الفصل العاشر

بروتاجوراس

إن الفلسفات العظمى التي ظهرت قبل سقراط، التي كُنا حتى الآن بصدد عرضها، قد قابلتها في النصف الثاني من القرن الخامس موجة من الشك، كان بروتاجوراس — كبير السوفسطائيين — هو أهم أعلامها؛ ولفظة «سوفسطائي» لم يكن لها معنًى مرذول في أول أمرها؛ إذ كان معناها أقرب ما يكون إلى ما نعنيه نحن اليوم من كلمة «أستاذ»؛ فقد كان السوفسطائي يكسب عيشه بتعليم الشبان بعض الأشياء التي كان يظن أنها قد تنفعهم في الحياة العملية. ولمَّا لم تكن الدولة عندئذٍ تخصِّص من مالها شيئًا لمثل هذا التعليم، فقد جعل السوفسطائيون يعلِّمون من كان في مقدورهم أن يدفعوا أجور تعليمهم من أموالهم الخاصة أو من أموال والديهم؛ وقد أدَّى ذلك إلى خلق شعور بالفوارق بين الطبقات، أخذ يزداد قوةً بفعل الأحوال السياسية القائمة إذ ذاك، فلئن كانت الديمقراطية هي المذهب الذي ظفر بالنصر السياسي في أثينا وغيرها من المدن، إلا أن إجراءً لم يتخذ للحد من ثروة أولئك الذين كانوا ينتمون إلى الأسرات الأرستقراطية القديمة؛ ففي الأعم الأغلب كان الأغنياء هم الذين يحتضنون الثقافة التي يُطلق عليها اليوم اسم «الثقافة الهلينية»؛ إذ كان هؤلاء الأغنياء يتمتَّعون بالتعلم وبالفراغ، فضلًا عمَّا أنتجته الرحلات في نفسهم من تلطيف حدة التحزُّب المُغرض الذي ورثوه مع تقاليدهم، هذا إلى أن الزمن الذي أنفقوه في المجادلات قد أرهف من سرعة الخاطر عندهم، فما كان يسمِّيه اليونان بالديمقراطية لم يؤثِّر قط في نظام الرق عندهم، ذلك النظام الذي مكَّن للأغنياء أن يتمتَّعوا بثرائهم دون أن يُرهقوا مواطنيهم من الأحرار.

ومع ذلك ففي كثيرٍ من المدن — وفي أثينا بصفةٍ خاصة — كان المواطنون الأفقر من سواهم يُحسون إزاء الأغنياء عداوةً مضاعفة، عداوةً بسبب الحسد، وأخرى بسبب الحرص على التقاليد؛ فقد كانوا يفرضون في الأغنياء — والفرض صواب في أغلب الأحيان — أنهم خارجون على الدين وعلى قواعد الأخلاق؛ فقد كانوا يقلبون العقائد القديمة رأسًا على عقب، وربما كانوا كذلك يحاولون محو الديمقراطية، وهكذا حدث أن ارتبطت الديمقراطية السياسية بالجمود الثقافي، على حين كان هؤلاء الذين يجدِّدون في عالم الثقافة، أميل إلى أن يكونوا ثائرين من الوجهة السياسية؛ ومثل هذا الموقف تراه بعض الشيء في أمريكا الحديثة، حيث تجد جمعية «تاماني Tammany» باعتبارها جمعيةً يغلب عليها الروح الكاثوليكية، مشتغلةً بحماية القواعد الجامدة التقليدية في الدين والأخلاق، ضد هجمات الحركات التنويرية؛ لكن أصحاب التنور العقلي أضعف من الوجهة السياسية في أمريكا من أقرانهم في أثينا؛ لأنهم فشلوا في أن يندمجوا مع أصحاب السلطان في قضيةٍ واحدة؛ ومع ذلك فترى هناك طبقةً هامة رفيعة الثقافة، تهتم بالدفاع عن أصحاب السلطان، وأعني بها طبقة رجال القانون في الشركات، فمن بعض الوجوه تراهم يشبهون فيما يقومون به من مهام، جماعة السوفسطائيين في أثينا وما كانوا يؤدونه من خدمات.

كانت الديمقراطية الأثينية من بعض الوجوه أكثر ديمقراطيةً من أي نظامٍ حديث، على الرغم من نقصها الخطير في استبعادها للعبيد والنساء؛ فكان القضاة ومعظم رجال السلطة التنفيذية يُنتخَبون بالاقتراع، ولا يلبثون في وظائفهم إلا أمدًا قصيرًا؛ ولهذا كنت تراهم يمثِّلون أوساط المواطنين، كجماعة المحلفين اليوم، يعيبهم ما يعيب أوساط المواطنين من تحزبٍ مغرض في النظر إلى الأمور، ومن نقصٍ في الخبرة الفنية اللازمة؛ وبصفةٍ عامة كان يستمع إلى القضية الواحدة عددٌ كبير من القضاة، وكان المدعي والمدعى عليه، أو المُتهِم والمُتهَم يحضران بشخصيهما، ولا يوكِّلان عنهما أحدًا من رجال القانون المحترفين؛ وطبيعي والحالة هذه أن يعتمد النجاح أو الفشل إلى حدٍّ كبير على المهارة الخطابية في استثارة الأهواء المحببة إلى نفوس الناس؛ فلئن كان الشخص مطالبًا بإلقاء خطبته بنفسه، فقد كان من حقه أن يستأجر إخصائيًّا يُعد له تلك الخطبة، على أن كثيرين كانوا يُؤثِرون في هذا الصدد أن يستعينوا بما لهم على تعلم الفنون اللازمة للنجاح في دُور القضاء، وكان المفروض في السوفسطائيين أنهم يعلِّمون هذه الفنون.

إن عصر بركليز في التاريخ الأثيني شبيه بالعصر الفكتوري في تاريخ إنجلترا؛ فقد كانت أثينا غنيةً قوية، لا تعكِّر صفوها الحروب كثيرًا، ولها دستور ديمقراطي يقوم عليه رجال من الطبقة الأرستقراطية؛ وكما رأينا عند الكلام على أناكسجوراس، أخذت طائفة ديمقراطية معارضة لبركليز، تزداد قوةً شيئًا فشيئًا، وتهاجم أصدقاءه واحدًا في إثر واحد؛ ونشبت حرب بلبونيز سنة ٤٣١ق.م.١ وفشا الطاعون في أثينا (شأنها في ذلك شأن كثير غيرها من المدن)؛ فهبط عدد السكان الذي كان قد بلغ مائتين وثلاثين ألفًا، هبوطًا فاحشًا، ولم يعد أبدًا بعد ذلك إلى ما كان عليه.٢ وحدث أن حكمت محكمة مؤلفة من ألف وخمسمائة قاضٍ وقاضٍ على بركليز بالعزل من منصبه في قيادة الجيش، وبغرامةٍ جزاء ما اقترفه من تبديد أموال الدولة، ومات ابناه بالطاعون، ثم جاءته منيته في السنة التالية لذلك (٤٢٩)، وكذلك صدرت أحكام الإدانة على فيدياس وأناكسجوراس، واتُّهم إسباسيا بالخروج على قواعد الدين وبجعل منزله مباءة إفساد، لكنه بريء من هذا الاتهام.

في مثل هذا المجتمع، كان من الطبيعي للأشخاص الذين كانوا يتوقعون أن يتعرضوا لعداوة الساسة الديمقراطيين، أن يعملوا على اكتساب مهارة قضائية؛ ذلك لأن أثينا على الرغم من انغماسها في توجيه الاتهامات للناس، كانت من وجهٍ من الوجوه أقل بُعدًا عن روح التسامح من أمريكا الحديثة؛ لأن أولئك الذين كانوا يُتَّهَمون بالخروج على الدين وبإفساد الشباب، كان يُسمَح لهم بالدفاع عن أنفسهم أمام القضاء.

وهذا يُفسِّر لنا لماذا أحبَّت طائفةٌ من الناس جماعة السوفسطائيين وكرهتهم طائفة أخرى، لكنهم بينهم وبين أنفسهم يخدمون غايةً أبعد من ذلك عن الأهواء الشخصية، وممَّا لا شك فيه أن كثيرين منهم كانوا معنيين بالفلسفة عنايةً لا غبار عليها، فلئن رأيت أفلاطون يكرِّس مجهوده لتشويه حسناتهم والافتراء عليهم بالكذب، فلا تحكم عليهم بمحاوراته؛ خذ هذه الفقرة الآتية التي يهزل فيها أفلاطون بعض الشيء، وهي من محاورة يوتيديموس، وفيها يحاول سوفسطائيان، هما ديونيسودورس ويوتيديموس أن يُربكا رجلًا ساذجًا اسمه كليسيبوس، ويبدأ الحوار ديونيسودورس:

– إنك تقول: إن لديك كلبًا؟

– فأجاب كليسيبوس: نعم وهو كلب فظيع.

– وللكلب جِراء؟

– نعم، والجِراء شديدة الشبه به.

– والكلب أبو الجِراء؟

– نعم، فلست أشك في أني رأيته يلتقي مع أم الجِراء.

– أليس الكلب كلبك؟

– نعم، ولا شك في ذلك.

– إذن فهو والد، وهو لك، فينتج عن ذلك أنه أبوك وأن الجِراء إخوتك.

ثم خذ المحاورة المسماة بالسوفسطائي، وفيها تأخذ أفلاطون روح الجد أكثر من المحاورة السالفة، فهي مناقشة منطقية لموضوع التعريف فيستعمل فيها كلمة السوفسطائي على سبيل التوضيح، وليس ما يعنينا الآن هو ما في المحاورة من منطق، وكل ما أحب أن أذكره عن هذه المحاورة الآن، هو نتيجتها الختامية:

«إن فن إحداث التناقض قد هبط إلينا من ضربٍ خادع من المحاكاة المشوبة بالغرور، هبط إلينا من فصيلةٍ تتظاهر بغير الحق، وهو فنٌّ مشتق من تقليد الأصول في رسوم تمثِّلها، وذلك جزء من الإنتاج البشري لا الإنتاج الإلهي، وهو يمثِّل اللعب بالألفاظ كما تلعب بالأشباح؛ تلك هي الأصول وسلسلة الأنساب التي يمكن بحق لا شك فيه أن تُعزى إلى السوفسطائي الذي يتخذ حجةً فيما يقول» (ترجمة كورنفورد).

وإنه لتُروى عن بروتاجوراس قصة لا شك في أنها موضع للريبة، إلا أنها تصوِّر علاقة السوفسطائيين بمحاكم القضاء في عقول الناس، فيقال إنه علَّم شابًّا على شرط أن يدفع له أجره إذا كسب الشاب أول قضية يترافع فيها، فإن خسر الشاب قضيته الأولى لم يدفع شيئًا، فكانت أول القضايا للشاب قضيةً رفعها عليه بروتاجوراس نفسه للاستيلاء على أجر تعليمه إياه.

ومهما يكن من أمر، فحسبنا ما ذكرناه من أوليات، لنرى ماذا نعلمه حقًّا عن بروتاجوراس.

وُلد بروتاجوراس نحو سنة ٥٠٠ق.م. في أبديرا، وهي المدينة التي وفد منها ديمقريطس، وزار أثينا مرتين، ولم تكن الزيارة الثانية منهما بعد سنة ٤٣٢ق.م. وألف تشريعًا لمدينة ثورياي سنة ٤٤٤–٣ق.م. وتُروى رواية عنه بأنه اضطُهد لخروجه على الدين، ولكن الظاهر أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب، على الرغم من أنه كتب كتابًا أسماه «في الآلهة» بدأه هكذا: «أمَّا عن الآلهة فلست أرني على يقينٍ من وجودهم أو عدم وجودهم، ولا من شكلهم كيف يكون؛ ذلك لأن ثمة أشياء كثيرةً تعوق المعرفة اليقينية، وهي غموض الموضوع وقصر الحياة البشرية.»

ويصف لنا أفلاطون في محاورته «بروتاجوراس» زيارة بروتاجوراس الثانية لأثينا، وصفًا مشوبًا بشيءٍ من السخرية، وهو يناقش آراءه مناقشةً جادة في محاورة «تياتيتوس»، فهو مشهور قبل كل شيء بمذهبه القائل بأن «الإنسان مقياس كل شيء؛ فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة.» ويفسر هذا القول بأنه يعني أن كل إنسانٍ هو مقياس الأشياء جميعًا، وأنه إذا اختلف الناس، فليس هناك حقيقة موضوعية يمكن الرجوع إليها لتصويب المصيب وتخطيئ المخطئ، والمذهب في جوهره مذهب متشكِّك، وهو في أغلب الظن مبني على «خداع» الحواس.

إن أحد المؤسسين الثلاثة لمذهب البراجماتية، وهو «ف. س. س. شلر F. C. S. Schiller» كان من عادته أن يقول عن نفسه إنه تلميذ لبروتاجوراس، وأظن أن مرجع هذا هو أن أفلاطون في محاورة «تياتيتوس» يقترح تفسيرًا لمذهب بروتاجوراس أن تكون فكرة أفضل من فكرة، ولو أن الفكرة لا تكون أصدق من فكرةٍ أخرى؛ مثال ذلك أنه لو كان شخص مصابًا باليرقان، فإن كل شيءٍ يبدو في عينيه أصفر، ولا معنى لقولنا إن الأشياء في حقيقتها ليست صفراء، إلا أن نقول إنها تبدو بهذا اللون أو بذاك للشخص وهو معافًى؛ ومع ذلك فيمكننا القول بأنه لمَّا كانت الصحة أفضل من المرض، ففكرة الشخص وهو سليم الصحة أفضل من فكرة الشخص المصاب باليرقان؛ وواضحٌ أن هذا الرأي شبيه بوِجهة نظر البراجماتية.

إننا إذا فقدنا الثقة في وجود حقيقة موضوعية، كانت أغلبية الآراء في أهداف حياتنا العملية، هي وحدها الوسيلة التي تحكم بها فيما نثق بصدقه؛ ومن ثم انتهى بروتاجوراس إلى نتيجةٍ هي الدفاع عن القانون وعن التقاليد والأخلاق المرعية، فبينما كان على غير يقينٍ — كما أسلفنا — هل الآلهة موجودة أو غير موجودة، لم يأخذه شكٌّ في وجوب عبادة الآلهة؛ فلا جدال في أن هذه الوجهة من وجهات النظر هي الوجهة الصحيحة لرجلٍ يجعل شكه النظري مُطَّردًا منطقيًّا.

لقد أنفق بروتاجوراس حياته في عهد الرجولة في رحلةٍ متصلة يحاضر فيها كلما مرَّ بإحدى مدن اليونان، ويعلم لقاء أجر «كل من أراد لنفسه مهارةً عملية وثقافة عقلية عُليا» (زلر Zeller ص١٢٩٩). وقد اعترض أفلاطون اعتراضًا ممزوجًا بشيءٍ من الخيلاء الكاذبة في نظر هذه الأيام، اعترض على السوفسطائيين كيف يتقاضَون أجرًا على التعليم؛ ذلك أن أفلاطون نفسه كان له من ماله الخاص ما يكفيه، والظاهر أنه لم يستطِع أن يشعر بشعور أولئك الذين لم يكن لهم مثل حظه ولم تُلجئهم ضرورات الحياة إلى أخذ الأجور؛ ومن العجيب أن الأساتذة المُحدَثين الذين لا يجدون ما يبرِّر إحجامهم عن صرف مرتباتهم، قد أكثروا من ترديد اللوم الذي لام به أفلاطون السوفسطائيين.

يضاف إلى ذلك نقطة أخرى اختلف فيها السوفسطائيون عن معظم الفلاسفة المعاصرين، فقد كانت العادة — فيما عدا السوفسطائيين — أن يُنشئ المعلم مدرسةً تصطبغ ببعض صفات الإخاء بين أفرادها، بحيث تنشأ بينهم حياة يشتركون فيها كثيرًا أو قليلًا، ويقوم بينهم دائمًا نوعٌ من الحكم أشبه ما يكون بالحكم في الأديرة؛ وفي أغلب الأحيان كان أبناء المدرسة يُسِرون في أنفسهم مذهبًا لا يُعلنونه لعامة الناس؛ كل ذلك كان من الأمور الطبيعية حيثما نشأت فلسفة مستمدة من المذهب الأورفي؛ أمَّا السوفسطائيون فلم يصطنعوا شيئًا من هذا؛ فعلمهم الذي أرادوا أن يعلِّموه لم يكن ذا صلة — في رأيهم — بالدين أو الفضيلة؛ فقد كانوا يعلِّمون فن النقاش وكل ما عسى أن يعين على هذا الفن من ألوان المعرفة؛ وكانوا على استعدادٍ — بصفةٍ عامة — أن يبيِّنوا لتلاميذهم كيف يمكن أن يدافعوا عن الرأي أو يدحضوه، كما يفعل المحامون اليوم، ولم يكن يعنيهم أن يدفعوا عن آراءٍ معينة يعتنقونها هم، فجاء كل ذلك صدمةً قوية لأولئك الذين اتخذوا من الفلسفة أسلوبًا للحياة مرتبطًا بالدين أوثق رباط؛ ولذلك نظروا إلى السوفسطائيين نظرتهم إلى الغِر الفاجر.

إن الكراهية التي تعرَّض لها السوفسطائيون، لا من غمار الناس وحدهم، بل من أفلاطون وسائر الفلاسفة اللاحقين، كانت ترجع إلى حدٍّ ما — ولو أنه يستحيل علينا أن نحدِّد إلى أي حدٍّ كان ذلك — ترجع إلى تفوُّقهم العقلي. إن البحث عن الحقيقة حين يصدر عن إخلاصٍ تام، لا بُدَّ أن يغض النظر عن الاعتبارات الخلقية، فليس في مستطاعنا أن نقدِّر مقدَّمًا أن الحقيقة التي نسعى وراءها ستجيء مؤيدةً لأهواء الناس في مجتمعٍ معين؛ وكان السوفسطائيون على استعدادٍ أن يتابعوا الحِجاج حيث تسوقهم الحجة، وكثيرًا ما ساقهم الحجة إلى التشكُّك، فذهب أحدهم — هو جورجياس — ألَّا شيء موجود، وأنه إن وُجِد شيء فليس هو بممكن المعرفة، وأنه حتى لو فرضنا جدلًا أن ثمة شيئًا موجودًا، وأن شخصًا ما أُتيح له أن يعرفه، فيستحيل عليه أن ينقله إلى الآخرين؛ ولسنا ندري الآن ماذا كانت أدلته على رأيه هذا، لكنني أستطيع أن أتصوَّر في وضوحٍ أنها كانت أدلةً قوية من الوجهة المنطقية، ألزمت معارضيه إلزامًا أن يحموا أنفسهم بدرعٍ من الدعوة إلى الإصلاح؛ إنك ترى أفلاطون شديد العناية دائمًا أن يؤيد الآراء التي من شأنها أن تجعل الناس يظنون به الفضيلة، فتكاد لا تجده في موضعٍ واحد أمينًا أمانةً عقلية؛ لأنه يسمح لنفسه أن يحكم على المذاهب بنتائجها الاجتماعية، وحتى في هذا نفسه لا تراه أمينًا؛ فهو يَدَّعي أنه يتابع خطوات التدليل وأنه يحكم بمقاييس نظرية خالصة، مع أنه في حقيقة الأمر يلف النقاش لفًّا حتى ينتهي به إلى نتيجةٍ ترضى عنها الفضيلة. ولقد أدخل على هذا السوءَ في الفلسفة كلها، فاستقرَّ بها هذا السوءُ منذ عصره حتى اليوم، ويحتمل أن تكون كراهيته للسوفسطائيين هي التي خلعت — إلى حدٍّ كبير — هذه الصفة على محاوراته، فمن عيوب الفلاسفة جميعًا منذ أفلاطون، أن أبحاثهم في الأخلاق تسير على زعم أنهم يعرفون مقدَّمًا النتائج التي سيصلون إليها بعد البحث.

إنه ليبدو لنا أن قد كان هنالك رجالٌ في أثينا في الشطر الأخير من القرن الخامس يعلمون مذاهب سياسيةً رآها معاصروهم خارجةً على الأخلاق، ولا تزال تبدو كذلك للأمم الديمقراطية في عصرنا الحاضر؛ ففي الكتاب الأول من الجمهورية يحاجُّ ثراسيماكوس بأنه لا معنى للعدل إلا مصلحة الأقوى، وأن القوانين تسنها الحكومات لمصلحتها، وأنه ليس هناك مقياس موضوعي تلجأ إليه إذا ما نشب نزاعٌ على السلطان، وكذلك اعتنق كالكليز — فيما يروي أفلاطون في محاورة جورجياس — مذهبًا شبيهًا بهذا؛ إذ قال: إن قانون الطبيعة هو قانون الأقوى، لكن الناس أرادوا لأنفسهم راحة البال، فأقاموا من النظم الاجتماعية ومن المبادئ الخلقية ما يشكم القوى. إن أمثال هذه المذاهب قد لقيت رواجًا في عصرنا الحاضر أكثر جدًّا ممَّا لقيته في العصر القديم، ومهما يكن رأي الناس فيها، فليست هي بالنزعة التي تميِّز السوفسطائيين.

لقد شهدت أثينا — إبان القرن الخامس — تحوُّلًا — لا يعنينا الآن كم كان نصيب السوفسطائيين فيه — من بساطةٍ في العيش متزمتة صارمة، إلى صراع بين فريقين؛ أولهما سريع البديهة أميل إلى القسوة في سخريته اللاذعة المرة، وثانيهما بطيء البديهة، ولا يقل عن الفريق الأول قسوةً دفاعًا عن القواعد الموروثة التي أخذ بناؤها ينهار، وحدث في أول القرن أن آلت الزعامة لأثينا على المدن الأيونية في حربها مع الفرس، وظفرت بالنصر في «ماراثون» سنة ٤٩٠ق.م. ثم حدث في آخر القرن أن لحقت الهزيمة بأثينا أمام إسبرطة سنة ٤٠٤ق.م. وأُعدِم سقراط سنة ٣٩٩ق.م. ففقدت أثينا بعدئذٍ أهميتها السياسية، لكنها اكتسبت سيادةً ثقافية لا شك فيها، لبثت محتفظةً بها حتى كُتِب النصر للمسيحية.

إننا لا نستطيع أن نفهم أفلاطون وما تلاه من فكرٍ عند اليونان إلا إذا ألممنا ببعض حقائق التاريخ الأثيني في القرن الخامس؛ ففي الحرب الفارسية الأولى كان النصر بمجده العظيم من نصيب الأثينيين، بسبب النصر الحاسم الذي وقع لها في ماراثون؛ وفي الحرب الثانية التي نشبت بعد ذلك بعشر سنوات، كان الأثينيون لا يزالون يفوقون سائر اليونان في البحر، أمَّا في البر، فكان النصر يرجع معظمه لأبناء إسبرطة، الذين اعتُرف لهم بالزعامة في العالم الهليني؛ غير أن الإسبرطيين كانوا لا يجاوزون بأفقهم العقلي حدود إقليمهم، فلم يمضوا في متابعة الفرس بعد أن طردوهم من الأرض اليونانية في القارة الأوروبية؛ لذلك كانت أثينا هي التي تولَّت زعامة اليونان في القارة الآسيوية، وهي التي تولَّت كذلك تحرير الجزر التي كان الفرس قد غزَوها، وكان التوفيق حليف الأثينيين في كل هذا؛ فكانت أثينا هي القوة البحرية الأولى، وآلت إلى يديها رقابة استعمارية قوية على الجزر الأيونية؛ وازدهرت أثينا في ظل باركليز الذي كان ديمقراطيًّا معتدلًا واستعماريًّا معتدلًا؛ فهو الذي يرجع إليه الفضل الأول في إقامة المعابد الكبرى، التي لا تزال آثارها الباقية عنوان مجد لأثينا، لتحل محل المعابد التي دكَّها إكزرسيس وازدادت المدنية ازديادًا سريع الخطى في الثروة، وفي الثقافة، فحدث ما يحدث دائمًا في مثل هذه العصور من تاريخ الأمم، خصوصًا إذا كانت الثروة قد جاءت نتيجة تجارة خارجية، وهو أن أخذت الأخلاق التقليدية والعقائد الموروثة في الانهيار.

وشهدت أثينا في ذلك العصر عددًا من نوابغ الرجال يستلفت النظر بضخامته؛ إذ شهدت كُتاب المسرحية الثلاثة؛ إسخيلوس وسوفوكليز ويوريبيد، فكل هؤلاء من القرن الخامس، وقد حارب إسخيلوس في واقعة ماراثون، وشهد واقعة سلامس؛ وكان سوفوكليز ما يزال معتنقًا للعقيدة الدينية التي ورثها عن آبائه، أمَّا يوريبيد فقد تأثر ببروتاجوراس وبروح التفكير الحر التي سادت عصره؛ ولذا ترى معالجته للأساطير مشوبةً بالشك والنقد الهادم؛ وعلى الرغم من أن أرستوفان الشاعر الساخر، قد هزأ بسقراط والسوفسطائيين والفلاسفة إلا أنه كان واحدًا منهم، فيصوِّره لنا أفلاطون في محاورة «المأدبة» صديقًا شديد الود لسقراط، وكذلك كان فيدياس النحات — كما أسلفنا — عضوًا في جماعة بركليز.

إن تفوُّق أثينا في هذه الفترة أميل إلى أن يكون نبوغًا فنيًّا من أن يكون نبوغًا عقليًّا، فلست تجد واحدًا من أعلام الرياضيين والفلاسفة في القرن الخامس من بين الأثينيين، إلا إذا استثنيت سقراط، ولم يكن سقراط كاتبًا، بل كان رجلًا حصر نفسه في حدود الحوار الشفوي.

فلمَّا نشبت الحرب البلويونيزية سنة ٤٣١ق.م. ومات بركليز سنة ٤٢٩ق.م. دخلت أثينا في مرحلةٍ من أظلم مراحل تاريخها، فلئن كانت السيادة البحرية لأثينا، إلا أن التفوق في البركان لأهل إسبرطة الذين احتلوا أرض أتِكا مرةً بعد مرة (ما عدا أثينا) خلال أشهر الصيف؛ ونتيجة ذلك هي أن أثينا ازدحمت بسكانها، وعانت أشد العناء من الطاعون، وفي سنة ٤١٤ق.م. أرسل الأثينيون حملةً كبيرة إلى صقلية، آملين أن يحتلوا سرقصة التي كانت حليفةً لإسبرطة، غير أنهم باءوا في محاولتهم بالفشل، وأشاعت الحروب بين الأثينيين روح القسوة والاضطهاد، فلمَّا غزوا جزيرة ميلوس سنة ٤١٦ق.م. أعدموا كل رجالها الذين يقعون في سن الخدمة العسكرية، واستعبدوا من بقي من سكانها، وقد كتب يوريبيد مسرحية «نساء طروادة» احتجاجًا على مثل هذه الوحشية؛ ولهذا الصراع جانب فكري؛ لأن إسبرطة كانت زعيمة حكومة الأقلية، وأثينا كانت مؤيدةً للحكومة الديمقراطية، وكان عند الأثينيين ما يبرِّر ريبتهم في أبناء الطبقة الأرستقراطية عندهم بحيث اتهموهم بالخيانة الوطنية، التي شاع بينهم أنها بعض السبب في هزيمتهم البحرية الأخيرة في واقعة «إيجوسبوتامي» سنة ٤٠٥ق.م.

وفي نهاية الحرب أقام الإسبرطيون في أثينا حكومةً أو لجاركية (حكومة أقلية) تُعرَف باسم «حكومة الطغاة الثلاثين» وكان بعض هؤلاء الثلاثين — وفيهم كرتياس زعيمهم — من تلاميذ سقراط، فكرههم الشعب بحق، وأُزيلوا عن الحكم خلال عامٍ واحد، ولمَّا أذعنت إسبرطة، عادت الديمقراطية إلى أثينا، لكنها كانت ديمقراطيةً تملأ الضغائن نفسها؛ نعم إن الهدنة العسكرية بينها وبين إسبرطة، نصَّت على تحريم الانتقام المباشر من أعداء الديمقراطية من أبناء أثينا، لكن الديمقراطية كانت ترحِّب بكل ذريعةٍ لا تنطوي تحت نصوص الهدنة، لتوجِّه الاتهام إلى أعدائها، وفي هذا الجو حدثت محاكمة سقراط وموته (٣٩٩ق.م.)

١  انتهت سنة ٤٠٤ بهزيمة أثينا هزيمةً منكرة.
٢  انظر Bury في كتابه «تاريخ اليونان» ج١، ص٤٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤