الفصل الحادي عشر

سقراط

سقإن الأمور التي تصلح أنراط موضوعه جد عسير على المؤرخ، فلئن كان هنالك من الناس من لا نشك في أننا نعلم عنهم جد قليل، ومن الناس من لا نشك في أننا نعلم عنهم الشيء الكثير، فإن الأمر في سقراط هو أننا لا ندري هل نعلم عنه القليل أو الكثير، فليس من سبيلٍ إلى الشك في أنه كان من أبناء أثينا، متوسط الدخل، يُنفق وقته في مناقشات ويُعلِّم الفلسفة للشبان، لكنه لم يكن يعلِّمهم لقاء أجر مثل السوفسطائيين؛ وليس من سبيلٍ إلى الشك كذلك في أنه، حوكم وحُكِم عليه بالموت، ثم نُفِّذ فيه الإعدام سنة ٢٩٩ق.م. لمَّا كان يبلغ من العمر نحو السبعين؛ وكذلك ليس من سبيلٍ إلى الشك في أنه كان رجلًا بارزًا في أثينا، ما دام أرستوفان قد صوَّره بقلمه الساخر في رواية «السحاب»؛ أمَّا ما خلا ذلك عنه، فترانا ندخل في منطقةٍ من المعلومات لا يقين فيها، فقد كتب عنه اثنان من تلاميذه هما زينوفون وأفلاطون، فأفاضا القول عنه، لكنهما اختلفا فيما روياه اختلافًا بعيدًا، وحتى حين يتفقان على روايةٍ واحة، فإن زينوفون عندئذٍ — في رأي «بيرنت» — يكون ناقلًا عن أفلاطون، وأما حيث يختلفان في الرواية، فبعض الناس يؤمن بهذا، وبعضهم يؤمن بذلك، وبعضهم لا يؤمن لا بهذا ولا بذلك، ولن أخاطر بتأييد أي من الجانبين في مثل هذا النزاع الخطير، لكني سأوجز القول إيجازًا في أوجه النظر المختلفة.

ولنبدأ بزينوفون، وهو رجلٌ عسكري لم يُفرط الله في موهبته العقلية، محافظ في وجهة نظره على وجه العموم؛ فممَّا يتألم له زينوفون أن يُتَّهم سقراط بعدم التقوى وبإفساد الشبان ويؤكِّد أنه على عكس ذلك، كان معروفًا بتقواه، وكان له أحسن الأثر على أولئك الذين تأثروا به. والظاهر أن آراءه كانت أبعد ما تكون الآراء عن الثورة، بل كانت أقرب إلى الآراء المعادة المكرَّرة؛ ولعل زينوفون قد بالغ في دفاعه هذا؛ لأنه بهذا الدفاع لا يعلِّل لنا لماذا كرهه الناس. ويقول «بيرنت» (في كتابه من طاليس إلى أفلاطون ص١٤٩): «إن دفاع زينوفون عن سقراط قد جاوز الحد في نجاحه؛ إذ لو كان الأمر كما يصف، لما أُعْدِم سقراط.»

لقد كان هنالك اتجاه بين المؤرخين أن يظنوا الصدق فيما يرويه زينوفون بحذافيره؛ لأنه لم يكن له من الذكاء ما يُعينه على اختلاق ما ليس بصحيح، وهذا القول بعيد جدًّا عن الصواب؛ ذلك لأن ما يقرِّره الرجل الغبي عمَّا يقوله الرجل الذكي، يستحيل أن يكون دقيقًا، فالرجل الغبي يحوِّل — على غير وعيٍ منه — ما يسمعه إلى ما يستطيع هو أن يفهمه؛ وإني لأفضِّل أن ينقل عني فلسفتي ألد أعدائي من الفلاسفة، عن أن ينقلها صديق لا شأن له بالفلسفة؛ وعلى ذلك فلا نوافق على ما يقوله زينوفون في كلتا الحالتين؛ إحداهما حين يكون الأمر المعروض متضمنًا لنقطةٍ صعبة في الفلسفة، والأخرى حين يكون جزءًا من تدليلٍ يراد به البرهنة على أن سقراط قد اتُّهِم بغير حق.

ومع ذلك فبعض ما ورد في ذكريات زينوفون يقنعنا جدًّا بصدقه؛ فهو يروي لنا (وكذلك يروي أفلاطون) كيف كان سقراط في شغلٍ لا ينقطع محاولًا أن يضع أكفأ الرجال في مناصب الحكم، وكان يسأل أسئلةً كهذه: «إذا أردتُ إصلاح حذائي فمن ذا أستخدم من الناس؟» فيجيبه شابٌّ صريح بقوله: «تستخدم حذَّاءً يا سقراط.» فينتقل سقراط بسؤالٍ فيلقيه على النجارين والنحاسين وغيرهم؛ وأخيرًا يسأل سؤالًا كهذا: «ومن ذا يصلح سفينة الدولة؟» فلما وقع في نزاعٍ مع «الطغاة الثلاثين» منعه «كرتياس» — وهو رئيس هؤلاء الطغاة الثلاثين، وكان قد عرف أساليب سقراط جيد المعرفة؛ لأنه تتلمذ له — منعه من المضي في تعليم الشبان، وأضاف إلى ذلك قوله: «خيرٌ لك أن تترك الحديث في الحذَّائِينَ والنجارين والنحاسين؛ فهؤلاء لا بُدَّ أن يكونوا قد قُتِلوا بحثًا من كثرة ما قيل فيهم في غصون محاوراتك» (زينوفون الذكريات، ك١، فصل٢). حدث ذلك أثناء الحكومة الأولجاركية القصيرة الأمد التي أقامها الإسبرطيون (في أثينا) في ختام الحرب البلوبونيزية، لكن أثينا في معظم أوقاتها كانت ديمقراطية، وبلغت من بعد الشأو في الديمقراطية حدًّا جعلها تنتخب قُواد الجيش أنفسهم بالاقتراع، وقد صادف سقراط شابًّا يريد أن يكون قائدًا، فأقنعه بأن من الخير له أن يُلم بشيءٍ من فن القتال، واقتنع الشاب بنصحه وقصد إلى حيث درس شوطًا قصيرًا في ذلك الفن؛ ولمَّا عاد أثنى عليه سقراط بعض الثناء الممزوج بالسخرية، ثم أعاده من جديدٍ يستزيد في ذلك علمًا،١ وكذلك جعل شابًّا آخر يدرس مبادئ الشئون المالية، وحاول أن يصنع ذلك نفسه مع ناسٍ كثيرين، وفيهم وزير الحرب، لكن الناس قرروا لأنفسهم أن يُسكتوه بجرعةٍ من السم، فذلك أيسر عليهم من معالجة الشرور التي كان يشكو من وجودها.

أما في رواية أفلاطون عن سقراط، فالمشكلة مختلفة كل الاختلاف عنها في رواية زينوفون؛ إذ المشكلة في رواية أفلاطون هي أنه من أصعب الأمور أن تحكم إلى أي حدٍّ يريد أفلاطون أن يصوِّر سقراط كما وقع فعلًا في التاريخ، وإلى أي حدٍّ يريد بالشخص الذي يسميه «سقراط» في محاوراته أن يكون لسانًا معبِّرًا عن آرائه هو فحسب، فلم يقتصر أفلاطون على أن يكون فيلسوفًا، بل هو إلى جانب ذلك كاتب قوي الخيال شامخ العبقرية خفيف الروح، فلا يزعم أحد — بل ولا يدعي هو نفسه — أن الحديث الوارد في محاوراته قد حدث كما أورده، ومع ذلك فهذا الحديث طبيعي إلى آخر حد، والأشخاص لا تكلُّف فيهم — على الأقل في المحاورات التي كتبها في المرحلة الأولى — لكن براعة أفلاطون في الأدب القصصي هي التي تُلقي شيئًا من الشك عليه مؤرخًا؛ إن شخصية سقراط كما وردت في محاوراته شخصية مُنسقة الأجزاء، تثير اهتمام القارئ إلى أبعد الحدود، ومعظم الناس لا يستطيع خلق شخصية كهذه بخياله؛ لكنني أعتقد أن أفلاطون كان في مقدوره أن يخلق مثل هذه الشخصية، أمَّا هل كان ذلك ما فعله أو لم يكن، فذلك بالطبع موضوع آخر.

والمحاورة التي تعتبر عادةً مطابِقة للواقع التاريخي، هي محاورة «الدفاع»، وهذه المحاورة تزعم أنها رواية للخطبة التي ألقاها سقراط دفاعًا عن نفسه أثناء محاكمته؛ وليست الرواية هنا بالطبع رواية حرف بحرف لِمَا وقع، بل تسجيل لِمَا بقي في ذاكرة أفلاطون بعد وقوع الحادثة ببضعة أعوام؛ إذ جمع أفلاطون متفرقات ما كان يذكره بعضه إلى بعض، وأسبغ عليه من فنه الأدبي ثوبًا. لقد حضر أفلاطون المحاكمة، وممَّا يتضح لنا وضوحًا لا شك فيه، أن ما أثبته في هذه المحاورة هو أقرب ما يكون لِمَا وعته ذاكرته ممَّا قاله سقراط فعلًا، وأن أفلاطون قد قصد في هذه المحاورة بصفةٍ عامة أن يكون مؤرخًا أمينًا يلتزم حدود الواقع، وعلى الرغم ممَّا يحيط بالموقف هنا من شكوك، فهو كافٍ لتقديم صورة عن شخصية سقراط قريبة جدًّا من التحديد الواضح.

وليست الحقائق الرئيسية المتصلة بمحاكمة سقراط محلًّا للشك؛ فقد بُني الاتهام على أساس أن «سقراط شرير غريب الأطوار، يبحث في دخائل الأشياء ممَّا يقع تحت الأرض وفوق السماء، ويقلب الباطل حقًّا في الظاهر، ثم يعلِّم كل هذا للناس». أما العلة الحقيقية في كراهية الناس له فهي — فيما يقرب من اليقين — أنهم فرضوا فيه الاتصال بالحزب الأرستقراطي؛ إذ كان معظم تلاميذه من أعضاء هذا الحزب، وكان بعضهم في مناصب الحكم، ودلوا بأفعالهم على ما تنطوي عليه نفوسهم من الشر، لكن الناس لم يكن في مستطاعهم أن يصرِّحوا بسبب كراهيتهم لسقراط على هذا النحو، احترامًا لاتفاق الهدنة (بين أثينا وإسبرطة)؛ وحكمت الأغلبية بإدانته، وحكمت عليه بالموت، لكن القانون الأثيني كان يعطيه الحق في أن يقترح لنفسه عقابًا أخف من هذا، وكان من حق القضاة بعدئذٍ أن يختاروا — إذا ثبتت لهم إدانة المتهم — بين العقوبة التي فرضها الاتهام والعقوبة التي اقترحها الدفاع؛ وإذن فقد كان من صالح سقراط أن يطلب لنفسه عقوبةً ذات وزن، لعل المحكمة أن ترى فيها الكفاية، لكنه اقترح غرامةً قدرها ثلاثون «مينًا»، وأبدى بعض أصدقائه (وفيهم أفلاطون) استعدادهم أن يضمنوا للمحكمة دفع الغرامة، لكن العقوبة المقترحة كانت من الضآلة بحيث أغضبت المحكمة، فحكمت عليه بالموت بأغلبية أكثر من الأغلبية التي أدانته؛ ولا شك في أنه توقع هذه النتيجة، وواضحٌ أنه لم تكن به رغبة في اجتناب عقوبة الموت بتساهلٍ من جانبه قد يُعد اعترافًا منه بجريمته.

كان موجهو الاتهام هم «أنايتس» وهو سياسي ديمقراطي، و«مليتس» وهو شاعر مأساة «شاب مغمور، طويل الشعر٢ مسترخية، متفرق اللحية، معوج الأنف»، و«لا يكون» وهو خطيب مجهول؛ زعم هؤلاء أن سقراط آثم في عدم عبادته للآلهة التي تعبدها الدولة، وفي إحلاله آلهةً جديدة محل هؤلاء، وهو فضلًا عن ذلك آثم في إفساده للشباب بتعليمهم وفق مبادئه.

ولسنا نريد أن نشغل أنفسنا أكثر ممَّا فعلنا، بالمشكلة التي لا حل لها؛ وهي علاقة سقراط الأفلاطوني بحقيقة الرجل، فلننظر من فورنا إلى ما يُجريه أفلاطون على لسانه ردًّا على هذه التهم.

يبدأ سقراط باتهام متهميه بالفصاحة، صادًّا عن نفسه هذه التهمة، وهو يقول إن الفصاحة الوحيدة التي في مقدوره هي فصاحة الحق، ولا ينبغي لهم أن يغضبوا منه إذا ما تحدث إليهم على مألوف عادته، بدل أن «يلقي خطبةً معدة مزخرفة بما يليق بالمقام من ألفاظٍ وعبارات»،٣ فهو قد جاوز السبعين من عمره ولم يظهر في ساحات القضاء حتى اليوم، فلا بُدَّ لهم أن يغفروا له طريقة كلامه التي لا تنحو منحى الصيغ القضائية.
ويمضي في حديثه فيقول إنه بالإضافة إلى متهميه الرسميين، هنالك طائفة كبيرة من متهمين غير رسميين، لم ينقطعوا — منذ كان القُضاة أطفالًا — عن إذاعتهم في الناس «عن رجلٍ يدعى سقراط، وهو حكيم يتأمل في أمور السماء العليا، وينقِّب في الأرض السفلى، ويقلب الباطل حقًّا في الظاهر»، ويقول: إن أمثال هؤلاء رجال لا يُفرَض فيهم إيمان بالآلهة، وهذا الاتهام الذي يوجِّهه الرأي العام منذ زمنٍ بعيد، أشد خطرًا من الاتهام الرسمي، ويزداد خطرًا على خطر، لجهله بالأشخاص الذين يصدر عنهم، إذا استثنينا أرستوفان،٤ وهو في رده على ذلك الأساس القديم الذي أثار مقت الناس له، قال إنه ليس من رجال العلم — «فلا شأن لي قط بالتفكير التأملي في الطبيعة المادية» — وقال إنه ليس معلمًا، ولا يتقاضى أجرًا على تعليمه، ويمضي في الحديث ساخرًا من السوفسطائيين، وينكر المعرفة التي يزعمون لأنفسهم إلمامًا بها، فإن كان ذلك كذلك، فما «علة تسميتي بالحكيم واشتهاري بهذه السمعة السيئة؟»

فقد يظهر أن راعية دلفي سُئلت ذات يوم هل هنالك بين الناس من هو أحكم من سقراط، فأجابت بالنفي، ويزعم سقراط أنه تحيَّر أشد الحيرة إزاء ذلك الجواب؛ لأنه لم يكن يعرف شيئًا، ومع ذلك فيستحيل على الإله الكذب؛ فلهذا طاف بين الناس الذين شاعت عنهم الحكمة، ليستوثق هل يستطيع أن يتهم الإله بالخطأ، فقصد بادئ ذي بدء رجلًا من رجال السياسة، «ظنه كثيرٌ من الناس حكيمًا، وظن بنفسه أكثر ممَّا ظن به الناس»، فما أسرع ما تبيَّن أن الرجل لم يكن من الحكمة في شيء، وأوضح له ذلك في رفقٍ وثبات، «فكانت النتيجة أنه كرهني»، فقصد بعدئذٍ إلى الشعراء وطلب إليهم أن يفسِّروا بعض فقرات وردت في أشعارهم، لكنهم عجزوا عن أداء ما طُلب إليهم، «فعرفت عندئذٍ أن الشعراء لا يكتبون الشعر صدورًا عن حكمةٍ فيهم، لكنهم يكتبونه بضربٍ من العبقرية والوحي»، ثم ذهب إلى رجال الصناعة، ولقي عندهم ما لقي عند هؤلاء من خَيبة الرجاء، ويقول إنه في غضون ذلك كله، كان يغير عليه صدور كثير من الناس ذوي الخطر، وأخيرًا انتهى إلى أن «الله وحده هو الحكيم، وأنه بجوابه ذاك إنما أراد أن يبيِّن أن حكمة الناس قليلة الغناء، أو ليست هي بذات غناء على الإطلاق، فهو لا يقصد سقراط بذاته، وإنما يستخدم أسمى على سبيل المثل، فكأنما أراد أن يقول: «أيها الناس، إن أحكمكم رجل — مثل سقراط — يعلم أن حكمته في الحق لا تساوي شيئًا.» ولقد أنفق زمنه كله في الكشف عن جهل من كانوا يزعمون لأنفسهم حكمة، ممَّا أنزل به فقرًا مدقعًا، لكنه أحس أن واجبه هو أن يؤيد راعية الإله فيما قالت.

ويقول إن الشبان من الطبقات الغنية، لم يكن لهم من العمل الكثير ما يشغل أوقاتهم، فكانوا يستمتعون بالإنصات إليه وهو يفضح جهل الناس، وكانوا ينسجون على منواله، فزادوا بعملهم هذا من أعدائه؛ «لأن الناس لم يريدوا الاعتراف بأن ادعاءهم العلم قد افتضح».

وحسبنا هذا فيما يتصل بالفريق الأول من المتهمين.

ويبدأ سقراط بعد هذا في مناقشة متهمه «مليتس» — «ذلك الرجل الفاضل الذي يحب وطنه حبًّا صادقًا، كما يقول عن نفسه» — فسأله: من هم الناس الذين يُصلحون الشبان؟ فيُجيب مليتس بالإشارة أولًا إلى القضاة، ثم يُرغَم، منساقًا خطوةً خطوة، على القول بأن كل الأثينيين — ما عدا سقراط — يُصلحون الشبان، وهنا يهنئ سقراط المدينة على حسن حظها؛ وبعد ذلك يقول إن الإنسان خيرٌ له أن يعيش بين أناسٍ أفاضل من أن يعيش بين قومٍ أراذل، وعلى ذلك فيستحيل عليه أن يبلغ من الغفلة حدًّا يجعله يفسد أبناء مدينته عمدًا، فإن كان قد أفسدهم عن غير عمد، كان واجب مليتس أن يرشده سواء السبيل، لا أن يوجِّه إليه اتهامًا.

لقد ذكر في عريضة الاتهام أن سقراط لم يقتصر على إنكاره لآلهة الدولة، بل خلق من عنده آلهةً جديدة، ومع ذلك فمليتس يقول عن سقراط إنه منكر للآلهة إنكارًا تامًّا، ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إنه يقول إن الشمس من صخرٍ وإن القمر من تراب»، فيرد سقراط على ذلك بأن مليتس يحسب نفسه موجِّهًا للاتهام إلى أناكسجوراس الذي يمكن لأي إنسانٍ أن يستمع إلى آرائه على المسرح لقاء «درهم» واحد (لعله يريد بذلك آراءه كما وردت في مسرحيات بوريبيد)؛ ويبيِّن سقراط بطبيعة الحال أن هذا الاتهام الجديد بإنكار الآلهة إنكارًا تامًّا، يناقض عريضة الدعوى، ثم ينتقل بعدئذٍ إلى نظراتٍ أعم.

وبقية محاورة «الدفاع» يغلب عليها الصبغة الدينية؛ فقد كان سقراط جنديًّا، وثبت في مكانه الذي أمر أن يثبت فيه، والآن «يأمرني الله أن أؤدِّي رسالة الفيلسوف، التي هي البحث في نفسي وفي سائر الناس»، وإنه لممَّا يشينه أن يتخلَّى عن مهمته الآن، كما كان يشينه أن يتخلَّى عن مكانه في ميدان القتال؛ إن الخوف من الموت ليس من الحكمة؛ إذ لا يدري أحدٌ إن كان الموت لا يفضل الحياة، فلو وُهب الحياة على شرط ألَّا يعود إلى ما عُرف عنه حتى اليوم من تأملٍ فكري، لأجاب: «أيها الأثينيون، إني أكرِّمكم وأحبكم، وسأكون أطوع لله مني لكم»،٥ وما دمت حيًّا قويًّا، لن أقلع عن ممارسة الفلسفة وتعليمها، مستميلًا إليها كل من عساني مُصادِفه … إذا علموا أن ذلك أمر الله، وأني مؤمنٌ أن الدولة لم تشهد خيرًا أفضل من خدمتي لله.» ثم يمضي قائلًا:

«لديَّ ما أقوله فوق هذا، وقد تميلون إلى الصياح إذا ما قلته لكم، لكني أعتقد أنه من الخير لكم أن تسمعوني؛ ولهذا فإني ألتمس منكم ألَّا تصيحوا، أريد لكم أن تعلموا أنكم إذا قتلتم رجلًا مثلي، فستضرون أنفسكم أكثر ممَّا تضرونني؛ إنني لن أضار بأي حالٍ من الأحوال، لن يضرني «مليتس»، كلا ولا «أنايتس»؛ إنهما لا يستطيعان أنت يُلحقا بي الأذى؛ لأن رجل السوء لا يُسمح له أن يؤذي من هو أفضل منه؛ إنني لا أنكر أن «أنايتس» قد يقتل من هو أفضل منه، أو قد يطوِّح به إلى المنفى، أو قد يسلبه حقوقه المدنية، وقد يتصوَّر، وربما تصوَّر الناس معه، أنه يُنزل به الأذى أكثر ممَّا يُنزل بنفسه، لكنني لا أوافق على ذلك؛ لأن الشر المنطوي عليه فعل كفعله — أعني الشر الكامن في إزهاق روح بغير حق — أعظم جدًّا من ذلك الأذى.»

ويقول إنه يدافع، لا من أجل نفسه، بل من أجل القضاة؛ إنه بمثابة النذير، أرسله الله للدولة، ولن يكون من اليسير أن نجد رجلًا آخر مثله: «ففي ظني أنكم ربما تضيقون صدرًا (كالرجل الذي يوقظونه من نومه بغتة)، وربما تظنون أنه من اليسير أن تقضوا عليَّ بضربةٍ واحدة — كما ينصح «أنايتس» — وعندئذٍ يُتاح لكم أن تستأنفوا النوم بقية حياتكم، إلا إذا أرسل لكم الله في عنايته بكم نذيرًا آخر.»

لكن لماذا قصر نفسه على المحادثات الشخصية، ولم يُسدِ النصح في أمور الدولة العامة؟ «لقد سمعتموني أتحدَّث في أوقاتٍ مختلفة وفي أماكن مختلفة، عن راعيةٍ مقدسة، أو علامةٍ تتردَّد عليَّ، وهي التي أشار إليها «مليتس» في عريضة الدعوى بأنها آلهة جديدة، وأخذ يتهكَّم عليها؛ إن هذه العلامة التي هي ضرب من الصوت، جاءتني أول ما جاءت، عندما كنت طفلًا، وهي دائمًا تنهاني عن فعل شيء ما، لكنها لم تأمرني قط بفعل شيء أنا فاعله؛ وذلك هو ما لا يجعلني رجلًا من رجال السياسة.» ومضى يقول: «إنه لا يستطيع رجلٌ شريف أن يطيل أمد بقائه في السياسة.» ويضرب لذلك مثلين من الأمور العامة كان قد اشتبك فيهما اشتباكًا لم يكن له عنه محيص؛ في أولهما قاوم الديمقراطية وفي ثانيهما عارض «الطغاة الثلاثين»؛ وقد قاوم تلك وعارض هؤلاء، لمَّا رأى أصحاب السلطان يجاوزون القانون في أفعالهم.

وأشار إلى أن بين الحاضرين عددًا كبيرًا من تلاميذه الأسبقين، كما أن بينهم آباء هؤلاء التلاميذ وإخوتهم، ولم يطلب إلى واحدٍ من هؤلاء جميعًا أن يتصدى للشهادة بأنه (أي سقراط) يُفسد الشباب،٦ وأبى أن يجري مجرى العادة المألوفة فيعرض أبناءه في المحكمة باكين، لعله ببكائهم أن يستعطف قلوب القضاة إليه؛ فمثل هذه المشاهد — في رأيه — تضع المتهم والمدنية معًا موضع السخرية، وليست مهمته أن يطلب من القضاة إحسانًا، بل أن يُقنعهم بصواب حجته.

وبعد أن صدر ضده حكم بالإدانة، ورُفِضت العقوبة التي اقترحها من ناحيته، وهي أن يدفع ثلاثين «مينًا» (وقد عيَّن سقراط أفلاطون في هذا الصدد ليكون أحد ضامنيه في دفع الغرامة، وذكر أنه بين الحضور في المحكمة). خطب خطبةً ختامية فقال:

«والآن فيا أيها الرجال الذين حكموا عليَّ بالإثم، اسمحوا لي أن أتنبأ لكم لأنني مقبلٌ على موت، والناس ساعة الموت يوهَبون قدرةً على التنبؤ. إني أتنبأ لكم — وأنتم قتلتي — بأنني لن أكاد أرحل عنكم حتى ينزل بكم عقاب أقسى ممَّا أنزلتموه بي؛ فأنتم مخطئون إذا ظننتم أنكم بقتلكم الناس ستمنعون أي ناقدٍ من الكشف عن شرور حياتكم؛ فليس ذلك طريق الفرار؛ فلا هو ممكن ولا هو مشرف لكم، أمَّا أسهل الطرق وأشرفها، فليس هو أن تكسوا الناس، بل هو أن تصلحوا من أنفسكم.»

ثم استدار إلى أولئك القضاة الذين رأوا براءته، وخاطبهم قائلًا إن راعيته لم تعترض عليه في شيءٍ ممَّا قاله ذلك اليوم، مع أنها في ظروف أخرى كثيرًا ما أسكتته في منتصف الكلام؛ وقال إن ذلك «علامة على أن ما حدث لي خير، وأن من ظن منا أن الموت شر، فهو مخطئ؛ لأن الموت إمَّا أن يكون نعاسًا بغير أحلامٍ وعندئذٍ يكون خيرًا لا شك فيه، وإمَّا أن يكون انتقالًا للروح إلى عالمٍ آخر، وماذا يضن به إنسان ثمنًا لفرصةٍ تُتاح له أن يتحدَّث مع «أورفيوس» و«موزيوس» و«هزيود» و«هومر»؟ كلا، ألَا إن كان ذلك حقًّا، فأميتوني مرةً بعد مرة.» إنه في العالم الآخر سيتحدث مع آخرين ممن نزل بهم الموت ظلمًا، وهو فوق كل شيء، سيمضي في بحثه عن المعرفة. «إنهم في العالم الآخر لن يقتلوا الناس بسبب إلقائهم الأسئلة، لا، إنهم يقينًا لن يفعلوا؛ ذلك لأنهم فضلًا عن كونهم أسعد منا، فهم من أصحاب الخلود، ذلك إن كان صدقًا ما يقال …

«لقد حانت ساعة الرحيل، وستفترق بنا الطرق؛ أمَّا أنا فإلى الموت، وأمَّا أنتم فإلى الحياة، والله وحده أعلم أيهما خير.»

إن محاورة «الدفاع» تقدِّم لنا صورةً واضحة لرجلٍ من طرازٍ خاص، رجل شديد الثقة بنفسه، يسمو بتفكيره عن السفاسف ولا يأبه للنجاح في الدنيا، ويعتقد بأنه مهتدٍ بصوتٍ مقدس، ومؤمن بأن التفكير الواضح أهم ما تتطلَّبه الحياة الصحيحة، ولو استثنيت هذه النقطة الأخيرة، وجدته شبيهًا بالشهيد عند المسيحيين، أو بالرجل من فريق «المتزمتين»، ويستحيل عليك أن تُقر العبارة الأخيرة التي يستعرض فيها ما يحدث بعد الموت، دون أن تشعر بأنه قوي الإيمان بالخلود، وأن تشكُّكه الذي يتظاهر به تشكُّك مزعوم لا يصوِّر حقيقة نفسه. إن مخاوف العذاب الأبدي لا تفلق باله كما تفعل لأتباع المسيحية، وليس يتطرَّق إليه شك في أنه سيحيا في الحياة الآخرة حياةً سعيدة، وترى سقراط الأفلاطوني في محاورة «فيدون» يقدِّم الأسباب التي تؤيِّد العقيدة في الخلود؛ لكن يستحيل علينا أن نقول إن كانت هذه هي الأسباب التي أثَّرت في سقراط الذي عرفه التاريخ.

إنه يوشك ألَّا يكون ثمة سبيل إلى الشك — فيما يظهر — بأن سقراط الذي عرفه التاريخ، قد زعم أنه كان يهتدي براعيةٍ مقدسة، ويستحيل علينا أن نقطع برأيٍ فيما إذا كان ذلك شبيهًا بما قد يسمِّيه المسيحيون بصوت الضمير، أو كان يبدو له صوتًا حقيقيًّا. إن جان دارك كانت تسيِّرها أصوات، وهذه الأصوات من الأعراض المعروفة لحالات الجنون، وكان سقراط يتعرَّض لحالاتٍ من الغيبوبة التي يتصلَّب فيها جسده، أو على الأقل ذلك ما يصح أن يكون تعليلًا طبيعيًّا لمثل الحادثة التي وقعت له مرةً حين كان في الخدمة العسكرية.

«كان يفكر ذات صباحٍ في شيءٍ لم يقطع فيه برأي، فما أراد أن يطرحه جانبًا، بل ظل يفكِّر من أول الفجر حتى الظهيرة؛ عندئذٍ ظل واقفًا مركِّز الفكر، حتى كان الظهر فالتفتت إليه الأنظار، وانتشرت إشاعة في الحشد المتعجِّب بأن سقراط لبث واقفًا مفكرًا في شيءٍ ما منذ فلق الصبح، ولمَّا أقبل المساء بعد العشاء، دفع حب الاستطلاع نفرًا من الأيونيين (وأظن ذلك قد حدث في الصيف لا في الشتاء) أن يفرشوا حُصرهم في العراء ويرقدوا هناك على مرأًى من سقراط، ليرَوا هل يظل واقفًا طيلة الليل؛ ولبث واقفًا مكانه إلى الصباح التالي، حتى إذا ما عاد الضياء، توجَّه بالدعاء إلى الشمس ومضى في سبيله.»٧

وقد ألِف الناس هذه الظاهرة في سقراط على درجةٍ أقل؛ ففي مستهل «المأدبة» ترى سقراط و«أرستوديموس» يذهبان معًا إلى المأدبة، لكن سقراط يتخلَّف في غمرةٍ من غمرات الذهول، فلمَّا وصل «أرستوديموس»، قال «أجاتون» المضيف: «ماذا صنعت بسقراط؟» فدُهش «أرستوديموس» ألَّا يجد سقراط في صحبته، وأرسل عبدًا ليبحث عنه، فوجده في دهليز دار مجاورة، وقال العبد عند عودته: «إنه مسمَر مكانه، فإذا ناديته لم يُبدِ حراكًا.» وقال الذين يعرفونه جيد المعرفة: «إن من عاداته أن يقف في أي مكان، ويذهل عن نفسه بغير ما سبب»، فتركوه وشأنه حتى دخل عليهم والمأدبة في نصفها.

ويُجمع الرأي على أن سقراط غاية في دمامة الخِلقة، فله أنف أفطس وبطن كبير، إنه أقبح شكلًا من الأمساخ التي ذُكرت في المسرحيات»،٨ وكان دائمًا يرتدي ملابس شعثاء بالية، ويسير حافي القدمين في أرجاء البلد كله، وكان ممَّا يثير الدهشة عند الناس جميعًا، عدم احتفاله بحرارةٍ أو برودة، بجوعٍ أو ظمأ؛ ويقول «القبيادس» في محاورة «المأدبة» في وصف سقراط وهو في الخدمة العسكرية ما يأتي:

إنه يروعك بقوة احتماله على الجوع حين كانت تضطَرنا الظروف أن نحرم الطعام بسبب انقطاع الصلة بيننا وبين مواردنا؛ فهو في مثل هذه الحالات التي كثيرًا ما تحدث في أيام الحرب، كان لا يمتاز من دوني فحسب، بل يمتاز من سائرنا جميعًا، فليس بين الناس من كان يمكن مقارنته به … كذلك كان يُدهشنا بقوة احتماله للبرودة؛ فقد اعترضنا صقيع فظيع؛ لأن الشتاء في تلك المنطقة شديد الوطأة حقًّا، وكلنا إمَّا ظلَّ في مأواه، وإمَّا خرج محمَّلًا بحملٍ ثقيل من الثياب، مكسو القدمين باللَّبَد والصوف، إلا سقراط فلم يأبه لهذا كله، ومشى حافي القدمين على الثلج لا يرتدي إلا ثيابه العادية، ومع ذلك كان أحسن سيرًا من الجنود الذين لبسوا الأحذية، فنظر هؤلاء إليه شزْرًا لأنه بدا كأنما يزدريهم.

ولا ينفك الناس يذكرون له سيطرته على شهوات جسده، فقلما شرب خمرًا، وإذا شرب لم يستطع أحدٌ أن يجاريه في الشراب، على أن أحدًا لم يشهده مخمورًا؛ وكان في أمور الحب «أفلاطونيًّا» مهما اشتدت به أسباب الإغراء، لو كان أفلاطون صادقًا فيما يُروى عنه، فهو القديس الأورفي الكامل؛ لأنه انتصر للروح على البدن انتصارًا حاسمًا في هذا الصراع الذي ينشب بين الروح السماوي والجسد الأرضي؛ والبرهان الأخير على سيطرته هذه على البدن، عدم اضطرابه للموت آخر الأمر، لكنه في الوقت نفسه لا يُخلص الولاء للمذهب الأورافي؛ فهو لا يقبل إلا التعاليم الرئيسية من ذلك المذهب، وينبذ ما فيه من خرافاتٍ ومن طقوسٍ تطهيرية.

وسقراط الأفلاطوني يمهِّد الطريق للرواقيين وللكلبيين من بعده؛ فالرواقيون يرَون أن الخير الأسمى هو الفضيلة، وأن الإنسان لا يفقد فضيلته بأسبابٍ خارجية؛ وهذا المذهب متضمَّن في قول سقراط لقضائه إنهم لا يستطيعون أن يُلحقوا به ضررًا، واحتقر الكلبيون أنعُم هذه الحياة الدنيا، وبرهنوا على ازدرائهم لها، باجتنابهم لأسباب الترف من حضارة الإنسان، وهذه هي نفسها النظرة التي حدت بسقراط أن يمشي حافي القدمين، مهلهل الثياب.

ونكاد نوقن أن ما يشغل بال سقراط هو أقرب إلى مبادئ الأخلاق منه إلى قواعد العلم؛ فهو يقول في محاورةٍ للدفاع — كما أسلفنا: «لا شأن لي أبدًا بالتأمل في الطبيعة المادية.» إن أول ما كتب أفلاطون من محاوراته، وهي المحاورات التي يفرض فيها غلبة النزعة السقراطية، يسوده البحث في تعريف ألفاظ أخلاقية، فمحاورة «شارميدس» معنية بتعريف الاعتدال، ومحاورة «ليسيس» بتعريف الصداقة، ومحاورة «لاخس» معنية بتعريف الشجاعة، وهو لا ينتهي في كل هذه المحاورات إلى نتيجة، لكن سقراط لا يدع مجالًا للشك في أن رأيه هو أن لأمثال هذه المسائل أهميةً بالغة؛ ولا ينفك سقراط الأفلاطوني يقرِّر وجهة نظره في أنه لا يعلم شيئًا، وأنه أحكم من غيره في شيءٍ واحد، وهو علمه بأنه لا يعلم شيئًا، غير أنه لا يعتقد أن المعرفة مستعصية على التحصيل، بل هو على عكس ذلك يرى أن البحث عن المعرفة أهم ما يهتم له الإنسان، وهو يذهب إلى أن أحدًا من الناس لا يقترف الخطيئة عامدًا؛ ولذا فلا يُعوِز الناس إلا المعرفة لكي يكونوا جميعًا على فضيلةٍ كاملة.

إن العلاقة الوثيقة بين الفضيلة والمعرفة ممَّا يميِّز سقراط وأفلاطون، وهي ظاهرة — إلى حدٍّ ما — في الفكر اليوناني كله إذا قورن بالمسيحية؛ فالأخلاق المسيحية تجعل القلب النقي هو الأساس الجوهري، والقلب النقي قد يوجد في الجاهل على الأقل كما يوجد في العالم، ولقد لبث هذا الاختلاف بين الأخلاق اليونانية والأخلاق المسيحية قائمًا حتى يومنا هذا.

ولم يكن سقراط هو الذي ابتكر طريقة الجدل؛ أعني الطريقة التي تلتمس العلم عن طريق السؤال والجواب؛ فالظاهر أن زينون — تلميذ بارمنيدس — وكان أول من استخدم الجدل على صورةٍ مطردة؛ وفي المحاورة الأفلاطونية «بارمنيدس» ترى زينون يعامل سقراط نفس المعاملة التي يعامل بها سقراط أشخاصًا آخرين في مواضع أخرى من المحاورات، لكن ثمة ما يبرِّر لنا كل التبرير أن نقول إن سقراط قد مارس هذه الطريقة وهذَّبها؛ فقد رأينا أن سقراط حين حُكم عليه بالموت، أخذته نشوة فكرية لأنه في العالم الآخر سيُتاح له أن يُلقي أسئلةً إلى الأبد دون أن يحكم عليه بالموت؛ إذ إنه سيكون عندئذٍ من أصحاب الخلود؛ إنه لو كان قد مارس الجدل على النحو الموصوف في محاورة «الدفاع» فلا شك أن عداوة الناس له تتضح علتها في غير عسر، فكل دجالٍ في أثينا كان على استعدادٍ أن يؤازر في مناصبته العداء.

إن الطريقة الجدلية تناسب بعض الموضوعات دون بعضها الآخر، وربما كان ذلك عاملًا من العوامل التي جدَّدت مسالك البحث عند أفلاطون؛ إذ لم يكد أفلاطون يتناول ببحثه إلا ما تصلح له هذه الطريقة؛ ثم أثَّر أفلاطون في أكثر الفلسفة من بعده، بحيث ضربت على نفسها حدودًا فرضتها هذه الطريقة.

إنه من الواضح أن بعض الموضوعات لا تصلح لبحثه هذه الطريقة؛ مثال ذلك العلم التجريبي. نعم إن جاليليو قد استخدم المحاورات يؤيد بها نظرياته، لكنه لم يلجأ إلى ذلك إلا ليتغلَّب على تعصُّب الناس لآرائهم تعصُّبًا أعماهم عن الحقائق، ومع ذلك فالجوانب الوضعية من استكشافاته، لم يكن حشرها في محاورةٍ بغير كثير من التكلُّف؛ إن سقراط في محاورات أفلاطون يدَّعي دائمًا أنه لا يزيد أكثر من استخراج المعرفة من نفس سائله، وهو لهذا يُشبِّه نفسه بالقابلة؛ وتراه في محاورة «فيدون» ومحاورة «مينون» حين يطبِّق طريقته على مشكلاتٍ هندسية، يُلقي أسئلةً موجَّهة لا يُبيحها أي حكمٍ عادل؛ والطريقة متمشية مع مذهب التذكر القائل بأن الإنسان يتعلم بتذكره لِما كان يعرفه في وجودٍ سابق على هذا الوجود؛ ولتفنيد هذا الرأي، انظر إلى أي كشفٍ كشفه الإنسان بالمجهر، كانتشار المرض بالبكتريا مثلًا، فلا يسهل على إنسانٍ أن يذهب إلى أن مثل هذه المعرفة يمكن استخلاصها من شخصٍ كان يجهلها، بطريقة السؤال والجواب.

إن الأمور التي تصلح أن تعالج بالطريقة السقراطية هي تلك التي لنا بها من العلم ما يكفي للوصول إلى النتيجة الصحيحة، غير أننا لم نوفَّق — بسبب اختلاطٍ في أفكارنا أو نقص في تحليلنا — إلى الاستفادة ممَّا نعلمه أكبر فائدة منطقية ممكنة، فسؤال مثل: «ما هي العدالة؟» نموذج لِما يصلح له النقاش في المحاورة الأفلاطونية؛ فكلنا يستعمل كلمتَي «عادل» و«ظالم» استعمالًا لا تحفُّظ فيه، فلو بحثنا طرائق استعمالنا لهاتين الكلمتين، أمكننا أن نصل بالطريقة الاستقرائية إلى أفضل تعريفٍ يطابق استعمالها، فكل ما نتطلَّبه لهذا هو أن نعرف كيف يستعمل الناس الكلمات التي نحن بصدد البحث في معانيها، لكننا إذا ما فرغنا من بحثنا، ألفينا أنفسنا قد كشفنا عن حقائق لغوية فقط، لا عن حقائق في الأخلاق.

ومع ذلك ففي مستطاعنا تطبيق الطريقة تطبيقًا نافعًا على نوعٍ من الحالات أوسع نطاقًا ممَّا ذكرنا، فحيثما يكون الأمر المعروض للمناقشة منطقيًّا أكثر منه واقعيًّا، تكون المناقشة منهجًا سديدًا لاستخلاص الحقيقة، فافرض — مثلًا — أن شخصًا يعتقد في صلاحية النظام الديمقراطي، ويعتقد في الوقت نفسه بأن الأفراد الذين يعتنقون آراءً معينة لا يكون لهم الحق في التصويت؛ عندئذٍ نستطيع أن نتهمه بالتناقض، وأن نُبرهن له أن إحدى عبارتيه على الأقل لا بُدَّ أن تكون على خطأ بصورةٍ ما، وإني لأعتقد أن الأخطاء المنطقية أهم جدًّا من الوجهة العملية ممَّا يظن كثيرٌ من الناس؛ لأنها تمكِّن أصحابها من اعتناق الرأي الذي ترتاح له نفوسهم في أي موضوعٍ يعرض لهم؛ ذلك لأنه ممَّا لا شك فيه أن أي مذهبٍ متسق الأجزاء من الوجهة المنطقية، يكون — على الأقل في ناحيةٍ من نواحيه — مؤلمًا ومنافيًا للعقائد الجارية، والطريقة الجدلية — أو بعبارةٍ أعم، طريقة المناقشة التي لا تتقيَّد بقيود — تعمل على الزيادة من الاتساق المنطقي، وهي على هذا الوجه طريقة نافعة، لكنها طريقة لا نقع فيها إلا إذا ما كان هدفنا كشف حقائق واقعة جديدة؛ وقد يجوز لنا أن نعرِّف «الفلسفة» بأنها مجموعة الأبحاث التي يمكن متابعتها بالطرائق الأفلاطونية، فإن كان هذا التعريف صحيحًا، فما ذاك إلا لِما تركه أفلاطون من أثرٍ في الفلاسفة الذين جاءوا من بعده.

١  المرجع نفسه: ك٣، فصل١.
٢  انظر «برنت» في كتابه «من طاليس إلى أفلاطون»، ص١٨٠.
٣  في النصوص المقتبسة من أفلاطون، اعتمدت غالبًا على ترجمة Jowett.
٤  في رواية «السحاب» يصوِّر أرستوفان سقراط منكرًا لوجود زيوس.
٥  راجع «الفصول» Acts رقم ٥ ص٢٩.
٦  تكاد تكون هذه النقطة الحجة الوحيدة في محاورة «الدفاع» التي يرتضيها محامٍ يتولى الدفاع عن سقراط.
٧  محاورة المأدبة، ٢٢٠.
٨  زينوفون، «المأدبة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤