذلك يكون الاعتداء على القانون خروجًا على التقوى، وأقدم ما نعرفه اليوم من تشريعاتٍ قانونية هو تشريع حمورابي ملك بابل، حول سنة ٢١٠٠ قبل الميلاد، وقد زعم الملك أن الإله «مردخ» هو الذي أرسل إليه هذا التشريع، ثم أخذت العلاقة بين الدين والأخلاق تزداد قوةً على مر العصور القديمة كلها.

وتختلف الديانة البابلية عن الديانة المصرية في أن الأولى كانت أكثر اشتعالًا بازدهار حياة الناس على هذه الأرض، منها بسعادتهم في الحياة الآخرة، ولئن لم يكن السحر والتعزيم والتنجيم مقصورةً على بابل، إلا أنها كانت هناك أكثر تطورًا منها في أي بلدٍ آخر؛ وكانت بابل هي التي جعلت لهذه الأشياء ما كان لها من سيطرةٍ على عقول الأقدمين، ومن بابل استقينا بعض الجوانب التي تتصل بالعلم؛ منها قسمة اليوم أربعةً وعشرين ساعة، والدائرة ٣٦٠ درجة، ومنها معرفة أن الكسوف والخسوف يحدثان على تتابعٍ معلوم، وقد مكَّنهم ذلك من التنبؤ بخسوف القمر تنبؤًا بلغ حد اليقين، ومن التنبؤ بكسوف الشمس على سبيل الترجيح، وإنما تعلم طاليس — كما سنرى بعد — علم البابليين.

كانت المدنية المصرية ومدنية ما بين النهرين زراعيتين، أما مدنيات الأمم المجاورة فكانت — أول الأمر — رعوية؛ ولمَّا تقدمت التجارة، دخل عنصر جديد، كاد بادئ ذي بدء أن يكون عنصرًا بحريًّا خالصًا؛ فالأسلحة حتى ما يقرب من عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، كانت مصنوعةً من البرونز، والأمم التي لم تكن تملك في أرضها المعادن اللازمة لصناعته، لم يكن لها بد من الحصول على تلك المعادن إما بالتجارة أو بالقرصنة، على أن القرصنة كانت إجراءً مؤقتًا حتَّمته الظروف وحيث استتبَّت الحالة الاجتماعية والسياسية بعض الشيء، وجد الناس أن التجارة أجدى عليهم. والظاهر أن جزيرة كريت كانت هي البادئة في عالم التجارة، وكانت كريت هذه قد شهدت قبل ذلك بأحد عشر قرنًا تقريبًا — أي من سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد إلى سنة ١٤٠٠ قبل الميلاد — حضارةً متقدمة من الناحية الفنية، تسمَّى بحضارة مينوس. وإن ما بقي لنا من الفن الكريتي، ليدلنا على ما كان لأهل تلك الجزيرة من مرحٍ ومن ترف كاد يبلغ حد التحلل، وهو في ذلك يختلف أشد اختلاف عن المعابد المصرية في تجهُّمها المخيف.

وأوشكنا ألَّا نعلم عن هذه المدنية الهامة شيئًا، حتى قام سير آرثر إيفانز وآخرون بحفائرهم أيضًا. وتبيَّن أن هذه المدنية كانت بحريةً ذات صلة وثيقة بمصر (إلا في عهد الهكسوس)، فمن صور مصرية يتضح لنا أن التجارة النشيطة جدًّا بين مصر وكريت، كانت تتم على أيدي بحَّارة كريتيين، وبلغت هذه التجارة حدها الأقصى حول سنة ١٥٠٠ قبل الميلاد، والظاهر أن الديانة الكريتية كانت تشبه من بعض الوجوه ديانات سوريةً وآسيا الصغرى، أما في الفن فالشبه أعظم بينها وبين مصر، على الرغم من أن الفن الكريتي كان أصيلًا إلى حدٍّ بعيد، ومليئًا بالحياة حتى يثير فينا العجب. ومركز المدنية الكريتية مكان يطلق عليه «قصر مينوس» في كنوسوس، التي لبثت ذكراها عالقةً في تقاليد اليونان القديمة أمدًا طويلًا، كانت قصور كريت بالغة الفخامة، لكنها دُمِّرت عند نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقريبًا، والأرجح أن يكون مدمِّروها غزاةً جاءوها من اليونان، وإنما قرأنا تواريخ الحوادث التي وقعت في كريت، ممَّا وجدناه فيها من آثارٍ مصرية، وممَّا وجدناه في مصر من آثارٍ كريتية، وعِلمنا في هذه الأمور كلها قائم على أدلةٍ من الحفائر الأثرية.

وعبد الكريتيون إلهةً أو إلهات كثيرات، والإلهة التي بلغت عندهم أقصى درجات الإيمان، هي «ربة الحيوان» التي كانت صائدة، وربما كانت هذه مصدر الإلهة «أرتميس» عند اليونان الأقدمين،٣ والظاهر أنها هي الأخرى كانت أمًّا، وأما الإله الذكر الوحيد — فيما عدا «رب الحيوان» — فهو ابنها الصغير، وهنالك من الأدلة ما يثبت إيمانهم بحياةٍ آخرة، يلقى فيها الإنسان جزاء ما صنعَت يداه في الدنيا، إن عقابًا أو ثوابًا، كما كانت عقيدة المصريين في هذا الصدد، لكن يظهر من فن الكريتيين أنهم كانوا ذوي مرح لم تثقل عليهم وطأة الخرافات العابسة، فكانوا مشغوفين بقتال التيرة، الذي كان يُبدي فيه المقاتلون — رجالًا ونساءً — جرأةً بهلوانية عجيبة، ويظن سير آرثر إيفانز أن قتال الثِّيَرة كان عندهم من الحفلات الدينية، وأن القائمين به كانوا من أشرف الطبقات، لكن أغلب الرأي لا يأخذ بهذا الظن، ومهما يكن من أمرٍ فالرسوم الباقية بين أيدينا مليئة بالحركة والواقعية.

وللكريتيين كتابة قوامها خطوط مستقيمة لم تجد من يفك رموزها بعد، وكان هؤلاء الناس مسالمين في ديارهم، لا يُقيمون الأسوار حول مُدنهم، ولا شك أنهم كانوا يحتمون بقوتهم البحرية.

وقبل أن تنال يد التدمير من مدنية مينوس، امتدَّت نحو سنة ١٦٠٠ قبل الميلاد إلى أرض اليونان الأصلية. حيث ظلَّت قائمةً خلال مراحل تدريجية من التحوير، حتى عام ٩٠٠ قبل الميلاد، وتسمَّى هذه المدنية التي قامت في اليونان الأصلية بالمدنية المسينية، وإنما جاءنا العلم بها من مقابر الملوك ومن قلاعٍ على قمم التلال، تدل على خوفٍ من الحرب لم تسبقهم إلى مثله كريت؛ وكان لتلك المقابر والقلاع أثرها في نفوس اليونان الأقدمين، وأما ما تراه هناك في القصور من نتاجٍ فني أقدم عهدًا من ذلك، فهو إما أن يكون صناعةً كريتية خالصة، أو وثيق العلاقة بما صنعه الكريتيون. والمدنية المسينية التي نراها خلال ضباب الأساطير، هي نفسها المدنية التي صوَّرها هومر.

ونحن على شكٍّ كبير فيما يتعلق بأمر هؤلاء المسينيين؛ أهم مدينون بحضارتهم لغزو الكريتيين لبلادهم؟ هل كانوا يتكلمون اليونانية، أم كانوا سلالةً أسبق استيطانًا لتلك البلاد من اليونان؟ إننا لا نستطيع الجواب الحاسم عن هذه الأسئلة، لكن هنالك من الأدلة ما يبرِّر لنا أن نرجِّح أنهم كانوا غزاةً لا يتكلمون اليونانية، وأن السادة منهم على الأقل كانوا يتألفون من غزاة شُقر الشعر جاءوا من الشمال، جاءوا معهم باللغة اليونانية،٤ فقد أتى اليونان إلى بلاد اليونان في موجاتٍ ثلاث متعاقبة؛ أولها الأيونيون، ثم الآخيون، وأخيرًا الدوريون. ويظهر أن الأيونيين على الرغم من كونهم غزاة، قد اصطنعوا المدنية الكريتية كلها تقريبًا، كما حدث فيما بعدُ أن اصطنع الرومان مدنية اليونان، لكن الأيونيين لم يستقرَّ بهم المقام، وطُردوا — إلى حدٍّ كبير — من البلاد على أيدي خلفائهم الآخيين؛ فالمعروف من أقراصٍ خلَّفها الحتيون ووُجدت في «بوغاز كوي»، أن الآخيين كانت لهم إمبراطورية منظمة فسيحة الأرجاء في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. على أن هذه المدنية المسينية التي كانت قد أضعفتها حروب الأيونيين والآخيين، انتهت إلى خرابٍ محقَّق على أيدي الدوريين، الذين هم آخر الغزاة اليونان، وبينما كان الغزاة السابقون لهم قد اتخذوا لأنفسهم ديانة مينوس إلى حدٍّ كبير، ترى هؤلاء الدوريين قد احتفظوا بالديانة «الهندية-الأوروبية» التي كانت عقيدة أسلافهم. ومهما يكن من أمر، فقد لبثت ديانة العهد المسيني قائمة — خصوصًا بين الطبقات الدنيا — وما ديانة اليونان الأقدمين إلا مزيج من العقيدتين؛ إذ ترى أن بعض إلهات اليونان مستمدة من أصلٍ مسيني.

وعلى الرغم من أننا نرجِّح صحة هذا الذي رويناه، إلا أنه لا بُدَّ أن نذكر أننا لا نعرف إن كان المسينيون يونانيين أو لم يكونوا، وكل ما نعلمه علم اليقين هو أن حضارتهم قد دب فيها الانحلال، وأن الحديد قد حل محل البرونز في الوقت الذي قاربت فيه تلك الحضارة ختامها، وأن سيادة البحر قد انتقلت حينًا من الدهر إلى أيدي الفينيقيين.

وفي نهاية العصر المسيني وبعد ختام ذلك العهد، استقر بعض الغزاة في الأرض وأصبحوا مزارعين، بينما واصل بعضهم الآخر مسيرهم إلى الجزر وآسيا الصغرى أولًا، ثم إلى صقلية وجنوبي إيطاليا، حيث أقاموا المدن التي بنت حياتها على التجارة البحرية، وفي هذه المدن البحرية أضاف اليونان أول مبتكراتهم التي أضافوها إلى تراث المدنية، وأما أثينا فقد جاءت سيادتها بعد ذلك، وكانت هي الأخرى مرتبطةً بالقوة البحرية.

إن أرض اليونان الأصلية جبلية ومعظمها جدب على الرغم من وجود وديان خصيبة كثيرة، طريقها إلى البحر هين، لكن الاتصال الأرضي بين بعضها وبعض عسير بسبب ما ينهض بينها من جبال، وفي هذه الوديان نشأت جماعات صغيرة متفرقة، تعيش على الزراعة وتتحلَّق حول مدينةٍ غالبًا ما تكون قريبةً من البحر، فكان من الطبيعي في مثل تلك الجماعات إذا ما زاد عدد سكانها على مواردها الداخلية، أن ينزح عنها من لا يستطيع العيش من أرضها، فيقصد إلى الملاحة في البحر. وسرعان ما كوَّنت مدن اليونان الأصلية مستعمرات غالبًا ما كانت في أرض أيسر رزقًا من أرض الوطن. وهكذا ترى في أقدم العصور التاريخية أن يونانيي آسيا الصغرى وصقلية وإيطاليا كانوا أكثر ثراءً من يونانيي أرض الوطن.

وكان النظام الاجتماعي يختلف اختلافًا بعيدًا في جهات اليونان المختلفة؛ ففي إسبرطة كانت تعيش فئةٌ صغيرة من العلية على استغلال عبيد من سلالةٍ مختلفة عن سلالتهم، فكان يقع عليهم هذا الغبن، أما في المناطق الزراعية الأفقر من غيرها، فالسكان يتألفون في الأعم الأغلب من مزارعين يزرعون الأرض التي يملكونها بمعونة عائلاتهم، لكن حيثما ازدهرت التجارة والصناعة، كان المواطنون الأحرار يزدادون ثراءً باستخدامهم للعبيد — فالعبيد الذكور في المناجم والعبيد الإناث في صناعة النسيج — وكان مصدر هؤلاء العبيد — في أيونيا — هو الهمج الذين يسكنون في بلادٍ محيطة بالمنطقة، وكان الأحرار يظفرون بهم أول الأمر في الحروب، ولمَّا زادت الثروة ازدادت تبعًا لذلك عزلة النساء ذوات المنزلة العالية، ولم يعد لهن فيما بعدُ عمل يشاركن به في حياة اليونان المتحضرة، إذا استثنيت إسبرطة ولزبوس.

وكانت البلاد تسير في طريقٍ من التطور الشامل؛ فهي تسير أولًا من الملكية إلى الأرستقراطية، ثم إلى طغيانٍ وديمقراطية يتناوبان، ولم يكن الملوك مطلقي السلطة كما كانوا في مصر وبابل، بل كان إلى جانبهم مجلس للشورى من الشيوخ، ولم يكن هؤلاء الملوك ليستطيعوا أن يدوسوا على حرمة التقاليد دون أن ينال منهم العقاب. وليس معنى «الطغيان» بالضرورة حكومةً فاسدة، إنما كان معناه حكم رجل واحد لم ينل حقه في السلطة بالوراثة، وكان معنى «الديمقراطية» حكومة أهل المدينة جميعًا، ما عدا العبيد والنساء. وقد اكتسب الطغاة الأولون — مثل أسرة ميديتشي — السلطان بسبب كونهم أغنى أفراد بلادهم البلوتوقراطية، وغالبًا ما كان ثراؤهم مستمدًّا من امتلاكهم لمناجم الذهب والفضة، ثم ازداد هذا المصدر درًّا للربح حين دخل نظام جديد في النقود جاءهم من مملكة ليديا التي كانت تجاور أيونيا،٥ والظاهر أن نظام النقود قد ظهر لأول مرة قبيل سنة ٧٠٠ قبل الميلاد.
ومن أهم النتائج — بالنسبة لليونان — التي ترتَّبت على التجارة أو القرصنة — وأوشكت التجارة والقرصنة ألَّا تتميَّز إحداهما من الأخرى — اكتساب فن الكتابة، فعلى الرغم من أن الكتابة كانت قد عمرت في مصر وبابل آلاف السنين، ومن أن الكريتيين في مدنية مينوس كان لهم كتابة (لم تفكَّ من رموزها بعد)، فليس لدينا دليل قاطع على أن اليونان قد تعلموا الكتابة بأحرف الهجاء حتى ما يقرب من القرن العاشر قبل الميلاد تعلَّموها من الفينيقيين، الذين كانوا تحت تأثير المصريين والبابليين — شأنهم في ذلك شأن سائر أهل سوريا — والذين كانت لهم السيادة البحرية، إلى أن نشأت المدن اليونانية في أيونيا وإيطاليا وصقلية؛ ففي القرن الرابع عشر (قبل الميلاد) كان السوريون — حين كتبوا لأخناتون (ملك مصر الخارج على عقيدة بلاده اليونانية) — لا يزالون يستعملون الكفاية المسمارية البابلية، أما «حرام» في صور (٩٦٩–٩٣٦) فقد استخدم أحرف الهجاء الفينيقية، التي ربما كانت تهذيبًا للكتابة المصرية، وكان المصريون بادئ ذي بدء يستعملون الكتابة التصويرية الخاصة، ثم أخذت العصور تجري مجرى العرف إلى حدٍّ بعيد، وأصبحت تدريجيًّا بمثابة المقاطع (أعني أنها كانت تمثِّل المقاطع الأولى من أسماء الأشياء المصورة)، وأخيرًا أصبحت الصورة تدل على حرف، على أساس أن «ر» تمثِّل رامي السهم الذي يصيد الضفدع،٦ وهذه الخطوة الأخيرة التي لم يخطها المصريون كاملة، بل تُعزى إلى الفينيقيين، هي التي أعطتنا أحرف الهجاء بكل ما لها من حسنات، واستعار اليونان أحرف الهجاء من الفينيقيين ثم صوَّروها بحيث تلائم لغتهم، وأضافوا إليها إضافةً هامة حين أضافوا الأحرف المتحركة، بعد أن كانت كل الحروف ساكنة، وليس من شكٍّ في أن اكتساب هذه الطريقة النافعة في الكتابة، هو الذي سارع في نهوض المدنية اليونانية نهوضًا سريعًا.
جاء هومر أول ما يستوقف النظر من ثمرات المدنية الهلينية، وكل ما نقوله عن هومر ضربٌ من التخمين، لكن الرأي الراجح عند كثيرين، هو أن هومر اسم يُطلق على مجموعةٍ من الشعراء، لا على شاعرٍ واحد، وبناءً على أصحاب هذا الرأي، تكون الإلياذة والأوديسية قد استغرقتا نحو مائتي عام حتى كملتا، ويحدِّد بعضهم هذه الفترة ما بين سنتي ٧٥٠، ٥٥٠ قبل الميلاد،٧ بينما يعتقد آخرون أن «هومر» كاد يبلغ تمامه عند نهاية القرن الثامن،٨ والذي جاء إلى أثينا بالأشعار الهومرية في صورتها الحاضرة، هو «بيسستراتس» الذي حكم (في شيءٍ من التقطع) من ٥٦٠ إلى ٥٢٧ قبل الميلاد، وأخذ الشباب الأثيني منذ ذلك العهد يحفظون هومر عن ظهر قلب، وكان هذا هو أهم جزء في تعليمهم، ولكن أجزاءً أخرى من اليونان — خصوصًا في إسبرطة — لم تُنزل هومر كل هذه المنزلة إلا في عهدٍ متأخر.

والأشعار الهومرية — كالقصص الغرامية التي سادت علية القوم في الجزء المتأخر من العصور الوسطى — تمثِّل وجهة نظر الأرستقراطية المتمدنة التي لم تأبه للخرافات التي لا تزال شائعةً بين عامة الناس على اعتبار أنها علامة السوقة، وقد عاد كثيرٌ من هذه الخرافات في عصرٍ جاء بعد ذلك بزمنٍ طويل، عادت فظهرت ظهورًا جعلها مركزًا للاهتمام؛ ويذهب كثيرٌ من كتاب هذا العصر الحديث — مهتدين فيما يذهبون إليه بعلم الأجناس البشرية — إلى أن هومر كان أبعد ما يكون الإنسان عن البدائية، بل الأقرب إلى الصواب أنه كان يغالب البدائية؛ فهو من قبيلٍ من أنصار العقل الذين ظهروا في القرن الثامن عشر وأخذوا يبرِّرون بالعقل أساطير القدماء، كأنما ضرب مثلًا أعلى للطبقة العالية من الحضر المستنير، فلم تكن آلهة الأولمب التي تمثل الدين عند هومر، بالمعبودات الوحيدة عند اليونان، لا في عصر هومر ولا بعد عصره، بل كان إلى جانبها عناصر أخرى أحلك ظلامًا وأشد همجيةً من تلك الآلهة، شاعت في الديانة الشعبية، تجنَّبها العقل اليوناني في عصر ازدهاره، لكنها ظلت تتحفَّز للوثوب إذا ما حانت لها فرصة ضعف أو إرهاب، فإن العقائد التي كان هومر قد نبذها، دلت في عصر الانحلال على أنها احتفظت ببقائها، فاختفى منها شيءٌ وبقي شيءٌ خلال العصر القديم كله، وهذه الحقيقة تفسِّر لنا أشياء كثيرة، ولولاها لظلت هذه الأشياء في أنظارنا نابية في عصرها وتثير العجب.

كانت الديانة البدائية في أرجاء الأرض كلها ديانةً قبَلية أكثر منها عقيدة شخصية؛ فقد كان الناس يؤدون شعائر معينة بقصد استخدام الاستعطاف لخدمة مصالح القبيلة خصوصًا فيما يتعلق بالخصوبة في الزرع والحيوان والإنسان، كذلك كان الانقلاب الشتوي يدعوهم أن يلتمسوا من الشمس ألَّا تمضي في تناقص قوتها، كما كان الربيع والحصاد داعيَين كذلك إلى حفلاتٍ دينية تُناسب الموقف، وكانت هذه الحفلات الدينية تؤدى على نحوٍ يثير حماسةً جماعية حادة، يفقد فيها الأفراد شعورهم بفرديتهم، ويُحسون بأنهم قد اندمجوا في مجموع القبيلة اندماجًا؛ وعند مرحلةٍ معينة من مراحل التطور الديني في أنحاء العالم كله كانت تضحى صنوفٌ من الحيوان المقدس وأفراد من الإنسان، تضحيةً دينية، فيُذبحون ويؤكلون، وقد وقعت هذه المرحلة في عصورٍ تختلف باختلاف المناطق، وحدث في أغلب الحالات أن دامت التضحية بالإنسان حتى بعد الإقلاع عن أكل من يضحَّى بهم من الأفراد أكلًا دينيًّا، ولم تكن تلك التضحية بأفراد الإنسان قد امَّحت بعدُ في اليونان حين بدأت العصور التاريخية، وكانت شعائر استجلاب الخصوبة شائعةً في بلاد اليونان كلها، دون أن تشوبها قسوة كهذه، خصوصًا تعازيم «إليوزين» لأنها كانت تقصد برموزها إلى إخصاب الزراعة قبل أي شيءٍ آخر.

ولا بُدَّ لنا أن نعترف بأن العقيدة الدينية، كما هي في هومر، ليست دينيةً إلى حدٍّ كبير؛ فالآلهة هناك بشرية إلى أقصى الحدود، لا تختلف عن الإنسان إلا في كونها خالدةً ومزوَّدة بقوةٍ خارقة للطبيعة البشرية، أما من الوجهة الخلقية فليس ثمة ما يحفِّزنا إلى استحسانهم. ومن العسير علينا أن ندرك كيف أمكن لهؤلاء الآلهة أن يُدخلوا في أنفس الناس شيئًا من الرهبة؛ ففي بعض الفقرات من أشعار هومر — وهي فقرات مفروض فيها أنها متأخرة التاريخ — ترى الآلهة يعامَلون بروح استخفاف كالتي رأيناها عند فولتير. وأما الشعور الديني الصادق الذي قد تُصادفه عند هومر، فإنما تُصادفه شعورًا لا يهتم بآلهة الأولمب قدر اهتمامه بكائناتٍ ألطف وجودًا منها؛ مثل «القدر» و«الضرورة» و«القضاء»، وهي كائنات يخضع لها زيوس نفسه؛ فقد سيطر «القدر» سيطرةً قوية على الفكر اليوناني كله، وربما كان مصدرًا من المصادر التي استمد منها العلم اعتقاده بقوانين الطبيعة.

كان الآلهة في أشعار هومر، هم آلهة السادة الغزاة، ولم يكونوا الآلهة النافعين الذين يجلبون الخصوبة للأرض، والذين يتوجه إليهم بالعبادة أولئك الذين يعملون في زراعة الأرض فعلًا، فالأمر كما يقول «جلبرت مري»:٩

«إن الآلهة في الأمم كلها تزعم أنها خلقت العالم، أما آلهة الأولمب فلا يتقدمون لأنفسهم بمثل هذه الدعوى، وغاية جهدهم هي أن يفتحوا هذا العالم غزوًا … فإذا ما تم لهم فتح ممالكهم، فماذا تراهم يصنعون؟ أيمسكون في أيديهم بزمام الحكم؟ هل يُعنَون بتقدم الزراعة؟ هل يمارسون الحرف والصناعات؟ كلا، لا شيء من هذا، فلماذا يؤدون أي عملٍ شريف؟ إنهم وجدوا أنه أيسر لهم أن يعيشوا على الضرائب يفرضونها، وهم يصعقون بالصواعق من لا يدفعون لهم ما يستحقون؛ إنهم رءوس غزاة، وقراصنة تجري فيهم دماء الملوك، وهم يقاتلون ويأكلون ويلعبون ويعزفون الموسيقى؛ إنهم يُسرفون في الشراب ويُقهقهون بالضحكات سخريةً بالحداد الأعرج الذي يقوم بخدمتهم؛ إنهم لا يخشَون شيئًا إلا ملكهم، وهم لا يكذبون أبدًا إلا فيما يمس الحب والحرب.» ولم يكن أبطال الناس عند هومر أيضًا فضلاء السلوك؛ فالأسرة البارزة عنده هي أسرة «بيلوف»، ولم تنجح في أن تكون نموذجًا لحياة الأسرة السعيدة.

فقد بدأ تانتالوس — المؤسس الآسيوي للأسرة — بدأ سيرتها باعتداءٍ صريح على الآلهة، ويقول بعضهم: إنه اعتدى على الآلهة بأن حاول خداعهم حين أراد أن يحملهم على أكل لحم بشري، هو لحم ابنه «ببلوب»، ثم عاد «ببلوب» إلى الحياة بمعجزة، واعتدى على الآلهة كذلك بدوره، وذلك بأن كسب سبقه المشهور في مضمار العربات الحربية، وكان منافسه في السباق «أوبنوماوس» ملك بيزا، وإنما ظفر بالسبق على منافسه بالتآمر مع سائق عربة ذلك المنافس، وكان اسمه «مرتيلوس»، ووعده الجزاء على صنيعه، لكنه تخلَّص منه بأن طوَّح به في البحر، فنزلت اللعنة على ابنَيه «ثايستيز» و«أتريوس» جاءتهما اللعنة في صورةٍ يُطلق عليها اليونان كلمة «آت» ومؤداها نزوع شديد، إن لم تقل إنه نزوعٌ يستحيل مقاومته، نحو اقتراف الجرائم، أما «ثايستيز» فقد اعتدى على زوجة أخيه، واستطاع بذلك أن يسرق «حظ» الأسرة، وهو كبش ذهبي الصوف مشهور؛ فعمل «أتريوس» بدوره على نفي أخيه، ثم استدعاه زاعمًا أنه يريد أن يزيل ما بينهما من خلاف، لكنه قدَّم له طعامًا من لحم أبنائه «أبناء ثايستيز»، فنزلت اللعنة على ابن «أتريوس» وهو أجاممنون الذي آذى الآلهة «أرتميس» بقتله وعلًا مقدسًا، وضحَّى بابنته «إفجنيا» لعلها تسترضي الآلهة الغضبى، وتستأذنها في طريقٍ ميسر لأسطول أبيها وهو في طريقه إلى طروادة، لكنه اغتيل على يد زوجته الخائنة لعهده، وهي «كلايتا يمنسترا» وعشيقها «آيجيئوس» وهو ابن من أبناء «ثايستيز» كان لا يزال على قيد الحياة، فعاد «أورستيز» بدوره إلى أخذ ثأر أبيه أجاممنون، وذلك بأن قتل أمه وعشيقها «آيجيئوس.»١٠
إن قصائد هومر باعتبارها عملًا فنيًّا كاملًا، نتاجٌ أيوني، وأقصد بأيونيا جزءًا من آسيا الصغرى الهلينية والجزر المجاورة. ولقد اتخذت أشعار هومر صورتها الثابتة التي هي عليها اليوم، إبَّان القرن السادس على أحدث تقدير، وفي هذا القرن السادس نفسه بدأ اليونان علمهم وفلسفتهم ورياضتهم، وفي ذلك الوقت نفسه كانت تقع أحداثٌ كبرى في أجزاءٍ أخرى من العالم، فمن المرجَّح أن يكون كونفوشيوس وبوذا وزرادشت — إن كان لهؤلاء الأشخاص وجود على الإطلاق — ممن عاشوا في ذلك القرن.١١ وفي منتصف القرن وضع كورسن أساس الإمبراطورية الفارسية، ولمَّا دنا القرن من ختامه قامت المدن اليونانية في أيونيا، التي كان الفرس قد منحوها استقلالًا ذاتيًّا محدودًا، قامت بثورةٍ فاشلة، أخمدها دارا، ونفى خيرة أبنائها؛ وكثيرون من فلاسفة هذا العصر كانوا ممن لاذوا بالفرار، وأخذوا يضربون في الأرض من مدينةٍ إلى مدينة في الجزء الهليني الذي لم يكن قد خضع للفرس بعد، وكانوا في تجوالهم أداةً لنشر المدنية التي ظلَّت حتى الحين محصورةً في أيونيا أو كادت؛ ولقد صادفوا في تجوالهم ذاك لقاءً كريمًا، فيقول أكسنوفان الذي ازدهر في الشطر الثاني من القرن السادس والذي كان أحد هؤلاء اللاجئين: «هذا ما كنا نقوله بجانب المدفأة أيام الشتاء ونحن مضطجعون على الأرائك اللينة بعد أكلةٍ طيبة، نشرب النبيذ الحلو ونطقطق البندق: «من أي بلدٍ أنت، وما عمرك يا سيدي الكريم، وكم كان عمرك حين ظهرت ميدا mede؟» أما بقية اليونان فقد نجحت في احتفاظها باستقلالها في معركتَي سلاميس وبلاتيه، اللتين تحرَّرت بعدهما إيونيا حينًا من الزمان.١٢

وانقسمت اليونان عددًا كبيرًا من الدويلات المستقلة، قوام كل منها مدينة يُحيط بها جزء من الأرض الزراعية، وكان مستوى الحضارة يختلف اختلافًا بعيدًا في الأجزاء المختلفة من بلاد اليونان، ولم يُسهم منها في الإنتاج الهليني بصفةٍ عامة إلا عدد قليل. وكان لإسبرطة — التي سأُطيل الحديث عنها فيما بعد — أهميةً عسكرية، لكنها لم تكن بذي خطر من الوجهة الثقافية، وكانت «كورنث» غنيةً مزدهرة؛ إذ كانت مركزًا تجاريًّا عظيمًا، لكنها لم تُنجب في الرجال إنجابًا خصيبًا.

وإلى جانب ذلك كان هناك مجتمعات ريفية زراعية خالصة، مثل «أركاديا» التي ذهبت بذكرها الأمثال، والتي كان سكان المدن يظنونها فردوسًا يانعًا، مع أنها في حقيقة أمرها كانت مليئةً بالمفازع الوحشية القديمة.

وكان سكان البلاد يعبدون «هرميس» و«بان» وكان لهم كثرة من عقائدٍ خاصة بالإنجاب، وكثيرًا ما اكتفوا بعمود مربع ساذج، يتخذونه مكان تمثال الإله، وكانت الماعز عندهم رمزًا للخصوبة؛ لأن الناس كانوا أفقر من أن يكون لديهم عجول، وإذا قل عندهم الطعام، ضربوا تمثال الإله «بان» (لا تزال أشياء كهذه تقع في قرى الصين البعيدة)، وكانت هناك فصيلة من الناس يرجع الناس سلالتها إلى أسلافٍ من ذئاب، ومن أكل لحم ضحية بشرية منها أصبح ذئبًا كما كان ثمة كهف مقدس، لزيوس ليكايوس (أي زيوس الذئب)، ولم يكن ليتكوَّن لأحدٍ وهو داخل هذا الكهف ظل، ومن دخل الكهف مات في غضون العام؛ كل هذه الخرافة كانت لا تزال قائمةً في عصر اليونان الأقدمين.١٣
أما «يان» فقد كان اسمه الأصلي (كما يقول بعض ذوي الرأي) «ياوون»، ومعناها الذي يطعم، أو الراعي، ثم سُمي باسمه المعروف «يان» التي تُشرح بمعنى «رب الجميع»، وذلك حين عبدته أثينا في القرن الخامس بعد الحرب الفارسية.١٤

على أن اليونان القديمة كان بها — فضلًا عن ذلك — كثيرٌ ممَّا نُحس إزاءه أنه جزءٌ من ديانتهم كما نفهم معنى كلمة «ديانة»، ونعني به شيئًا لا يتصل بأصحاب الأولمب، بل بديونيسوس أو باخوس الذي نتصوَّره بطبيعة حاله إلهًا اختص بالخمر والسكر، وساءت سمعته لهذا، وإنه لمِما يستوقف النظر بشكلٍ ظاهر أن صوفيةً عميقة نشأت من عبادة هذا الإله، وهي صوفية كانت عميقة الأثر في فلاسفةٍ كثيرين، بل كان لها بعض الأثر في تشكيل اللاهوت المسيحي، ولا مناص لمن يريد دراسة تطوُّر الفكر اليوناني أن يفهم ذلك حق الفهم.

كان ديونيسوس (أو باخوس) في أول الأمر إلهًا في تراقيا، وكان أهل تراقيا في حضارتهم أقبل بكثيرٍ جدًّا من اليونان الذين عدوا التراقيين من الهمج. والتراقيون ككل الشعوب الزراعية البدائية لهم طقوسهم الخاصة بالإخصاب، ولهم إله يعني الإخصاب، واسمه باخوس، ولم يعلم أحد علم اليقين عن باخوس هل كان له جسد إنسان أو عجل، فلمَّا عرف الناس طريقة صنع الجعة، ظنوا أن السكر شيء إلهي، وكرَّموا باخوس من أجل ذلك. ثم لمَّا عرفوا فيما بعدُ ما الكُروم وما خمرها، ازدادوا إعلاءً من شأن باخوس، وعندئذٍ تحوَّلت وظيفته من الإخصاب بصفةٍ عامة، إلى العناية بالعنب وبالجنون الإلهي الذي يسبِّبه شرب النبيذ.

ولسنا ندري متى انتقلت عبادته من تراقيا إلى اليونان، ولكن يظهر أنه قد تم ذلك قبيل بداية العصور التاريخية، وعلى الرغم من أن عبادة باخوس قوبلت بالسخط من المتمسكين بعقيدتهم الدينية الأولى، فإن تلك العبادة استطاعت أن تقيم بناءها، وكان كثيرٌ من عناصرها وحشيًّا، مثال ذلك تمزيق الحيوان المتوحش إرْبًا إرْبًا، ثم أكل الأجزاء نيئة. وفي هذه العبادة عنصر نسوي عجيب، فترى الأمهات والعذارى المحترمات يُنفقن عدة ليالٍ وهن جماعات، في العراء على رءوس التلال، يرقصن رقصات تحرِّك فيهن النشوة، وتراهن في هذه الاجتماعات مخمورات، وربما يُعزى بعض سكرهن إلى شرب الخمور، لكنه قبل كل شيء سكر صوفي. وكان الأزواج لا يطمئنون نفسًا لهذا الفعل، لكنهم لم يجرءوا على معارضة الدين، وإنك لتطالع في رواية «باخي» ليوربيبد جمال هذه العبادة ووحشيتها في آنٍ معًا.

ولا يدهشنا نجاح ديونيسوس في اليونان؛ فهم كسائر الجماعات التي انتقلت إلى الحضارة بخطواتٍ سراعٍ، تراهم — أو على الأقل ترى بعضهم — قد تعهَّدوا في أنفسهم شعورًا بحب ما هو بدائي، وتراهم يسعَون إلى أسلوبٍ من العيش أقرب إلى الغريزة والعاطفة من أوضاع الأخلاق الجارية التي يقوم العرف على صيانتها؛ فالرجل أو المرأة التي أُجبرت إجبارًا على أن تكون أكثر مدنيةً في سلوكها الظاهر منها في شعورها، يؤذيها أحكام العقل، وتكون الفضيلة بالنسبة لها عبئًا واسترقاقًا، وهذا ينتهي إلى رد فعل في الفكر والشعور والسلوك، ونحن الآن معنيون برد الفعل في الفكر بصفةٍ خاصة، لكننا قبل ذلك لا بُدَّ أن نقول شيئًا عن رد الفعل في الشعور وفي السلوك.

إن الإنسان المتمدن يتميَّز من الهمجي بسداد الرأي قبل كل شيء، أو إذا شئت لفظةً أشمل قليلًا من تلك، فقل إنه يتميَّز ببُعد النظر (الذي يتنبَّأ بما سيقع قبل وقوعه)، فتراه لا يأبى احتمال الألم الراهن من أجل لذة مستقبلة، حتى وإن كانت تلك اللذة المقبلة بعيدة الوقوع، وقد أخذت تظهر أهمية هذه العادة حين بدأت الزراعة، فليس هناك حيوان ولا إنسان من الهمج يعمل في الربيع لكي يدخر طعامًا للشتاء، اللهم إلا قليلًا من الحالات الغريزية الخالصة، كالنحل يصنع العسل، والسنجاب يدفن البندق تحت الثرى؛ وليس ثمة بُعد نظر في هذه الحالات، بل هنالك دافع مباشر يدفع الحيوان إلى فعلٍ لا يعلم عن نفعه في المستقبل إلا الإنسان المتفرج. إن بُعد النظر الحقيقي هو الذي يقع حين يفعل الإنسان فعلًا لا يدفعه إلى فعله دافع طبيعي، بل يفعله لأن عقله يهديه إلى أنه سينتفع بهذا الفعل في تاريخٍ مقبل؛ ولا يحتاج الصيد إلى بُعد نظر لأنه لذيذ، أمَّا حرث الأرض فعمل شاق ويستحيل فعله بدافعٍ فطري باطني.

والمدنية من شأنها أن تُلجم الدافع الفطري، وليست وسيلتها في ذلك بُعد النظر فحسب، الذي هو من فرض الإنسان على نفسه، بل إن من وسائلها أيضًا في كبح الدوافع الفطرية، القانون والعادات والدين، وهي ترث هذا الكباح من عصر الهمجية، لكنها تخفِّف الجانب الغريزي فيه وتجعله أكثر اتساقًا في أجزائه بحيث لا ينقص بعضها بعضًا؛ فترى بعض الأفعال قد وُصف بأنه إجرامٌ وخُصص له العقاب، وبعضها لا يعاقب عليه القانون، لكنه يوصف مع ذلك بالشر، والذين يفعلون مثل هذه الأفعال يتعرضون لسخط الناس، وكان من نتائج نظام المِلكية خضوع المرأة، وكثيرًا ما ينتج عن هذا النظام أيضًا قيام طبقة من العبيد، فأغراض المجتمع قد فُرضت فرضًا على الفرد من جهة، والفرد من جهةٍ أخرى لمَّا اعتاد النظر إلى حياته جملة، ازداد تضحيةً لحاضره في سبيل مستقبله.

وواضحٌ أن هذا الاتجاه قد يبالغ في تطبيقه، كما يفعل البخيل مثلًا، لكننا بغض النظر عن هذه الحالات المغالية، نرى بُعد النظر قد يقتضي بطبيعته فقدان الإنسان لبعض ما هو أحسن جوانب الحياة؛ وعابد ديونيسوس بثور على بعد النظر، وهو حين يسكر سكرًا بدنيًّا أو روحيًّا يستعيد غزارةً في الشعور كان بعد النظر قد قضى عليها، ويرى العالم مليئًا بالجمال والمتعة، ويتحلَّل خياله بغتةً من سجن المشاغل اليومية، وقد نتج عن الطقوس الباخية ما كانوا يسمُّونه ﺑ «التوحد» الذي معناه دخول الله في شخص المتعبد، حتى ليعتقد هذا المتعبد أنه اتحد مع الله في واحد. إن كثيرًا من أروع آيات الإنسان يحتوي على عنصرٍ من عناصر السكر،١٥ أو قل يحتوي على تغلُّب العاطفة على بعد النظر بعض الشيء؛ فلولا العنصر الباخي في الحياة لفقدت الحياة لذَّتها، لكن الحياة خطرة بهذا العنصر فيها؛ فالنظر السديد من ناحيةٍ والعاطفة من ناحيةٍ أخرى يتصارعان صراعًا لم ينقطع طوال عصور التاريخ، وإنه لصراعٌ لا ينبغي لنا أن نؤيِّد فيه جانبًا على جانب كل التأييد.

أما في نطاق الفكر، فالمدنية الرصينة هي والعلم اسمان على مسمًّى واحد على وجه التقريب. لكن العلم الخالص وحده لا يقنع؛ فالناس بحاجةٍ مع العلم إلى العاطفة والفن والدين. ولئن جاز للعلم أن يضع الحدود للمعرفة، فلا يجوز له أن يضع أمثال هذه الحدود للخيال، وبين فلاسفة اليونان — كما هي الحال مع فلاسفة العصور التالية — فريق يميل إلى العلم بصفةٍ رئيسية، وفريق آخر يميل إلى الدين قبل أي شيءٍ آخر. وأما هذا الفريق الثاني فمدين بشيءٍ كثير لديانة باخوس، سواء جاء ذلك بطريقٍ مباشر أو غير مباشر. وهذا القول ينطبق بصفةٍ خاصة على أفلاطون، وعلى ما تفرَّع عنه فيما بعدُ من فروعٍ تبلورت في نهاية الأمر في اللاهوت المسيحي. كانت عبادة ديونيسوس في صورتها الأولى وحشية، بل كانت منفردةً في كثيرٍ من نواحيها، وهي لم تؤثر في الفلاسفة بصورتها تلك، بل أثَّرت فيهم حين اتخذت صورتها الروحية التي تُعزى إلى أورفيوس، وهي صورة مصطبغة بالزهد، أحلَّت السكر الروحي مكان السكر البدني.

وأورفيوس هذا شخصية غامضة، لكنها تستوقف النظر، ويعتقد بعضٌ أنه كان رجلًا حقيقيًّا، على حين يعتقد آخرون أنه كان إلهًا أو بطلًا خياليًّا. وتجري الرواية بأنه — مثل باخوس — جاء من تراقيا، لكن الظاهر أن الرأي الأرجح هو أنه (أو الحركة المرتبطة باسمه) جاءت من كريت؛ ومن المؤكَّد أن التعاليم الأورفية تحتوي على كثيرٍ ممَّا يظهر أن قد كانت جذوره الأولى في مصر، وأن كريت هي حلقة الوصل بين مصر واليونان في انتقال هذا الأثر. ويقال إن أورفيوس كان مُصلحًا مزَّقته طائفة متهوسة من معتنقي المذهب الباخي، ولم يكن انصرافه إلى الموسيقى في الأدوار الأولى من الأسطورة التي تُروى عنه، بنفس الأهمية التي بدت لهذا الجانب في الأدوار المتأخرة من تلك الأسطورة. وعلى كل حال فهو كاهن وفيلسوف قبل أي شيءٍ آخر.

ومهما يكن من أمر تعاليم أورفيوس (لو قد كان له وجود)، فنحن على علمٍ تام بالتعاليم الأورفية نفسها (أي تعاليم الأتباع)؛ فقد كان الأورفيون يعتقدون في تناسخ الأرواح، وذهبوا إلى أن الروح في الحياة الآخرة قد تنعم نعيمًا أبديًّا أو قد تُشفى بعذابٍ مقيم أو موقوت، حسب نوع الحياة التي قضاها صاحبها في الدنيا؛ وكان هدفهم أن يجعلوا أنفسهم «أطهارًا» بالاحتفالات الدينية التي تعمل على التطهير من ناحية، وبتجنُّبهم أنواعًا معينة من الدنس من ناحيةٍ أخرى، وأشدهم تمسكًا بعقيدته كان يمتنع عن أكل الحيوان، اللهم إلا في مناسبات طقوسية، وعندئذٍ يأكلون في صورةٍ دينية، وهم يعتقدون أن الإنسان بعضه من الأرض وبعضه من السماء، والحياة الطاهرة تزيد من الجزء السماوي وتُنقص من الجزء الأرضي، وقد يستطيع الإنسان في النهاية أن يتحد مع باخوس حتى ليُدعى بهذا الاسم نفسه؛ ولهم لاهوت مفصل ينص على أن باخوس وُلد مرتين؛ مرةً أولى من أمه «سِمِلي»، ومرةً ثانية من فخذ أبيه زيوس.

وللأسطورة الديونيسوسية صور كثيرة، تقول إحداها إن ديونيسوس هو ابن «زيوس» و«برسفوني»، وقد مزَّقه العمالقة إرْبًا إرْبًا حين كان صبيًّا، وأكلوا لحمه كله إلا قلبه؛ ويقول بعض إن زيوس أعطى القلب «سِمِلي»، ويقول آخرون إن «زيوس» ازدرده ازدرادًا؛ وكان ذلك في أي من الحالتين سببًا في مولدٍ جديد لديونيسوس، وتمزيق الباخيين لحيوانٍ مفترس والْتهام لحمه نيئًا، إنما يرمز إلى تمزيق ديونيسوس وأكله على أيدي العمالقة؛ والحيوان نفسه رمز لتجسيد الله بمعنًى من المعاني؛ وأما العمالقة فقد وُلدوا من الأرض أولًا، لكنهم بعد أكلهم للإله دبَّت فيهم شرارة إلهية؛ وكذلك الإنسان بعضه أرضي وبعضه إلهي، والطقوس الباخية هدفها أن تجعل الإنسان إلهيًّا كله تقريبًا.

وفي مسرحية يوربيد، تجري على لسان كاهن أورفي عبارة لها مغزاها١٦ وهي:
يا سيد سلالة أوروبا وصور،
يا من ولده زيوس، وعند قدميك
قلاع كريت المائة،
جئتُ ساعيًا إليك من ذلك الضريح المعتم
الذي سقفه عمود حي منحوت.
وبالصلب وبدماء عجل حي
وقطع لا خدش فيها من أشجار الصفصاف
ثُبت ذلك السقف، إن أيامي قد جرت …
مجرًى واحدًا طاهرًا. أنا الخادم
الملهَم بتعاليم «جوف» الذي يتبع «إيدا»١٧
وحينما طوَّف زاجريوس١٨ في منتصف الليل، طوَّفت معه.
لقد احتملت صياح صواعقه،
وأدَّيتُ أعياده الحمراء الدامية،
وأشعلتُ ﻟ «الأم الكبرى» شُعلتها على الجبل.
لقد أطلق سراحي، وسُمِّيتُ
باسم باخوس، منخرطًا في زُمرة الكهان،
وتزمَّلت برداءٍ أبيض، فطهَّرت نفسي
من دنس ولادة الإنسان ومن طينته التي هو دفينها،
ونحَّيت عن شفتَي دائمًا
طعم اللحم كله ما دام لكائنٍ حي.

ووُجدت لوحات أورفية في مقابر، عليها إرشادات لروح الميت تهديه طريقه في العالم الآخر، وماذا يقول لكي يقيم الدليل على أنه جديرٌ بالخلاص، وهذه اللوحات مكسورة وناقصة، وأقربها إلى الكمال (وهي لوحة بتاليا) تحتوي على ما يأتي:

ستجد إلى يسار منزل «هاوس» (إله الجحيم) ينبوعًا،
وستجد إلى جانب الينبوع صفصافة بيضاء،
فلا تقرب الينبوع عن كثب،
لكنك ستجد ينبوعًا آخر بجانب «بحيرة الذكرى»
ينبثق منه ماء بارد، وأمامه حُراس،
فقل: أنا ابن الأرض والسماء ذات النجوم،
لكن سلالتي من السماء وحدها، وأنتم بذلك عالمون.
ألَا ترونني محترقًا بالظمأ، أذوي؟ فأسرعوا إليَّ
بالماء البارد المنبثق من بحيرة «الذكرى»
وهم من تلقاء أنفسهم سيُعطونك الماء من الينبوع المقدس،
ومن ثم تكون لك السيادة بين سائر الأبطال …

وفي لوحةٍ أخرى ما يأتي: «بشراك يا من عانى ضروب العناء … لقد أصبحت إلهًا بعد أن كنت إنسانًا.» وفي لوحةٍ ثالثة ما يأتي: «إنك سعيدٌ مبارك؛ لأنك ستصير إلهًا بعد أن كنت بشرًا فانيًا.»

أمَّا ينبوع الماء الذي لا ينبغي للروح أن تشرب منه، فهو ما يجلب النسيان للشارب من مائه، وأما الينبوع الآخر، فهو ينبوع التذكرة؛ لأنه إن كانت الروح لتظفر بالخلاص في العالم الآخر، فلا بُدَّ لها ألَّا تكون ناسية، بل على نقيض ذلك — ينبغي أن تكون لها ذاكرة تفوق الذاكرة الطبيعية.

والمذهب الأورفي مذهب زاهد؛ فالخمر عند الأورفيين مجرد رمز، كما كان رمزًا أيضًا بالنسبة للعقيدة المسيحية فيما بعد، والشكر الذي كان الأورفيون ينشدونه هو حالة «الوجد»؛ أي حالة الاتحاد مع الله، وهم يعتقدون أنهم بهذه الطريقة يحصلون على ضربٍ من المعرفة الصوفية التي لا يمكن الحصول عليها بالوسائل المعروفة، وقد تسلَّل هذا العنصر الصوفي إلى الفلسفة اليونانية على أيدي فيثاغورس الذي كان مصلحًا للمذهب الأورفي، كما كان أورفيوس نفسه مصلحًا للديانة الديونيسوسية، ثم انتقلت الأورفية من فيثاغورس إلى أفلاطون، ومن أفلاطون انتقلت من جديدٍ إلى معظم الفلسفات التي جاءت بعدئذٍ فكان فيها عنصر ديني قلَّ أو كثر.

وأينما كان للأورفية نفوذ، غُرِست جذور المذهب الباخي الصريح، ومن بين هذه الجذور الباخية عنصر نسائي تراه واضحًا في فيثاغورس، ثم تراه قد اتسع عند أفلاطون اتساعًا جعل هذا الفيلسوف يطالب للنساء بالمساواة السياسية المطلقة. يقول فيثاغورس: «إن النساء في مجموعهن أقرب من الرجال إلى التقوى بطبيعتهن.» ومن هذه الجذور الباخية أيضًا احترام العاطفة العنيفة، حتى لقد نشأت المأساة اليونانية من طقوس الديانة الديونيسوسية؛ وترى يوريبيد بصفةٍ خاصة يُعْلي من شأن الإلهَين الرئيسيَّين في المذهب الأورفي، وهما ديونيسوس وإروس؛ فهو لا يحترم الرجل التقي الفاضل إن كانت تقواه وفضل سلوكه صادرَين عن برودٍ في العاطفة، وإن كان في مآسيه سرعان ما يُجن جنونه أو يشتد حزنه إذا ما سخط عليه الآلهة لكفره.

ولقد جرى العرف التقليدي عن اليونان بأنهم دلوا على رصانةٍ جديرة بالإعجاب، مكَّنتهم من النظر إلى العاطفة نظرةً موضوعية من الخارج، فيرَون فيها كل ما يمكن أن تُبديه من نواحي الجمال، مع بقائهم على هدوئهم وعلى صبغتهم الأولمبية، لكن هذا الرأي لا ينظر إلى حقيقة اليونان إلا من وجهٍ واحد فقط. نعم إنه رأيٌّ قد يكون صوابًا بالنسبة إلى هومر وسوفوكليز وأرسطو، لكنه بغير شك ليس صوابًا بالنسبة إلى هؤلاء اليونان الذين مسَّتهم آثار الباخية أو الأورفية بطريقٍ مباشر أو غير مباشر؛ ففي «إليوس» — حيث كانت الأسرار الإليوسيسية تكوِّن أقدس جانب في الديانة الرسمية في أثينا — كان الناس يتغنَّون بترنيمةٍ تقول:

تعالَ ممسكًا كأس شرابك عاليًا،
تعالَ في نشوتك التي تبعث الجنون،
تعالَ إلى وادي إليوسيس المزدهر،
تعالَ أنت، يا باخوس-نعماك.
وفي مسرحية «باخي» ليوريبيد Maenade، تبدي عجائز الجَوقة مزيجًا من الشِّعر والوحشية هو أبعد ما يكون عن الرصانة الهادئة، وهم يحتفلون بنشوتهم بتمزيقهم حيوانًا مفترسًا شلْوًا شلْوًا، وبأكلهم إياه نيئًا على الفور:
ألَا ما أشد سرورنا فوق الجبل،
إذ نعدو حتى نسقط من الإعياء،
فلا يبقى عالقًا إلا جلد الغزال المقدس،
وكل ما عداه يندفع بعيدًا
إلى حيث المرح على الينابيع الحمراء الدافقة،
وهي دماء ماعز الجبل بعد أن مُزِّقت إرْبًا،
وحيث مجدنا بالْتهام الحيوان المفترس
حيث تلتقط الجبل أشعة الصباح،
فهلمُّوا إلى جبال فرجيا، هلمُّوا إلى جبال ليديا،
وليكن «بروميوس»١٩ على رأسنا إمامًا.

ولم يكن رقص عجائز الجَوقة على سفح الجبل عنيفًا فحسب، بل كان هروبًا من أعباء المدنية وهمومها إلى عالم جماله غير بشري، عالم فيه حرية الهواء والنجوم، وتراهم ينشدون في موقف أقل هوسًا من الموقف السابق، فيقولون:

تُرى هل تعود لي يومًا
تلك الرقصات الطوال
التي تدوم طوال الليل حتى تغرب النجوم؟
تُرى هل أُحس قطرات الندى على حلقي
ومجرى الريح في شعري؟
تُرى هل تسطع أقدامنا البيض في السهول الممتعة؟
إن أقدام الغزال قد فرَّت إلى الغابة الخضراء
فكانت وحدها في الكلأ وفي دنيا الجمال.
إنه يثب لا عن خوفٍ كما كان،
فقد بَعُد عن الفخاخ وشباك الموت،
ومع ذلك فلا يزال يرن صوتٌ من بعيد،
لا يزال يرن صوت وخوف وكلاب صيد عجلانة.
ألَا إن جحفل الموت
لا يزال سائرًا قُدمًا إلى جانب النهر وفي جوف الوادي.
أكان عَدوُكِ أيتها الأقدام السريعة عن فرحٍ أم فزع؟
ففي الأرض العزيزة المعزولة عن سيئات الإنسان،
حيث لا يرن صوت، وبين الخضرة الظليلة،
يعيش صغار الأحياء هناك لا تراها العيون.
فقبل أن تقول مع القائلين إن اليونان كانوا ذوي رصانة وهدوء، حاوِل أولًا أن تتخيَّل الأمهات في فيلادلفيا (بأمريكا) يسلكن على هذا النحو، حتى ولو كان ذلك في مسرحية يكتبها «يوجين أونيل» Eugene O’nell.

ولم يكن الأورفي بأكثر هدوءًا من عابد ديونيسوس الذي لم تمتدَّ له يد الإصلاح؛ فالحياة عند الأورفي كلها ألمٌ وتعب؛ فنحن مُوثقون على عجلةٍ تدور بنا دورات لا نهاية لعددها، من مولدٍ وممات يتعاقبان، وحياتنا الصحيحة هي في النجوم، لولا أننا مرتبطون بالأرض، ويستحيل علينا أن نفر من هذه العجلة الدائرة، وأن نظفر آخر الأمر باتحادنا مع الله فننعم بما في ذلك من نشوة، إلا بالتطهير ونبذ اللذائذ والعيش الزاهد، فليست هذه نظرة قوم يرَون الحياة سهلةً ممتعة، بل هي أقرب إلى الروحاني الزنجي الذي قال:

سأنبئ الله عن كل متاعبي
حين أعود إلى الدار.

لم يكن اليونان جميعًا، لكن كانت أكثرية كبرى منهم قوية العاطفة لا تسعد بحياتها، وتحارب بعضها بعضًا، يسوقها العقل في ناحية وتسوقها العواطف في ناحيةٍ أخرى، وكان لها في الخيال ما تتصوَّر به الجنة كما كان لها من قوة تقرير ذاتها ما تخلق به صورة الجحيم، وكان اليونان يتمثَّلون بحكمةٍ عندهم تقول: «لا تُفرط في شيء»، لكنهم كانوا في الواقع يُسرفون في كل شيء؛ في التفكير الخالص، وفي الشعر، وفي الدين، وفي الخطيئة؛ وإن ما بلغ بهم مبلغ العظمة هو امتزاج العاطفة والعقل، ولم يكن العقل وحده ولا العاطفة وحدها لتُحوِّل العالم أبد الدهر بمقدارٍ ما عملًا معًا على تحويله؛ وليس نموذج اليونان في أساطيرهم هو زيوس الأولمبي، لكنه برومينيوس الذي جاء بالنار من السماء، فكان جزاؤه عذابًا سرمديًّا.

وإذا نحن أخذنا هذه الصفات التي أسلفناها في الفقرة السالفة على أنها تصوِّر اليونان جميعًا، كان ذلك منا نظرةً إلى الحقيقة من وجهةٍ واحدة، كالذي يقول عن اليونان إنهم يتسمون «بالرزانة»، فالواقع أن اليونان شهدت اتجاهين؛ أحدهما عاطفي ديني صوفي يهتم بالحياة الآخرة، والثاني مرح يعتد بتجرِبة الحواس ويعتمد على أحكام العقل، ويُهمه تحصيل العلم بشتى الحقائق الواقعة. ويمثِّل هيرودوت هذا الاتجاه الثاني، كما كان يمثِّله الفلاسفة الأيونيون الأولون، ويمثِّله أيضًا — إلى حدٍّ ما — أرسطو. ويقول بيلك Beloch٢٠ بعد أن تناول الأورفية بالشرح:

لكن الأمة اليونانية كانت أكثر جيشانًا بفتوة الشباب من أن تذعن كلها إذعانًا لعقيدةٍ تنكر هذا العالم الأرضي، وتحوِّل الحياة الحقيقية إلى حياةٍ آخرة. وعلى ذلك ظل المذهب الأورفي محصورًا في دائرةٍ ضيقة نسبية، هي دائرة المشربين بتعاليمه، دون أن يكون لها أدنى تأثير في ديانة الدولة الرسمية، بل لم يكن لها تأثير في المجتمعات التي أخذت نفسها بالاحتفال بالرموز الخفية الدلالة، وأدخلتها ضمن شعائر الدولة، ووضعتها في حماية القانون، كما فعل المجتمع الأثيني مثلًا، وكان لا بُدَّ لألف سنة كاملة أن تمضي قبل أن يُكتب النصر لهذه الأفكار في العالم اليوناني — ولو أنها عندئذٍ كانت قد لبست ثوبًا لاهوتيًّا يختلف كل الاختلاف عن ثوبها الماضي.»

قد يبدو أن في هذا القول مبالغة، خصوصًا فيما يتعلق بالأسرار الإلوسينية التي كانت مشبعةً بالأورفية، وعلى كل حال فيمكن القول بصفةٍ عامة إن من كان ديني المزاج ولَّى وجهه شطر الأورفية، بينما العقليون ازدروها، وربما جاز أن نقارن موقف الأورفية إذ ذاك بموقف «المذهب المنهجي».

في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.

إننا نعلم كل شيء تقريبًا عمَّا كان يتعلمه اليوناني المثقف عن أبيه، ولكننا لا نعلم إلا قليلًا جدًّا عما كان يتعلمه في سِنيه الأولى من أمه، التي كانت إلى حدٍّ بعيد معزولةً عن المدنية التي كان يمرح فيها الرجال، والأرجح فيما يظهر أن الأثينيين المثقفين — حتى في أزهر عصورهم — قد احتفظوا من تقاليدهم ومن نشأتهم إبَّان الطفولة، بأسلوبٍ أكثر بدائيةً في تفكيرهم وشعورهم، مهما يكن من أمر اعتمادهم على عقولهم في العمليات الفكرية التي كانوا يُجرونها في رءوسهم وهم على درايةٍ بما يصنعون، وقد كان يُحتمل دائمًا لذلك الأسلوب الموروث في التفكير والشعور، أن يسود في أيام الضيق؛ ولهذا السبب لا يكفي في تحليل وجهة النظر اليونانية أن نذكر عنصرًا دون سائر العناصر.

ولم يتبيَّن الباحثون تبينًا كافيًا تأثير الدين — وعلى الأخص الديانة اللاأوليمبية — على الفكر اليوناني إلا في العصر الحديث. وقد ظهر كتاب انقلابي هو كتاب «مقدمة لدراسة الديانة اليونانية» لمؤلفته «جين هارسن» Jane Harrison، فاهتم اهتمامًا كبيرًا بالعناصر البدائية والعناصر الديونيسوسية في ديانة سواد الشعب اليوناني، وحاول «ف. م. كورنفورد» F. M. Cornford في كتابه «من الدين إلى الفلسفة» أن يلفت أنظار من يدرسون الفلسفة اليونانية إلى تأثير الدين على الفلاسفة، لكننا لا نستطيع قَبول كل ما جاء في هذا الكتاب من تفسيرات، ولا نوافق على كثيرٍ ممَّا جاء فيه من معلوماتٍ عن الأجناس البشرية خاصة بموضوع الكتاب،٢١ وأكثر الكتب اتزانًا فيما أعلم هو كتاب «الفلسفة اليونانية الأولى» لمؤلفه جون بيرنت John Burnet وخصوصًا في الفصل الثاني الذي عقده ﻟ «العلم والدين»، فهو يقول إن صراعًا نشب بين العلم والدين «بسبب الإحياء الديني الذي شمل «هلاس» (اليونان) كلها إبان القرن السادس قبل الميلاد»، مضافًا إليها انتقال دائرة النشاط من أيونيا إلى الغرب. ويقول: إن ديانة هلاس في جزئها الذي يقع في القارة، قد تطورت في طريقٍ يختلف كل الاختلاف عن الطريق الذي تطورت فيه الديانة في أيونيا، وبصفةٍ خاصة ما يتعلق فيها بعبادة ديونيسوس التي جاءت من تراقيا، ولا تكاد تجد لها ذكرًا عند هومر، فهذه العبادة كانت تنطوي على بداية مبدأ جديد كل الجدة فيما يختص بالنظر إلى الإنسان وعلاقاته بالعالم، ولا شك أننا نخطئ لو أننا عزونا للتراقيين أنفسهم أية نظرة تتصف بالسمو الرفيع، لكننا من جهةٍ أخرى لا نستطيع أن نشك في أن ظاهرة النشوة عندهم قد أوحت إلى اليونان بأن الروح أكثر من أن تكون نسخةً خافتة للنفس، وأنها لا تبدي طبيعتها الحقيقية إلا إن «خرجت من البدن».

وكأنما أوشكت الديانة اليونانية أن تبدأ المرحلة التي كانت الديانات في الشرق قد بلغتها فعلًا، ويتعذر عيلنا أن ندرك كيف كان يمكن لأي شيءٍ أن يقف فيها هذا الاتجاه، لولا نشأة العلم. وإنه لمن الأقوال المألوفة عن اليونان أنهم أُنقذوا من ديانةٍ على النمط الشرقي لعدم وجود طائفة الكهنة عندهم، لكن هذا القول يخلط بين ما هو نتيجة وما هو سبب، فيجعل النتيجة سببًا؛ فالكهنة لا تخلق العقائد الجامدة، ولو أنهم يحافظون عليها بعد أن تتكوَّن. ولم يكن للشعوب الشرقية في المراحل الأولى من تطورهم كهنة أيضًا، بالمعنى المقصود بهذه الكلمة في الاستعمال السابق؛ فالذي أنقذ اليونان ليس هو غياب طائفة الكهنة من بينهم بمقدار ما هو وجود المدارس العلمية.

«وبلغت الديانة الجديدة — لأنها جديدة بمعنًى، وإن تكن بمعنًى آخر قديمةً قدم الإنسان — بلغت أعلى درجات رُقيها عندما تأسَّست الجمعيات الأورفية. وقد كانت «أتِكا» — فيما نرى — هي الموطن الأصلي لهذه الجمعيات، لكنها انتشرت بسرعةٍ عجيبة، خصوصًا في جنوبي إيطاليا وصقلية، وكانت في بداية أمرها جماعات لعبادة ديونيسوس، لكنها تميَّزت بطابعين جديدين على الهلينيين؛ فهي أولًا قد نظرت إلى الوحي على أنه مصدر السلطة الدينية، وهي ثانيًا جمعيات منظمة على أساس أنها جماعات غير طبيعية، وتُعزى الأشعار المشتملة على لاهوتهم إلى أورفيوس التراقي الذي هبط بنفسه إلى العالم السفلي؛ ولذا فهو دليل مأمون في تجنيب الروح المفارقة لجسدها في العالم الآخر، ما يحيط بها من الأخطار.»

ويمضي «بيرنت» في قوله بأن ثمة شبهًا يستوقف النظر بين العقائد الأورفية والعقائد السائدة في الهند في نحو ذلك الوقت عينه، ولو أنه يعتقد أنه لم يكن سبيل بين البلدين للاتصال، وبعد ذلك يتناول المعنى الأصلي لكلمة «عربدة» التي استعملها الأورفيون لتدل على «التقديس» والتي أريد بها أن تنقي روح المؤمن وتمكِّنه من الفرار من عجلة العودة إلى ولادةٍ جديدة. وقد أسس الأورفيون — على خلاف كهنة المذاهب الأوليمبية — ما يصح أن نُطلق عليه اسم «طوائف دينية»؛ وأعني بذلك جمعيات دينية، من حق كل إنسان — بغض النظر عن السلالة التي هبط منها أو الجنس من حيث الذكورة والأنوثة — أن يضم إليها بعد أن يشرب تعاليمها، ومن تأثير هذه الطوائف نشأت الفكرة عن الفلسفة بأنها أسلوبٌ للحياة.

١  عرف المصريون والبابليون علم الحساب وشيئًا من علم الهندسة، لكنهم عرفوها معرفةً عملية، أما الاستدلال القياسي المترتِّب على مقدماتٍ كلية، فاختراع اليونان.
٢  «ديانا» هو الاسم اللاتيني الذي يقابل «أرتميس» (في اليونانية)، فنجد اسم أرتميس مذكورًا في الكتاب المقدس اليوناني، في حين ترانا قد حوَّلنا الاسم إلى «ديانا» في ترجمتنا للكتاب.
٣  ولهذه الإلهة توأم ذكر، أو رفيق، هو «رب الحيوان»، لكنه أقل شهرةً منها، وقد اندمجت شخصية «أرتميس» في «الأم الكبرى» إلهة آسيا الصغرى في عصرٍ متأخر.
٤  انظر كتاب «الديانة» المينوسية-الميسينية، وآثارها الباقية في ديانة اليونان لمؤلفه Martin P. Nilssen، ص١١ وما بعدها.
٥  انظر كتاب «أصل الطغيان» لمؤلفه P. N. Ure.
٦  مثال ذلك أن «جيمل» — وهي الحرف الثالث من أحرف الهجاء العبرية — معناها جمل، والعلامة الدالة على هذا الحرف هي صورة الجمل التي جرت في ذلك مجرى العرف.
٧  انظر كتاب Griechisch Geschichte لمؤلفه Beloch، فصل ١٢.
٨  انظر كتاب تاريخ العالم القديم، لمؤلفه Rostovtseff، ج١، ص٣٩٩.
٩  انظر كتاب «خمس مراحل في الديانة اليونانية» ص٦٧.
١٠  انظر كتاب «الثقافة البدائية في اليونان» لمؤلفه Rose J. B (١٩٢٥م)، ص١٩٣.
١١  تاريخ زرادشت قائمٌ على التخمين؛ فبعضهم يجعلونه سنة ١٠٠٠ق.م. انظر «التاريخ، إخراج كيمبرج»، ج٤، ص٢٠٧.
١٢  لمَّا هزمت إسبرطة أثينا: استعاد الفرس شاطئ آسيا الصغرى كله، واعترف لهم بالحق فيه «صُلح أنتالسيداس» (٣٨٧–٦ قبل الميلاد)، وبعد ذلك بنحو خمسين عامًا، اندمج كل هذا في إمبراطورية الإسكندر.
١٣  انظر كتاب اليونان «البدائية»، لمؤلفه Rose، ص٦٥ وما بعدها.
١٤  انظر كتاب «مقدمة لدراسة الديانة الإغريقية» لمؤلفه J. H. Harrlson، ص٦٥١.
١٥  أقصد السكر الروحي، لا السكر من الكحول.
١٦  ترجمة الشعر الوارد في هذا الفصل إلى الإنجليزية هي للأستاذ جلبرت مري.
١٧  هذا هو نفسه ديونيسوس عند المتصوفة.
١٨  هذا هو اسم من أسماء ديونيسوس الكثيرة.
١٩  بروميوس: اسم آخر من أسماء ديونيسوس الكثيرة.
٢٠  نفس المرجع، في الجزء الأول، الفصل الأول، ص٤٣٤.
٢١  لكن كتب كورنفورد التي أخرجها عن محاوراتٍ أفلاطونية مختلفة، تدعو إلى الإعجاب التام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤